العدة شرح العمدة [26]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويستحب تعزية أهل الميت]، وهذا على وجه الاستحباب لا الوجوب، كما يستحب لمن غسل ميتاً أن يغتسل، ولمن حمله أن يتوضأ، وقد قال العلماء: هذا ليس على سبيل الوجوب، وإنما على سبيل الاستحباب.

وأما التعزية فلما روى ابن مسعود رضي الله عنه أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (من عزى مصاباً فله مثل أجره). حديث غريب.

ومن بدع التعزية ما يتردد على الناس من أنه: (لا عزاء بعد ثلاثة). وهذا لا أصل له، وهو غير صحيح.

ومن بدع التعزية أيضاً: إقامة السرادقات والجلوس لقبول العزاء في دار المناسبات أو في بيت الميت، وهذا لم يؤثر عن السلف بحال؛ لأنهم كانوا يعتبرون الجلوس لتقبل العزاء من النياحة.

والتعزية من واجبات المسلم على أخيه المسلم، وأفضل صيغة للتعزية ما ورد في صحيح مسلم : (أن النبي صلى الله عليه وسلم أرسلت له ابنته تخبره أن ابنتها قد ماتت -يعني: حفيدته- فأرسل النبي صلى الله عليه وسلم مع الرسول قائلاً لها: مرها فلتصبر ولتحتسب)، يعني: قل لها: اصبري واحتسبي، فأفضل صيغة للعزاء أن تقول للمصاب: اصبر واحتسب. فهذه الصيغة وردت عن النبي صلى الله عليه وسلم. وهناك صيغ طيبة لا بأس بها، والباب فيها واسع، مثل قولك: البقية في حياتك، وقد أفتى الشيخ ابن عثيمين بجوازها إن أراد بها قائلها: البقية في الأعمال الصالحة، وفي بعض القرى يقولون هذه الكلمة معتقدين أن الميت مات وقد ترك جزءاً من عمره، وقد أعطى هذا الباقي لمن تبقى من العائلة، وهذا الكلام خرافات، ولا ينبغي أن يكون أبداً.

وتكون التعزية بدون مصافحة؛ لأن المصافحة ما وردت في السنة، فكونك تجمع المصافحة مع التعزية فهذا يعني أنك جئت بشيء جديد، إنما قل: (اصبر واحتسب)، واربط على قلبه.

ولا يجوز بحال أن يجتمع أهل الميت كما يجتمعون الآن في سرادق ويأتون بقارئ يقرأ القرآن، والناس طوابير للعزاء، أو ما يفعل في بعض القرى حيث يقف أهل الجنازة طابوراً مكوناً من نحو خمسين رجلاً من العائلة، والجنازة مزدحمة، ويأتي الناس وكلهم يريدون أن يصافحوا ويعانقوا، فهذا كله بدعة.

فلا بد أن تكون التعزية وفقاً للسنة، وتكون في المسجد، وبالهاتف، وفي الطريق العام، وفي العمل، وحديث: (لا عزاء بعد ثلاثة) لا أصل له في السنة، وهذا مخالف لهدي النبي صلى الله عليه وسلم.

والتعزية عندنا الآن فيها من البدع الكثير والكثير، ولاسيما مجتمعات النساء وما يحدث فيها، فإنهن يجلسن للعزاء أربعين يوماً والخميس الكبير، والسنوية، ويتكلمون في المكبر: يحيي عائلة فلان بن فلان السنوية الكبيرة، ويعتقدون أن الروح ترد إلى الميت في اليوم الأربعين؛ فيحيون الأربعين لذلك، وينعون الميت نعي الجاهلية في الصحف، وينشرون اسمه وصورته، وتحت ذلك ابن العم وابن الأخت والخال والجد والكبير والصغير.

