Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 73

شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع عشر)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

قبل أن نختم مبحث الصفات أرى من المناسب أن نتكلم عن صفة العلو للرب سبحانه وتعالى، وقد ذكرنا في الدرس الماضي أن ثمة صفات يرتبط بعضها ببعض، كصفة الاستواء والنزول والعلو وصفة الرؤية، وأن من أثبت واحدة لزمه أن يثبت الجميع، ومن نفى واحدة لزمه أن ينفي الجميع لارتباطها.

الأدلة من الكتاب والسنة وأقوال بعض السلف

فاستواء الله على عرشه قد تكلم عليه العلماء، وبينوا أن الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ولكن المبتدعة شرقت نفوسهم بأن يثبتوه للرب سبحانه وتعالى، ولهذا فإنهم يقولون: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان عليه، أي: لا يثبتون عرشاً، ولا يثبتون استواءً، ولا يثبتون علواً للرب سبحانه وتعالى، ومن باب أولى ألا يثبتوا صفة النزول.

وصفة الاستواء على العرش قد دل عليها الكتاب والسنة، فقد وردت في القرآن في سبعة مواضع، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وردت مستفيضة، بل هي متواترة في إثبات الاستواء على العرش.

ومن اللطائف: أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه أتى جارية له، فنظرت إليه زوجته فغضبت أشد الغضب، فقالت لـعبد الله بن رواحة : أتأتيها وعلى فراشي، فقال تورية: لم آتها، قالت: إذاً اقرأ قرآناً، لأنها تعلم أن الجنب لا يقرأ قرآناً. فألقى عليها أربعة أبيات من الشعر، من ضمنها:

.......................     وفوق العرش رب العالمينا

فقالت: كذبت عيناي وصدق الله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فتبسم صلى الله عليه وسلم.

بل إن الاستواء على العرش كما يقول بعض العلماء: إنه قد ثبت في شعر جاهلي، وهو مرتبط بإثبات العلو للرب سبحانه وتعالى، والأشاعرة قد استدلوا ببيت مصنوع وموضوع ولا حجة فيه، وهو قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق     من غير سيف أو دم مهراق

وهذا البيت احتجوا به على أن هذا وارد في اللغة، لكن هذا البيت من الشعر لا يحتج به؛ لأن الذين يستنبطون من اللغة العربية جعلوا زماناً يحتج به، وما بعده لا يحتج بالأشعار التي وردت فيه، ومن هنا أخذوا: قد استوى بشر ، أي: استولى بشر ، ويفسرون الاستواء بالاستيلاء، وهذا الكلام باطل، ويلزم عليه محاذير كثيرة:

فمن علامة بطلانه: أننا نجد النصوص في سبعة مواضع في القرآن كلها تبين استوى الله على العرش: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] ولم يرد نص واحد يدل على أنه بمعنى الاستيلاء، ثم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلها ترد وتبين لنا أنه مستوٍ على عرشه.

ثم يلزم على ذلك محذوراً باطلاً: فإن قضية الاستيلاء يلزم منها أن هناك مغالبة بين الرب وبين العرش، ثم إن الرب غلبه، وهل يوجد شيء من الكون بينه وبين الرب نزاع؟ لا، والله قد قال في كتابه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] ولا نجد علواً للكون بعضه على بعض أبداً لا العرش ولا غيره، مما يدل على بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة ومن نحا منحاهم في نفي صفة الاستواء على العرش.

أما قضية العلو فهي من الصفات العظيمة للرب سبحانه وتعالى، بل هي من تمجيد الله وتعظيمه وإعطائه منزلته أن نثبت بأنه سبحانه وتعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه سبحانه وتعالى، والأدلة على إثبات العلو في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أشعار الصحابة رضي الله عنهم، وفي العقل، والفطرة أكثر من أن تحصى، ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق إذ أنه جمع ووجد أن الأدلة كما قال: تزيد في النصوص الشرعية على ألف دليل في إثبات العلو، ومن الصعب عرضها، وتحتاج إلى مؤلفات في عرضها وذِكْر وجه الدلالة، لكنه رحمه الله جمعها بمجاميع قال: كل نص يرد فيه التصريح بالعلو فإنه يدل على علو الله تعالى، وكل نص يدل على التصريح كذلك بالعروج إليه فإنه يدل على علوه، وكذلك التصريح بأن الله رفع بعض خلقه إليه يدل على علوه، والتصريح كذلك بالنزول يدل على علوه سبحانه وتعالى، والتصريح بالاستواء يدل على علوه، كذلك في قضية الإسراء والمعراج أخبر سبحانه وتعالى أنه أسرى بعبده، وعرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى العلو، وكلم ربه سبحانه وتعالى لما صعد، وكذلك أدلة الرؤية وغيرها، لسنا بصدد الحصر ولكن نمرها على عجل، هذه من أدلة الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية أراد أن تُعتق، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ فأشارت في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) ولم يقل لها: قبحك الله كيف ترفعين بإصبعك إلى الرب، فأنتِ تجسمين وتشبهين، ولهذا إذا رفعت إصبعك فقلت: الله في العلو ضاقت على المبتدعة الأرض بما رحبت، ويقولون: إنكم تجعلون السماوات تحيط بالرب سبحانه وتعالى، وهذا من ضيق أفقهم وجهلهم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى في العلو بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

