خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/929"> الشيخ الدكتور عبد الحي يوسف . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/929?sub=63704"> تفسير القرآن
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
تفسير سورة الأنعام - الآيات [70-76]
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، كما يحب ربنا ويرضى، وكما ينبغي لجلال وجهه وعظيم سلطانه.
اللهم صل وسلم وبارك على سيدنا محمد عدد ما ذكره الذاكرون الأخيار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد ما اختلف الليل والنهار، وصل وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى المهاجرين والأنصار.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا إنك أنت العليم الحكيم, اللهم علمنا علماً نافعاً، وارزقنا عملاً صالحاً، ووفقنا برحمتك لما تحبه وترضاه، أما بعد:
ففي الآيات التي مضى شرحها بين ربنا جل جلاله أدلة ربوبيته وألوهيته، وأنه المستحق للعبادة وحده، فهو سبحانه يعلم الغيب، ولا يعلم الغيب أحد سواه؛ وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلاَّ هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59]، علمه مطلق جل جلاله، هو عليم بكل معلوم، سواء كان في البر أو في البحر, في السهل أو في الجبل, في الدنيا أو في الآخرة, في الليل أو في النهار.
وبين ربنا جل جلاله من أدلة ربوبيته أنه يتوفى الناس بالليل ثم يبعثهم في النهار، وهو سبحانه عالم بما يجترحون، وبما يكتسبون؛ وَهُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَيَعْلَمُ مَا جَرَحْتُمْ بِالنَّهَارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضَى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الأنعام:60].
ومن أدلة ربوبيته جل جلاله أنه وكل بنا ملائكة يحفظوننا ويكلئوننا، حتى إذا جاءت الساعة التي عينها ربنا جل جلاله فإنه يبعث إلينا ملائكة آخرين يقبضون أرواحنا؛ وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ وَيُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذَا جَاءَ أَحَدَكُمْ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنَا وَهُمْ لا يُفَرِّطُونَ [الأنعام:61]، ثم بعد ذلك الجزاء والحساب عند الله عز وجل؛ ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمْ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَهُوَ أَسْرَعُ الْحَاسِبِينَ [الأنعام:62].
ومن أدلته ربوبيته جل جلاله أنه ينجينا من الكربات والشدائد؛ قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُمَاتِ الْبَرِّ وَالْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً لَئِنْ أَنجَانَا مِنْ هَذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ * قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْهَا وَمِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ [الأنعام:63-64].
ومن أدلة ربوبيته سبحانه وتعالى أنه يعذب من شاء بما شاء؛ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ[الأنعام:65]، بحجارة يرسلها عليكم أو صاعقة يبعثها من فوقكم أو ريحاً يسلطها عليكم، عَذَاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ [الأنعام:65]، بالخسف أو بالغرق، كما فعل الله عز وجل بأقوام كذبوا رسلهم؛ فَكُلاًّ أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِباً وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ [العنكبوت:40].
وفسرت الآية بأن العذاب الفوقي حكام السوء، والعذاب التحتي خدم السوء.
أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا [الأنعام:65], يجعلكم أحزاباً وطوائف, جماعات وفرقاً، مختلفين متناحرين.
وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الآيَاتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ * وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ [الأنعام:65-66], كذبوا بهذا القرآن، وَكَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَهُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ * لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَسَوْفَ تَعْلَمُونَ [الأنعام:66-67].
ثم نهى ربنا جل جلاله نبيه محمداً صلى الله عليه وسلم أن يجالس المشركين المستهزئين، الذين يخوضون في آيات الله بغير علم, قال ربنا سبحانه: وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ [الأنعام:68], وهذه الآية نظير قول ربنا في النساء: وَقَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتَابِ أَنْ إِذَا سَمِعْتُمْ آيَاتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِهَا وَيُسْتَهْزَأُ بِهَا فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذًا مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جَامِعُ الْمُنَافِقِينَ وَالْكَافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعًا [النساء:140]، وَإِذَا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آيَاتِنَا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَإِمَّا يُنسِيَنَّكَ الشَّيْطَانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرَى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ * وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:68-69], المؤمنون المتقون الله عز وجل لا يحاسبهم بما فعل الكافرون الظالمون، وَمَا عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسَابِهِمْ مِنْ شَيْءٍ وَلَكِنْ ذِكْرَى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ [الأنعام:69].
