شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السابع)


الحلقة مفرغة

الحمد لله، وصلى الله وسلم وبارك على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.

لا نزال في مبحث أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإن المتتبع لنصوص الكتاب والسنة يجد أن الأدلة الواردة في فضائلهم منها ما ورد وروداً عاماً بالثناء عليهم جميعاً، كقوله تعالى: مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَالَّذِينَ مَعَهُ [الفتح:29] والذين كانوا مع النبي صلى الله عليه وسلم هم جميع أصحابه رضي الله عنهم وأرضاهم، وفي سنة النبي صلى الله عليه وسلم قوله: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحدٍ ذهباً ما بلغ مد أحدهم ولا نصيفه).

يقول شيخ الإسلام رحمه الله تعالى في منهاج السنة : "وإنا لنعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد أنفقوا المد والمدين وأكثر، ولكننا لم نجد على مر التاريخ من أنفق مثل أحدٍ ذهباً في سبيل الله تعالى" وكأن شيخ الإسلام رحمه الله تعالى يريد أن يقطع الآمال في أن يوجد أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وإنما لهم المنازل العليا التي أدت للثناء عليهم على وجه العموم.

والناظر لسبب ورود هذا الحديث يعلم تلك المزية العظمى التي تميز بها هؤلاء الأخيار رضي الله عنهم وأرضاهم، إذ أن سبب ورود هذا الحديث: أنه اختصم عبد الرحمن بن عوف مع خالد بن الوليد في سلب قتيل، وكان خالد رفض أن يعطي عبد الرحمن بن عوف سلب القتيل، ولعل خالداً رد على عبد الرحمن بغلظة أو بنوع من الشدة، فذهب عبد الرحمن يشتكيه إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم هذا الحديث العظيم: (لا تسبوا أصحابي، فإن أحدكم لو أنفق مثل أحد ...) الحديث، وإذا كان هذا الكلام يقال لـخالد بن الوليد مع أنه ممن أسلم متأخراً وعبد الرحمن بن عوف من السابقين للإسلام، فمن بباب أولى أن يقال لمن بعدهم ممن لم يحصل لهم شرف الصحبة، ولهذا يقول أهل السنة والجماعة : إن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أفضل الخلق بعد الأنبياء والرسل، بل هم أفضل أتباع الأنبياء على الإطلاق.

ولذلك تميزوا بخصائص، فكلهم عدول لئلا يقدح أحد في روايتهم ونقلهم، ولهذا لا يوجد في أمة محمدٍ صلى الله عليه وسلم أفضل من الصحابة، ولا يوجد في الأمم السابقة من أتباع الأنبياء عليهم الصلاة والسلام من هو أفضل من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهذا أمر مقرر متفق عليه بين أهل السنة والجماعة ؛ وذلك لأنهم أنفقوا أموالهم لنصرة دين الله تعالى، وصحبوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم: (خير القرون قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم) ثناءً عاماً مطلقاً على هؤلاء الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم.

أخرج مسلم في صحيحه عن عائشة رضي الله عنها وأرضاها أنها قالت لـعروة بن الزبير : [يا ابن أختي! أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم] والأمر بالاستغفار لهم في قوله تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [الحشر:10].

فمن أول من سبقنا بالإيمان؟

إنهم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ولعل عائشة إنما قالت هذه المقالة: [أمروا بالاستغفار فسبوهم] لأنها سمعت أن أهل العراق أو النواصب يسبون عليّ بن أبي طالب ، وكذلك الطائفة الأخرى تسب عثمان رضي الله عنه وأرضاه، وهؤلاء كلهم من أجهل الناس، فأرادت أن تبين منهجهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وأن الواجب علينا أن نثني عليهم ونستغفر لهم ونترحم عليهم.

وورد أيضاً حديث : (أصحابي كالنجوم بأيهم اقتديتم اهتديتم) ولكن هذا الحديث ضعيف لا يعول عليه، ولا شك بأن أصحاب رسول الله يؤخذ منهم ويستفاد من علمهم، ويؤخذ من فقههم، وفقههم أرجح من فقه غيرهم كما سنبين ذلك.