ولقد كانت إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهي زينب كما روى البخاري تفتخر على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن، وكانت تقول: (زوجكن أهليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات) وهنيئاً لها إذ تفتخر بهذا الفخر العظيم: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] فكانت كأنها تفتخر بأنها أنزلت في قضية زواجها نص من الله تعالى، ويبقى إلى قيام الساعة فخراً لها.

ولقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) ثناءً عليه بأنه أثبت الحكم الذي حكم الله فيه، وأثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن ربه فوق سبع سماوات.

وروي أن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في سنن الدارمي وغيره، والحديث يظهر أنه ليس بثابت، لأن في سنده انقطاعاً: وقف عمر مع امرأة عجوز في الطريق، ولما وقف معها قيل لـعمر وكان قد سد الطريق: كيف أغلقت الطريق من أجل هذه العجوز؟!

فقال: [ويحكم! أتدرون من هذه؟ إن هذه قد سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات] وهي خولة : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] فأثبت أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته عالٍ على خلقه، هذه أدلة الكتاب والسنة.

دليل الفطرة

أما دليل الفطرة فقد دل على ذلك أنه ما من مؤمن أو عارف يعرف بأن له رباً، يقول: يا ألله! إلا وجد قلبه يتوجه إلى العلو. وأنت إذ تتساءل الآن في ذات نفسك وتقول: قد ربيت عليه وأنا صغير، لكن إخوانك الصغار تشاهدهم ما أحد يعلمهم فيقول لهم: إنك إذا دعوت الله تعالى فواجب عليك أن ترفع بقلبك إلى العلو، وهذا نسميه رصيد الفطرة.

ونُقل أن البهائم إذا أصابتها الشدائد في حال تعسر ولادتها، فإنها وهي مضطجعة، تسلم أمرها لله، وترفع رأسها إلى السماء؛ لأنها تعلم أن ربها هناك، فترجو منه أن يكشف كربها وما أصابها. فسبحان الله!

كان أبو المعالي الجويني على المنبر يحدث أتباعه، وكان من كبار الأشاعرة ، وكان يقول لهم: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، أي: ليس هناك عرش وليس هناك استواء ولا غيره، فكان الهمداني في مجلسه، فقال له: يا شيخ! دعنا من قضية الاستواء على العرش ومن آية: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال: إننا لا نجد عارفاً يقول: يا ألله إلا وجد في قلبه اضطراراً إلى العلو فبماذا نفسر هذا؟ أنت تريد أن تنفي لنا النصوص الشرعية، لكن كيف ننفي الفطر التي توجد في قلوبنا، ماذا نعمل بها؟ قال: فنزل الجويني وهو يضرب على رأسه يقول: حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ، وقيل: إنه كان يبكي ولم يستطع أن يقول شيئاً؛ لأنه إذا جاءته النصوص يستطيع أن يأولها، لكن فطر الناس لا يمكن أبداً؛ لأنها تثبت بأن الله سبحانه وتعالى في العلو.

ويأتي الدليل العقلي على إثبات علو الله تعالى، وهو مركب من مقدمات كثيرة، وقد بسط هذا الدليل العقلي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بطوله في الفتاوى وفي غيره، وفي الرد كذلك على الرافضة القدرية، وكان يبنى على مقدمات أعرضها سريعاً، فيقولون: ليس في الكون إطلاقاً إلا خالق ومخلوق، فقالوا: إما أن يكون الله خلق الخلق داخل ذاته أو خارج ذاته، أو أنه لا داخل ذاته ولا خارج ذاته، أصبحت عن طريق السبر والتقسيم ثلاثة أقسام:

1- إما أن يكون خلق الله الخلق داخل ذاته.

2- أو يكون الخلق خارج ذاته.

3- أو يكون الخلق لا داخل الذات ولا خارج الذات.

إذاً.. القول بأن الخلق في داخل ذات الرب سبحانه وتعالى باطل باتفاق العقلاء، والسبب هل نحن نشعر بأننا داخل ذات الرب؟ لا.

ثم بطلانه بأنه يلزم أن يكون الله محلاً للقاذورات والخسائس، وهذا الخلق فيه ما هو طيب وفيه ما هو خبيث، فهل يمكن أن يكون الخبيث في داخل الرب؟ حاشا وكلا، إذاً.. تعين أنه بطل أن يكون الخلق داخل ذات الرب، ولا يقول بهذه المقالة إلا الصوفية الغلاة، أهل وحدة الوجود، وأهل الحلول والاتحاد، الذي يقول قائلهم قبحه الله: ليس في الجبة إلا الله وينفض جبته، ولا شك أن هذا هو الكفر بل هو الإلحاد.

