تفسير سورة النساء [1-4]


الحلقة مفرغة

نشرع بإذن الله في تفسير سورة النساء، وقد روى العوفي عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (نزلت سورة النساء بالمدينة)، وكذا روى ابن مردويه عن عبد الله بن الزبير وزيد بن ثابت ، وقد زعم النحاس أنها مكية، مستنداً إلى أن قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الأَمَانَاتِ إِلَى أَهْلِهَا.. [النساء:58]، نزلت بمكة اتفاقاً في شأن مفتاح الكعبة، وهذا المستند واهٍ، يعني: الاستناد إلى أن هذه الآية نزلت في مكة غير صحيح، حتى لو صح أن هذه الآية نزلت بمكة؛ لأنه يمكن أن تكون السورة مدنية وتكون فيها آية أو آيتان أو أكثر نزلت في مكة، خصوصاً أن الأرجح أن ما نزل بعد الهجرة فهو مدني، وما نزل قبل الهجرة فهو مكي، حتى لو كان هذا الذي نزل بعد الهجرة في خارج المدينة أو في مكة نفسها كهذه الآية. فحد المكي والمدني: أن ما نزل بعد الهجرة يكون مدنياً بغض النظر عن مكانه، ومن راجع أسباب نزول آياتها عرف الرد عليه، حيث تم فتح مكة في سنة ثمان من الهجرة، والقصة معروفة وسيأتي عليها الكلام إن شاء الله. ومما يرد عليه أيضاً ما أخرجه البخاري عن عائشة رضي الله تعالى عنها قالت: (ما نزلت سورة البقرة والنساء إلا وأنا عند النبي صلى الله عليه وسلم) ودخول النبي صلى الله عليه وسلم على عائشة رضي الله عنها كان بعد الهجرة اتفاقاً، وقيل: نزلت عند الهجرة. وآياتها مائة وسبعون وخمس، وقيل: وسبع، كذا في الإتقان. وروى الحاكم عن عبد الله بن مسعود رضي الله عنه قال: (إن في سورة النساء لخمس آيات ما يسرني أن لي بها الدنيا وما فيها، الآية الأولى: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا وَيُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:40]. الآية الثانية: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئَاتِكُمْ وَنُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيمًا [النساء:31]. الثالثة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرَى إِثْمًا عَظِيمًا [النساء:48]. الرابعة: قوله تبارك وتعالى: وَلَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنفُسَهُمْ جَاءُوكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَاسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:64]). وروى عبد الرزاق عنه أيضاً قال: (خمس آيات من النساء لهن أحب إليّ من الدنيا جميعاً: إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبَائِرَ مَا تُنْهَوْنَ عَنْهُ [النساء:31] إلى آخر الآية، وقوله: وَإِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضَاعِفْهَا [النساء:40]، وقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء:48]، وقوله: وَمَنْ يَعْمَلْ سُوءًا أَوْ يَظْلِمِ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء:110]). وروى ابن جرير عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: (ثمان آيات نزلت في سورة النساء خيرٌ لهذه الأمة مما طلعت عليه الشمس وغربت، أولهن: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ [النساء:26]. الثانية: وَاللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلًا عَظِيمًا [النساء:27]. الثالثة: يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا [النساء:28])، ثم ذكر قول ابن مسعود سواءً في الخمسة الباقية. وسميت هذه السورة سورة النساء؛ لأن ما نزل منها في أحكام النساء أكثر مما نزل في غيرها.