يقول الإمام السفاريني رحمه الله تعالى في الثناء عليهم على وجه العموم: ولا يرتاب أحد من ذوي الألباب أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم الذين حازوا قصب السبق، واستولوا على معالي الأمور من الفضل والمعروف والصدق، فالسعيد من اتبع صراطهم المستقيم، واقتفى منهجهم القويم، والتعيس من عدل عن طريقهم ولم يتحقق بتحقيقهم، فأي خطة رشد لم يستولِ عليها هؤلاء الصحابة؟! وأي خصلة خير لم يسبقوا إليها رضي الله عنهم؟! تالله لقد وردوا ينبوع الحياة عذباً صافياً زلالاً، ووطدوا قواعد الدين والمعروف، ولم يدعوا لأحد بعدهم مقالاً، فتحوا القلوب بالقرآن والذكر والإيمان، والقرى بالسيف والسنان رضي الله عنهم وأرضاهم، بذلوا النفوس النفيسة في مرضاة الرحيم الرحمن، فلا معروف إلا ما عرف عنهم، ولا برهان إلا ما بعلومهم انكشف، ولا سبيل ولا نجاة إلا لما سلكوه، ولهذا تميزوا بمزايا عجيبة لم تكن في غيرهم من الأمم التي جاءت من بعدهم.

ولهذا لما أثني عليهم، ذكروا من سعة علمهم رضي الله عنهم وأرضاهم أشياء، فهم من أفضل الناس على الإطلاق توقداً في الأذهان، وفصاحة في اللسان، وسعة في العلم، وسهولة في الأخذ والإدراك، وسرعة في الاستنباط والفهم، ولا شك أنه لم يوجد لهم في قضايا العرض والطرح معارض منهم، بل كلهم متفقون على الأخذ بالمنهج وهو كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

وكانت بذلك أقوالهم أرجح ممن بعدهم، وهذا أمر يتفقون عليه رضي الله عنهم وأرضاهم، إذ أن من بعدهم لن يكون أفقه ولا أعلم منهم، وإذا قلنا للناس جميعاً: من أعلم الناس على الإطلاق؟

قالوا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا قلنا: من أكثر الناس عبادة؟

قالوا: أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإذا قلنا: من أكثر الناس إنفاقاً في سبيل الله؟ من أكثر الناس جهاداً؟ من؟ من؟.. إلى آخره، لن يشيروا بالبنان إلا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لما تميزوا به، ولهذا أمرنا بالاستغفار والدعاء لهم، وما ذلك إلا لما حازوه من المناقب الحميدة، والسوابق القديمة، والمحاسن المشهورة، ولما لهم من الفضل الكبير لمن بعدهم، فما وصلنا الدين إلا على أكتافهم رضي الله عنهم وأرضاهم، ولذلك أمرنا الله بالاستغفار لهم في غير ما آية: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [الحشر:10].

أخرج عبد بن حميد وابن المنذر وابن أبي حاتم رحمهم الله أن عائشة رضي الله عنها قالت: [أمروا أن يستغفروا لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فسبوهم].

ونقل الإمام النووي رضي الله عنه ورحمه عن القاضي عياض أنه قال: الظاهر أنها إنما قالت ذلك حين سمعت أهل مصر يسبون عثمان ، وسمعت أهل الشام يقدحون في علي بن أبي طالب.

يقول ابن عباس رحمه الله تعالى ورضي عنه كما في الشرح والإبانة على أصول الديانة لـابن بطة العكبري رحمه الله: [لا تسبوا أصحاب رسول الله، فإن الله قد أمرنا بالاستغفار لهم، وهو يعلم أنهم سيقتتلون] بمعنى أن ما حدث بينهم من الخلاف لا يجيز لنا أبداً أن نتعرض لهم بسب أو نقد .. أو غير ذلك.

وذكروا أن عامر بن شراحيل الشعبي رحمه الله قال: [يا مالك ! فُضلت اليهود والنصارى على الطائفة التي تعتقد محبة علي بن أبي طالب وتعظمه وتجله بخصلة وهي: أنها عندما سئلت اليهود: من أفضلكم؟ قالوا: أصحاب موسى، وسئلت النصارى: من أفضلكم؟ قالوا: أصحاب عيسى، وسئلت الطائفة التي تدعي محبة علي بن أبي طالب : من شركم؟ قالوا: شرنا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم].