ننتقل إلى القسمة الثانية: أن يكون الكون لا داخل ذات الرب ولا خارجه، وهذا نفي لوجوده بالكلية، فالشيء الذي لا يكون موجوداً ولا داخلاً ولا خارجاً يؤدي إلى نفي وجود الله تعالى، وهذا أمر باطل بالاتفاق، ولهذا نجد العجيب أن بعض طوائف المبتدعة يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا الكلام باطل، يؤدي إلى نفي وجود الله تعالى.

بقي عندنا أن يكون الرب خارج هذا الكون، فتعينت المفاصلة والمباينة، وتعين المفاصلة والمباينة يقتضي أن ننتقل إلى مقدمات أخرى وهي أن نقول: إن السفول صفة نقص، والعلو صفة كمال، والله موصوف بالكمال، إذاً.. الله في العلو سبحانه وتعالى.

ولهذا إذا وجد شيء عزيز عليك فإنك ترفعه فوق رأسك؛ نظراً لأن العلو باتفاق العقلاء كمال، ولا يمكن أبداً أن يكون نقصاً، بخلاف السفول فإنه نقص، ولهذا تجدون الأطفال الصغار يرفع فمه إلى السماء ويقبل، ويبصق على الأرض لاعتقاده أن الشيطان في السفول، ويعترف بأن الله في العلو، وهذا دليل على مسألة فطرية ومسألة دلالة العقل على إثبات علو الله تعالى.

أقسام العلو

نعجب من هؤلاء المبتدعة إذ لم يقبلوا نصوص الكتاب والسنة بل أولوها، وقالوا: إن المقصود منها أن العلو للفوقية هنا فوقية المكانة والقدر، بمعنى أن الله في العلو له المكانة، وإلا فإنهم لا يقبلونه، وأهل السنة يقولون: إن العلو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- علو قدر وهي المكانة.

2- علو قهر وهي الغلبة.. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].

3- علو الذات.

المبتدعة لا يجادلونا في علو القدر ولا في علو القهر، ولكن يجادلونا في علو الذات، ولا يثبتون الله في العلو، أما نحن فنثبت أنواع العلو كلها لله، ونقول: إن لربنا الكمال فيها كلها، ونقول: الله سبحانه وتعالى عالٍ على خلقه علواً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.

والقول بعلو القدر وعلو المكانة لله تعالى أمر تأنف منه العقول، فإذا جئت إلى شخص مثلاً وقلت له: إنك والله لك منزلة في نفسي أفضل من الحمار والكلب، هل ينبسط أم يغضب؟

قال الشاعر:

ألم ترَ أن السيف ينقص قدره     إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

فلو جاء إنسان يوازن بين السيف وبين العصا فإنه قد نقص قيمة السيف، وإذا قيل: إن الله خير من خلقه وأفضل من خلقه فهذا تنقص للرب سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الأمر مغروس في الفطر (أن الله سبحانه وتعالى فوق خلقه منزلة وقدراً وقهراً) ومع وجود هذا الأمر وهو أمر فطري نثبته لله، لكن ليس هذا هو مدح للرب سبحانه وتعالى، بل إن المدح أن نثبت له سبحانه وتعالى الكمال المطلق، ومنه إثبات علو الذات له سبحانه وتعالى، وبهذا يبطل كلام هؤلاء في تأويلهم على أن العلو يقصد به علو المكانة أو أن المقصود أن الله خير من خلقه سبحانه وتعالى.

انطلقوا إلى النصوص الدالة على الدليل الفطري، عندما قلنا لهم: إن الإنسان إذ يقول: يا الله، يجد قلبه يتعلق بالعلو، قالوا: تعلق القلب بالعلو لأن السماء هي قبلة الدعاء، وهذا الكلام باطل وليس بصحيح لا لغة ولا شرعاً ولا عقلاً، القبلة في اللغة هي ما تستقبل بوجهك، فهل نحن إذا دعونا نرفع أبصارنا إلى السماء؟ لا، بل نهينا عنه: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو ليخطفن الله أبصارهم) نهينا أن نرفع، ولهذا يسمى ما يقبل به الإنسان قُبل، وخلفه يسمى دُبر، ندعو الناس إذا أرادوا أن يدعوا أن يتوجهوا بوجوههم إلى السماء.

ثم قال العلماء: لم يأتِ دليل على أن هناك قبلتين: قبلة للصلاة وهي إلى الكعبة، وقبلة للدعاء وهي السماء، فهذا لم يرد فيه دليل لا من كتاب ولا من سنة، ولم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقولنا بهذا يدل على ابتداع هؤلاء القوم، وأنهم جاءوا بأمر محدث.

