العدة شرح العمدة [38]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [ باب الاعتكاف: وهو لزوم المسجد لطاعة الله تعالى فيه، لأن الاعتكاف في اللغة: لزوم الشيء، وحبس النفس عليه براً كان أو غيره، قال تعالى: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52] ].

يعني: إن لزمت شيئاً براً كان أو معصية يسمى اعتكافاً، ولذلك لما سأل إبراهيم قومه: مَا هَذِهِ التَّمَاثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَهَا عَاكِفُونَ [الأنبياء:52]، قَالُوا بَلْ وَجَدْنَا آبَاءَنَا كَذَلِكَ يَفْعَلُونَ [الشعراء:74]، ولذلك فإن الله تبارك وتعالى أخبرنا أن إبراهيم عليه السلام حينما سألهم ما تعبدون: إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ وَقَوْمِهِ مَا تَعْبُدُونَ [الشعراء:70]، قَالُوا نَعْبُدُ أَصْنَامًا فَنَظَلُّ لَهَا عَاكِفِينَ [الشعراء:71].

والإمام السيوطي ضرب به مثلاً للجواب حينما يكون أطول من السؤال؛ وهذه هي الإجابة المطلوبة، لكنهم أرادوا أن يغيضوا إبراهيم، فلهذا كان الجواب أطول من السؤال.

وكقول الله عز وجل لموسى عليه السلام: وَمَا تِلْكَ بِيَمِينِكَ يَا مُوسَى [طه:17]، والجواب: هي عصاي، لكنه زاد عن ذلك فقال: أَتَوَكَّأُ عَلَيْهَا وَأَهُشُّ بِهَا عَلَى غَنَمِي وَلِيَ فِيهَا مَآرِبُ أُخْرَى [طه:18]، فهذه الإجابة أطول من السؤال.

وأحياناً يكون الجواب أقصر من السؤال، كقول الذين كفروا للنبي صلى الله عليه وسلم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هَذَا أَوْ بَدِّلْهُ [يونس:15]، ومضمون السؤال أن يأتي بقرآن غيره أو أن يبدله، فكان الجواب: قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي [يونس:15]، فأجاب عن التبديل فقط، فكان الجواب أقصر من السؤال؛ لأنه إن كان عاجزاً عن التبديل فمن باب أولى أن يكون عاجزاً عن أن يأتي بغيره.

وأحياناً يختلف الجواب عن السؤال، كقوله تعالى: يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ [البقرة:189]، أي: فسؤالهم عن شكله، فقال الله له: قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ وَالْحَجِّ [البقرة:189]، فالجواب جاء بخلاف السؤال، أي: أنه كان من الأولى أن تسألوا عن علته لا عن شكله، فأحياناً يكون الجواب يختلف عن السؤال لإرشاد نظر السائل لما ينبغي أن يسأل عنه، السؤال في جهة والجواب في جهة، والأولى أن تسأل عن كذا.

الاعتكاف لغة: لزوم الشيء وحبس النفس عليه براً كان أو غيره، لزوم الشيء وحبس النفس عليه يسمى اعتكافاً، هذا التعريف اللغوي، والكلمة قد يكون لها تعريف لغوي وتعريف شرعي يعني: اصطلاحاً، وتعريف بالضد، وتعريف بالثمرة، وتعريف بمثال، هذه أنواع التعاريف، يمكن أن تعرف نقول مثلاً: ما هو الواجب عند علماء أصول الفقه؟ نقول: الواجب ما يثاب فاعله وتاركه متوعد بالعقاب، فهذا تعريف بالثمرة، وقد يكون التعريف بالضد، وقد يكون التعريف بمثال، فالتعريف اللغوي أولاً ثم التعريف الشرعي.

قال: [ وهو في الشرع -أي: التعريف الشرعي للاعتكاف- الإقامة في المسجد على صفة نذكرها ] الاعتكاف لغة: ملازمة المسجد على صفة مخصوصة.

قال: [ وهو سنة، لأن النبي صلى الله عليه وسلم فعله وداوم عليه، واعتكف معه أزواجه، وهذا معنى السنة ].

ومعنى السنة أنه مستحب، ومن الأحكام التكليفية الاستحباب والإباحة والتحريم والكراهية والوجوب، وكل حكم شرعي يدور بين هذه الأحكام.

فحكم الصلاة واجب، وحكم الزنا حرام، وكل مسألة شرعية تأخذ حكماً من الأحكام، وقد تأخذ الأحكام الخمسة كالزواج، فقد يكون واجباً، أو مستحباً، أو مكروهاً، أو محرماً، أو مباحاً، وكل حال له وضع.