روى أبو نعيم بإسناده إلى عمر بن ذر قال: أقبلت أنا وأبي إلى دار عامر ، فقال لأبي: يا أبا عمر ! قال: لبيك، قلت: ما تقول في هذين الرجلين؟ فسأل من هذين الرجلين؟ قال: ما تقول في علي وعثمان ؟ قال: والله إني لعلي أن أجيء يوم القيامة خصيماً لـعلي بن أبي طالب وعثمان وقد غفر الله لهما.

كيف غفر الله لهما؟ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم شهد لهما بجنات عدن في غير ما موقف وفي غير ما حدث، وليس في حدث واحد.

ننتقل انتقالة سريعة إلى ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ولعلي أنقل نصوصاً متعددة وأكثر منها، لأني أشعر أننا جميعاً بحاجة إلى غرس ذلك المنهج في نفوسنا؛ لما نجد من جرأة بعض الناس في التعرض لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إما بلمزهم، أو بالسخرية بهم، أو بسبهم، أو بتفسيقهم، وأخطرها تكفير أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

نقول: إن مما درج عليه أهل السنة والجماعة سلامة قلوبهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فلا يحملون في قلوبهم بغضاً ولا غلاً ولا عداوة لهؤلاء الأخيار، كما أن من منهجهم سلامة ألسنتهم من تعرضهم لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، ويرون أن الواجب الإمساك عما حصل بينهم من نزاع، وما ذلك إلا لأنهم كسائر الناس، ولا نشك بأنه حدث نزاع بين علي ومعاوية ، وحدث نزاع كذلك بين علي وبين الزبير وطلحة وعائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم، ومع ذلك نقول: أمرنا بالاستغفار لهم مع ما حدث بينهم من النزاع، ومن منهجنا إحسان الظن بهم رضي الله عنهم وأرضاهم، وواجب علينا جميعاً أن نقف في وجوه هؤلاء الذين يتعرضون لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويسبونهم ويعيبونهم.

ويرى أهل السنة والجماعة أن الإشادة بمناقب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم والمدافعة عن أعراضهم والذب عنها من أعظم واجب على كل مسلم يؤمن بالله واليوم الآخر، بل يرون أن هذا هو معتقدهم ودينهم، وسار أئمة أهل السنة على هذا المسلك وكذلك علماؤهم، متحلين بكتاب الله تعالى كما ورد في قوله: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ [الحشر:10].

كلام أئمة أهل العلم فيما شجر بين الصحابة

ننقل عن كبار أئمة السلف رحمهم الله تعالى ما قالوه حول ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ننطلق إلى عظيم من عظمائهم وهو الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فإنه قال: (ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن مساويهم، والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو انتقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدع خبيث مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة من الفضائل) هذا قول إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه.

ثم أعطانا المنهج في قضية تفضيل أصحاب رسول الله، وخير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي بن أبي طالب ، هؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خير الناس، لا تجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيب أو نقص.

سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الفتن التي حدثت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب الفاروق ، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله عليهم أجمعين، ثم قال: نتولاهم جميعاً، ولا نذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير.

وقال أبو زرعة رحمه الله تعالى وهو من كبار أئمة أهل السنة ، وقد روى الخطيب رحمه الله تعالى في الكفاية في علم الرواية، بسنده إلى أبي زرعة أنه قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فمن قدح في الصحابة قدح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: والجرح بالقادحين هو أولى، وهم زنادقة بما جرحوا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا كلام نفيس بديع للإمام ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى، ذكره بعد أن ذكر فضائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قال بعدها: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه صلى الله عليه وسلم، وسبقوا الناس بهذا الفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم سبحانه وتعالى ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق جميعاً؛ لأن الخطأ والعمد الذي حدث ووقع منهم كله مغفور لهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهنا يبين المنهج الفريد لهؤلاء، قال: ولا تنظر في كتاب صفين -وقد ألف في معركة صفين كتاباً، وكذلك الجمل، ووقعة الدار، وسائر المنازعات التي جرت بينهم- ولا تكتبه لنفسك أبداً، ولا لغيرك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه.