ثم قال العلماء: إن القبلة تقبل النسخ، فكان الصحابة يستقبلون بيت المقدس سابقاً، ثم صرفوا إلى الكعبة، لكن في توجه الإنسان بقلبه إلى العلو لا يمكن أن يطرأ عليه نسخ؛ لأن هذا شيء مركوز في الفطر، وما كان في فطر الناس مركز لا يحدث فيه النسخ أبداً، مما يدل على بطلان ما جاء به هؤلاء القوم، ويدل على انحرافهم.

واعترضوا على قضية الدليل العقلي، بإنكار بداهته، فجاء المبتدعة يقولون: نحن عقلاء أم مجانين؟

قلنا: أنتم عقلاء، قالوا: نحن إذاً لا نقبل، الدليل العقلي يجب أن يتفق فيه العقلاء كلهم ونحن لا نقبل.

فنحن نقول لهم: إن كان دليلنا العقلي باطلاً فما توردونه من الأدلة في نفي علو الله تعالى أشد بطلاناً، أي: أنتم أكثر عمقاً في الباطل، وإن كان قولنا حقاً وقولكم حقاً، فنحن أكثر تمكناً في الحق منكم، فتميز أهل السنة بقلة الباطل -على فرضه تنزلاً- وبكثرة الحق في هذا الأمر، وما دامت القضية الدليل العقلي أصبح أمراً مشتركاً بيننا وبينكم فإننا نسأل ونقول: فطر الناس معنا أم معكم؟ نقول: مع أهل السنة وليس مع المبتدعة، فزاد أهل السنة بفطر الناس، ثم نسأل فنقول: أدلة الكتاب والسنة معنا أم معكم أيها المبتدعة؟

فـأهل السنة معهم أدلة مرجحة لدليلهم العقلي (الفطرة وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) وبهذا ترجح دليلهم العقلي في إثبات علو الله سبحانه وتعالى والإقرار به، وبهذا نعلم أن الله سبحانه وتعالى له العلو بجميع أنواعه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات سبحانه وتعالى، ولا نتعرض لذلك ولا ننفيه.

أئمة المذاهب الأربعة سلفيون

قاعدة: يجب أن نعلم أن الأئمة الأربعة رحمهم الله تعالى كلهم أثريون سلفيون، والمقصود بالأثري السلفي أنه متى ثبت له النص من كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم طرح مقالته كلها وتركها، سواء كان في مسائل الفروع -أي: مسائل الشريعة أو الأحكام- أو كانت في مسائل الاعتقاد، حتى لا يأتينا أحد فيقول: إن قول فلان وفلان وفلان كان مثل قول المبتدعة، ونذكر الأدلة على ذلك:

أبو حنيفة رحمه الله تعالى كان ممن يقول: إن الإيمان هو مجرد الاعتقاد فقط، ولا يرى الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، وحكى الطحاوي حكاية أبي حنيفة مع حماد بن زيد ، وأن حماد بن زيد لما روي له حديث: (أي الإسلام أفضل..) الحديث، قيل له: ألا تراه يقول: بأي الإسلام أفضل، والأحناف عندهم خطأ في مسألة الإيمان، فهم لا يرون الإيمان يزيد وينقص، ولهذا يسميهم العلماء: مرجئة الفقهاء، فقيل له: إنه يقول: (أي الإسلام أفضل؟) ثم أجاب النبي صلى الله عليه وسلم عن قضية الإيمان فقال: (الجهاد في سبيل الله والهجرة) والجهاد والهجرة أليست عملاً؟

وأبو حنيفة لا يرى الأعمال داخلة في مسمى الإيمان، فقال له بعض أصحابه: ألا تجيبه، ألا ترد على هذا القول؟ هو يروي حديث النبي صلى الله عليه وسلم، فقالوا: ألا تجيبه؟

فقال أبو حنيفة : بم أجيبه وهو يحدثني بهذا عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، أي: ما كان لي أن أرد عليه بعد أن جاءني بالنص عن رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأن الواجب على كل مسلم أن يأخذ بظاهر قول الله تعالى: وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ [الأحزاب:36].

قال البخاري : سمعت الحميدي يقول: كنا عند الإمام الشافعي رحمه الله تعالى، فأتاه رجل فسأله عن مسألة، فأجابه الشافعي رحمه الله تعالى وقال فيها: روى عن النبي صلى الله عليه وسلم حديث كذا وأورد له الحديث، فقال له هذا الرجل: ما تقول أنت يا إمام؟ أي: ما رأيك أنت؟ فغضب الشافعي أشد الغضب، وقال: سبحان الله! أتراني خرجت من كنيسة، أتراني في وسطي زناراً، حتى أقول قال رسول الله ولا أقول به؟! كأنه منكر عليه أن يسأله عن مقالته، وهذا يدلنا على أمرٍ يجب أن نعلمه، وهو أن الواجب علينا جميعاً ألا نتعلق بالأشخاص أبداً كائناً من كان، إلا بما ثبت في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، وإن القوم الذين يتعلقون بالأشخاص يصل بهم الأمر إلى أن يزلّوا إذا زل الأئمة، ويصبوا إذا أصابوا، لكن من تعلق بالمنهج وتعلق بالكتاب والسنة فلا يضل ولا يزل أبداً، وهذه من نعمة الله تعالى أننا لا نتعلق بالأشخاص.