فهذه الأمور كلها من بدع الجنائز التي ما أنزل الله بها من سلطان، ونحن لا زلنا نصر عليها، وأفضل مقام تقيم فيه السنة إذا مات لك ميت، يعني: يوم أن يموت أبوك أو أخوك مثلاً، فأقم السنة في مأتمه؛ لأنه مأتم وليك، وليس لأحد دخل معك، فأنت حر، فاحمله على خشبة وانفي التابوت تماماً، وأقم الصلاة عليه في مصلى، وأعلمهم السنة، واجعل له لحداً، واغسله على السنة، فلا بد من تطبيق السنة وإن استغربها الناس، وليستغربوها أول الأمر، ثم بعد ذلك تسير الأمور على ما يرام.

ولعلكم تذكرون أن صلاة العيد في العراء واجهها كبار السن يوم أن ذكرنا أنها سنة، قالوا: إن السنيين جاءوا ببدعة، وظلوا يحاربون هذه السنة إلى أن أصبحت الآن مسألة مقررة، وتقام لها الساحات وتقنن، وتعد إعداداً.

فإقامة السنة تحتاج منا إلى صبر ومجالدة في أول الأمر، فإذا مات لك ميت فاحمله على خشبة، ولا تحمله على تابوت أو صندوق، هذا هو السنة، واغسله وكفنه على السنة، ومما يذكر في ترجمة ومناقب الشيخ ابن عثيمين رحمه الله أنه مات أبوه في العصر، فدفنه وعاد إلى الدرس في المغرب، ولم يقل: أجلس لتقبل العزاء؛ لأن هذا الفعل غير شرعي.

فالتعزية تكون في أي مكان، وأما الاجتماع والسرادقات وقراءة القرآن فليس من السنة في شيء، وعندنا الآن وسائل حديثة للتعزية، مثل: التلغراف، وهذه وسيلة طيبة، فاكتب مثلاً: اصبر واحتسب، أخوك فلان! ويمكن التعزية أيضاً بالهاتف وبالإيميل على الكمبيوتر. وهناك وسائل متعددة والحمد لله. ولذلك يقول العلماء: العالم ضاق، فيمكنك الآن أن تشاهد البرازيل وأنت في هذا المكان، فالعالم ضاق نظراً لثورة الاتصالات الهائلة في مجال المعلومات.

فوسائل التعزية المتعددة عندنا الآن كثيرة، ولكنك تجد في العائلة من يعارضك كثيراً جداً، ويقولون لك: هل تريد أن يموت أبوك كالفقراء دون مأتم.

وقد حث النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يصنعوا طعاماً لآل جعفر، فقال عليه الصلاة والسلام: (اصنعوا لآل جعفر طعاماً). فنصنع لآل الميت طعاماً؛ لأنه نزل بهم أناس، واليوم أهل الميت يأتون بطباخ يصنع لهم الطعام، والمفروض العكس، فأهل الميت نزل بهم ما يشغلهم، فالمفروض أن نصنع نحن لهم طعاماً ونرسله إليهم، وهذه هي السنة، كما قال النبي صلى الله عليه وسلم، لكن الذي يحدث الآن هو العكس.

فنحن لا نحمل الشخص فوق طاقته، وإنما إن كان صاحب ولاية القرار في البيت فليقم السنة، ومع تكرار إقامتها سيتعلم السنة.

قال المصنف رحمه الله: [والبكاء عليه غير مكروه إذا لم يكن معه ندب ولا نياحة]، فالبكاء على الميت لا بأس به، وفي الحديث: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا على فراقك يا إبراهيم! لمحزونون)، و(إن الله لا يعذب بدمعة العين). وجمود العين من قسوة القلب فلا بأس بالبكاء، ولا يجوز النياحة، والنياحة أن تنادي على الميت بلفظة (يا) مثل قول الزوجة: يا زوجي! يا بعلي! يا كبيري! من لنا بعدك؟ وامصيبتاه! ونسمع في بعض الأحيان ألفاظاً كفرية وفي مآتم كثيرة جداً، ومن ذلك: أن رجلاً كان لا ينجب إلا إناثاً، فرزق بذكر واحد فمات، فقال: يا رب! مستكثر علي هذا الولد! فهو يحاسب ربه عز وجل، وهذا كفر يا عبد الله!

