تفسير سورة الكهف - الآيات [25-26]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم.

الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه، وعظيم سلطانه، الحمد لله عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته.

اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.

سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم.

اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقناً عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحب وترضى، أما بعد:

يقول تعالى: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً * قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:25-26].

يقول سبحانه: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف:25].

قراءة الجمهور بالتنوين ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا [الكهف:25] وقرأ حمزة و الكسائي و خلف العاشر : (ولبثوا في كهفهم ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً)، أما على قراءة الجمهور فـ(سنين) منتصبة على البدلية، أو تمييز للعدد، وأما على قراءة حمزة و الكسائي فهي مجرورة بالإضافة (ثلاث مائة سنين وازدادوا تسعاً)، ويمكن كذلك أن تكون تمييزاً.

هذا خبر من الله عز وجل عن مدة مكث أصحاب الكهف في كهفهم، وهو تفسير للآية التي مضت حتى قال سبحانه: فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً [الكهف:11]، فالسنين مفسرة بهذه الآية، بأنها كانت ثلاثمائة سنة شمسية بحساب أهل الكتاب؛ وهم اليهود الذين أرشدوا المشركين إلى سؤال رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم ثلاثمائة سنين وعليها زيادة تسع بحساب السنين القمرية التي يتعامل بها المسلمون في ذلك العهد وفي كل عهد، فالتسع السنوات هي الفرق ما بين الحسابين: الحساب بالسنوات الشمسية، والحساب بالسنوات القمرية.

وقول الله عز وجل: وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف:25]، بعض المفسرين طرح سؤالاً: أهي تسع سنين أم تسع شهور أم تسع جمع؟ ما هو التمييز المقدر؟

والذي عليه جمهورهم أنها تسع سنين؛ لأن العرب تقول: عندي مائة درهم، وخمسة، أي: وخمسة دراهم، أو عندي مائة دينار وخمسة، أي: خمسة دنانير، فإذا كان المعطوف مخالفاً للعدد المعطوف عليه فلا بد من ذكره صراحة، فالله عز وجل لما قال: وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف:25]، علم أن هذا المعطوف موافق لما سبق وهو السنين.

وقول الله: وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعاً [الكهف:25]، بعض المفسرين قالوا: بأن هذا حكاية عن مقولة أهل الكتاب، أي أن أهل الكتاب قالوا: إن أهل الكهف لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، قالوا: والدليل على ذلك أن الله عز وجل قال بعدها: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]، ولكن كما رجح الطبري رحمه الله أن هذا كلام الله وخبره، يخبر سبحانه بأن أهل الكهف قد بقوا هذه المدة نائمين في الكهف، مضروباً النوم على آذانهم، وهم أحياء سالمون.

أما قول الله عز وجل: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]، فالمراد به المدة التي هي من حين بعثهم والإعثار عليهم إلى بعثة محمد صلى الله عليه وسلم، يعني: كأن هؤلاء القوم لما أجيبوا عن سؤالهم، وفصل لهم خبر أصحاب الكهف، وذكر لهم بأنهم قد مكثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً، كأنهم طرحوا على رسول الله صلى الله عليه وسلم سؤالاً آخر، قالوا له: فكم المدة من حين بعثهم من رقادهم والإعثار عليهم إلى أن نبئت وأرسلت؟ فجاء الجواب: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]؛ لئلا يولد السؤال سؤالاً ثالث وهكذا، وكما علمنا أن أهل الكتاب ما كان غرضهم التعلم، وإنما غرضهم طرح الشبه على رسول الله صلى الله عليه وسلم، وعلى عباد الله المؤمنين، فالله عز وجل قطع حجتهم، وأبطل كيدهم بقوله: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا [الكهف:26]، لا تسألوا عن ذلك.

اختصاص الله بعلم الغيب

قال سبحانه: قُلْ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ [الكهف:26].