أقول للأحبة وهي ظاهرة على ضوء التتبع: تبين لنا في واقعنا الذي نعيشه أن الناس يتعلقون بالأشخاص في كثير من أمورهم، في مسائل دعوتهم، وفي مسائل إفتائهم، وفي مسائل عرضهم للحق .. وغيره، وهذا من الخطأ والانحراف، ولعل هذا قد حذرنا منه الله تعالى في كتابه فقال: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلَى أَعْقَابِكُمْ [آل عمران:144] وكأن الله يبين لنا هنا أن الواجب علينا ألا ننظر إلى ذات محمد صلى الله عليه وسلم، وإنما نأخذ بمنهجه أَفَإِنْ مَاتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ وكم من الناس كأنهم يتعلقون بالأفراد، ويظنون أنهم إذا وجدوا وجد الحق، وإذا ذهبوا ذهب الحق، وإذا ماتوا مات الحق، وإذا حيوا حيا الحق، هذا من الخطأ والجهل، والله قد جعل لنا منهجاً ودستوراً وهو الكتاب والسنة، وهو المنهج الذي يجب أن نأخذ به، وهو المنهج الذي يجب أن يرضى الناس به دون أن يربطوا بأفراد وبأشخاص معينين.

فاستواء الله على عرشه قد تكلم عليه العلماء، وبينوا أن الله مستوٍ على عرشه استواءً يليق بجلاله وعظمته، ولكن المبتدعة شرقت نفوسهم بأن يثبتوه للرب سبحانه وتعالى، ولهذا فإنهم يقولون: كان الله ولا عرش وهو الآن على ما كان عليه، أي: لا يثبتون عرشاً، ولا يثبتون استواءً، ولا يثبتون علواً للرب سبحانه وتعالى، ومن باب أولى ألا يثبتوا صفة النزول.

وصفة الاستواء على العرش قد دل عليها الكتاب والسنة، فقد وردت في القرآن في سبعة مواضع، وفي أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم وردت مستفيضة، بل هي متواترة في إثبات الاستواء على العرش.

ومن اللطائف: أن عبد الله بن رواحة رضي الله عنه وأرضاه أتى جارية له، فنظرت إليه زوجته فغضبت أشد الغضب، فقالت لـعبد الله بن رواحة : أتأتيها وعلى فراشي، فقال تورية: لم آتها، قالت: إذاً اقرأ قرآناً، لأنها تعلم أن الجنب لا يقرأ قرآناً. فألقى عليها أربعة أبيات من الشعر، من ضمنها:

.......................     وفوق العرش رب العالمينا

فقالت: كذبت عيناي وصدق الله، وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر فتبسم صلى الله عليه وسلم.

بل إن الاستواء على العرش كما يقول بعض العلماء: إنه قد ثبت في شعر جاهلي، وهو مرتبط بإثبات العلو للرب سبحانه وتعالى، والأشاعرة قد استدلوا ببيت مصنوع وموضوع ولا حجة فيه، وهو قول الشاعر:

قد استوى بشر على العراق     من غير سيف أو دم مهراق

وهذا البيت احتجوا به على أن هذا وارد في اللغة، لكن هذا البيت من الشعر لا يحتج به؛ لأن الذين يستنبطون من اللغة العربية جعلوا زماناً يحتج به، وما بعده لا يحتج بالأشعار التي وردت فيه، ومن هنا أخذوا: قد استوى بشر ، أي: استولى بشر ، ويفسرون الاستواء بالاستيلاء، وهذا الكلام باطل، ويلزم عليه محاذير كثيرة:

فمن علامة بطلانه: أننا نجد النصوص في سبعة مواضع في القرآن كلها تبين استوى الله على العرش: ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ [الأعراف:54] ولم يرد نص واحد يدل على أنه بمعنى الاستيلاء، ثم أحاديث النبي صلى الله عليه وسلم كلها ترد وتبين لنا أنه مستوٍ على عرشه.

ثم يلزم على ذلك محذوراً باطلاً: فإن قضية الاستيلاء يلزم منها أن هناك مغالبة بين الرب وبين العرش، ثم إن الرب غلبه، وهل يوجد شيء من الكون بينه وبين الرب نزاع؟ لا، والله قد قال في كتابه: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ [المؤمنون:91] ولا نجد علواً للكون بعضه على بعض أبداً لا العرش ولا غيره، مما يدل على بطلان ما ذهب إليه الأشاعرة ومن نحا منحاهم في نفي صفة الاستواء على العرش.