وقال آخر: يقول: يا رب! لم يكن هو، بل كنت أنا مكانه، والله إنه كذاب.

وفي جنازة في بور سعيد جاء ابن المتوفي يقول: أريد أن أدخل مع أبي، ولا بد أن أدخل معه، فقلت للحضور: دعوه يدخل، فرجع مباشرة.

لا يكون الأجر على الصبر إلا عند الصدمة الأولى، وأما النياحة ولطم الخدود وشق الجيوب والملابس والألفاظ الجاهلية التي انتشرت في زماننا فكلها من الأفعال المنهي عنها شرعاً، وقد دخل النبي صلى الله عليه وسلم على سعد بن عبادة فوجده في غاشية، فبكى وبكى معه أصحابه، فقال: (ألا تسمعون! إن الله لا يعذب بدمع العين، ولا بحزن القلب، ولكن يعذب بهذا، وأشار إلى لسانه). متفق عليه.

والنياحة: ذكر محاسن الميت على سبيل التسخط، وهذا لا يجوز أبداً، ولاسيما النساء، وقد جاءت الأحاديث الكثيرة في توعد المرأة النائحة إن لم تتب إلى الله عز وجل أنها تسربل سربالاً من نار يوم القيامة.

ولا يجوز الندب، والندب: تعداد محاسن الميت، والنياحة رفع الصوت بذلك، كأن يقال مثلاً: يا من كنت تأتي لنا بالطعام! يا من كنت تؤنس البيت! فهذه نياحة، ولا يجوز ذلك أبداً، وبعض النساء يتبعن الجنائز في القرى، ويرفعن أصواتهن، فعليهن التوبة والاستغفار والندم والعزم على عدم العودة، مع التصدق والصيام، وأنت إن وجدت هذا الفعل فانصح، وإن وجدت إصراراً فعد، وقد كان ابن عمر إذا رآهن في الخلف خالفهن وعاد، وليس معنى ذلك أن نهجر الجنائز، ولكن لا بد أن نعلم السنة، فهذه الأمور مهمة جداً.

وقوله صلى الله عليه وسلم: (إن الميت يعذب ببكاء أهله)، حديث صحيح، وقد اختلفت عائشة مع بعض الصحابة في معنى (إن الميت يعذب ببكاء أهله)، وهذا الكلام له معانٍ متعددة عند العلماء، فقال بعضهم: يعذب ببكاء أهله إن أقرهم على هذا الصنيع ولم يوص بعدم النياحة والندب، فإن فعلوا بهذه الأفعال عذب بها؛ لأنه لم يوص بتركها، فإن أوصى فهو بريء من فعلهم.

وابن تيمية يقول: إن معنى إن الميت يعذب ببكاء أهله: أنه كالنائم الذي يعذب بصوت الحي، ومعنى العذاب: التأذي، وليس عذاباً فعلياً، بل إذا كان رجل نائماً وآخر يرفع صوته فوق رأسه فإنه يتأذى بذلك.

قال المصنف رحمه الله: [ولا يجوز الندب ولا النياحة، لأن قوله صلى الله عليه وسلم في حديث ابن مسعود : (ليس منا من ضرب الخدود، وشق الجيوب، ودعا بدعوى الجاهلية) ]

وليس معنى قوله: (ليس منا) أنه كافر، ليس منا، بل ليس على طريقتنا وهدينا وسنتنا، وليس المقصود أنه كافر كما يعتقد البعض، والبعض يفهم النصوص على فهمه الخاص، وإساءة الفهم تجلب لنا مصائب.

فإذا صاحت امرأة وندبت فلا نقل لها: أنت كافرة ولست منا، فهذا ليس صحيحاً تماماً، وإنما نقول لها: أنت لست على السنة والطريقة والهدي، وأنت مخالفة وقد ارتكبت كبيرة.

