تفسير سورة الكهف - الآيات [83-97]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، وصلى الله وبارك على سيدنا رسول الله.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول تعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً * إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ وَآتَيْنَاهُ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ سَبَباً * فَأَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً قُلْنَا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً * قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذَاباً نُكْراً * وَأَمَّا مَنْ آمَنَ وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً * كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً * ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً * حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً * قَالُوا يَا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَمَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلَى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنَا وَبَيْنَهُمْ سَدّاً * قَالَ مَا مَكَّنَنِي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَبَيْنَهُمْ رَدْماً * آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذَا سَاوَى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قَالَ انفُخُوا حَتَّى إِذَا جَعَلَهُ نَاراً قَالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً * فَمَا اسْتَطَاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَمَا اسْتَطَاعُوا لَهُ نَقْباً * قَالَ هَذَا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذَا جَاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَكَانَ وَعْدُ رَبِّي حَقّاً [الكهف:83-98].

ذو القرنين بين كونه نبياً أو عبداً صالحاً

هذه القصة هي آخر القصص التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة المباركة، وهي تتناول خبر عبد صالح بلغ المشارق والمغارب دعوةً إلى الله عز وجل، وسعياً للصلاح في الأرض، وهذا العبد الصالح هو ذو القرنين عليه السلام. وهل كان نبياً مرسلاً أم كان عبداً ملكاً؟ الله أعلم، فلم يجزم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( ما أدري أتبع كان لعيناً أم لا؟ وما أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟ ).

وهذا العبد الصالح ما اسمه؟ الجواب: الله أعلم، فقد ذكر المفسرون في ذلك أقوالاً كثيرة، ومتى كان زمانه؟ أيضاً الجواب: الله أعلم، ثم لم لقب بـذي القرنين ؟ الجواب: قيل: لأنه كان كريم الطرفين من جهة أبيه وأمه، أو لأنه دعا قومه إلى الله فضربوه فشجوه، ثم قام فدعاهم فضربوه على قرنه الآخر فشجوه، أو لأنه كان ذا ضفيرتين، أو لأنه هلك في زمانه قرنان من الناس، والله أعلم أي ذلك كان.

سبب ذكر قصة ذي القرنين في القرآن

وسبب القصة أن المشركين سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عن قصة هذا العبد الذي بلغ المشارق والمغارب، فجاءه الجواب من الله: سَأَتْلُو عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً [الكهف:83]، أي: خبراً، إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الأَرْضِ [الكهف:84]، أي: مكن الله له بجميع أنواع التمكين من كثرة الجنود، وعدد الأتباع، وقوة الآلات التي يحارب بها، وفهم اللغات للقوم الذين يغزونهم، وعلمه بالطرق والأساليب التي يحاربهم بها.

قوله: فَأَتْبَعَ )) أو فتبع سَبَباً [الكهف:85] أي: سلك طريقاً.

بلوغ ذي القرنين مغرب الشمس

قوله: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ [الكهف:86]، أي: المكان الذي هو أقصى ناحية المغرب، وَجَدَهَا تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ [الكهف:86]، أي: كثيرة الحمأ، وهي الطين الأسود، وفي قراءة: (في عين حامية)، أي: شديدة السخونة والحرارة، وَوَجَدَ عِنْدَهَا قَوْماً [الكهف:86]، فخيره الله عز وجل بين أمرين: إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَإِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً [الكهف:86]، فأوكل الله له الاختيار للسياسة التي يراها مناسبة، فكان عبداً صالحاً، وإماماً عدلاً، فبين سياسته: إما أنه يخاطب أولئك القوم، وإما أنه يخاطبه رب العالمين، يعني: نفسه ومن معه من الجنود.

قَالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ [الكهف:87]، أي: أصر على الشرك، والكفر بالله، والصد عن سبيل الله، وأبى الاستجابة للدعوة فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ [الكهف:87]، نعذبه في الدنيا بالقتل والأسر، ثُمَّ يُرَدُّ إِلَى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ [الكهف:87] أي: يوم القيامة عَذَاباً نُكْراً [الكهف:87]، أي: مؤلماً فظيعاً.

وَأَمَّا مَنْ آمَنَ [الكهف:88] أي: بالله عز وجل، وبأنبيائه ورسله، وبدعوته، والتزم طريق السداد، وَعَمِلَ صَالِحاً فَلَهُ جَزَاءً الْحُسْنَى [الكهف:88] أي الجنة، و وَسَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنَا يُسْرًا [الكهف:88] أي: سنتكلم معه كلاماً هيناً ليناً رفيقاً، ونعلمه دين الله عز وجل في يسر وسعة.