وهناك فرق بين المحرم والمكروه، فالمحرم ما نهى عنه الشارع نهياً جازماً، والمكروه ما نهى عنه الشارع نهياً غير جازم، أو نهى عنه وأتى صارف صرفه إلى الكراهة، كقوله صلى الله عليه وسلم: (لا آكل وأنا متكئ) فالأكل متكئاً مكروه؛ لأن قوله: لا آكل وأنا متكئ تفيد الحرمة إلا أن هناك فعلاً صرفه إلى الكراهة، وأحياناً يستخدم الفقهاء كالإمام الشافعي لفظ المكروه ويقصد به الحرام، فقوله: أكرهه يعني: أحرمه، فمعرفة المصطلحات مهمة، واستدل على ذلك بقول الله في سورة الإسراء: كُلُّ ذَلِكَ كَانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهًا [الإسراء:38]، يعني: الزنا، سماه مكروهاً، فعبر عن الحرام بالمكروه، فانتبه لمثل هذه الفائدة فهي فائدة أصولية ذكرها العلامة ابن القيم في كتابه القيم: إعلام الموقعين عن رب العالمين، الذي لا يمكن أن يستغني عنه طالب علم أصولي أبداً بحال.

قال: [ وقالت عائشة : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعتكف العشر الأواخر من رمضان حتى توفاه الله، ثم اعتكف أزواجه من بعده) ]. يعني: السنة الفعلية أن النبي عليه الصلاة والسلام كان يعتكف العشر الأواخر من رمضان، وفي البخاري : (اعتكف العشر الأوائل، فقال له جبريل: إن الذي تطلب أمامك)، أي: ليلة القدر، (فاعتكف العشر الأواسط فقال له: إن الذي تطلب أمامك، فاعتكف العشر الأواخر صلى الله عليه وسلم)، وفي العام الذي قبض فيه اعتكف عشرين يوماً وواظب على الاعتكاف صلى الله عليه وسلم، واعتكف أزواجه من بعده، وكان يضرب لهن الخيام خلف الرجال؛ لأن الأصل في الاعتكاف أن تنفرد في المسجد بخيمة أو بخباء تنعزل فيه وتترك حتى الأمور المباحة، وتنشغل بالطاعة: الذكر، القرآن، الصلاة، العبادة، حتى قال بعض العلماء: لا شأن للعلم في الاعتكاف، فقد كان السلف يتركون طلب العلم في الاعتكاف، أما نحن الآن فربما نقيم اعتكافاً جماعياً ونجلس الساعات للسمر والكلام، فمقصود الاعتكاف هو تفريغ القلب عن الدنيا للعبادة من تسبيح وذكر وقراءة القرآن وغير ذلك من أنواع العبادة، أما أن يجلس الناس في المسجد مع بعضهم البعض في قال وقيل فهذا لا ينبغي، حتى قال أخ فاضل لي في سنة من السنوات وكنا في حال اعتكاف: أنتم حولتم الاعتكاف إلى اعتلاف، لأنه في كل ساعة وجبة، وبعد الوجبة حلوى وبعد الحلوى عصير، المفروض أن نتعلم التقشف، فنفطر التمر والماء ثم نأكل قليلاً من الطعام، وتخرج عن مألوفك فتنام على الأرض، وتقيم الليل، وتسبح وتستغفر، وتراجع أعمال السنة مع نفسك.

قال: [ إلا أن يكون نذراً فيلزم الوفاء به ] يعني: رجل نذر أن يعتكف، فيصبح الاعتكاف في حقه واجباً، أي: واجباً بالشرط، لأنه الذي اشترط على نفسه، فالذي ينذر يلزمه أن يوفي بنذره كما اشترط.

قال: [ قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن الاعتكاف لا يجب على الناس فرضاً إلا أن يوجب المرء على نفسه الاعتكاف نذراً فيجب عليه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من نذر أن يطيع الله فليطعه، ومن نذر أن يعصي الله فلا يعصه) ]. وإذا نذر الرجل معصية لا يجب عليه الوفاء؛ لحديث أبي إسرائيل أنه رآه النبي صلى الله عليه وسلم واقفاً في حر الشمس فقال: (من هذا؟ قالوا: أبو إسرائيل نذر أن يقوم في الشمس ولا يستظل، ولا يقعد، وأن يصوم، -أي: أنه نذر الصيام، والقيام في حر الشمس، وعدم القعود- فقال: مروه فليستظل وليجلس وليتم صومه)، فأقره على نذر الطاعة، ولم يقره على نذر المعصية.