تستمر الآيات في هذه الأحكام، فيقول ربنا الرحمن: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا [الأنعام:70].
يأمر الله جل جلاله نبيه صلى الله عليه وسلم بأن يعرض عن هؤلاء المشركين وألا يهتم بأمرهم، وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ , وذر بمعنى: اترك وأعرض، وهذا في القرآن نظير قول ربنا سبحانه: فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَرَاتٍ [فاطر:8]، لَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ [الشعراء:3]، فَلَعَلَّكَ بَاخِعٌ نَفْسَكَ عَلَى آثَارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهَذَا الْحَدِيثِ أَسَفًا [الكهف:6], وَلا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِمًا أَوْ كَفُورًا [الإنسان:24]، فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنَا وَلَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * ذَلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ [النجم:29-30].
المراد بالدين في قوله: (اتخذوا دينهم)
الله عز وجل يقول: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا , كلمة الدين هاهنا فسرت على معنيين:
المعنى الأول: وذر الذين اتخذوا دينهم الذي ينبغي أن يكونوا عليه، مراداً بذلك ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, كان المشركون يستهزئون بالقرآن ويستهزئون بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقولون عن القرآن بأنه شعر, بأنه كهانة, بأنه سحر, بأنه أساطير الأولين, ويقولون عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب أو ابن أبي كبشة، ونحو ذلك من ألفاظ التحقير, فالله عز وجل قال: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا أي: استهزاء وسخرية.
المعنى الثاني: الدين هاهنا بمعنى العيد, لكل قوم عيد وكان للمشركين في جاهليتهم أعياد يحتفلون فيها بآلهتهم الباطلة، مثلما أن لليهود أعياداً وللنصارى أعياداً, هؤلاء جميعاً كما قال ابن الكلبي رحمه الله: ما من أمة إلا اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوا أعيادهم صلاة وذكراً وصدقة وبراً.
وعندنا معشر المسلمين أعياد ثلاثة: عيد الجمعة في كل أسبوع وهو مرتبط بالعبادة؛ إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9], وعيد الفطر بعد عبادة الصيام، يخرج الناس مكبرين مهللين، وعيد الأضحى كذلك بعد عبادة الحج أو بعد عبادة العشر من ذي الحجة التي ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل منها، يختمونها أيضا بالتكبير والتهليل والصلاة والذكر، وفي يوم الفطر يتصدقون بزكاة فطرهم، وفي يوم الأضحى يتصدقون بذبح ضحاياهم.
لكن المشركين على اختلاف ألوانهم سواء كانوا وثنيين أو يهوداً أو نصارى قد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً.
والله عز وجل يأمر نبيه بالإعراض عنهم وترك الاهتمام بهم؛ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا َ , ظنوا أن التوسعة في الدنيا دليل على قربهم من الله عز وجل ومكانتهم عنده، كما قال ربنا جل جلاله في سورة مريم: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73], وكانوا يقولون لفقراء المسلمين: لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11].
معنى الإبسال في قوله: (أن تبسل)
قال سبحانه: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [الأنعام:70]، (وذكر به)، أي: ذكر بالقرآن، كما قال سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وكما قال سبحانه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ , الإبسال الإسلام إلى الهلكة, أبسل فلان فلاناً إذا أسلمه إلى مصيره المحتوم، وَذَكِّرْ بِهِ ، بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ، لئلا تسلم نفس بسبب كسبها من السيئات والموبقات والخطايا، أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70]، هذه النفس التي أبسلت، التي أسلمت ليس لها في ذلك اليوم المحتوم إذا نزل بها الموت وعاينت مصيرها.. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ [الأنعام:70]، أي: ناصر ومعين.