وقال المصنف رحمه الله: [ وقال أحمد في قوله سبحانه: وَلا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ [الممتحنة:12]، هو النوح، فسماه معصية ].

قال المصنف رحمه الله: [ولا بأس بزيارة القبور للرجال؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكركم الآخرة) ]. فزيارة القبور مشروعة للرجال بدون أدنى شك، وأما النساء ففيها خلاف، ومن العلماء من منعها، ومن جوزها اشترط لها شروطاً كثيرة، منها:

أولاً: أن تخرج المرأة غير متعطرة.

ثانياً: أن تخرج بملابسها الشرعية.

ثالثاً: ألا تأتي بفعل من أفعال الجاهلية.

رابعاً: ألا تخالط الرجال.

خامساً: ألا تكثر من الزيارة.

سادساً: أن تخرج للعظة والعبرة.

والأدلة على ذلك لا حصر لها، ومنها:

أولاً: أن عائشة رضي الله عنها لما سألت النبي صلى الله عليه وسلم: ماذا أقول عندما أدخل المقبرة؟ قال لها: قولي: (السلام عليكم..) ولم يقل لها: يا عائشة ! لا تزوي القبور، وهذا غير مشروع لك، وإنما أقرها على السؤال وعلمها الدعاء.

ثانياً: أن النبي صلى الله عليه وسلم لما رأى امرأة عند القبر صبرها فقالت: إليك عني؛ فإنك لم تصب بمصيبتي، ولم تكن تعرفه، فلما أخبرت المرأة أن ذلك هو النبي صلى الله عليه وسلم قالت: فذهبت إلى داره فلم أجد على باب بيته بوابين، فدخلت مباشرة على النبي صلى الله عليه وسلم واعتذرت وتأسفت، فقال لها النبي صلى الله عليه وسلم: (إنما الصبر عن الصدمة الأولى). ولم ينهها أو يقل لها: هذا المقام ليس مقامك، وإنما أقرها على زيارتها، وعلمها الصبر عندها.

ثالثاً: قوله صلى الله عليه وسلم: (ألا إني كنت قد نهيتكم عن زيارة القبور، ألا فزوروها) نص عام، ومن أراد أن يخصصه بالرجال فليأت بمخصص، فإن قال قائل: حديث: (لعن الله زوارات القبور)، قلنا: الحديث ضعيف، وإن صح الحديث فكلمة: (زوارات) يعني: مكثرات الزيارة. وبدع النساء في زيارة القبور كثيرة، فقد تذهب في يوم العيد، وتأخذ معها ما لذ وطاب من الطعام، وتأتي بقارئ يقرأ عند القبر، وقد تأتي بمن لا يعرف القراءة، وتجد بعض هؤلاء يلبس زي المقرئ ويجلس يتحدث بأي كلام والمرأة لا تعرف ما يقول.

وهذه كلها بدع ما أنزل الله بها من سلطان، والأصل أن تدعو وتستغفر للميت وتقول: السلام عليكم دار قوم مؤمنين، أنتم السابقون وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله لنا ولكم العافية، اللهم اغفر لهم وارحمهم، اللهم تجاوز عن سيئاتهم، اللهم اغفر لهم وارحمهم، وتدعو للميت بما شاءت، وقراءة القرآن على القبور ليس لها أصل من السنة مطلقاً من قريب أو بعيد.

الحكمة من زيارة القبور

القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها قراءة القرآن وذكر الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يزور مقبرة البقيع ويسلم على أهلها، ويزور شهداء أحد، فلا بد أن تجعل لنفسك يوماً في الشهر أو في الأسبوع لزيارة القبور؛ حتى ترقق القلب، ولاسيما في هذا الزمن، زمن الماديات والجفاء، والانشغال الشديد، والتكالب على الحياة، حتى أنك لو أخبرت بعضهم أن فلاناً مريض قال: شفاه الله! لا أجد وقتاً لزيارته.