قد اختص سبحانه نفسه بعلم ما غاب في السموات والأرض، وما غاب من أحوال أهلهما، وهذا المعنى -أي: اختصاص الله عز وجل بعلم الغيب- هو من مسلمات عقيدة المسلمين، وقد تكرر في القرآن كثيراً، كقول ربنا سبحانه في صدر سورة آل عمران: إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفَى عَلَيْهِ شَيْءٌ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ [آل عمران:5]، وكقوله سبحانه في خواتيم السورة: وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ [آل عمران:179]، وقوله في سورة الأنعام: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ [الأنعام:59]، وفي سورة الأعراف يأمر نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يقول: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَلا ضَرّاً إِلاَّ مَا شَاءَ اللَّهُ وَلَوْ كُنتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنْ الْخَيْرِ وَمَا مَسَّنِي السُّوءُ [الأعراف:188].

وكذلك في سورة يونس يخبر الله عز وجل عن نفسه، فيقول سبحانه: وَمَا يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقَالِ ذَرَّةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي السَّمَاءِ وَلا أَصْغَرَ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [يونس:61].

وكذلك في سورة هود: وَلِلَّهِ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَإِلَيْهِ يُرْجَعُ الأَمْرُ كُلُّهُ [هود:123].

وفي سورة الرعد: عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعَالِي [الرعد:9].

وفي سورة النمل: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65].

وفي سورة سبأ: عَالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقَالُ ذَرَّةٍ فِي السَّمَوَاتِ وَلا فِي الأَرْضِ وَلا أَصْغَرُ مِنْ ذَلِكَ وَلا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتَابٍ مُبِينٍ [سبأ:3].

وفي سورة الحشر: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلاَّ هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ [الحشر:22].

وفي سورة الجن: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَداً * إِلاَّ مَنْ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ [الجن:26-27]، فهذه من المسلمات، أن علم الغيب لله وحده، يطلع من شاء من أنبيائه صلوات الله وسلامه عليهم على ما شاء من غيبه جل جلاله.

إثبات صفة السمع والبصر لله عز وجل

قال سبحانه وتعالى: لَهُ غَيْبُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ [الكهف:26].

هذه صيغة تعجب، أي: ما أسمعه جل جلاله، وما أبصره، فهو سميع بكل مسموع، بصير بكل موجود، لا تخفى عليه خافية في الأرض ولا في السماء، يستوي في علمه، وفي سمعه، وفي بصره جل جلاله المشاهد للناس، والغائب عنهم، اللطيف والكثيف، الموجود والمعدوم، المعلوم لهم والمجهول، كله بالنسبة لله عز وجل مسموع مبصر، يدرك الخفيات كما يدرك الجليات، وهذا المعنى مذكور في كثير من آي القرآن، كقول ربنا الرحمن: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1].

تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: ( سبحان من وسع سمعه الأصوات، جاءت خولة بنت ثعلبة تشكو إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأنا في ناحية البيت ) أي: في ناحية من الحجرة، ( يخفى علي بعض كلامها، وقد سمع الله قولها من فوق سبع سموات )، يعني السيدة عائشة رضي الله عنها كانت جالسةً مع النبي صلى الله عليه وسلم، و خولة بنت ثعلبة في حجرة واحدة، وقد علمنا أن تلك الحجرات كانت ضيقة، كما قال الحسن البصري : دخلتها وأنا غلام فتي فكنت إذا رفعت نلت سقفها، وإذا مددت رجلي نلت جدارها، وإذا اتكأت عليها أوشكت أن تسقط. فالسيدة عائشة في تلك الحجرة الضيقة وكانت حريصةً على أن تسمع، ومع ذلك خفي عليها بعض الكلام، والله عز وجل سمع قولها من فوق سبع سموات، وأنزل حكمه في ذلك فقال سبحانه: وَالَّذِينَ يُظَاهِرُونَ مِنْ نِسَائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِمَا قَالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذَلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَاللَّهُ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ * فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيَامُ شَهْرَيْنِ مُتَتَابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعَامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً [المجادلة:4].

ولاية الله للمؤمنين

فالله عز وجل يعجب العباد من سمعه وبصره، فيقول: أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26]، جل جلاله، (ما لهم) أي: لأهل الكهف، وقيل: (ما لهم) أي: لهؤلاء الذين سألوه، (من ولي) يتولى أمورهم، وينصرهم استقلالاً.

وهذه الآية أتثبت بأن الله عز وجل هو ولي أولئك المؤمنين الطيبين الذين أووا إلى الكهف، وهذا المعنى موجود في كثير من آي القرآن كقوله سبحانه: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، وقوله سبحانه: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [الأنفال:34]، وقوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [يونس:62]، وقوله سبحانه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَيُؤْتُونَ الزَّكَاةَ وَهُمْ رَاكِعُونَ [المائدة:55].

