أرشيف المقالات

الأدب والفن في أسبوع

مدة قراءة المادة : 10 دقائق .
للأستاذ عباس خضر الفن للفن تلقيت من صديقي الشاعر العراقي الأستاذ عبد القادر رشيد الناصري، رسالة من رسائله التي يتفضل بكتابتها إلي يناقشني ويحدثني بها عن شؤون أدبية، يجر فيها الحديث إلى الحديث، ويقدح الفكر زناد الفكر.
والرسالة الأخيرة فيما يلي، بعد حذف التحيات المشكورات: (كنت في انتظار رأيك في قصيدتي: (أبن حمد يس الصقلي) و (قبرة شيلي) تلك التي أشرت إليها في أعداد الرسالة الماضية، أقول كنت في انتظار ما ذكرت عندما طلعت علينا الرسالة الحبيبة تحمل مقالك (الأدب والفن في أسبوع) وبه كلمتك عن (الريفيرا المصرية) وفيه تترك وصف شروق الشمس وغروبها والبحر والرمل للشعراء.
وكنت في الصيف الماضي قد زرت الإسكندرية وقضيت وقتاً طيباً على البحر وشاهدت مفاتن الرمل والسابحات إبان عودتي من باريس في الطريق إلى بغداد، وبقيت تلك الذكريات أو تلك المناظر مخزونة في فكري، وكانت تراودني من حين لآخر كما تراود الأطياف مخيلة النائم، وكنت أود أن أرسم تلك الألواح على صفحة الشعر، ولكن مشاغل الحياة ألهتني، إلى أن قرأت دعوتك وأنا في انتظار رأيك فيها، وثق بأنني واسع الصدر لكل ما تبديه من آراء.
هذا وأريد أن أقول إن المصايف المصرية تنقصها الدعاية، لتقصير الجهات المسئولة، ولعل هذه الجهات تنشط لتلك الدعاية بوساطة الصحف والإذاعة، ثم ما يضرها لو وضعت عدة جوائز للشعراء الذين يصفون تلك الأماكن.
.
أنا أقترح ذلك ولست أدري أتستجيب الدولة لهذه الفكرة أم لا. أخي، قبل أن ألقي القلم أهمس في أذنك.
.
إن بعض المتخلفين عن الركب الذين يسؤوهم أن أنال المجد والشهرة في هذه السن، يقولون إن الناصري ليس بشعبي، لأنه يعبر عن عواطفه، وهو يعيش في برج عاجي، لأن شعره كله غزل وغناء، فهل يضرني هذا القول يا كاتب (الأدب والفن في أسبوع)؟ إنني أريد أن أتفرغ لهذا اللون من الشعر. إن الشعر العربي لم يجد شاعراً غنائياً بعد امرئ القيس حتى الآن غير المرحوم محمود طه، وقد مات شاعر الجندول فلم لا أكون أنا في مكانه؟! ثم ماذا يريد مني أولئك الذين ينعتونني بعدم الشعبية؟ وهل من الضروري أن ينزل الشاعر إلى مستوى العامة وكلهم أميون؟ إن على الشعب أن يثقف نفسه ليفهم الشاعر، إن اللغة التي أنظم بها لغة القرآن ولغة العرب، وأنا على هذا الأساس لا أحسن اللغة العامية لأنظم بها حتى يفهم الرعاع.
.
أما الشعر السياسي، فأنا لا أحسنه أيضاً لأنه شعر الأقذار والدس والنفاق، ولا أريد أن أنحط إلى مستواه، ثم إنني أعتز بنظرية الفن للفن.
هذا هو رأيي، فهل توافقني يا أخي الحبيب؟)
لم تأت الفرصة بعد للنظر في قصيدتي شبلي وابن حمد يس وأرجو أن يكون ذلك قريباً.
لن تستجيب الدولة إلى اقتراحك يا أخي، فدون ذلك كثير مما لا تهتم به.
.