ومن الخطأ أن تلقى دروس ومحاضرات في خلاف الصحابة رضي الله عنهم، ويعرضون كأنهم كسائر الناس، يقال: إن هؤلاء كانوا على باطل وهؤلاء على حق، ثم يقدح فيهم؛ لأن الإنسان لن يخرج بعد عرض هذه المسائل إلا وفي نفسه شيء على بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، والله قد غفر لهم ورضي عنهم.

ولذلك قال ابن بطة العكبري رحمه الله: وعلى ذلك اتفق سادات علماء هذه الأمة على النهي عما وصفناه، ومنهم: حماد بن زيد ، ويونس بن عبيد ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن إدريس ، وابن أبي ذئب ، وابن المنكدر ، وابن المبارك ، وشعيب بن حرب، وأبو إسحاق الفزاري ، ويوسف بن أسباط ، وأحمد بن حنبل ، وبشر بن الحارث ، وعبد الوهاب الوراق ، يقول: كل هؤلاء قد رأوا النهي عنها والنظر فيها والاستماع إليها، وحذروا من طلبها، والاهتمام بجمعها، وقد روي عنهم فيمن فعل ذلك أشياء كثيرة بألفاظ مختلفة متفقة المعاني على كراهية ذلك، والإنكار على من رواها واستمع إليها، وهذا يدلنا على ما يتميز به أهل السنة والجماعة في هذا الأمر.

وكذلك نقل عن أبي الحسن الأشعري ، وأبي عثمان الصابوني ، ونقل كذلك عن ابن دقيق العيد ، ومما نقل عنه فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما نقل في هذا الأمر منه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً منه أولناه تأويلاً حسناً؛ لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق من الأخبار محتمل التأويل أو مشكوك، قال: والموهوم لا يبطل المحقق المعلوم وهو الثناء عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهنا كلام نفيس للإمام الذهبي رحمه الله تعالى ورضي عنه. فقد ذكر في سير أعلام النبلاء في المجلد العاشر قال: وقد تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعن قتالهم، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، قال: ولكن أكثر ذلك إما منقطع أو ضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين أيدي العلماء فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين على العامة وآحاد العلماء, وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى.

لا يكون إلا للعالم والمنصف ويكون في خلوة بشرط أن يستغفر لهم بعد أن يقرأ كما علمنا الله حيث يقول: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

إلى أن قال: فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم من جهاد، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، ثم قال: أما ما نقله من يدعي محبة آل البيت وأهل البدع في كتبهم، فهذا لا نعرج عليه ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب هؤلاء الذين يعظمون آل البيت في رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ثم قال واصفاً لهم: ومتى إفاقة من كان سكران؟! أي: من كان سكران لا يفيق وهو مستمر على قضية السكر.

ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً طويلاً نفيساً نثره في الفتاوى ، وكذلك في منهاج السنة ، وذكر ذلك في جل كتبه التي كتبها في العقيدة، سواء الواسطية ، أو شرح الأصفهانية ، أو غيرها من الكتب العظيمة التي ألفها، لا بد أن يتطرق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين فضائلهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

ومما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ونعلم مع ذلك في أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على أن مع كل طائفة حقاً، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقربُ إلى الحق من معاوية .

قال: وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة كـسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اتبعوا النصوص التي سمعوها في مسألة القتال في الفتن، قال: وعلى هذا أكثر أهل الحديث .

توجيه الآثار التي وردت فيما شجر بين الصحابة

ذكر شيخ الإسلام رضي الله عنه منهجاً فريداً فيما ينبغي لنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقفنا مما ورد من الآثار وما ينبغي لنا، أذكرها على هيئة عناصر استنباطاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال:

أولاً: إن أهل السنة يرون أن الآثار الواردة في مساوئهم وفيما شجر بينهم منها ما هو كذب، وما كان كذباً فإنه لا يعول عليه أصلاً، ولا يعتمد عليه في الحكم أبداً.

ثانياً: أن ما ورد من الآثار منه ما قد زيد فيه ومنه ما نقص منه، ولذلك لا يلتفت إليه، ثم قال رحمه الله تعالى: ومنه ما ورد وكان صحيحاً ثابتاً بسنده، فإنهم معذورون فيه رضي الله عنهم وأرضاهم، ووجه العذر أن نقول: إنهم مجتهدون رضي الله عنهم، فمن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، فلهم الأجر لا محالة رضي الله عنهم وأرضاهم، أما أنت في نقدك لهم فماذا سيكون لك من الأجر والثواب؟!