أما قضية العلو فهي من الصفات العظيمة للرب سبحانه وتعالى، بل هي من تمجيد الله وتعظيمه وإعطائه منزلته أن نثبت بأنه سبحانه وتعالى فوق سماواته مستوٍ على عرشه، عالٍ على خلقه سبحانه وتعالى، والأدلة على إثبات العلو في كتاب الله وفي سنة رسوله صلى الله عليه وسلم وفي أشعار الصحابة رضي الله عنهم، وفي العقل، والفطرة أكثر من أن تحصى، ولقد أبدع الإمام ابن القيم رحمه الله في الصواعق إذ أنه جمع ووجد أن الأدلة كما قال: تزيد في النصوص الشرعية على ألف دليل في إثبات العلو، ومن الصعب عرضها، وتحتاج إلى مؤلفات في عرضها وذِكْر وجه الدلالة، لكنه رحمه الله جمعها بمجاميع قال: كل نص يرد فيه التصريح بالعلو فإنه يدل على علو الله تعالى، وكل نص يدل على التصريح كذلك بالعروج إليه فإنه يدل على علوه، وكذلك التصريح بأن الله رفع بعض خلقه إليه يدل على علوه، والتصريح كذلك بالنزول يدل على علوه سبحانه وتعالى، والتصريح بالاستواء يدل على علوه، كذلك في قضية الإسراء والمعراج أخبر سبحانه وتعالى أنه أسرى بعبده، وعرج بمحمد صلى الله عليه وسلم إلى العلو، وكلم ربه سبحانه وتعالى لما صعد، وكذلك أدلة الرؤية وغيرها، لسنا بصدد الحصر ولكن نمرها على عجل، هذه من أدلة الكتاب وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وسأل النبي صلى الله عليه وسلم جارية أراد أن تُعتق، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (أين الله؟ فأشارت في السماء، قال النبي صلى الله عليه وسلم: أعتقها فإنها مؤمنة) ولم يقل لها: قبحك الله كيف ترفعين بإصبعك إلى الرب، فأنتِ تجسمين وتشبهين، ولهذا إذا رفعت إصبعك فقلت: الله في العلو ضاقت على المبتدعة الأرض بما رحبت، ويقولون: إنكم تجعلون السماوات تحيط بالرب سبحانه وتعالى، وهذا من ضيق أفقهم وجهلهم بسنة محمد صلى الله عليه وسلم، ونحن نقول: إن الله سبحانه وتعالى في العلو بما دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

ولقد كانت إحدى زوجات النبي صلى الله عليه وسلم وهي زينب كما روى البخاري تفتخر على نساء الرسول صلى الله عليه وسلم كلهن، وكانت تقول: (زوجكن أهليكن، وأنا زوجني الله من فوق سبع سماوات) وهنيئاً لها إذ تفتخر بهذا الفخر العظيم: فَلَمَّا قَضَى زَيْدٌ مِنْهَا وَطَراً زَوَّجْنَاكَهَا [الأحزاب:37] فكانت كأنها تفتخر بأنها أنزلت في قضية زواجها نص من الله تعالى، ويبقى إلى قيام الساعة فخراً لها.

ولقد أثنى النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن معاذ رضي الله عنه لما حكم في بني قريظة: (لقد حكمت فيهم بحكم الله من فوق سبع سماوات) ثناءً عليه بأنه أثبت الحكم الذي حكم الله فيه، وأثبت الرسول صلى الله عليه وسلم أن ربه فوق سبع سماوات.

وروي أن عمر رضي الله عنه وأرضاه كما في سنن الدارمي وغيره، والحديث يظهر أنه ليس بثابت، لأن في سنده انقطاعاً: وقف عمر مع امرأة عجوز في الطريق، ولما وقف معها قيل لـعمر وكان قد سد الطريق: كيف أغلقت الطريق من أجل هذه العجوز؟!

فقال: [ويحكم! أتدرون من هذه؟ إن هذه قد سمع الله شكواها من فوق سبع سماوات] وهي خولة : قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ [المجادلة:1] فأثبت أن الله سبحانه وتعالى فوق سماواته عالٍ على خلقه، هذه أدلة الكتاب والسنة.

أما دليل الفطرة فقد دل على ذلك أنه ما من مؤمن أو عارف يعرف بأن له رباً، يقول: يا ألله! إلا وجد قلبه يتوجه إلى العلو. وأنت إذ تتساءل الآن في ذات نفسك وتقول: قد ربيت عليه وأنا صغير، لكن إخوانك الصغار تشاهدهم ما أحد يعلمهم فيقول لهم: إنك إذا دعوت الله تعالى فواجب عليك أن ترفع بقلبك إلى العلو، وهذا نسميه رصيد الفطرة.

ونُقل أن البهائم إذا أصابتها الشدائد في حال تعسر ولادتها، فإنها وهي مضطجعة، تسلم أمرها لله، وترفع رأسها إلى السماء؛ لأنها تعلم أن ربها هناك، فترجو منه أن يكشف كربها وما أصابها. فسبحان الله!