أما قصيدتك فقد دفعت بها إلى أستاذنا لزيات بك، ولعلها الآن قد أخذت طريقها إلى مطبعة الرسالة، وهي قصيدة جيدة في بابها (العاجي) وإني أعتمد على الله وعلى سعة صدرك التي أحمدها لك، فأصارحك بأنني أصبحت لا أميل إلى هذا اللون من الشعر إلا إذا ارتفع إلى قمة الخواطر الإنسانية الرفيعة، فأنا أرى أن أكثر ما يقال من الشعر في التعبير عن العواطف الفردية لا يهم إلا صاحبه.
. إنك يا أخي (غير شعبي) لأنك شاعر غنائي، عاجي باعترافك فلماذا تتهم من يصفك بصفاتك.
.؟ وما دمت تحس بدافعك إلى هذا الاتجاه فمن العبث أن يلويك عنه أحد.
.
وما دمت لا تريد أن تشارك الجماعة مشاعرها فأنت وما تريد.
غير أنه لا ينبغي لك أن تلوم الشعب على أن لا صدى لشعرك فيه، أنت تعرض عنه وهو يعرض عنك، وليست المسألة مسألة ثقافة وتعليم وإنما هو اتجاه يوافق أو لا يوافق، وليست المسألة أيضاً مسألة لغة عربية أو عامية، فمن الواضح أن الدعوة إلى اتصال الأدب بالحياة وعنايته بإحساس الجماعة ومسائلها، ليس معناها القول بالعامية.
وما يضر الشعر إذا عالج التوجيه السياسي فحارب ما في السياسة من الأقذار والدس والنفاق؟ ولست أريد أن أسترسل قبل أن أبدي العجب من قولك إن الشعر العربي لم يجد شاعراً غنائياً بعد امرئ القيس إلا علي محمود طه! ماذا أبقيت إذن للشعر العربي؟ هل أنا في حاجة إلى أن أقول لك إن الشعر العربي في مجموعه غنائي من امرئ القيس إلى الناصري.
.؟ وكن يا أخي مكان علي طه.
.
ولكن يجب أن تعلم أن علي طه نزل إلى الشعب وتغنى بإحساسه في أروع قصائده كالقصيدة التي خلد بها أبطال الفلوجة وقصيدة (أخي أيها العربي) التي غناها عبد الوهاب. وكيف تسألني الموافقة على رأيك ذاك وكتابتي - إن كانت تنال شرف تتبعك لها - تدل على أنني من أنصار الدعوة إلى اتصال الأدب بالحياة الواقعية الجارية؟ وبعض الناس يسئ فهم هذه الدعوة، فيظن غايتها الكتابة العلمية أو الصحفية المجردة من الجمال الفني.
كلا، إننا نبغي أن يتناول الأديب صورة الحياة الشعبية ويعنى بإنسانها وصوالحه، بعد أن يخلطها بنفسه ويمزجها بشعوره، ويمسها بعصا فنه السحرية، فيخرجها أدباً حياً جميلاً، ينفع ويمتع.
كل ذلك ولا يخرج الإنتاج عن أن يكون فناً، ولم نجعل الفن جمالاً فارغاً؟ أليس الأحسن أن يخرج جماله بالتوجيه والتسديد؟ ثم ما هو معنى (الفن للفن) هل هو أن تكون غاية الإنتاج الفني الجمال الذي لا شيء وراءه؟ إذا كان كذلك فإننا ندع أصحابه وشأنهم، يقولون ما يريدون ويقرأ لهم من يحب قراءتهم، كما ندع (هواة طوابع البريد) مثلاً.
لكل امرئ شأن يغنيه.
ولا أحب أن نذهب في ذلك مذهب السوفيتيين من حيث فرض الاتجاه، كما عرض لنا ذلك الأستاذ عمر حليق في مقاله القيم (الدولة والأدب في الاتحاد السوفيتي) فليكن عندنا ذلك اللون العاجي ما دام فينا من يريده من المنتجين والمستهلكين. وإذا اعتبرنا الأدب المتصل بالحياة الواقعية فناً، وهو كذلك، فإن الكلمة الذائعة (الفن للفن) تنطبق عليه أيضاً، فهو فن ينشأ لأنه فن.
.
ولم تخرجه موضوعيته الحيوية عن فنيته.