ثالثاً: من منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا لا نعتقد عصمة أحد من الصحابة عن الكبائر، عن كبائر الإثم ولا عن الصغائر، بل تجوز عليهم الذنوب بمقتضى بشريتهم، وكم سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من زنى، ومنهم من سرق، ومنهم من حدث له من المعاصي رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن نقول: ما موقفنا مما حدث لهم؟

نقول: إن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة هذه الذنوب، وما يصدر عنهم من التي نسميها شيئاً من المعاصي، فإذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فنحن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم من أسرع الناس توبة وإنابة إلى الله تعالى، ومسارعة إلى الرجوع إلى ربهم، ومن تاب من الذنب فكمن لا ذنب له أصلاً، ونعلم كذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حسنات، والله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وحسنات الصحابة ليس كحسنات من جاء من بعدهم، ونعلم كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد أصحابه بالشفاعة العظمى، وهم أولى من يدخل في شفاعته صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا نرجو شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى من يدخل في هذه الشفاعة.

ثم قال شيخ الإسلام : وإننا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصل لهم من الابتلاء في الدنيا ما يكون سبباً لتكفير سيئاتهم، لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] جاء أبو بكر وجثا بركبتيه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! كلفنا بأمور وأطقناها، وجاءنا شيء لا نطيقه، قال: ما ذاك؟ قال: إذا كنا كل سوء سنجزى به متى النجاة يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تنصب؟ أليس يصيبك اللأواء؟ ألست تمرض؟ ألست كذا، قال: بلى، قال: فإن الله يكفر عنك بذلك) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتلوا بلاءً شديداً في مكة والمدينة وغيرها، وكان لهم من السابقة ما يكون سبباً لتكفير سيئاتهم وما حدث منهم من القصور.

ونعلم أن ما وقع منهم أنه نزر يسير أمام الفضائل العظمى والمنازل العجيبة التي كانت لهم.

وهذا هو الواجب علينا أن نقف فيه، فمما كان من فضائلهم: الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، والهجرة، ونصرة الرسول، والعلم النافع، والعمل الصالح .. إلى غير ذلك مما تميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونقول بعد ذلك: أبعد هذه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة أيجرؤ أحد أن يقدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

لا وكلا! بل نقول: لا ينطلق لسان أحد إليهم إلا لخبثٍ في قلبه، وبدعةٍ في نفسه، وانحرافٍ في منهجه، فأصحاب رسول الله لهم المنازل العليا رضي الله عنهم وأرضاهم.

ننقل عن كبار أئمة السلف رحمهم الله تعالى ما قالوه حول ما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ننطلق إلى عظيم من عظمائهم وهو الإمام أحمد رحمه الله تعالى، فإنه قال: (ومن الحجة الواضحة الثابتة البينة المعروفة ذكر محاسن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم كلهم أجمعين، والكف عن مساويهم، والخلاف الذي شجر بينهم، فمن سب أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أو أحداً منهم، أو انتقصه، أو طعن عليهم، أو عرض بعيبهم، أو عاب أحداً منهم، فهو مبتدع خبيث مخالف لما دل عليه الكتاب والسنة، لا يقبل الله منه صرفاً ولا عدلاً، بل حبهم سنة، والدعاء لهم قربة، والإقتداء بهم وسيلة، والأخذ بآثارهم فضيلة من الفضائل) هذا قول إمام أهل السنة الإمام أحمد رحمه الله تعالى ورضي عنه.

ثم أعطانا المنهج في قضية تفضيل أصحاب رسول الله، وخير الأمة بعد نبيها صلى الله عليه وسلم: أبو بكر ، ثم عمر ، ثم عثمان ، ثم علي بن أبي طالب ، هؤلاء الخلفاء الراشدون المهديون، ثم أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم بعد ذلك خير الناس، لا تجوز لأحد أن يذكر شيئاً من مساويهم، ولا يطعن على أحدٍ منهم بعيب أو نقص.