شروط الشفاعة يوم القيامة
قال تعالى: وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70] والشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا بشرطين وهما:
الشرط الأول: الإذن, كما قال الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [النبأ:38], أذن للشافع.
والشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع فيه, قال الله عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].
الفداء يوم القيامة
قال الله عز وجل: وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا [الأنعام:70], العدل بمعنى الفداء, وهذا كما قال تعالى: يَا بَنِي إِسْرَائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَأَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ * وَاتَّقُوا يَوْمًا لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئًا وَلا يُقْبَلُ مِنْهَا شَفَاعَةٌ وَلا يُؤْخَذُ مِنْهَا عَدْلٌ [البقرة:47-48], لا يؤخذ منها فدية، وَإِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْهَا ، هذا العدل بين ربنا جل جلاله قيمته، ليست هذه الفدية ديناراً ولا دولاراً ولا ملايين؛ بل قال الله عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا وَمِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذَابِ يَوْمِ الْقِيَامَةِ مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ [المائدة:36], يعني: ليست القضية عرضة للمساومة لأنهم بذلوا فداء قليلاً، فإنهم لو بذلوا عشرات المليارات لن يقبل منهم، ولو كان ملء الأرض ومثله معه، مَا تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [المائدة:36], يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَمَا هُمْ بِخَارِجِينَ مِنْهَا وَلَهُمْ عَذَابٌ مُقِيمٌ [المائدة:37].
بعض عذاب جهنم
ثم قال: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِمَا كَسَبُوا [الأنعام:70], أسلموا إلى العذاب والهلاك، وهم أبسلوا بسبب كسبهم الذي اكتسبوه من الشرك والكفر والمعاصي والجرأة على الله وتكذيب رسل الله.
ثم قال الله عز وجل مبيناً مصيرهم: لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70].
لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ [الأنعام:70] الحميم -نعوذ بالله من عذاب الله- هو الماء الذي تناهى حره, قال الله عز وجل: فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُءُوسِهِمُ الْحَمِيمُ * يُصْهَرُ بِهِ مَا فِي بُطُونِهِمْ وَالْجُلُودُ [الحج:19-20]، وقال سبحانه: هَذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ * يَطُوفُونَ بَيْنَهَا وَبَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ [الرحمن:43-44], هم بين جهنم والحميم، وهكذا يعذبون.
قال: وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70], العذاب الأليم في طعامهم؛ لأن طعامهم الزقوم, قال تعالى: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ * طَعَامُ الأَثِيمِ * كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ * كَغَلْيِ الْحَمِيمِ [الدخان:43-46], عذابهم الأليم في ثيابهم: قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيَابٌ مِنْ نَارٍ [الحج:19], عذابهم الأليم في كلامهم: وَيَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً [العنكبوت:25], يكفر بعضهم ببعض, يلوم بعضهم بعضاً، لَوْلا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ [سبأ:31]، هكذا يقول بعضهم لبعض, يقولون لآلهتهم: تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ * إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعَالَمِينَ [الشعراء:97-98], وهذا من العذاب الأليم.
ومن العذاب الأليم والعياذ بالله أنهم بين طبقات الجحيم؛ لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنْ النَّارِ وَمِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ [الزمر:16], لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ [الأعراف:41]، أي: فراش، وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] أي: أغطية، تغشاهم وتغطيهم، لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ [الأنعام:70].
الله عز وجل يقول: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا , كلمة الدين هاهنا فسرت على معنيين:
المعنى الأول: وذر الذين اتخذوا دينهم الذي ينبغي أن يكونوا عليه، مراداً بذلك ما جاء به محمد صلى الله عليه وسلم, كان المشركون يستهزئون بالقرآن ويستهزئون بالنبي عليه الصلاة والسلام فيقولون عن القرآن بأنه شعر, بأنه كهانة, بأنه سحر, بأنه أساطير الأولين, ويقولون عن نبينا محمد صلى الله عليه وسلم: يتيم أبي طالب أو ابن أبي كبشة، ونحو ذلك من ألفاظ التحقير, فالله عز وجل قال: وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا أي: استهزاء وسخرية.