وعلى هذا التفسير يمكن أن تقبل هذه القضية، وليكن الفن للفن. ولم يعجبني منك يا أخي أن تزدري الشعب، إن الناس في طريق التعلم ولابد أن يدنو الأدب منهم ليدنو منه، فليلتقوا به في منتصف الطريق، يرون به صورهم ويلمسون فيه اهتمامه بهم ونحن من صميم هذا الشعب، ولا ينبغي أن يبعدنا عنه ما أصبنا من أدب وعلم وثقافة، وقد قام فعلاً أدباء من صميم الشعب وضاقوا بجهالته وأعرضوا عنه، ولكننا الآن في طريق جديد، هو الاهتمام بهذا الشعب والأخذ بيده في مختلف نواحي الحياة، فلم لا يكون الأدب كذلك من وسائل ترقيته، بل لم لا يكون هو اللسان المعبر عن النهضة الشعبية في جميع نواحيها؟ ذلك يا صديقي الكريم ولك الشكر على رحابة صدرك السالفة والمتوقعة، ولك أيضاً خالص المودة وعاطر التحية.
. الواقعية والتاريخ: ومن اتصال الأدب بالحياة الواقعة التصوير الفني للتاريخ مرتبطاً بالواقع، ومن أمثلة ذلك في الشعر قصيدة للأستاذ محمود حسن إسماعيل قالها بمناسبة العام الهجري الجديد، وقد نشرت (الأهرام) جزءاً منها، قرأته فأعجبت باتجاهه الواقعي في تصوير حالنا وموقفنا من الغاصبين، ويعجبني أيضاً من محمود إسماعيل ما أخذ به أخيراً من الوضوح واستعمال التعبير الناصع، ومن قصيدته تلك قوله: جئناك تحمل حيرة الظلماء ...
فاسكب لنا قبساً من الأضواء وارحم ضلال التائهين بأرضهم ...
فهمو أحق برحمة الغرباء أوطانهم! لكنهم في ظلها ...
ضاعوا، بلا ثمر ولا أفياء متكابرين على جراح بلادهم ...
متدابرين لسطوة الدخلاء متناهشين على تمزق حالهم ...
وهوائه في ألسن الأعداء يتراشقون، وقيدهم متربص ...
تقتات قبضته من الشحناء نفث الدخيل بهم سموم سياسة ...
يدري الدهاة سطورها في الماء توبيخ ابن الرومي في الإذاعة: سمعت يوم الأربعاء الماضي (برنامجاً خاصاً عن ابن الرومي) من محطة الإذاعة المصرية ضمن البرنامج المدرسي الصباحي، وابتدأ البرنامج بحوار بين ابن الرومي وبين التاريخ يمثل كلاً منهما رجل ممن يمثلون في الإذاعة. وقد كنت أتوقع - بحسن ظني - أن يعرض هذا البرنامج المدرسي طائفة جديدة سهلة من شعر ابن الرومي، ويبين دقائقها ورقائقها، ويدنيها من إفهام المستمعين وخاصة الطلبة، ولكن سرعان ما تبين لي خطأ حسن الظن بما تذيعه محطتنا ولا سيما في الأدب، على قلته في برامجها.
. شغل أكثر الوقت في برنامج ابن الرومي بذلك الحوار بين الشاعر الذي لم ينل حقه من التقدير في زمنه، وبين التاريخ الذي لم يكد يحفل به، ولم يكف التاريخ أن استهان بابن الرومي أو لم يكف الإذاعة المصرية ذلك، فألبت عليه التاريخ ممثلاً فيها فجعل يلقي على الشاعر درساً طويلاً ملأه بالتقريع والتوبيخ.
.
لماذا؟ لأنه لم يكن دساساً وكاذباً ومنافقاً على شاكلة أهل عصره الذين تقدمت بهم هذه الصفات واهتم بهم التاريخ الجبار.
.
فكلما تذرع الشاعر المسكين بفنه ووجدانه سخر به التاريخ.
. وإني أسأل: ما هدف ذلك؟ أهو درس للنشء في الأخلاق والصفات التي تؤدي إلى النجاح في الحياة.
.
أم هو درس في الأدب وقد خلا من الأدب؟! عباس خضر

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١