فالله عز وجل ولي المؤمنين، وقد دلت آية من القرآن على أن الله عز وجل يوالي المؤمنين وحدهم، ولا يوالي الكافرين، قال سبحانه: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]، ودلت آية أخرى من القرآن على أنه سبحانه أيضاً مولىً للكافرين، يقول سبحانه: وَرُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ وَضَلَّ عَنْهُمْ مَا كَانُوا يَفْتَرُونَ [يونس:30]، فقوله سبحانه: (وضل عنهم ما كانوا يفترون) حديث عن الكفار، ولا تعارض بين الآيتين، فقوله تعالى: ذَلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَأَنَّ الْكَافِرِينَ لا مَوْلَى لَهُمْ [محمد:11]، المراد بهذه الولاية: ولاية الثواب والنصر والتوفيق والتأييد والتسديد، وهذه خاصة بالمؤمنين، وأما قول الله عز وجل: ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ [الأنعام:62]، فالمقصود بهذه الولاية: ولاية الملك والقهر ونفوذ المشيئة.

ولهذا نظائر في القرآن الكريم، فمثلاً: في بعض آيات القرآن أثبت الله عز وجل بأن الكفار يحشرون يوم القيامة على وجوههم عمياً وبكماً وصماً، وفي بعض الآيات أثبت جل جلاله بأن الكفار يرون يوم القيامة ويسمعون ويتكلمون، ولا تعارض؛ لأن كل آية تنزل على حال، كما قال بعض أهل التفسير: إن المراد بأنهم لا يتكلمون بكلام ينفعهم؛ لأنهم مهما تكلموا فالختام أن يقال لهم: اخْسَئُوا فِيهَا وَلا تُكَلِّمُونِ [المؤمنون:108]، ولو أنهم رأوا فلم يروا شيئاً يسرهم، بل سيروا إلى جهنم، كما قال الله عز وجل: إِذَا رَأَتْهُم مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَهَا تَغَيُّظاً وَزَفِيراً * وَإِذَا أُلْقُوا مِنْهَا مَكَاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنَالِكَ ثُبُوراً * لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً وَاحِداً وَادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً [الفرقان:12-14].

يقول الله عز وجل: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26]، كان لأهل الكهف ولي واحد، وهو الله رب العالمين جل جلاله، والاهم بتثبيته حيث قال سبحانه: وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ [الكهف:14]، ووالاهم بخوارق العادات حيث قال أيضاً: وَتَحْسَبُهُمْ أَيْقَاظاً وَهُمْ رُقُودٌ وَنُقَلِّبُهُمْ ذَاتَ الْيَمِينِ وَذَاتَ الشِّمَالِ [الكهف:18]، ووالاهم برفع الذكر، وشرح الصدر، ووالاهم بأن ختم لهم بتلك الخاتمة الحسنة، وجعلهم آيةً للعالمين. مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26].

اختصاص الله عز وجل بالحكم الكوني والشرعي

قال سبحانه: وَلا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً [الكهف:26]، هذه قراءة الجمهور: (ولا يشرك) لا نافية، أي: ولا يشرك رب العالمين في حكمه الكوني القدري، ولا في حكمه الشرعي الديني أحداً، فالحلال ما أحله، والحرام ما حرمه، والدين ما شرعه، والقضاء ما قدر، وقراءة عبد الله بن عامر : (ولا تشرك في حكمه أحداً)، (لا) ناهية، (تشرك) الخطاب لرسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: يا رسول الله! يا أيها المخاطب! لا تشرك في حكم الله أحداً، أي: عليك أن تحل ما أحل الله، وأن تحرم ما حرم الله، -وهذا المعنى وهو انفراد الله جل جلاله، واختصاصه بالحكم كوناً وقدراً وديناً وشرعاً- قد بينه ربنا في كثير من آي القرآن، كقوله سبحانه: إِنَّا أَنزَلْنَا إِلَيْكَ الْكِتَابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِمَا أَرَاكَ اللَّهُ [النساء:105].

وقوله سبحانه: أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنْ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ [المائدة:50].

