الدولة المدنية (1/ 5) - أبو محمد بن عبد الله
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
بسم الله والحمد لله والصلاة والسلام على رسول الله وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:فإن إشكاليةَ طبيعةِ الدولة ونوعيتها تثير جدلا كثيرًا عند المهتمين بمواقعهم السياسية في المجتمع، ومن وراء رغباتهم الشخصية، وخلفياتهم الإيديولوجية، وانتماءاتهم الحزبية، ومن خلال أفهامهم لأنواع الدولة، التي تخضع لمستوياتهم العلمية وتَأَثُّراتهم المحيطة، بل ولفهمهم للإسلام ذاته، وعلاقته بحياة الناس..
فمِن وراء كل ذلكَ يختارون نوعًا من أنواع الدولة.
وإن العَلمانيين يقولون نريد دولة مدنية..
ويردد بعضُ الإسلاميين أنهم أيضًا يريدون الدولة المدنية وأنهم دعاتُها! ويقول آخرون لا للدولة المدنية..
ويختلط المفهوم، ويلتبس الحق بالباطل...
وفي الآونة الأخيرة، ومع التَّصاعدات الجزئية للإسلاميين في عدة أقطار من الكرة السياسية، ازداد الحديث عن الدولة المدنية، بين الراغب فيها والراغب عنها، فكثُر حولها الحديث في كلام المُقدَّمين من ساسة وإعلاميين، فتَشَتَّتَت الأفهام واختلطت الحقائق بالأوهام عند قطاعات كثيرة من المستمعين والمتابعين؛ فكان ذلك مثيرًا لفكرة الكتابة في الموضوع لما له من أهمية.
وللدولة المدنية عدة إطلاقات ومعان، فبعض معاني "المدنية" يأمر بها الإسلام، وبعضها يقبلها، ولكنه يضبطها بضوابطه ويحيطها بشرائطه، وبعضها الثالث يرفضها رفضًا تامًّا؛ لمخالفتها لأصوله ومبادئه، ولمقاصده قبل فروعه، وبعضها الآخر يدخل في مجال البحث من حيث المصلحة والمفسدة، لأن "الشارع دائما يرجح خير الخيرين بتفويت أدناهما؛ ويدفع شر الشرين بالتزام أدناهما)[ الفتاوى :23/ 182]، وقال: (ومطلوبها ترجيح خير الخيرين إذا لم يمكن أن يجتمعا جميعا ودفع شر الشرين إذا لم يندفعا جميعا."[الفتاوى: 23/ 343](1). وإليك لمحة مختصرة ومركَّزه عن أنواعها، بعد موجزٍ لغويٍّ حول معنى المدنية:
المَدَنِيَّةُ لغة:
أصل كلمة المَدَنِيَّة مِن: م د ن، وأشهر كلمة تتكون منها هذه الحروف هي المَدِينة: وهي: "المِصْرُ الجامع.
والجمع: مدائن ومُدُنٌ."(المعجم الوسيط، 2/ 859)
والمَدِينَةُ اسمُ يَثْرِبَ مدينة الرسول- صلى الله عليه وسلم-، غلَبَ عليها الاسم، حتى صار عَلَمًا عليها، فأغلب المسلمين إذا قلتَ المدينة، طارت عقولهم وقلوبهم إليها..
والمَدَنِي: في هذا السياق اسم للرجل الذي ينتسب إليها، كالصحابة والتابعين الذين ينتسبون لمدينة رسول الله-صلى الله عليه وسلم-، فيقال فلام المدني كما يقال فلان المكي أو الشامي أو البصري.
والمرأة المدنية كذلك.
والمَدَنِيُّ: الرجل الذي ينتمي إلى المدن والحواضر بدون تعيين مدينة ما، بدلا من القرى والبوادي، فهذا مدني، وهذا بدوي.
فـ"رَجُلٌ مَدَنِيٌّ: من أهل المَدِينَةِ"(المعجم الوسيط: نت)، و"مَدَنَ فلانٌ مَدَنَ مُدُونًا : أَتى المدينة"(انظر: المعجم الوسيط ، 2/859)، وسكنها بعد أن كان بدويًّا.
والقرآن المدني أو السورة المدنية: هو –على الأرجح - القرآن الذي نزل في العهد المدني، بعد الهجرة النبوية المباركة إليها، ولو كان في غير المدينة المنورة، ويقابله القرآني المكي، وهو الذي نزل في العهد المكي قبل الهجرة، ولو نزل خارجها.
والمدنيَّةِ أيضًا: وصف للحالة المادية أو الاجتماعية، وليست اسمًا للشخص؛ فالْمدَنِيَّةُ الْحدِيثة هي: "الحضارة واتِّساع العمران"(المعجم الوسيط، 2/ 859)، وَكل المخترعات التكنولوجِية كذلك.
والمدنيُّ: المتحضِّر والمُتَرَفِّهُ المتصنِّع، بخلاف المُعدَم الذي يعيش الحياة البدائية.
و"تَمَدْيَنَ: عاش عِيشة أَهل المُدن وتنعَّمَ وأخذ بأسباب الحضارة"(انظر: المعجم الوسيط، 2/ 859).
ومَدَّنَ المدائِنَ : بناها وشيَّدها، كَمَصَّر الأمصار.
والمدنيُّ: غير العسكريّ، كما شاع في العصر الحاضر، هو الرجل المواطن الذي ينتمي إلى عموم الشعب، ولا ينتمي إلى المؤسسة العسكرية، لا في قيادتها ولا في جندها، ويقال عن لباسه: زيٌّ عسكري، وزيٌّ مدني أو شَعبيّ.
والعسكر: فارسيٌّ معرَّب، وتعني الجمع والكثير من كل شيء، كما تعني الشِّدة والجدب، وقولك: عَسْكَرَ القومُ: تجَمَّعوا أو وقعوا في شدة، والعسكر: الجيش والجند(2)، سُمِّي بذلك لما يتصف به من القوة والكثرة..
بعد هذا الإيجاز اللغوي نعود إلى المعاني الاصطلاحية لاستعمالات المدنية كوصف للدولة، وكيف يؤثر ذلك في سياساتها ومناهجها، وما يُثمر بعد ذلك من مفرزات اجتماعية وأخلاقية.
ومن خلال ما تقدم نرصد أربعة معانٍ أو مفاهيم للدولة المدنية، هي كالتالي:
يتبع بإذن الله تعالى بـالمقالات:
1- الدولة المدنية: بمعنى الدولة المتحضِّرَة المتطورة
2 - الدولة المدنية التي تعني الدولة المادية وتقابلها الدولة الروحية والأخلاقية
3- الدولة المدنية، التي تقابل الدولة العسكرية:
4- الدولة المدنية: التي تقابل الدولة الدينية
5- المعنى المرفوض للدولة الدينية
6- المعنى الصحيح للدولة الدينية
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
الهوامش:
1- انظر: نظرية المقاصد عند الإمام الشاطبي، للريسوني، 53.
واللفظ تقريبًا لابن تيمة كما في: الاستقامة ، 1/ 288 ومجموع الفتاوى، 20/ 48.
2- انظر: معجم اللغة العربية المعاصرة، أحمد مختار عبد الحميد عمر(ت: 1424هـ)، 3/ 2079، ولسان العرب لابن منظور: 4/ 567، وتاج العروس للزبيدي: 13/ 38، والقاموس المحيط للفيروزآبادي: 1/ 440، مختار الصحاح للرازي: 208.