كان أبو المعالي الجويني على المنبر يحدث أتباعه، وكان من كبار الأشاعرة ، وكان يقول لهم: كان الله ولا عرش، وهو الآن على ما كان، أي: ليس هناك عرش وليس هناك استواء ولا غيره، فكان الهمداني في مجلسه، فقال له: يا شيخ! دعنا من قضية الاستواء على العرش ومن آية: الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى [طه:5] قال: إننا لا نجد عارفاً يقول: يا ألله إلا وجد في قلبه اضطراراً إلى العلو فبماذا نفسر هذا؟ أنت تريد أن تنفي لنا النصوص الشرعية، لكن كيف ننفي الفطر التي توجد في قلوبنا، ماذا نعمل بها؟ قال: فنزل الجويني وهو يضرب على رأسه يقول: حيرني الهمداني ، حيرني الهمداني ، وقيل: إنه كان يبكي ولم يستطع أن يقول شيئاً؛ لأنه إذا جاءته النصوص يستطيع أن يأولها، لكن فطر الناس لا يمكن أبداً؛ لأنها تثبت بأن الله سبحانه وتعالى في العلو.

ويأتي الدليل العقلي على إثبات علو الله تعالى، وهو مركب من مقدمات كثيرة، وقد بسط هذا الدليل العقلي شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى بطوله في الفتاوى وفي غيره، وفي الرد كذلك على الرافضة القدرية، وكان يبنى على مقدمات أعرضها سريعاً، فيقولون: ليس في الكون إطلاقاً إلا خالق ومخلوق، فقالوا: إما أن يكون الله خلق الخلق داخل ذاته أو خارج ذاته، أو أنه لا داخل ذاته ولا خارج ذاته، أصبحت عن طريق السبر والتقسيم ثلاثة أقسام:

1- إما أن يكون خلق الله الخلق داخل ذاته.

2- أو يكون الخلق خارج ذاته.

3- أو يكون الخلق لا داخل الذات ولا خارج الذات.

إذاً.. القول بأن الخلق في داخل ذات الرب سبحانه وتعالى باطل باتفاق العقلاء، والسبب هل نحن نشعر بأننا داخل ذات الرب؟ لا.

ثم بطلانه بأنه يلزم أن يكون الله محلاً للقاذورات والخسائس، وهذا الخلق فيه ما هو طيب وفيه ما هو خبيث، فهل يمكن أن يكون الخبيث في داخل الرب؟ حاشا وكلا، إذاً.. تعين أنه بطل أن يكون الخلق داخل ذات الرب، ولا يقول بهذه المقالة إلا الصوفية الغلاة، أهل وحدة الوجود، وأهل الحلول والاتحاد، الذي يقول قائلهم قبحه الله: ليس في الجبة إلا الله وينفض جبته، ولا شك أن هذا هو الكفر بل هو الإلحاد.

ننتقل إلى القسمة الثانية: أن يكون الكون لا داخل ذات الرب ولا خارجه، وهذا نفي لوجوده بالكلية، فالشيء الذي لا يكون موجوداً ولا داخلاً ولا خارجاً يؤدي إلى نفي وجود الله تعالى، وهذا أمر باطل بالاتفاق، ولهذا نجد العجيب أن بعض طوائف المبتدعة يقولون: إن الله لا داخل العالم ولا خارجه، وهذا الكلام باطل، يؤدي إلى نفي وجود الله تعالى.

بقي عندنا أن يكون الرب خارج هذا الكون، فتعينت المفاصلة والمباينة، وتعين المفاصلة والمباينة يقتضي أن ننتقل إلى مقدمات أخرى وهي أن نقول: إن السفول صفة نقص، والعلو صفة كمال، والله موصوف بالكمال، إذاً.. الله في العلو سبحانه وتعالى.

ولهذا إذا وجد شيء عزيز عليك فإنك ترفعه فوق رأسك؛ نظراً لأن العلو باتفاق العقلاء كمال، ولا يمكن أبداً أن يكون نقصاً، بخلاف السفول فإنه نقص، ولهذا تجدون الأطفال الصغار يرفع فمه إلى السماء ويقبل، ويبصق على الأرض لاعتقاده أن الشيطان في السفول، ويعترف بأن الله في العلو، وهذا دليل على مسألة فطرية ومسألة دلالة العقل على إثبات علو الله تعالى.

نعجب من هؤلاء المبتدعة إذ لم يقبلوا نصوص الكتاب والسنة بل أولوها، وقالوا: إن المقصود منها أن العلو للفوقية هنا فوقية المكانة والقدر، بمعنى أن الله في العلو له المكانة، وإلا فإنهم لا يقبلونه، وأهل السنة يقولون: إن العلو ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

1- علو قدر وهي المكانة.

2- علو قهر وهي الغلبة.. وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ [الأنعام:18].

3- علو الذات.