سئل الإمام أحمد رحمه الله تعالى عن الفتن التي حدثت بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فتلا قوله تعالى: تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَهَا مَا كَسَبَتْ وَلَكُمْ مَا كَسَبْتُمْ وَلا تُسْأَلونَ عَمَّا كَانُوا يَعْمَلُونَ [البقرة:134].

قال الإمام أبو حنيفة رحمه الله تعالى: وأفضل الناس بعد النبيين عليهم الصلاة والسلام: أبو بكر الصديق ، ثم عمر بن الخطاب الفاروق ، ثم عثمان بن عفان ذو النورين، ثم علي بن أبي طالب المرتضى رضوان الله عليهم أجمعين، ثم قال: نتولاهم جميعاً، ولا نذكر أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم إلا بخير.

وقال أبو زرعة رحمه الله تعالى وهو من كبار أئمة أهل السنة ، وقد روى الخطيب رحمه الله تعالى في الكفاية في علم الرواية، بسنده إلى أبي زرعة أنه قال: إذا رأيت الرجل ينتقص أحداً من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فاعلم أنه زنديق، وذلك أن الرسول صلى الله عليه وسلم عندنا حق، والقرآن حق، وإنما أدى إلينا هذا القرآن والسنن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وإنما يريدون أن يجرحوا شهودنا ليبطلوا الكتاب والسنة، فمن قدح في الصحابة قدح في كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، قال: والجرح بالقادحين هو أولى، وهم زنادقة بما جرحوا به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

وهنا كلام نفيس بديع للإمام ابن بطة العكبري رحمه الله تعالى، ذكره بعد أن ذكر فضائل الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم قال بعدها: ومن بعد ذلك نكف عما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد شهدوا المشاهد معه صلى الله عليه وسلم، وسبقوا الناس بهذا الفضل، فقد غفر الله لهم، وأمرك بالاستغفار لهم، والتقرب إليه بمحبتهم، وفرض ذلك على لسان رسوله صلى الله عليه وسلم، وهو يعلم سبحانه وتعالى ما سيكون منهم، وأنهم سيقتتلون، وإنما فضلوا على سائر الخلق جميعاً؛ لأن الخطأ والعمد الذي حدث ووقع منهم كله مغفور لهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهنا يبين المنهج الفريد لهؤلاء، قال: ولا تنظر في كتاب صفين -وقد ألف في معركة صفين كتاباً، وكذلك الجمل، ووقعة الدار، وسائر المنازعات التي جرت بينهم- ولا تكتبه لنفسك أبداً، ولا لغيرك، ولا تروه عن أحد، ولا تقرأه على غيرك، ولا تسمعه ممن يرويه.

ومن الخطأ أن تلقى دروس ومحاضرات في خلاف الصحابة رضي الله عنهم، ويعرضون كأنهم كسائر الناس، يقال: إن هؤلاء كانوا على باطل وهؤلاء على حق، ثم يقدح فيهم؛ لأن الإنسان لن يخرج بعد عرض هذه المسائل إلا وفي نفسه شيء على بعض الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم، والله قد غفر لهم ورضي عنهم.

ولذلك قال ابن بطة العكبري رحمه الله: وعلى ذلك اتفق سادات علماء هذه الأمة على النهي عما وصفناه، ومنهم: حماد بن زيد ، ويونس بن عبيد ، وسفيان الثوري ، وسفيان بن عيينة ، وعبد الله بن إدريس ، وابن أبي ذئب ، وابن المنكدر ، وابن المبارك ، وشعيب بن حرب، وأبو إسحاق الفزاري ، ويوسف بن أسباط ، وأحمد بن حنبل ، وبشر بن الحارث ، وعبد الوهاب الوراق ، يقول: كل هؤلاء قد رأوا النهي عنها والنظر فيها والاستماع إليها، وحذروا من طلبها، والاهتمام بجمعها، وقد روي عنهم فيمن فعل ذلك أشياء كثيرة بألفاظ مختلفة متفقة المعاني على كراهية ذلك، والإنكار على من رواها واستمع إليها، وهذا يدلنا على ما يتميز به أهل السنة والجماعة في هذا الأمر.