يقول الله تعالى: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

حقيقة التقوى وموجباتها

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ )) أي: اخشوا أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ثم نبههم على اصطفائه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى، يعني: ما صفات هذا الإله سبحانه وتعالى الذي أنتم مأمورون باتقائه، قال عز وجل: (( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ))، يعني: فرعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وهذا مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على هذا كان قادراً على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم، فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته. كذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: (( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )) إلى آخر الآية، فإنها تعني: أنه سبحانه أهل لأن يتقى؛ لأنه هو الذي خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها إلى آخره. كذلك أيضاً: جعله تعالى إيانا صنواناً مفرعة من أرومة واحدة، أي: أن أصلنا واحد وهو آدم عليه السلام، فمن موجبات هذا أن نحترز عن الإخلال بما أمرنا بمراعاته فيما بيننا من حقوق الأخوة، ومن صلة الأرحام، فحق هذه الأخوة أن تراعى حقوقها، وحق هذه الأرحام أن توصل، كذلك رعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح، فهذه كلها من الحقوق التي تستوجبها هذه الرابطة التي تربطنا بني البشر بعضنا ببعض، سيما إذا وجدت معها الرابطة الإيمانية، ولو لم توجد الرابطة الإيمانية، فمعروف أن للأرحام حرمة، والعدل يكون محموداً مع كل الناس سواء اليتامى أو الزوجات. هذا كله مما يتفرع عن ثبوت هذه الرابطة النسبية في عودتنا جميعاً إلى أصل واحد وهو آدم عليه السلام، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار -أي: من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ .. حتى ختم الآية، ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ .. [الحشر:18]، ثم حضهم على الصدقة، فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره ..)، إلى آخر الحديث. كذلك أيضاً صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في حديث خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولها بين يدي كلامه وخطبه وحاجته، كان يقرأ ثلاث آيات وهذه الآية منها: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) إلى آخر الآية. (( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) أي: من نفسها وهي حواء عليها السلام. لم يجعل الله سبحانه وتعالى الزوجات من خارج أنفسنا؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يقتضيه الزواج من السكينة والمودة والرحمة، كما قال تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم:21] يعني: من جنس البشر، فالإنسي لا يتزوج بجنية والجني لا يتزوج بإنسية. ثم قال تعالى: (( وَبَثَّ مِنْهُمَا )) أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها عن طريق التوالد والتناسل: (( رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً )) أي: كثيرة، هنا ترك التصريح بصيغة الكثرة في حق النساء للاكتفاء بالوصف المذكور؛ لأنها تفهم من السياق: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كثيرة.

صلة الأرحام حكمها وفضلها

(( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ )) تكرار للأمر بالتقوى، وتذكير بشيء آخر من موجبات الامتثال له؛ فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى من موجبات تقوى الله سبحانه وتعالى، أي: اتقوا الله الذي أنتم جميعاً تعرفون قدره وتعظمونه تبارك وتعالى، حيث أن بعضكم حينما يريد أن يستعطف البعض الآخر، فإنه يقول: أسألك بالله، أو أنشدك بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو أعظم شيء عند المؤمن؛ وذلك لأنكم تعظمون الله في أيمانكم هذه فينبغي أيضاً أن تتقوه. (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ )) أصلها (تتساءلون) فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً. وقرئت بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. وقرئ (تسألون به) يعني من الثلاثي يعني: (تسألون به غيركم) وقد فسر به القراءة الأولى والثانية. وحمل صيغة التفاعل (تساءلون به) على اعتبار الجمع، كما في قولك: إذا كنت وحيداً تقول: رأيت الهلال، أما إذا كنتم مجموعة فتقولون: تراءينا الهلال، لكن صيغة تراءى تفاعل، تكون في الجمع فكذلك هنا؛ لأنكم جميعاً تسألون الله فلذلك عبر بصيغة التفاعل (تساءلون به) أو (تتساءلون به). (( وَالأَرْحَامَ )) قرأها حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور (به) أي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ) أي: (الذي تتساءلون به وبالأرحام) لأن عادة العرب أنهم كانوا يناشدون بعضهم بعضاً بالله والرحم، يعني: وأسألك بالرحم. أما باقي القراء غير حمزة فإنهم قرءوها بالنصب عطفاً على لفظ الجلالة: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ))، يعني: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، قرن الله عز وجل صلة الرحم باسمه الجليل دلالة على خطورة وأهمية صلة الرحم، كما في قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]؛ لأن الوالدين أقرب الرحم، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36]، وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني، قطعه الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع -يعني: قاطع رحم-). وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم، والترهيب من قطيعتها كثيرة.