ولو قيل له: أخوك فلان مات قال: البقاء لله، الحمد لله، لكن لا أجد وقتاً للعزاء، عندي مشاغل وارتباطات. فالانشغال بالدنيا في هذه الأيام أصبح خطيراً جداً.

وقد رأيت في بور سعيد أنهم لا يحملون الجنازة على أكتافهم، وإنما على سيارة، والسيارة تسير في طريق والمشيعون في طريق آخر، واللقاء عند القبور، وهذا موجود وليس معنى هذا أننا نقدح في أهل بور سعيد، ولكن هذا ليس من السنة، فلا بد أن نعلم الناس أن يصلوا على الجنازة ثم يتبعوها، وأما أن تسير الجنازة في طريق، والمشيعون في طريق، وأهل الميت في طريق، ثم يسرعون في الدفن فهذا أمر خطير، والبعض إذا وصل إلى المقبرة عزى أهل الميت ثم ينصرف وسواء دفنوا ميتهم أم لم يدفنوه، فلا وقت لديه للانتظار، ولو كان الأمر بيده لألقاه ثم عاد مسرعاً.

وأما مسألة الركوب فيجوز إذا كانت الجنازة بعيدة.

القلوب تصدأ كما يصدأ الحديد، وجلاؤها قراءة القرآن وذكر الموت، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يزور مقبرة البقيع ويسلم على أهلها، ويزور شهداء أحد، فلا بد أن تجعل لنفسك يوماً في الشهر أو في الأسبوع لزيارة القبور؛ حتى ترقق القلب، ولاسيما في هذا الزمن، زمن الماديات والجفاء، والانشغال الشديد، والتكالب على الحياة، حتى أنك لو أخبرت بعضهم أن فلاناً مريض قال: شفاه الله! لا أجد وقتاً لزيارته.

ولو قيل له: أخوك فلان مات قال: البقاء لله، الحمد لله، لكن لا أجد وقتاً للعزاء، عندي مشاغل وارتباطات. فالانشغال بالدنيا في هذه الأيام أصبح خطيراً جداً.

وقد رأيت في بور سعيد أنهم لا يحملون الجنازة على أكتافهم، وإنما على سيارة، والسيارة تسير في طريق والمشيعون في طريق آخر، واللقاء عند القبور، وهذا موجود وليس معنى هذا أننا نقدح في أهل بور سعيد، ولكن هذا ليس من السنة، فلا بد أن نعلم الناس أن يصلوا على الجنازة ثم يتبعوها، وأما أن تسير الجنازة في طريق، والمشيعون في طريق، وأهل الميت في طريق، ثم يسرعون في الدفن فهذا أمر خطير، والبعض إذا وصل إلى المقبرة عزى أهل الميت ثم ينصرف وسواء دفنوا ميتهم أم لم يدفنوه، فلا وقت لديه للانتظار، ولو كان الأمر بيده لألقاه ثم عاد مسرعاً.

وأما مسألة الركوب فيجوز إذا كانت الجنازة بعيدة.

وبعض الناس عندهم عادات جاهلية، فالأصل أن يدفن الميت في أقرب مقبرة من المكان الذي مات فيه، وبعض الناس ينقله إلى محل سكنه ويتعدى به إلى خامس أو سادس مقبرة، والسبب أنها مقبرة العائلة.

فنقل الميت من المكان الذي مات فيه مكروه إلا لضرورة شرعية؛ لأن الله سبحانه جعل الأرض كفاتاً لسائر المسلمين، فاحفر ثم ضعه في أي قبر.

وفي زماننا أصبحت المقابر تحجز، وأصبحت بعض المقابر مضاءة ومزينة، نسأل الله العافية، حتى ضاقت المقابر في القرى.

والمفروض أن يخصص مكان للأموات، ويسور عليه، ثم إن امتلأ خصص مكان آخر لها، وهكذا.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ويقول إذا مرَّ بها أو زارها ما رواه مسلم : (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يعلمهم إذا خرجوا إلى المقابر أن يقول قائلهم: السلام عليكم أهل الديار من المؤمنين والمسلمين، وإنا إن شاء الله بكم لاحقون، نسأل الله العظيم لنا ولكم العافية)].