المبتدعة لا يجادلونا في علو القدر ولا في علو القهر، ولكن يجادلونا في علو الذات، ولا يثبتون الله في العلو، أما نحن فنثبت أنواع العلو كلها لله، ونقول: إن لربنا الكمال فيها كلها، ونقول: الله سبحانه وتعالى عالٍ على خلقه علواً يليق بجلاله وعظمته سبحانه وتعالى.

والقول بعلو القدر وعلو المكانة لله تعالى أمر تأنف منه العقول، فإذا جئت إلى شخص مثلاً وقلت له: إنك والله لك منزلة في نفسي أفضل من الحمار والكلب، هل ينبسط أم يغضب؟

قال الشاعر:

ألم ترَ أن السيف ينقص قدره     إذا قيل إن السيف أمضى من العصا

فلو جاء إنسان يوازن بين السيف وبين العصا فإنه قد نقص قيمة السيف، وإذا قيل: إن الله خير من خلقه وأفضل من خلقه فهذا تنقص للرب سبحانه وتعالى؛ لأن هذا الأمر مغروس في الفطر (أن الله سبحانه وتعالى فوق خلقه منزلة وقدراً وقهراً) ومع وجود هذا الأمر وهو أمر فطري نثبته لله، لكن ليس هذا هو مدح للرب سبحانه وتعالى، بل إن المدح أن نثبت له سبحانه وتعالى الكمال المطلق، ومنه إثبات علو الذات له سبحانه وتعالى، وبهذا يبطل كلام هؤلاء في تأويلهم على أن العلو يقصد به علو المكانة أو أن المقصود أن الله خير من خلقه سبحانه وتعالى.

انطلقوا إلى النصوص الدالة على الدليل الفطري، عندما قلنا لهم: إن الإنسان إذ يقول: يا الله، يجد قلبه يتعلق بالعلو، قالوا: تعلق القلب بالعلو لأن السماء هي قبلة الدعاء، وهذا الكلام باطل وليس بصحيح لا لغة ولا شرعاً ولا عقلاً، القبلة في اللغة هي ما تستقبل بوجهك، فهل نحن إذا دعونا نرفع أبصارنا إلى السماء؟ لا، بل نهينا عنه: (لينتهين أقوام عن رفع أبصارهم إلى السماء أو ليخطفن الله أبصارهم) نهينا أن نرفع، ولهذا يسمى ما يقبل به الإنسان قُبل، وخلفه يسمى دُبر، ندعو الناس إذا أرادوا أن يدعوا أن يتوجهوا بوجوههم إلى السماء.

ثم قال العلماء: لم يأتِ دليل على أن هناك قبلتين: قبلة للصلاة وهي إلى الكعبة، وقبلة للدعاء وهي السماء، فهذا لم يرد فيه دليل لا من كتاب ولا من سنة، ولم يقل به أحد من الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، وقولنا بهذا يدل على ابتداع هؤلاء القوم، وأنهم جاءوا بأمر محدث.

ثم قال العلماء: إن القبلة تقبل النسخ، فكان الصحابة يستقبلون بيت المقدس سابقاً، ثم صرفوا إلى الكعبة، لكن في توجه الإنسان بقلبه إلى العلو لا يمكن أن يطرأ عليه نسخ؛ لأن هذا شيء مركوز في الفطر، وما كان في فطر الناس مركز لا يحدث فيه النسخ أبداً، مما يدل على بطلان ما جاء به هؤلاء القوم، ويدل على انحرافهم.

واعترضوا على قضية الدليل العقلي، بإنكار بداهته، فجاء المبتدعة يقولون: نحن عقلاء أم مجانين؟

قلنا: أنتم عقلاء، قالوا: نحن إذاً لا نقبل، الدليل العقلي يجب أن يتفق فيه العقلاء كلهم ونحن لا نقبل.

فنحن نقول لهم: إن كان دليلنا العقلي باطلاً فما توردونه من الأدلة في نفي علو الله تعالى أشد بطلاناً، أي: أنتم أكثر عمقاً في الباطل، وإن كان قولنا حقاً وقولكم حقاً، فنحن أكثر تمكناً في الحق منكم، فتميز أهل السنة بقلة الباطل -على فرضه تنزلاً- وبكثرة الحق في هذا الأمر، وما دامت القضية الدليل العقلي أصبح أمراً مشتركاً بيننا وبينكم فإننا نسأل ونقول: فطر الناس معنا أم معكم؟ نقول: مع أهل السنة وليس مع المبتدعة، فزاد أهل السنة بفطر الناس، ثم نسأل فنقول: أدلة الكتاب والسنة معنا أم معكم أيها المبتدعة؟

فـأهل السنة معهم أدلة مرجحة لدليلهم العقلي (الفطرة وكتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم) وبهذا ترجح دليلهم العقلي في إثبات علو الله سبحانه وتعالى والإقرار به، وبهذا نعلم أن الله سبحانه وتعالى له العلو بجميع أنواعه: علو القدر، وعلو القهر، وعلو الذات سبحانه وتعالى، ولا نتعرض لذلك ولا ننفيه.