وقوله سبحانه: أَفَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَهُوَ الَّذِي أَنزَلَ إِلَيْكُمْ الْكِتَابَ مُفَصَّلاً [الأنعام:114].

وقوله سبحانه: إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَهُوَ خَيْرُ الْفَاصِلِينَ [الأنعام:57].

إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَعَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلْ الْمُتَوَكِّلُونَ [يوسف:67].

إِنْ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذَلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ [يوسف:40].

كُلُّ شَيْءٍ هَالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [القصص:88].

ذَلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذَا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَإِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ [غافر:12] إلى غير ذلك من الآيات المباركات.

النظام الوضعي الذي لا يخالف الشرع

في ختام قصة أصحاب الكهف التي نسأل الله عز وجل أن ينفعنا بها، ها هنا مبحثان لا بد من ذكرهما:

المبحث الأول: يتعلق بالحكم.

والمبحث الثاني: يتعلق بالولاية.

أما مبحث الحكم: فقد مضى معنا تفصيله في تفسير سورة المائدة، وأن الحاكم بغير ما أنزل الله له أحوال، فتارةً يكون كافراً كفراً أكبر مخرجاً من الملة، وتارةً يكون كفره كفراً أصغر، أو كفراً مجازياً، وتارةً يكون ظالماً أو فاسقاً، على التفصيل الذي مضى.

لكن بقيت كلمة ذكرها العلامة الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله، قال: اعلم أنه يجب التفصيل بين النظام الوضعي الذي يقتضي تحكيمه الكفر بخالق السموات والأرض، وبين النظام الذي لا يقتضي ذلك، يعني: عندنا نظامان وضعيان: أحدهما لو حكمه الحاكم وألزم به الناس فإنه يكون كفراً بالله خالق السماء والأرض.

وعندنا نظام وضعي أي: من وضع البشر، لو فرضه الحاكم على الناس، وألزمهم به، فلا يكون ذلك كفراً، ولا ظلماً، ولا فسقاً، وبيان ذلك أن النظام نوعان أيها الإخوان: نظام إداري، ونظام شرعي.

أما النظام الإداري الذي يراد به ضبط الأمور وإتقانها على وجه لا يخالف الشرع فهذا لا مانع منه، وقد استعمله أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، حيث استعملوا أنظمةً وضعيةً إداريةً لا تخالف الشرع، استعملوها لضبط الأمور وإتقانها، ومن ذلك ما فعله عمر رضي الله عنه، ككتابة أسماء الجند في ديوان واحد من أجل أن يتيسر له الضبط، ومعرفة من غاب ممن حضر، وكذلك عمر رضي الله عنه اشترى دار صفوان بن أمية في مكة، واتخذها سجناً في مكة، مع أن رسول الله صلى الله عليه وسلم و أبا بكر ما اتخذا سجناً، يعني: ما كان في المدينة على زمن الرسول صلى الله عليه وسلم مكان معروف بأنه سجن، ولا كان في زمان أبي بكر رضي الله عنه، لكن في زمان عمر احتيج لاستحداث سجن من أجل أن يودع فيه من ثبتت عليه جريمة، أو أحاطت به شبهة إلى أن ينفذ فيه حكم الله، هذا في زمان عمر ، وهو نظام وضعي اقتبسه عمر من أمم أخرى، وهو لا يخالف حكم الله عز وجل، ومثله تنظيم شئون الموظفين، وإدارة الأعمال، وأيضاً تنظيم التعليم إلى مراحل، ونحو ذلك مما جرت به عادة الناس، وكمثل تنظيم الشوارع، وتخطيطها، والمساكن وتوزيعها، وما يتعلق بالمرور وأنظمته، هذا كله لا يخالف شرع الله عز وجل.

وأما النظام الشرعي المخالف لتشريع خالق السموات والأرض سواء كان في معاملات، أو في قوانين الأسرة، أو في الجنايات، أو في غير ذلك، فتحكيمه كفر بخالق السموات والأرض، هذا كلام الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان الجزء الثالث الصفحة الحادية والثمانين.

وخلاصة المبحث: أن النظام نوعان: نظام إداري، ونظام شرعي، فالنظام الإداري هو الذي يقصد به ضبط الأمور وتنظيمها وإتقانها، ولا حرج أن نقتبسه من غيرنا.