حكم المسألة بالله تبارك وتعالى

هذه الآية تدل على جواز المسألة بالله تبارك وتعالى، ووجه ذلك: أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ )). أما من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله فهذا محظور قطعاً، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224]، على أحد التفسيرين. إذاً لا ينبغي امتهان اسم الله عز وجل بأن تدخله في كل صغيرة وكبيرة وفي الأمور الحقيرة، أو الأمور التي ليس فيها تعظيم، بل اجعل اسم الله والحلف باسم الله في الأمور العظيمة التي لها شأن. فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث الوارد بلعن من سأل بوجه الله (ملعون من سأل بوجه الله). ومن الأدلة على جواز السؤال بالله قوله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) والشاهد هنا قوله: (من سألكم بالله فأعطوه) لذلك فإن المتسولين إذا عرفوا هذا الحكم ظفروا به، وقد يخشى أن يسيئوا استخدامه، فإنه إذا سألك السائل بوجه الله فيجب عليك قطعاً أن تعطيه، وأن تجيبه تعظيماً لاسم الله تبارك وتعالى: (من سألكم بالله فأعطوه) لا ترده بأي حال من الأحوال. وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه). وعن ابن عمر مرفوعاً والحديث ضعيف: (من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة). وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع .. وذكر منها: وإبرار القسم)، يعني: إذا أقسم عليك أخوك أن تبرئ قسمه. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة)، المقصود: من سأل بوجه الله في غير بر، أو وصولاً إلى مصالح دنيوية، أو كان ذلك على غير سبيل التعظيم والإجلال. روى الطبراني عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجراً) أي: ما لم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق وهذا الحديث فيه كلام. وفي الحديث أيضاً: (شر الناس رجل سئل بوجه الله ولم يعط). قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ))، أي: مراقباً لجميع أحوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها، كما قال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [يونس:61] وكما قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، وفي الحديث: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). يقول السيوطي رحمه الله: سورة النساء مدنية وآياتها مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ )) أي: أهل مكة. (( اتَّقُوا رَبَّكُمُ )) أي: عقابه بأن تطيعوه. (( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )) آدم. (( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) حواء ، بالمد، خلقها من ضلع من أضلاعه -أي: أضلاع آدم- اليسرى. (( وَبَثَّ )) أي: فرق ونشر (( مِنْهُمَا )) أي: من آدم ومن حواء . (( رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً )) كثيرة. ( واتقوا الله الذي تسَّاءلون) -بتشديد السين- فيه إدغام التاء في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي: (تساءلون). (به) أي: فيما بينكم، حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله، وأنشدك بالله. (( وَالأَرْحَامَ )) (و): واتقوا (الأرحام) أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفاً على الضمير في (به) وكانوا يتناشدون بالرحم. (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) أي: حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها، أي: لم يزل متصفاً بذلك. (كان) في مثل هذا الموضع تفيد الاستمرار، ولا تفيد التعبير عن الماضي (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) أي: وما زال عليكم رقيباً.

(( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ )) أي: اخشوا أن تخالفوه فيما أمركم به أو نهاكم عنه، ثم نبههم على اصطفائه بكمال القدرة الباهرة، لتأييد الأمر بالتقوى، يعني: ما صفات هذا الإله سبحانه وتعالى الذي أنتم مأمورون باتقائه، قال عز وجل: (( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ ))، يعني: فرعكم من أصل واحد وهو نفس أبيكم آدم، وهذا مما يدل على القدرة العظيمة، ومن قدر على هذا كان قادراً على كل شيء، ومنه عقابهم على معاصيهم، فالنظر فيه يؤدي إلى الاتقاء من موجبات نقمته. كذلك أيضاً قوله سبحانه وتعالى: (( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )) إلى آخر الآية، فإنها تعني: أنه سبحانه أهل لأن يتقى؛ لأنه هو الذي خلقنا من نفس واحدة، وخلق منها زوجها إلى آخره. كذلك أيضاً: جعله تعالى إيانا صنواناً مفرعة من أرومة واحدة، أي: أن أصلنا واحد وهو آدم عليه السلام، فمن موجبات هذا أن نحترز عن الإخلال بما أمرنا بمراعاته فيما بيننا من حقوق الأخوة، ومن صلة الأرحام، فحق هذه الأخوة أن تراعى حقوقها، وحق هذه الأرحام أن توصل، كذلك رعاية حال الأيتام، والعدل في النكاح، فهذه كلها من الحقوق التي تستوجبها هذه الرابطة التي تربطنا بني البشر بعضنا ببعض، سيما إذا وجدت معها الرابطة الإيمانية، ولو لم توجد الرابطة الإيمانية، فمعروف أن للأرحام حرمة، والعدل يكون محموداً مع كل الناس سواء اليتامى أو الزوجات. هذا كله مما يتفرع عن ثبوت هذه الرابطة النسبية في عودتنا جميعاً إلى أصل واحد وهو آدم عليه السلام، وقد ثبت في صحيح مسلم من حديث جرير بن عبد الله البجلي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم حين قدم عليه أولئك النفر من مضر، وهم مجتابو النمار -أي: من عريهم وفقرهم- قام فخطب الناس بعد صلاة الظهر فقال في خطبته: يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ .. حتى ختم الآية، ثم قال: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ .. [الحشر:18]، ثم حضهم على الصدقة، فقال: تصدق رجل من ديناره، من درهمه، من صاع بره، من صاع تمره ..)، إلى آخر الحديث. كذلك أيضاً صح عن ابن مسعود رضي الله تعالى عنه في حديث خطبة الحاجة التي كان النبي صلى الله عليه وآله وسلم يقولها بين يدي كلامه وخطبه وحاجته، كان يقرأ ثلاث آيات وهذه الآية منها: (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) إلى آخر الآية. (( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) أي: من نفسها وهي حواء عليها السلام. لم يجعل الله سبحانه وتعالى الزوجات من خارج أنفسنا؛ لأن ذلك يتنافى مع ما يقتضيه الزواج من السكينة والمودة والرحمة، كما قال تبارك وتعالى: وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا [الروم:21] يعني: من جنس البشر، فالإنسي لا يتزوج بجنية والجني لا يتزوج بإنسية. ثم قال تعالى: (( وَبَثَّ مِنْهُمَا )) أي: نشر من تلك النفس وزوجها المخلوقة منها عن طريق التوالد والتناسل: (( رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً )) أي: كثيرة، هنا ترك التصريح بصيغة الكثرة في حق النساء للاكتفاء بالوصف المذكور؛ لأنها تفهم من السياق: وبث منهما رجالاً كثيراً ونساء كثيرة.

(( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ )) تكرار للأمر بالتقوى، وتذكير بشيء آخر من موجبات الامتثال له؛ فإن سؤال بعضهم بعضاً بالله تعالى من موجبات تقوى الله سبحانه وتعالى، أي: اتقوا الله الذي أنتم جميعاً تعرفون قدره وتعظمونه تبارك وتعالى، حيث أن بعضكم حينما يريد أن يستعطف البعض الآخر، فإنه يقول: أسألك بالله، أو أنشدك بالله؛ لأن الله سبحانه وتعالى هو أعظم شيء عند المؤمن؛ وذلك لأنكم تعظمون الله في أيمانكم هذه فينبغي أيضاً أن تتقوه. (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ )) أصلها (تتساءلون) فحذفت إحدى التاءين تخفيفاً. وقرئت بإدغام تاء التفاعل في السين لتقاربهما في الهمس. وقرئ (تسألون به) يعني من الثلاثي يعني: (تسألون به غيركم) وقد فسر به القراءة الأولى والثانية. وحمل صيغة التفاعل (تساءلون به) على اعتبار الجمع، كما في قولك: إذا كنت وحيداً تقول: رأيت الهلال، أما إذا كنتم مجموعة فتقولون: تراءينا الهلال، لكن صيغة تراءى تفاعل، تكون في الجمع فكذلك هنا؛ لأنكم جميعاً تسألون الله فلذلك عبر بصيغة التفاعل (تساءلون به) أو (تتساءلون به). (( وَالأَرْحَامَ )) قرأها حمزة بالجر عطفاً على الضمير المجرور (به) أي: (واتقوا الله الذي تساءلون به والأرحامِ) أي: (الذي تتساءلون به وبالأرحام) لأن عادة العرب أنهم كانوا يناشدون بعضهم بعضاً بالله والرحم، يعني: وأسألك بالرحم. أما باقي القراء غير حمزة فإنهم قرءوها بالنصب عطفاً على لفظ الجلالة: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ ))، يعني: واتقوا الأرحام أن تقطعوها، فإن قطيعتها مما يجب أن يتقى، قرن الله عز وجل صلة الرحم باسمه الجليل دلالة على خطورة وأهمية صلة الرحم، كما في قوله تعالى: لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا [البقرة:83]؛ لأن الوالدين أقرب الرحم، وقال تعالى: وَاعْبُدُوا اللَّهَ وَلا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئًا وَبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا وَبِذِي الْقُرْبَى وَالْيَتَامَى وَالْمَسَاكِينِ [النساء:36]، وروى الشيخان عن عائشة رضي الله عنها عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (الرحم معلقة بالعرش، تقول: من وصلني وصله الله، ومن قطعني، قطعه الله)، وقوله صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل الجنة قاطع -يعني: قاطع رحم-). وقال أيضاً صلى الله عليه وآله وسلم: (ليس الواصل بالمكافئ، ولكن الواصل الذي إذا قُطعت رحمه وصلها). وروى الشيخان عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (من كان يؤمن بالله واليوم الآخر فليصل رحمه)، والأحاديث في الترغيب بصلة الرحم، والترهيب من قطيعتها كثيرة.