ومن نذر أن يعتكف وجب عليه ذلك، لكن إن نذر أن يعتكف في مسجد معين فله ذلك، وبعض العلماء يقولون: الاعتكاف لا يجوز إلا في المسجد الحرام، أو المسجد النبوي، أو المسجد الأقصى، أي: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، وهذا الكلام مردود عليهم بلا أدنى شك بتبويب البخاري في صحيحه: باب الاعتكاف في المساجد؛ لأن الله قال: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]، أي: طالما أن المسجد تقام فيه جمعة وجماعة فيجوز الاعتكاف فيه بدون أدنى شك.

قال: [ ويصح من المرأة في كل مسجد غير مسجد بيتها؛ لأن صلاة الجماعة غير واجبة عليها، فلم يوجد المانع في حقها ] أي: الاعتكاف بالنسبة للرجل لا ينبغي أن يكون إلا في مسجد جامع تقام فيه الجمعة والجماعة؛ لأنه إن لم تقم فيه الجمعة والجماعة سيضطر إلى الخروج.

أما مسألة إنشاء الجمع في أكثر من مسجد فهذا من العبث الشرعي، وقد سئل الشيخ عبد الرزاق عفيفي : هل يجوز إقامة الجمعة في مسجد بخلاف المسجد الجامع؟ قال: تبطل الصلاة إن لم يكن هناك ضيق في المسجد، لأنه ما سميت الجمعة إلا لأنها تجمع الناس في مكان، والأولى أن يكون المسجد جامعاً وكلما زاد العدد زادت الفضيلة بدون أدنى شك.

فالمرأة يصح منها الاعتكاف في أي مسجد إلا مسجد بيتها فلا يجوز أن تعتكف فيه، أما اعتكافها في مسجد ليس فيه جمعة ولا جماعة فإنه يصح؛ لأن الجمعة والجماعة ليستا في حقها واجبتين.

قال: [ ولا يصح من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة ] أي: لا يصح الاعتكاف من الرجل إلا في مسجد تقام فيه الجماعة، فلا يجوز له الاعتكاف في مسجد بيته، بل الاعتكاف في مسجد يؤذن فيه إمام راتب وتقام فيه الجمعة والجماعة.

قال: [ لقوله سبحانه: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187]؛ ولأنه مسجد بني للصلاة فيه فأشبه المتفق عليه، وإنما اشترط في مسجد تقام فيه الجماعة؛ لأن الجماعة واجبة على الرجل ]، أي: صلاة الجماعة تجب على الرجال إلا من عذر، والأعذار في ترك صلاة الجماعة معروفة: مرض، خوف، مطر شديد، سفر، من كان في حضرة الطعام، أو يدافع الأخبثين إلى غير ذلك من الأعذار، أما من يسمع النداء ويصلي في بيته بدون أدنى عذر فقد ترك واجباً.

ومعنى قوله: في حضرة الطعام يعني: أقام المؤذن الصلاة والطعام حاضر بين يديك، وليس المقصود أن تسمع الأذان وتقول: هاتوا لنا الطعام فإنه لا صلاة في حضرة الطعام، فهنا الطعام لم يحضر بعد، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يسمع النداء فيأخذ حاجته من الطعام ثم تركه وذهب إلى الصلاة.

المقصود: ألا ينشغل المصلي بالطعام، فإن بعض النساء -حفظهن الله- تعد السفرة قبل أذان المغرب بدقائق فيريد الرجل أن يصلي المغرب جماعة والسفرة مرصوصة بين يديه ثم يذهب إلى المسجد ويدخل في الصلاة وهو يفكر بالطعام، وهذا معناه أنه انشغل بالطعام عن الصلاة، فمن فطن المرأة ومن فقهها وحكمتها ألا تضع الطعام إلا بعد أن يعود من المسجد. فإذا حضر الطعام وقت النداء يقدم الطعام، لأن الشارع الحكيم أراد بذلك أن يصلي المصلي وهو خالي الذهن تماماً ليس فيه ما يشغله، وليس كما يفعله البعض إذا حصلت عنده مباراة بين مصر والكاميرون -مثلاً- ولا يريد أن تفوته دقيقة واحدة من المباراة، فيأتي بالتلفاز ويجعله في القبلة، ويصلي وهو مشغول بالمباراة، فهذا عبث بالصلاة لا حول ولا قوة إلا بالله العلي العظيم، قال تعالى: مَا جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ [الأحزاب:4]، وهذا له قلوب في جوفه، نسأل الله العافية، فلا بد أن يصلي وهو خالي الذهن تماماً حتى يخشع في صلاته، فيأكل الطعام أولاً، حتى لو فاتته الجماعة؛ لأنه لا صلاة في حضرة الطعام.