وكذلك نقل عن أبي الحسن الأشعري ، وأبي عثمان الصابوني ، ونقل كذلك عن ابن دقيق العيد ، ومما نقل عنه فيما شجر بين أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، قال: ما نقل في هذا الأمر منه ما هو باطل وكذب، فلا يلتفت إليه، وما كان صحيحاً منه أولناه تأويلاً حسناً؛ لأن الثناء عليهم من الله سابق، وما ذكر من الكلام اللاحق من الأخبار محتمل التأويل أو مشكوك، قال: والموهوم لا يبطل المحقق المعلوم وهو الثناء عليهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

وهنا كلام نفيس للإمام الذهبي رحمه الله تعالى ورضي عنه. فقد ذكر في سير أعلام النبلاء في المجلد العاشر قال: وقد تقرر الكف عن كثير مما شجر بين الصحابة رضي الله عنهم وأرضاهم وعن قتالهم، وما زال يمر بنا ذلك في الدواوين والكتب والأجزاء، قال: ولكن أكثر ذلك إما منقطع أو ضعيف، وبعضه كذب، وهذا فيما بأيدينا وبين أيدي العلماء فينبغي طيه وإخفاؤه، بل إعدامه لتصفو القلوب وتتوفر على حب الصحابة والترضي عنهم، وكتمان ذلك متعين على العامة وآحاد العلماء, وقد يرخص في مطالعة ذلك خلوة للعالم المنصف العري من الهوى.

لا يكون إلا للعالم والمنصف ويكون في خلوة بشرط أن يستغفر لهم بعد أن يقرأ كما علمنا الله حيث يقول: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالْأِيمَانِ وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلّاً لِلَّذِينَ آمَنُوا [الحشر:10].

إلى أن قال: فالقوم لهم سوابق وأعمال مكفرة لما وقع منهم من جهاد، وعبادة ممحصة، ولسنا ممن يغلو في أحد منهم، ولا ندعي فيهم العصمة، ثم قال: أما ما نقله من يدعي محبة آل البيت وأهل البدع في كتبهم، فهذا لا نعرج عليه ولا كرامة، فأكثره باطل وكذب وافتراء، فدأب هؤلاء الذين يعظمون آل البيت في رواية الأباطيل، أو رد ما في الصحاح والمسانيد، ثم قال واصفاً لهم: ومتى إفاقة من كان سكران؟! أي: من كان سكران لا يفيق وهو مستمر على قضية السكر.

ولقد تكلم شيخ الإسلام ابن تيمية كلاماً طويلاً نفيساً نثره في الفتاوى ، وكذلك في منهاج السنة ، وذكر ذلك في جل كتبه التي كتبها في العقيدة، سواء الواسطية ، أو شرح الأصفهانية ، أو غيرها من الكتب العظيمة التي ألفها، لا بد أن يتطرق لأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ويبين فضائلهم رضي الله عنهم وأرضاهم.

ومما قاله شيخ الإسلام رحمه الله تعالى: ونعلم مع ذلك في أن علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه كان أفضل وأقرب إلى الحق من معاوية وممن قاتله، لما ثبت في الصحيحين عن النبي صلى الله عليه وسلم من حديث أبي سعيد الخدري أنه قال: (تمرق مارقة على حين فرقة من المسلمين قال النبي صلى الله عليه وسلم: تقتلهم أدنى الطائفتين إلى الحق) يقول شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى: وفي هذا الحديث دليل على أن مع كل طائفة حقاً، ولكن علي بن أبي طالب رضي الله عنه أقربُ إلى الحق من معاوية .

قال: وأما الذين قعدوا عن القتال في الفتنة كـسعد بن أبي وقاص وابن عمر وغيرهم من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، فإنهم اتبعوا النصوص التي سمعوها في مسألة القتال في الفتن، قال: وعلى هذا أكثر أهل الحديث .

ذكر شيخ الإسلام رضي الله عنه منهجاً فريداً فيما ينبغي لنا في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وموقفنا مما ورد من الآثار وما ينبغي لنا، أذكرها على هيئة عناصر استنباطاً من كلام شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله تعالى قال:

أولاً: إن أهل السنة يرون أن الآثار الواردة في مساوئهم وفيما شجر بينهم منها ما هو كذب، وما كان كذباً فإنه لا يعول عليه أصلاً، ولا يعتمد عليه في الحكم أبداً.