هذه الآية تدل على جواز المسألة بالله تبارك وتعالى، ووجه ذلك: أنه تعالى أقرهم على هذا التساؤل: (( وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ )). أما من أداه التساؤل باسمه تعالى إلى التساهل في شأنه وجعله عرضة لعدم إجلاله فهذا محظور قطعاً، كما قال تعالى: وَلا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمَانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَتَتَّقُوا وَتُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ [البقرة:224]، على أحد التفسيرين. إذاً لا ينبغي امتهان اسم الله عز وجل بأن تدخله في كل صغيرة وكبيرة وفي الأمور الحقيرة، أو الأمور التي ليس فيها تعظيم، بل اجعل اسم الله والحلف باسم الله في الأمور العظيمة التي لها شأن. فهذا هو الذي يحمل عليه الحديث الوارد بلعن من سأل بوجه الله (ملعون من سأل بوجه الله). ومن الأدلة على جواز السؤال بالله قوله صلى الله عليه وسلم: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بالله فأعطوه، ومن دعاكم فأجيبوه، ومن صنع إليكم معروفاً فكافئوه، فإن لم تجدوا ما تكافئونه فادعوا له حتى تعلموا أنكم قد كافأتموه) والشاهد هنا قوله: (من سألكم بالله فأعطوه) لذلك فإن المتسولين إذا عرفوا هذا الحكم ظفروا به، وقد يخشى أن يسيئوا استخدامه، فإنه إذا سألك السائل بوجه الله فيجب عليك قطعاً أن تعطيه، وأن تجيبه تعظيماً لاسم الله تبارك وتعالى: (من سألكم بالله فأعطوه) لا ترده بأي حال من الأحوال. وعن ابن عباس رضي الله عنهما مرفوعاً: (من استعاذ بالله فأعيذوه، ومن سألكم بوجه الله فأعطوه). وعن ابن عمر مرفوعاً والحديث ضعيف: (من سئل بالله فأعطى كتب له سبعون حسنة). وفي البخاري عن البراء بن عازب رضي الله عنه: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم بسبع .. وذكر منها: وإبرار القسم)، يعني: إذا أقسم عليك أخوك أن تبرئ قسمه. وعن جابر رضي الله تعالى عنه مرفوعاً: (لا يسأل بوجه الله تعالى إلا الجنة)، المقصود: من سأل بوجه الله في غير بر، أو وصولاً إلى مصالح دنيوية، أو كان ذلك على غير سبيل التعظيم والإجلال. روى الطبراني عن أبي موسى الأشعري مرفوعاً: (ملعون من سأل بوجه الله، وملعون من سئل بوجه الله ثم منع سائله، ما لم يسأل هجراً) أي: ما لم يسأل أمراً قبيحاً لا يليق وهذا الحديث فيه كلام. وفي الحديث أيضاً: (شر الناس رجل سئل بوجه الله ولم يعط). قال تعالى: (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا ))، أي: مراقباً لجميع أحوالكم وأعمالكم فهو يراها ويعلمها، كما قال تعالى: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [يونس:61] وكما قال تعالى: وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ [المجادلة:6]، وفي الحديث: (اعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك). يقول السيوطي رحمه الله: سورة النساء مدنية وآياتها مائة وخمس أو ست أو سبع وسبعون آية. (( يَا أَيُّهَا النَّاسُ )) أي: أهل مكة. (( اتَّقُوا رَبَّكُمُ )) أي: عقابه بأن تطيعوه. (( الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ )) آدم. (( وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا )) حواء ، بالمد، خلقها من ضلع من أضلاعه -أي: أضلاع آدم- اليسرى. (( وَبَثَّ )) أي: فرق ونشر (( مِنْهُمَا )) أي: من آدم ومن حواء . (( رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً )) كثيرة. ( واتقوا الله الذي تسَّاءلون) -بتشديد السين- فيه إدغام التاء في السين، وفي قراءة بالتخفيف بحذفها أي: (تساءلون). (به) أي: فيما بينكم، حيث يقول بعضكم لبعض: أسألك بالله، وأنشدك بالله. (( وَالأَرْحَامَ )) (و): واتقوا (الأرحام) أن تقطعوها، وفي قراءة بالجر عطفاً على الضمير في (به) وكانوا يتناشدون بالرحم. (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) أي: حافظاً لأعمالكم فيجازيكم بها، أي: لم يزل متصفاً بذلك. (كان) في مثل هذا الموضع تفيد الاستمرار، ولا تفيد التعبير عن الماضي (( إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا )) أي: وما زال عليكم رقيباً.