بلوغ ذي القرنين مطلع الشمس

قال الله عز وجل: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً [الكهف:89]، أي: سلك طريقاً، وبدأ الرحلة الثانية: حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً [الكهف:90].

المطلع بالكسر والفتح قراءتان، حَتَّى إِذَا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ [الكهف:90]، أي: موضع طلوع الشمس، ومعنى ذلك: أنه انتهى إلى موضع قوم لم يكن بينهم وبين طلوع الشمس أحد من الناس؛ لأنهم في أقصى المشرق، وليس معنى ذلك أنهم قريبون جداً من الشمس؛ بل بينهم وبين الشمس مسافة بعيدة؛ لكنهم في أقصى ناحية الشرق، وكان هؤلاء القوم كما قال بعض أهل التفسير: هم الزنج. وقال بعضهم وهو العلامة ابن عاشور رحمه الله: هم على ساحل بحر اليابان، ناحية كوريا شرقاً، وانظروا ما بين القولين، فما أبعد اليابان عن الزنج، فالشيخ رحمه الله يقول: هم في ناحية في ساحل بحر اليابان في حدود كوريا شرقاً، والله أعلم أي ذلك كان.

قال الله عز وجل: وَجَدَهَا تَطْلُعُ عَلَى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِهَا سِتْراً [الكهف:90]، وهؤلاء القوم يعيشون في فضاء من الأرض، ليس هناك بناء يظلهم، ولا تحتمل أرضهم بناءً، وليس هناك شجر يكنهم؛ بل هذه الأرض مكشوفة لحرارة الشمس، قال سعيد بن جبير رحمه الله: كانوا حمراً، أي: كانت ألوانهم حمراء، فكانوا حمراً قصاراً، وهذا الوصف يشبه أهل اليابان، وهذا كلام ابن عاشور رحمه الله، ويشبهون كذلك أهل الصين وأهل كوريا ومن كانوا في تلك الناحية في أقصى الشرق، قال سعيد : كانوا حمراً قصاراً، مساكنهم الغيران -والغيران جمع غار، وهو الفجوة في الجبل- أكثر معيشتهم السمك، وقال قتادة رحمه الله: ذكر لنا أنهم كانوا بأرض لا تنبت لهم شيئاً، فليست أرضاً صالحةً للنبات، وهذا ظاهر؛ لأنه إذا كانت تلك الأرض ليس هناك شيء يسترها من الشمس، فهي إذاً لا تصلح للنبات، وكانوا إذا طلعت الشمس دخلوا في أسراب، الأسراب: جمع سرب، يتسربون إليه تحت الأرض، فإذا زالت الشمس عادوا إلى حرفهم ومعايشهم، وقال ابن جرير رحمه الله: لم يبنوا بناءً قط، ولم يبن عليهم بناء قط، فإذا طلعت الشمس دخلوا أسراباً لهم، أو نزلوا البحر يستترون من حرارة الشمس، وذلك أن أرضهم ليس فيها جبل، وليست أرضاً جبلية، وإنما هي أرض سهلية منبطحة، قال ابن جرير : جاءهم مرة جيش من الغزاة، فقال لهم أهلها: لا تطلع عليكم الشمس وأنتم بها، يعني: الأفضل لكم أن تخرجوا قبل طلوع الشمس، قالوا: لا نبرح حتى تطلع الشمس، ثم التفتوا فقالوا: ما هذه العظام؟ قال لهم أهلها: هذه جيف جيش طلعت عليهم الشمس هاهنا فماتوا، فانصرفوا أي: الجيش هاربين في الأرض.

وقال الحسن : كانت أرضهم لا جبل فيها ولا شجر، وكانت لا تحمل البناء، فإذا طلعت عليهم الشمس نزلوا في الماء، فإذا ارتفعت عنهم خرجوا يتراعون فيها رعي البهائم.