قال: [ فاعتكافه في مسجد لا تقام فيه الجماعة يفضي إلى خروجه إلى الجماعة، فيتكرر ذلك منه مع إمكان التحرز منه، وذلك منافٍ للاعتكاف الذي هو لزوم المعتكف والإقامة على طاعة الله عز وجل فيه.

واعتكافه في مسجد تقام فيه الجمعة أفضل؛ لئلا يحتاج إلى الخروج إليها؛ ولأن ثواب الجماعة في الجامع أكثر ]. أي: أنه لا بد أن يعتكف في مسجد فيه جمعة وجماعة حتى لا يخرج.

ولو صلى الرجل في بيته بعد أن سمع النداء، وليس عنده عذر فإن صلاته عند الأصوليين قد أجزأت وسقطت عنه، ولا نطالبه بأدائها ولا نعتبره تاركاً للصلاة، إنما هو -بدون أدنى شك- آثم على ترك هذا الواجب، فهذا جزاؤه والله أعلم به، فهذا هو الفرق بين الجزاء والإجزاء.

والجماعة لا تكون إلا في المسجد، وليس هناك جماعة في البيت، وإنما البيت للنساء، طالما أنه ليس هناك عذر، والأعمى لم يرخص له النبي عليه الصلاة والسلام.

قال: [ ومن نذر الاعتكاف أو الصلاة في مسجد فله فعل ذلك في غيره؛ لأن المساجد كلها في الفضيلة سواء ].

وهذا هو رأي الجمهور، فلا ميزة لمسجد على مسجد حتى ولو عين إلا أن يعين المسجد الحرام فلا يجزئه إلا المسجد الحرام، فإن نذر أن يعتكف في المسجد النبوي فيجزئه أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل المساجد حتى ولو حدد؛ ولأن المساجد بيوت الله وهي سواء، فمن نذر أن يعتكف في مسجد فمن جنس ما نذر، لا شبهة في ذلك.

قال: [ قال صلى الله عليه وسلم: (جعلت لي الأرض مسجداً وترابها طهوراً)، إلا المساجد الثلاثة: المسجد الحرام، ومسجد النبي صلى الله عليه وسلم، والمسجد الأقصى؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد: المسجد الحرام، والمسجد الأقصى، ومسجدي هذا) ] وهذا الحديث له منطوق ومفهوم، والخلط بين المنطوق والمفهوم يترتب عليه ضياع كثير من المفاهيم، فمعنى قوله صلى الله عليه وسلم: (لا تشد الرحال إلا إلى ثلاثة مساجد)، أن الرحال لا تشد إلا إلى هذه المساجد، فهذا هو المنطوق، والمفهوم هو: أنه لا يسافر لمسجد يبتغي فيه الأجر الزائد إلا هذه المساجد، فإن الصلاة في المسجد الحرام بمائة ألف صلاة، فيجوز أن أسافر لأصلي فيه خصيصاً، ولا يجوز أن أسافر إلى الشرقية لأجل أن أصلي في مسجد هناك، لأنه لا تشد الرحال إلا لهذه المساجد، فمن شد الرحال إلى البدوي في الشرقية فهو عاصٍ وآثمٍ وضال.

قال: [ فإذا نذر الاعتكاف في المسجد الحرام لزمه ولم يجز أن يعتكف في سواه؛ لأنه أفضلها ] أي: إن نذر أن يعتكف في المسجد الحرام لا بد أن يعتكف فيه ولا يجزئه أي مسجد آخر؛ لأنه أفضل المساجد على الإطلاق.

قال: [ وإن نذر الاعتكاف في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم جاز له أن يعتكف في المسجد الحرام؛ لأنه أفضل منه، ولم يجز له أن يعتكف في المسجد الأقصى؛ لأن مسجد النبي صلى الله عليه وسلم أفضل منه، وإن نذر أن يعتكف في الأقصى جاز له أن يعتكف في أي المسجدين أحب؛ لأنهما أفضل منه، بدليل قول النبي صلى الله عليه وسلم: (صلاة في مسجدي هذا أفضل من ألف صلاة فيما سواه إلا المسجد الحرام)، رواه مسلم.