ومن الدروس المستفادة من هذا الدعاء:

أولاً: ينبغي أن يكون الدعاء لنفسك، كما في قوله: (نسأل الله لنا ولكم). فحينما تدعو فادع أولاً لنفسك.

ثانياً: قوله: (السلام عليكم)، فيه دليل على أن الميت يسمع.

والذين قالوا بعدم سماع الموتى قد يقصدون بالسماع غير ما نقصد؛ لأن السماع في القرآن الكريم ينقسم إلى ثلاثة أقسام:

- سمع بمعنى استماع الصوت، كما في قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1]. فمعنى سمع هنا: سمع صوتها.

- وسمع بمعنى الإجابة، مثل قول المصلي بعد الاعتدال من الركوع: سمع الله لمن حمده، أي: استجاب الله لمن حمده، وكقول الكفار كما في سورة الملك: وَقَالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ مَا كُنَّا فِي أَصْحَابِ السَّعِيرِ [الملك:10]، والكفار الآن يسمعون عبر الأقمار الصناعية، وإنما نفوا عن أنفسهم سماع الإجابة، فهم سمعوا ولكن ما استجابوا، فكأنهم لم يسمعوا.

- وسمع بمعنى الفهم، كقوله تعالى في سورة البقرة: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعَاءً وَنِدَاءً [البقرة:171]. فالله يضرب مثلاً للكافر الذي لم يستجب لأمر الله بأن حاله كحال الحمار، فالحمار حينما تقول له أي كلمة فإنه لا يفهم الكلام، بل يدرك الصوت فقط، ولا يدرك المقصود من ذلك، ولا يقدر على ترجمة الكلام.

فهو يسمع الصوت ولكن لا يفهم معناه، فربما سمع الإنسان الصوت، وربما استجاب له، ولكنه لم يفهم.

وكمثل لو خاطبك رجل باللغة الألمانية وأنت لا تعرف اللغة الألمانية فإنك تدرك الصوت وتسمعه، ولكنك لا تفهم ما يقول.

فقد يكون مقصود من قال بعدم سماع الميت: أن السمع المنفي عنه سمع الإجابة وليس سمع الإدراك؛ لأن الميت يسمع قرع نعال أصحابه بعد انصرافهم من دفنه، وهذا في البخاري . وبعض العلماء قال: لا يسمع إلا أصوات النعال فقط. ولكن مقصود الحديث الإشارة إلى أنه يسمع، ويدرك الصوت.

وفي قوله: (السلام عليكم) الكاف هنا للخطاب، ولو كان الميت لا يسمع لكان من الأولى أن نقول لهم: السلام عليهم؛ لأنهم غائبون عنا ولا يدركون، فقول: (السلام عليكم) فيه إلقاء السلام على المخاطب، فالميت يسمع الصوت، ولكنه لا يملك الإجابة.

وقال تعالى: وَمَا أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ [فاطر:22]. معنى هذه الآية: أن حال الكفار حينما سمعوا دعوتك يا محمد ولم يستجيبوا لك كحال الأموات حينما يسمعون من يناديهم ولا يستجيبون. فالموتى يسمعون ويدركون الصوت.

وأما القول بأن الموتى لا يسمعون ففيه تحجر ومراد قائله أن يسدوا ذريعة الذين يطوفون حول القبور وينادون أصحابها، فقالوا: الموتى لا يسمعون.

فالأدلة على سماعهم واضحة، ونحن نقول بسماعهم، ولكنهم لا يملكون شيئاً لأنفسهم.

ولما جمع النبي عليه الصلاة والسلام أهل بدر من المشركين في القليب نادى عليهم: (يا شيبة بن ربيعة ! يا عتبة بن ربيعة ! يا أبا جهل ! هل وجدتم ما وعدكم ربكم حقاً؟ فإني وجدت ما وعدني ربي حقاً. فقال عمر : يا رسول الله! أتنادي على أجساد قد أرمت؟! قال: والله يا عمر ! ما أنتم بأسمع لما أقول منهم، غير أنهم لا يستجيبون). فأثبت لهم سماع الصوت، ونفى عنهم الإجابة.