أما النظام الشرعي الذي فيه تحليل وتحريم، فليس لنا خيار معشر المؤمنين في اقتباسه أو الزيادة عليه، قال تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمْ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ [الأحزاب:36].

أحكام الولاية

المبحث الثاني ما يتعلق بالولاية.

قال الله عز وجل: مَا لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ [الكهف:26]، وقال سبحانه: هُنَالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَوَاباً وَخَيْرٌ عُقْباً [الكهف:44].

هذه المسألة قد حصل فيها اختلاف كثير، وضل فيها فئام من المسلمين، وغلط فيها أقوام من المتقدمين والمتأخرين، ونسأل الله أن يهدينا سواء السبيل.

هذه المسألة تتفرع إلى مسائل: من هو ولي الله؟ وما هي أقسام الأولياء وطبقاتهم؟ ثم بعد ذلك هل كل من جرى على يديه أمر خارق للعادة يعتبر ولياً لله؟ وهل الأولياء لهم كرامات أم ليست لهم كرامات؟

المراد بالولي

فأول هذه المسائل: في بيان معنى الولي.

فالولي لغةً: هو القريب، فلان ولي فلان أي: قريبه، ومنه قول النبي عليه الصلاة والسلام: ( ألحقوا الفرائض بأهلها، فما بقي فلأولى رجل ذكر )، لأولى بمعنى أقرب، يعني إذا كان لك أخ شقيق وأخ من الأب فالذي يرثك هو الشقيق؛ لأنه أقرب إليك من أخيك من أبيك، لو كان لك ابن وابن ابن فالذي يرثك ابنك؛ لأن ابنك أقرب إليك من ابن ابنك، فالولي في اللغة هو القريب.

وكلمة (الولي) إما أن تكون فعيلاً بمعنى فاعل، كعليم بمعنى عالم، وقدير بمعنى قادر، ومعناها: من توالت طاعاته من غير تخلل معصية، هذا هو ولي الله، وتوالت، يعني: ما كان يصلي الركعتين اللتين بعد المغرب يوماً ويتركها أياماً، أو كان يصوم رمضان سنةً، ثم في السنة التي بعدها يتعمد أن يفطرها أياماً، ولي الله هو من ثبت على طاعة الله ووالى بين الطاعات.

وأما أن تكون فعيلاً بمعنى مفعول، كقتيل بمعنى مقتول، وجريح بمعنى مجروح، وهو الذي يتولى الحق سبحانه حفظه، ورعايته، وكلاءته، وحراسته على التوالي، يحرسه من كل أنواع المعاصي، ويديم توفيقه على الطاعات.

إذاً: من هو ولي الله؟

الجواب: من كان قريباً من الله شرعاً، أو من كان قريباً من الله بكثرة طاعاته وإخلاصه، وكان الرب قريباً منه برحمته وفضله وإحسانه، يعني: هناك مبادلة، فهو قريب من الله بالطاعة، قريب من الله بترك المعاصي، قريب من الله بالإخلاص، مخلص لله في قوله وعمله، والله عز وجل قريب منه برحمته، وبإحسانه وتوفيقه وحفظه وكلاءته، هذا هو الولي.

أصناف الأولياء

ثاني هذه المسائل: ما هي أصناف الأولياء؟

الأولياء بدلالة القرآن صنفان: أولياء الرحمن، وأولياء الشيطان.

أولياء الرحمن هم الذين آمنوا بالله رباً، ووالوه وأحبوه، وأحبوا ما أحب، وأبغضوا ما أبغض، وأعطوا من أحب الله أن يعطى، ومنعوا من أحب الله أن يمنع، وأمروا بما أمر الله به، ونهوا عما نهى الله عنه، ورضوا لرضاه، وسخطوا لسخطه، هؤلاء هم أولياء الله، وقد ذكرهم ربنا في القرآن في قوله سبحانه: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:62-63]، وفي قوله سبحانه: إِنْ أَوْلِيَاؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ [الأنفال:34]، وقوله أيضاً: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنْ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ [البقرة:257]، وقوله سبحانه: إِنَّمَا وَلِيُّكُمْ اللَّهُ وَرَسُولُهُ وَالَّذِينَ آمَنُوا [المائدة:55].. إلى غير ذلك من الآيات.