وخلاصة هذه الأقوال: أن أولئك القوم كانت لهم طبيعة خاصة، وأرضهم ليست كسائر الأرض، فأرضهم ليس فيها معالم، وليس فيها جبال، وليس فيها أشجار، وأرضهم لا تحتمل بناءً، فهم لم يبنوا، ولم يبن عليهم قط، فكانوا يستترون من حر الشمس إما بالدخول في أسراب تحت الأرض، وإما أنهم كانوا ينزلون إلى البحر. وهذا الكلام رغم أن عقولنا تستغربه، إلا أننا لا نحكم بأنه مستحيل، وقد قال الله عز وجل: سَبِّحْ اسْمَ رَبِّكَ الأَعْلَى * الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى * وَالَّذِي قَدَّرَ فَهَدَى [الأعلى:1-3]، أي: هدى كل شيء من خلقه إلى ما يصلحه، مثلما هدانا عامة معشر بني الإنسان أننا نتقي البرد بأن نلبس من الثياب أثقلها، ونتقي الحر بوسائل قد تعارف عليها الناس؛ فكذلك هؤلاء القوم هداهم الله عز وجل إلى تلك الوسائل.

فـذو القرنين عليه السلام بلغ تلك الأرض التي هي في أقصى المشرق، والتي أهلها بهذه الصفة، قال الله عز وجل: كَذَلِكَ وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً [الكهف:91]، (كذلك) وجه التشبيه فيها كما قال أهل التفسير: كذلك فعل بهؤلاء القوم الذين هم عند مطلع الشمس كما فعل بأولئك الذين كانوا عند مغربها، فالسياسة واحدة: أنه من ظلم كان له العذاب، ومن آمن وعمل صالحاً كان له القول اليسر، والقول الحسن.

وقوله: وَقَدْ أَحَطْنَا بِمَا لَدَيْهِ خُبْراً [الكهف:91] أي: أحطنا بما لديه من الجنود، والآلات، والعدد، والأسباب، (خبراً) أي: علماً، فالله عز وجل لا تخفى عليه خافية، قال تعالى: لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ [سبأ:3].

يقول الله عز وجل: ذو القرنين أي: بلغ أقصى المغرب وأقصى المشرق، ولم يكن خافياً علينا أمره، ولا غامضاً علينا شأنه؛ بل قد أحصينا ما عنده من الجند، والآلات، والعدد، والأسباب، ونحن مطلعون على كل شيء لديه.

رحلة ذي القرنين إلى ما بين السدين

ثم يقول الله عز وجل: ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً [الكهف:89]، أي: سلك سبيلاً، واتبع طريقاً، من أجل أن يبلغ رحلته الثالثة.

قال الله عز وجل: حَتَّى إِذَا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ [الكهف:93]، قرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي بضم السين (حتى إذا بلغ بين السُدين)، والسَد والسُد بمعنىً واحد، يطلق على الجبل، ويطلق على الجدار الفاصل بين مكانين، أو بين أمتين؛ لأنه يسد به الفضاء، قال ابن جرير رحمه الله: وهما قراءتان صحيحتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، أي: في القراء، وهما لغتان متفقتا المعنى، غير مختلفتين؛ فبأيتهما قرأ القارئ أصاب، يعني: إذا قرأ (بين السَّدين) أصاب، وإذا قرأ (بين السُّدين) أصاب.

وقوله: وَجَدَ مِنْ دُونِهِمَا قَوْماً [الكهف:93]، هؤلاء القوم من هم؟

الجواب: الله أعلم.

المراد بقوله تعالى: (لا يكادون يفقهون قولاً)