ويستحب للمعتكف الاشتغال بالقرب واجتنابه ما لا يعنيه من قول وفعل، ولا يكثر الكلام فإن كثرته لا تخلو من اللغو والسقط، وقد جاء في الحديث: (من كثر كلامه كثر سقطه)، ويجتنب الجدال والمراء والسباب والفحش فإن ذلك مكروه في غير الاعتكاف ففي الاعتكاف أولى. ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك ] يعني: إن لغا أو اغتاب وهو معتكف فاعتكافه صحيح ولكن عليه الإثم، والإثم مغلظ في رمضان وفي الاعتكاف وفي بيت الله، وهذا فيه حرمة الزمان وحرمة المكان وحرمة الوقت، وهذا أيضاً يشير إلى جرم الفعل.

قال: [ ولا يبطل الاعتكاف بشيء من ذلك؛ لأنه لما لم يبطل بمباح الكلام لم يبطل بمحظوره، وإنما استحب ذلك ليكون مشتغلاً بما اعتكف لأجله من طاعة الله واجتناب معاصيه فيحقق ما اعتكف لأجله.

ولا يخرج من المسجد إلا لما لا بد له منه ] أي: يجوز للمعتكف أن يخرج من المسجد في حالات: قضاء الحاجة، إذا كانت دورة المياه منفصلة عن المسجد، وشراء طعام وشراب إن لم يجد من يأتيه به.

فالسنة للمعتكف ألا يخرج إلا لما لا بد منه.

قال: [ وقالت أيضاً: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا اعتكف يدني إلي رأسه فأرجله) ] أي: كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا كان في الاعتكاف يخرج رأسه لـعائشة وهو في المسجد وهي في حجرتها ما يمنعها من دخول المسجد إلا الحيض، وهذا دليل عند الجمهور على عدم جواز دخول الحائض المسجد، وهذا استدلال البخاري وابن حجر في الفتح: (أنه كان يدني رأسه في المسجد يخرج رأسه إلى حجرة عائشة ترجله)، يعني: تمشط شعر النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: [ (وكان لا يدخل البيت إلا لحاجة الإنسان)، ولا خلاف أن له الخروج لما لا بد له منه.

قال ابن المنذر : أجمع أهل العلم على أن للمعتكف أن يخرج من معتكف للغائط والبول، ولو كان ذلك يبطل لم يصح لأحد اعتكاف، وفي معناه: الحاجة إلى الأكل والشرب إذا لم يكن له من يأتيه به يخرج إليه، إلا أن يشترط عيادة المريض، وصلاة الجنازة، وزيارة أهل، أو رجل صالح، أو قصد بعض أهل العلم، أو يتعشى في أهله أو يبيت في منزله؛ لأنه يجب بعقده، فكان الشرط فيه إليه كالوقف ] بمعنى: أنه اعتكف واشترط على نفسه أنه يشيع الجنازة فاعتكافه يصح، لكن إذا اعتكف ولم يشترط فلا يجوز له؛ لأن تشييع الجنازة فرض كفاية إن قام به البعض سقط عن الآخرين، فلا يجوز للمعتكف أن يخرج ليشيع الجنازة أو ليغسل ميتاً إذا لم يكن إلا هو، فهناك فروض كفاية تجزئ إذا قام بها البعض، ولا يجوز له أن يباشر امرأته.

والنبي صلى الله عليه وسلم وهو معتكف خرج مع صفية ، يقلبها إلى حجرتها، وفي هذا بيان الضرورة الشرعية أن المرأة لا يجوز له أن تنقلب إلى البيت بمفردها ليلاً.

يقول أحد الإخوة: إن بعض المنتقبات الفاضلات في حال تزينهن يجذبن انتباه المارة أكثر من بعض النساء الأخريات الغير ملتزمات باللباس الشرعي، حيث صار النقاب فتنة أكثر من فتنة المتبرجات، فنجد النقاب قد أظهر العينين مفتوحاً من الجانبين.