أما أولياء الشيطان والعياذ بالله فهم المشركون، ومن شابههم ممن ينتسبوا إلى الإسلام ممن لا يعظمون حرمات الله، ولا يقفون عند حدوده، فترى الواحد منهم والعياذ بالله قد يكون يهودياً، أو قد يكون نصرانياً، أو قد يكون عابداً لوثن، أو عابداً لشمس أو قمر أو نار، أو ينتسبوا إلى الإسلام، ثم بعد ذلك لا يتوضأ، ولا يصلي المكتوبة، ولا يتنظف، ولا يتطهر الطهارة الشرعية، بل هو ملابس للنجاسات، معاشر للكلاب، دنس الثياب، يأوي إلى المزابل، ركاب للفواحش، بذيء اللسان، سيء اللفظ، غامز للشرع، مستهزئ بحملته، رائحته خبيثة، لا يعرف لله حرمة، فهذا هو ولي الشيطان، قال الله عز وجل: فَإِذَا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنْ الشَّيْطَانِ الرَّجِيمِ [النحل:98]، إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطَانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلَى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ * إِنَّمَا سُلْطَانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَالَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ [النحل:99-100].

وقوله سبحانه: وَالَّذِينَ كَفَرُوا أَوْلِيَاؤُهُمْ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنْ النُّورِ إِلَى الظُّلُمَاتِ [البقرة:257]، وقوله سبحانه: إِنَّمَا ذَلِكُمْ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ [آل عمران:175]، وقوله أيضاً: إِنَّا جَعَلْنَا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ [الأعراف:27]، إِنَّهُمْ اتَّخَذُوا الشَّيَاطِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ [الأعراف:30]. هؤلاء أولياء الشيطان.

إذاً: الأولياء نوعان: أولياء للرحمن، وقد عرفنا صفتهم، وأولياء للشيطان، وقد عرفنا صفتهم.

شروط الولاية

ثالث هذه المسائل: ما هي شروط الولاية؟

كلنا يرجو أن يكون ولياً لله، نسأل الله أن يجعلنا منهم، لكن هناك شروط لا بد من تحصيلها، وقد دل القرآن على أن الولاية لا تحصل إلا بشرطين وهما: الإيمان والتقوى، قال تعالى: الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ [يونس:63]، فكل مؤمن تقي فهو ولي الله، كل مؤمن محب لله ورسوله باطناً وظاهراً، ثم بعد ذلك هو تقي يفعل المأمور، ويجتنب المحظور، ويصبر على المقدور، فهو ولي الله، ومن انخرم في حقه شرط من الشرطين فلا يمكن أن يكون ولي الله، بل هو عدو الله، يعني: من لم يؤمن بالله بأن كان ملحداً أو يهودياً أو نصرانياً أو غير ذلك من ملل الكفر، لا يمكن أن يكون ولياً لله، ومن آمن بالله ولكن ما اتقاه لا يمكن أن يكون ولياً لله.

طريق الولاية مقيد بالشرع

وهنا مسائل:

المسألة الأولى: من اعتقد أن لأحد من الأولياء طريقاً غير طريق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عدو الله، ومن اعتقد أنه يمكن لإنسان أن يكون ولياً لله من غير طريق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو عدو الله، يعني بعض الناس قد يدعي أنه ولي الله، ثم بعد ذلك لا يتوضأ، ولا يصلي المكتوبة، ولا يحل الحلال، ولا يحرم الحرام، ولا يتنظف، بل تجده دنس الثياب، معاشراً للكلاب، غامزاً للشرع، مستهزئاً بحملته، يتكلم بالفاحش من القول، ثم بعد ذلك إذا سئل قال: أنا عندي طريق خاص، أو هذا شيء باطن، أو كما يقال: علم الباطن أنتم لا تعرفونه، فهذا نعتقد فيه والعياذ بالله أنه عدو الله، فليس هناك طريق لولاية الله إلا طريق محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وفي الحديث القدسي أن الله عز وجل قال له: ( يا محمد! وعزتي لو سلكوا إلي كل طريق، واستفتحوا علي كل باب، ما فتحت لهم حتى يأتوا خلفك يا محمد )، عليه الصلاة والسلام.