وقوله: قَوْماً لا يَكَادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً [الكهف:93]، (يفقهون) بمعنى يفهمون، فالفقه هو الفهم، وفي قراءة حمزة و الكسائي : (لا يكادون يُفْقِهون قولاً)، قال ابن جرير رحمه الله: وهما قراءتان مستفيضتان في قرأة الأمصار، غير دافعة إحداهما الأخرى، يعني: القراءتان غير متناقضتين، فهؤلاء القوم لا يَفهمون ولا يُفهمون، وهذا ظاهر، كما لو زار هذه البلاد أحد الناس ممن يتكلم بلغة نادرة ليست من اللغات الحية كما يقولون، فهذا الإنسان لا يكاد يفهم عنه الناس، ولا يكاد يفهم الناس، يعني: باللسان لا تفاهم، إلا أن يستعين بشيء آخر، ومعنى ذلك أن هؤلاء القوم لا يعرفون شيئاً من لغة غيرهم، ثم إن لغتهم مخالفة للغات الأمم المعروفة، أي: مخالفة للغات التي تتكلم بها أمم من الناس، بحيث لا يعرفها تراجمة ذي القرنين ، ومعلوم أن الملوك دائماً يتخذون من يترجمون لهم، وينقلون إليهم ما يقوله الناس، وينقلون عنهم إلى الناس؛ ولذلك نقرأ في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم بأنه أمر زيد بن ثابت رضي الله عنه أن يتعلم العبرانية، قال له: ( فإني لا آمن يهود )، فتعلمها زيد في سبعة عشر يوماً، يعني: في سبعة عشر يوماً أتقن لغة القوم، وكذلك نقرأ في صحيح البخاري في كتاب الإيمان: بأن هرقل عظيم الروم لما بلغته رسالة رسول الله صلى الله عليه وسلم التي يدعوه فيها إلى الله، طلب بعض تجار العرب، فجيء له بـأبي سفيان ، فبدأ هرقل يخاطب أبا سفيان عن طريق الترجمان، فـذو القرنين عليه السلام كان معه هؤلاء التراجمة الذين ينقلون إليه لغات الناس؛ لكنه وجد هؤلاء القوم يتكلمون بلغة غريبة؛ لأن صقعهم منقطع عن الأصقاع، وبلادهم بعيدة عن البلاد، ولا يوجد من يستطيع إفهامهم مراد الملك، وهم لا يستطيعون الإفهام، وهناك احتمال آخر بأنهم كانوا موغلين في البلادة والبداوة، بحيث لا يفهمون ما يقصده من خاطبهم، ولا غرابة في هذا فقد كان موجوداً حتى في زمان رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر الصحابة رضوان الله عليهم خبر ضمام بن ثعلبة ، وهو رجل جاء من قبل نجد، ثائر الرأس، يعني: شعره كثير غير مرجل ولا مرتب، يقول الصحابة: نسمع دوي صوته ولا ندري ما يقول، مع أن الصحابة عرب أقحاح، والرجل عربي؛ لكنه لما كان موغلاً في البداوة يعني: بدوياً، وجاء من غير جهة الحجاز، جاء من نجد، ورغم أن صوته عال إلا أن الصحابة لا يفهمون كلامه، فقال: ( يا محمد! فقال النبي صلى الله عليه وسلم أجابه بنحو صوته: ها أم )، يعني: نعم أنا هنا، وهذا من فقه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإن الإنسان البدوي الذي اعتاد أن يصرخ حين يتكلم ويعلي صوته لو قال: يا محمد! وقال النبي صلى الله عليه وسلم كما كان يقول لسائر أصحابه: (لبيك) بصوته الخفيض عليه الصلاة والسلام، وأسلوبه الهادئ لاستغرب الأعرابي ذلك؛ لكن الرسول صلى الله عليه وسلم أراد أن يزيل عنه الوحشة، بمعنى أنه نحن يا أخي مثلك أعراب فماذا تريد؟ قال: ( يا محمد! فأجابه النبي: ها أم، قال له: إني سائلك فمشدد عليك المسألة، فلا تغضب، قال له: سل، فبدأ يطرح أسئلته على النبي صلى الله عليه وسلم، وكان آخرها أنه قال له: والذي بعثك بالحق لا أزيد على هذه ولا أنقص )، يعني: سألتزم بما قلت؛ فقال النبي صلى الله عليه وسلم: ( أفلح إن صدق، أو دخل الجنة إن صدق ).

هذه القصة هي آخر القصص التي ذكرها ربنا تبارك وتعالى في هذه السورة المباركة، وهي تتناول خبر عبد صالح بلغ المشارق والمغارب دعوةً إلى الله عز وجل، وسعياً للصلاح في الأرض، وهذا العبد الصالح هو ذو القرنين عليه السلام. وهل كان نبياً مرسلاً أم كان عبداً ملكاً؟ الله أعلم، فلم يجزم في ذلك رسول الله صلى الله عليه وسلم حيث قال: ( ما أدري أتبع كان لعيناً أم لا؟ وما أدري أكان ذو القرنين نبياً أم لا؟ ).

وهذا العبد الصالح ما اسمه؟ الجواب: الله أعلم، فقد ذكر المفسرون في ذلك أقوالاً كثيرة، ومتى كان زمانه؟ أيضاً الجواب: الله أعلم، ثم لم لقب بـذي القرنين ؟ الجواب: قيل: لأنه كان كريم الطرفين من جهة أبيه وأمه، أو لأنه دعا قومه إلى الله فضربوه فشجوه، ثم قام فدعاهم فضربوه على قرنه الآخر فشجوه، أو لأنه كان ذا ضفيرتين، أو لأنه هلك في زمانه قرنان من الناس، والله أعلم أي ذلك كان.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2545 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2534 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2506 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2377 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2368 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2295 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2262 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2127 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2087 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2048 استماع