ومن شروط اللباس الشرعي للمرأة ما يلي: ألا يكون لباس زينة يجذب النظر، وأن يكون فضفاضاً لا يصف، سميكاً لا يشف، وألا يكون لباس شهرة، فكل لباس أو نقاب أو إسدال يجعل المرأة مميزة بين النساء، فهذا يسمى لباس شهرة، أو لباس زينة كأن يكون مثلاً أصفر، أو بنفسجي أو أحمر، فهذا لا يجوز بحال، أو أن تغطي جزءاً من وجهها وتظهر العينين وفيهما الكحل والرموش فلا يجوز هذا فإن فيه فتنة، إلا أن تسدل المرأة وتظهر عيناً واحدة للرؤية أو ترى من وراء النقاب، وهناك هجمة على الحجاب والأمر لا يخفى عليك، فهذه نصيحة لأخواتنا من أخ فاضل جزاه الله خيراً.

ولا يجوز للمعتكف أن يذهب إلى العمل ثم يعود، فهذا اسمه اعتكاف جزئي وليس اعتكافاً بالمعنى الشرعي، الذي هو ملازمة المسجد.

ويجزئ أن يحدد في اعتكافه ليالي رمضان فقط، لأن ما لا يدرك جله لا يترك كله، فمن كان موظفاً ولا يستطيع الحصول على إجازة يعتكف الليالي، ومن أحيا ليالي رمضان له الفضل الكثير من الله سبحانه وتعالى.

قال: [ ولا يباشر امرأة فإن وطئ فسد اعتكافه] يعني: لا يجامع، ولا يتحدث في أمر الجماع إن انقلبت إليه الزوجة، ولما جاءت صفية انقلب معها النبي صلى الله عليه وسلم ليصل بها إلى المنزل، وهذا يدل على حرمة هذا الشأن وعظمته.

قال: [ لقوله تعالى: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ [البقرة:187] ولأنها عبادة يحرم فيها الوطء فأفسدها كالوطء في الصوم، ولا قضاء عليه إلا أن يكون واجباً ] يعني: إذا فسد الاعتكاف لا يقضي.

قال: [ والوطء محرم في الاعتكاف بالإجماع؛ لقول الله: وَلا تُبَاشِرُوهُنَّ وَأَنْتُمْ عَاكِفُونَ فِي الْمَسَاجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوهَا [البقرة:187]، وإن سأل عن المريض في طريقه أو عن غيره ولم يعرج إليه جاز؛ لما روت عائشة رضي الله عنها قالت: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يمر بالمريض وهو معتكف فيمر كما هو فلا يعرج يسأل عنه)] يعني: السؤال عن المريض لا حرج فيه. والحديث ضعيف.

الدليل على الاشتراط في الاعتكاف

السؤال: ما الدليل على الاشتراط في الاعتكاف؟

الجواب: إذا اشترط في الاعتكاف خرج من المحظور، والدليل عليه (إلا أن تشترط) .

الرد على من قال: إن الاعتكاف لا يشرع إلا في المساجد الثلاثة

السؤال: ما الرد على من قال: إن الاعتكاف في المساجد الثلاثة فقط؟

الجواب: قوله صلى الله عليه وسلم: (لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة)، الحديث فيه ضعف واضح عند بعض العلماء، وله مفهوم عند البعض الآخر، وهو: لا اعتكاف إلا في المساجد الثلاثة، قال بعضهم: من نذر أن يعتكف في أحد المساجد الثلاثة لا بد أن يعتكف فيها، أو: لا اعتكاف كامل الأجر إلا في هذه المساجد الثلاثة، إنما ما قال أحد من العلماء: إن الاعتكاف لا يجوز إلا في هذه المساجد.

حكم الاعتكاف في غير رمضان

السؤال: هل يجوز الاعتكاف في أي وقت من العام؟

الجواب: نعم، يجوز الاعتكاف مع النذر.

حكم الاعتكاف بدون صيام

السؤال: هل يشترط للاعتكاف الصيام؟

الجواب: هذا كلام مختلف فيه بين العلماء، والراجح أنه لا يشترط الصيام.

حكم الاعتكاف لمدة أقل من يوم وليلة

السؤال: هل يجوز الاعتكاف لمدة يوم أو نصف يوم أو ساعة؟

الجواب: نعم يجوز، وهذا اعتكاف جزئي.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
العدة شرح العمدة [13] 2695 استماع
العدة شرح العمدة [68] 2619 استماع
العدة شرح العمدة [26] 2594 استماع
العدة شرح العمدة [3] 2517 استماع
العدة شرح العمدة [1] 2474 استماع
العدة شرح العمدة [62] 2373 استماع
العدة شرح العمدة [19] 2336 استماع
العدة شرح العمدة [11] 2332 استماع
العدة شرح العمدة [56] 2301 استماع
العدة شرح العمدة [15] 2236 استماع