لا يتميز أولياء الله عن الناس بلباس ونحوه

المسألة الثانية: ليس لأولياء الله شيء يتميزون به على الناس في الظاهر، فليس لأولياء الله لباس دون لباس الناس، ولا يتميزون على الناس بحلق شعر ولا توفيره ولا تقصيره ولا ظفره، ولا لون من الثياب يخالف ما عليه الناس، فبعض الناس يعتقد بأن ولي الله لا بد أن يكون أخضر الثياب، أو لا بد أن يلبس قلنسوة بطريقة معينة، أو لا بد أن يكون مظفراً، أو أن يكون شعره كثيراً، أو أن ولي الله حليق، لا والله، فسيد أولياء الله هو محمد رسول الله صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك ما كان يتميز عن الناس، كان يلبس كما يلبس الناس، ويأكل كما يأكل الناس، حتى إن الداخل إلى مسجده كان يقف ويسأل: أيكم رسول الله صلى الله عليه وسلم؟ حتى بنى له الصحابة مكاناً مرتفعاً يجلس عليه في المسجد من أجل أن يعرف الداخل أن الجالس هنالك هو رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نفي العصمة عن أولياء الله

المسألة الثالثة: ليس من شرط ولي الله أن يكون معصوماً لا يخطئ، ولا يزل، ولا يغلط، بل ولي الله المؤمن التقي قد يقع في الخطأ، وقد يخفى عليه بعض العلم، فليس من شرط الولي أن يكون بكل شيء عليماً، فعندنا سيد الأولياء بعد النبيين أبو بكر الصديق ، ومن بعده عمر ، وهؤلاء على جلالة قدرهم، وسعة علمهم، وعظم ولايتهم التي لا يختلف عليها المسلمون كانا أحياناً تخفى عليهم بعض العلوم، ومثاله: أبو بكر رضي الله عنه لما جاءت الجدة تطلب ميراثها قال لها: ما أجد لك شيئاً في كتاب الله، ولا أعلم لك شيئاً في سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، حتى قام محمد بن مسلمة ، و المغيرة بن شعبة رضي الله عنهما، فشهدا أن النبي صلى الله عليه وسلم فرض للجدة السدس.

و عمر بن الخطاب ( لما جاء أبو موسى فاستأذن عليه، ولم يفتح له، فرجع، فخرج عمر ونادى على أبي موسى : ما الذي ردك؟ قال له: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: الاستئذان ثلاث، فإن أذن لأحدكم وإلا فليرجع، فقال له عمر : ائت بشاهد، وإلا لأجعلنك نكالاً، ائت لي شاهداً أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال هذا، فجاء أبو موسى إلى المسجد متغيراً لونه، وقال للصحابة: حدث بيني وبين عمر كذا وكذا، فغضب الصحابة، وقالوا: والله لا يقوم معك إلا أصغرنا )، إذا كان عمر ليس عارفاً بالسنة هذه، فقم يا أبا سعيد ، أصغر واحد فينا يقوم يشهد معك، ( فقام أبو سعيد وذهب وشهد عند عمر أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد قال تلك المقالة، فقال عمر لـأبي موسى : ما اتهمتك، ولكنني خشيت أن يتقول الناس على رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني: سياسة من عمر من أجل أن يعلم الناس بأنه إذا كان شدد على أبي موسى ، وهو العالم، الفاضل، القارئ، الذي أوتي مزماراً من مزامير آل داود، فكل إنسان يريد أن يقول شيئاً عن النبي صلى الله عليه وسلم فإنه يتردد مراراً.

فليس من شرط الولي أن يكون معصوماً من الخطأ، وليس من شرط الولي أن يكون عالماً بكل شيء.

الولاية والكرامة

المسألة الرابعة: ليس من شرط الولاية حصول الكرامة؛ لأن بعض الناس يعتقد أن ولي الله لا بد أن يجري على يديه خارق من خوارق العادات، وهذا خطأ، فليس من شرط الولاية حصول الكرامة، ولذلك الصحابة الذين رويت عنهم الكرامات هم معدودون، وأكثر الصحابة لم ترو عنهم كرامات، قال أبو علي الجوزجاني : كن طالباً للاستقامة، لا طالباً للكرامة، فإن نفسك متحركة في طلب الكرامة، وربك يأمرك بالاستقامة. يعني: يا عبد الله! قل: آمنت بالله ثم استقم، بعد ذلك تحصل الكرامة أو لا تحصل ليس هذا بالأمر المهم.