المعنى الثاني: الدين هاهنا بمعنى العيد, لكل قوم عيد وكان للمشركين في جاهليتهم أعياد يحتفلون فيها بآلهتهم الباطلة، مثلما أن لليهود أعياداً وللنصارى أعياداً, هؤلاء جميعاً كما قال ابن الكلبي رحمه الله: ما من أمة إلا اتخذوا دينهم لعباً ولهواً، إلا أمة محمد صلى الله عليه وسلم فإنهم اتخذوا أعيادهم صلاة وذكراً وصدقة وبراً.
وعندنا معشر المسلمين أعياد ثلاثة: عيد الجمعة في كل أسبوع وهو مرتبط بالعبادة؛ إِذَا نُودِي لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلَى ذِكْرِ اللَّهِ [الجمعة:9], وعيد الفطر بعد عبادة الصيام، يخرج الناس مكبرين مهللين، وعيد الأضحى كذلك بعد عبادة الحج أو بعد عبادة العشر من ذي الحجة التي ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله عز وجل منها، يختمونها أيضا بالتكبير والتهليل والصلاة والذكر، وفي يوم الفطر يتصدقون بزكاة فطرهم، وفي يوم الأضحى يتصدقون بذبح ضحاياهم.
لكن المشركين على اختلاف ألوانهم سواء كانوا وثنيين أو يهوداً أو نصارى قد اتخذوا دينهم لعباً ولهواً.
والله عز وجل يأمر نبيه بالإعراض عنهم وترك الاهتمام بهم؛ وَذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِبًا وَلَهْوًا وَغَرَّتْهُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا َ , ظنوا أن التوسعة في الدنيا دليل على قربهم من الله عز وجل ومكانتهم عنده، كما قال ربنا جل جلاله في سورة مريم: وَإِذَا تُتْلَى عَلَيْهِمْ آيَاتُنَا بَيِّنَاتٍ قَالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقَامًا وَأَحْسَنُ نَدِيًّا [مريم:73], وكانوا يقولون لفقراء المسلمين: لَوْ كَانَ خَيْراً مَا سَبَقُونَا إِلَيْهِ [الأحقاف:11].
قال سبحانه: وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ [الأنعام:70]، (وذكر به)، أي: ذكر بالقرآن، كما قال سبحانه: فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخَافُ وَعِيدِ [ق:45]، وكما قال سبحانه: لِيُنْذِرَ مَنْ كَانَ حَيّاً وَيَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكَافِرِينَ [يس:70]، وَذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ , الإبسال الإسلام إلى الهلكة, أبسل فلان فلاناً إذا أسلمه إلى مصيره المحتوم، وَذَكِّرْ بِهِ ، بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ ، لئلا تسلم نفس بسبب كسبها من السيئات والموبقات والخطايا، أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِمَا كَسَبَتْ لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70]، هذه النفس التي أبسلت، التي أسلمت ليس لها في ذلك اليوم المحتوم إذا نزل بها الموت وعاينت مصيرها.. لَيْسَ لَهَا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ [الأنعام:70]، أي: ناصر ومعين.
قال تعالى: وَلا شَفِيعٌ [الأنعام:70] والشفاعة يوم القيامة لا تكون إلا بشرطين وهما:
الشرط الأول: الإذن, كما قال الله عز وجل: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ [البقرة:255]، وكما قال سبحانه: يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَالْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمَنُ [النبأ:38], أذن للشافع.
والشرط الثاني: رضا الله عن المشفوع فيه, قال الله عز وجل: وَلا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضَى وَهُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ [الأنبياء:28].