ثانياً: أن ما ورد من الآثار منه ما قد زيد فيه ومنه ما نقص منه، ولذلك لا يلتفت إليه، ثم قال رحمه الله تعالى: ومنه ما ورد وكان صحيحاً ثابتاً بسنده، فإنهم معذورون فيه رضي الله عنهم وأرضاهم، ووجه العذر أن نقول: إنهم مجتهدون رضي الله عنهم، فمن اجتهد وأصاب فله أجران، ومن اجتهد فأخطأ فله أجر، فلهم الأجر لا محالة رضي الله عنهم وأرضاهم، أما أنت في نقدك لهم فماذا سيكون لك من الأجر والثواب؟!

ثالثاً: من منهج أهل السنة والجماعة في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم أننا لا نعتقد عصمة أحد من الصحابة عن الكبائر، عن كبائر الإثم ولا عن الصغائر، بل تجوز عليهم الذنوب بمقتضى بشريتهم، وكم سمعنا من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم منهم من زنى، ومنهم من سرق، ومنهم من حدث له من المعاصي رضي الله عنهم وأرضاهم، لكن نقول: ما موقفنا مما حدث لهم؟

نقول: إن لهم من السوابق والفضائل ما يوجب مغفرة هذه الذنوب، وما يصدر عنهم من التي نسميها شيئاً من المعاصي، فإذا كان قد صدر من أحدهم ذنب، فنحن نعلم أن الصحابة رضي الله عنهم من أسرع الناس توبة وإنابة إلى الله تعالى، ومسارعة إلى الرجوع إلى ربهم، ومن تاب من الذنب فكمن لا ذنب له أصلاً، ونعلم كذلك أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم لهم حسنات، والله يقول: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114] وحسنات الصحابة ليس كحسنات من جاء من بعدهم، ونعلم كذلك أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قد وعد أصحابه بالشفاعة العظمى، وهم أولى من يدخل في شفاعته صلى الله عليه وسلم، فإذا كنا نرجو شفاعة النبي صلى الله عليه وسلم فأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم هم أولى من يدخل في هذه الشفاعة.

ثم قال شيخ الإسلام : وإننا نعلم أن أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم قد حصل لهم من الابتلاء في الدنيا ما يكون سبباً لتكفير سيئاتهم، لما نزل قوله تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ [النساء:123] جاء أبو بكر وجثا بركبتيه بين يدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال: (يا رسول الله! كلفنا بأمور وأطقناها، وجاءنا شيء لا نطيقه، قال: ما ذاك؟ قال: إذا كنا كل سوء سنجزى به متى النجاة يوم القيامة يا رسول الله؟ فقال له الرسول صلى الله عليه وسلم: ألست تنصب؟ أليس يصيبك اللأواء؟ ألست تمرض؟ ألست كذا، قال: بلى، قال: فإن الله يكفر عنك بذلك) وأصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم ابتلوا بلاءً شديداً في مكة والمدينة وغيرها، وكان لهم من السابقة ما يكون سبباً لتكفير سيئاتهم وما حدث منهم من القصور.

ونعلم أن ما وقع منهم أنه نزر يسير أمام الفضائل العظمى والمنازل العجيبة التي كانت لهم.

وهذا هو الواجب علينا أن نقف فيه، فمما كان من فضائلهم: الإيمان بالله ورسوله، والجهاد في سبيل الله، والهجرة، ونصرة الرسول، والعلم النافع، والعمل الصالح .. إلى غير ذلك مما تميز به أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.

ونقول بعد ذلك: أبعد هذه النصوص من الكتاب والسنة وأقوال سلف الأمة أيجرؤ أحد أن يقدح في أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم؟!

لا وكلا! بل نقول: لا ينطلق لسان أحد إليهم إلا لخبثٍ في قلبه، وبدعةٍ في نفسه، وانحرافٍ في منهجه، فأصحاب رسول الله لهم المنازل العليا رضي الله عنهم وأرضاهم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور عمر سعود العيد - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الأول) 2467 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن) 2414 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس) 2367 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الخامس عشر) 2224 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس السادس عشر) 2210 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثاني عشر) 2102 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس التاسع) 2087 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الرابع) 2071 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الثامن عشر) 2004 استماع
شرح لامية شيخ الإسلام ابن تيمية (الدرس الحادي عشر) 1944 استماع