المسألة الخامسة: ليس كل من جرى على يديه خارق العادة يكون ولياً لله، فلا تلازم بين الولاية وخرق العادة، قد يخرق العادة عدو الله، وأوضح مثال يبين تلك الحال ما ثبت من أحاديث في وصف المسيح الدجال، فـالمسيح الدجال عدو الله، ومع ذلك أخبر نبينا عليه الصلاة والسلام في الأحاديث الصحاح: ( بأنه يأمر السماء أن تمطر فتمطر، ويأمر الأرض أن تنبت فتنبت، ويمر على الخرائب فيقول لها: أخرجي كنوزك فتخرج تتبعه كأنها أعاسيب النحل ).

وكذلك مسيلمة الكذاب ، و الأسود العنسي ، و عبد الله بن صياد ، و الحارث الدمشقي وغيرهم من أعداء الله ورسوله كانت تجري على أيديهم بعض خوارق العادات، لكنهم أعداء الله ورسوله.

فأقول: ليس من شرط الولاية حصول الكرامة، بل ولي الله عز وجل قد لا تحصل له كرامة، وكذلك الأمر الخارق للعادة ليس مستلزماً للولاية، بل خوارق العادات قد تجري على يد بعض أولياء الشيطان، كـالمسيح الدجال وغيره ممن عرفنا أخبارهم.

بعد ذلك نقول: قد يكرم الله عز وجل وليه بكرامة أو كرامات، مثلما حكى القرآن في خبر مريم عليها السلام: كُلَّمَا دَخَلَ عَلَيْهَا زَكَرِيَّا الْمِحْرَابَ وَجَدَ عِنْدَهَا رِزْقاً [آل عمران:37]، قالوا: كان يجد فاكهة الشتاء عندها في الصيف، وفاكهة الصيف في الشتاء.

وكذلك قصة أصحاب الكهف، وثبت في سنة النبي صلى الله عليه وسلم أنواع من الكرامات لأصناف من أولياء الله، كما في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( لم يتكلم في المهد إلا ثلاثة: عيسى بن مريم، وصاحب جريج ، وصبي آخر ). وقصة جريج معروفة، وكذلك خبر ابن عمر رضي الله عنهما في الصحيحين في قصة الثلاثة الذين آواهم المبيت إلى غار فدخلوه، وقصتهم معروفة.

وحديث أبي هريرة رضي الله عنه: ( بينما رجل يسير إذ سمع صوتاً في السحاب: أن اسق حديقة فلان بن فلان )، والحديث معروف.

بعض الكرامات المروية عن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم

وأما الكرامات المروية عن الصحابة رضوان الله عليهم فهي كثيرة، ومن ذلك: ما ثبت في الصحيحين من حديث عبد الرحمن بن أبي بكر رضي الله عنه: ( بأن أباه قد جاء بجماعة من أهل الصفة، من فقراء المهاجرين، وقال لولده عبد الرحمن : عشهم، فإني ذاهب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم )، يعني قال له: ضيوفك هؤلاء أطعمهم ولا تنتظرني ( فلما قرب إليهم عبد الرحمن الطعام، قالوا: أين صاحب الدار؟ قال: أمرني أن أعشيكم، قالوا: لا نطعم حتى يرجع )، يعني: ما نأكل حتى يأتي أبو بكر ، ( فلما جاء ووجد أضيافه ما تعشوا غضب، وقال: يا عبد الرحمن ! لم لم تعش أضيافك؟ فقال: أبوا إلا أن ترجع، فغضب أبو بكر وقال: كلوه لا هنيئاً، والله لا أطعمه، فقال المهاجرون: ونحن والله لا نطعمه )، يعني: مثلما أنت ما تريده نحن


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف - عنوان الحلقة اسٌتمع
تفسير من سورة الأعلى إلى سورة البلد 2551 استماع
تفسير من سورة الفيل إلى سورة الكوثر 2541 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [98-106] 2513 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [27-29] 2380 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [21-24] 2371 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآية [151] 2300 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [27-35] 2267 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [71-78] 2175 استماع
تفسير سورة الأنعام - الآيات [115-118] 2091 استماع
تفسير سورة الكهف - الآيات [30-36] 2054 استماع