وهناك من العلماء من يقول بخصوص هذه القصة، ونحن نقول: الأصل العموم. وفي قوله: السلام عليكم، الكاف هنا للخطاب، والمخاطبون هم الموتى. وحينما آمرك أن تلقي السلام على من لا يسمع فهذا عبث، وإنما أقول لك: قل: السلام عليهم؛ باعتبار أنهم غائبون عنك. والحديث في البخاري : (الميت يسمع قرع نعال أصحابه إذا انصرفوا). ولشيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله في هذا كلام قال فيه بسماع الموتى.

نسأل الله العظيم لنا ولكم العافية.

قال المصنف رحمه الله: [ وأي قربة فعلها وجعل ثوابها للميت المسلم نفعه ذلك، قال تعالى: وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ [الحشر:10]. وقال تعالى: وَاسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَلِلْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ [محمد:19].

وروى أبو داود أن رجلاً قال للرسول صلى الله عليه وسلم: (إن أمي توفيت، أفينفعها إن قضيت عنها؟ قال: نعم).وقال عليه الصلاة والسلام للمرأة التي قالت: (يا رسول الله! إن فريضة الله في الحج قد أدركت أبي شيخاً كبيراً لا يستطيع أن يثبت على الراحلة، أفأحج عنه؟ قال: أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء).

وأما قراءة القرآن وإهداء ثوابه للميت فالإجماع واقع على فعله من غير نكير ].

أي: المذهب على أن قراءة القرآن يصل ثوابها للميت من وليه أو من أحد الصالحين، لكن لا يعني ذلك القراءة على القبر، بل المقصود بذلك القربات التي تصل إلى الأموات، وهذا الأمر مهم جداً. وهذا الكلام في المذهب الحنبلي من كتاب ابن قدامة المقدسي ، ولو أن هذه المسألة قد تواجه بالرفض من كثير من إخواننا؛ لأن المعتاد عندنا القول بأن قراءة القرآن لا تصل، ولا يفهم من كلام المصنف أن يستأجر قارئاً، أو أن يقرأ على القبور، فهاتان المسألتان لا تجوزان. ولكن يقرأ الإنسان بنفسه، ثم يهدي ثواب ما قرأ لأخيه المتوفى. فقراءة القرآن كسائر الأعمال، وكما أنه يعذب على الأشياء السيئة، فكذلك يؤجر على الأعمال الصالحة، وممن رجح هذا صاحب المغني، ومن العلماء من رأى أن هذا توسع في القياس؛ لأن ما يصل إلى الميت لا بد أن يكون عليه دليل، والحج جاء فيه.

والنص الصريح، (أرأيت لو كان على أبيك دين أكنت قاضيته؟ قالت: نعم، قال: فدين الله أحق بالقضاء). لكن بشرط أن يكون من يحج عنه قد حج عن نفسه.

والمفروض أنه إذا مات الميت ولم يحج أن يقتطع من أصول تركته مبلغاً من المال ليحج أحد الورثة عنه؛ لأن هذا دين على التركة، والآن توزع التركة دون أن ينظر هل حج أو لم يحج، والأصل أنه ما دام أنه لم يحج فلا بد أن يحج عنه أحد الورثة.

وإن لم يكن هناك ولي قادر على الحج فيستأجر أحد الناس الذين قد حجوا من غير الأولياء؛ ليحج عنه؛ لأن الرسول صلى الله عليه وسلم سمع رجلاً يقول: لبيك عن شبرمة فقال: من شبرمة ؟ قال: رجل أحج عنه يا رسول الله! فقال: أحججت عن نفسك؟ قال: لا، قال: حج عن نفسك ثم حج عن شبرمة .

فالحج عن الميت يجوز، والصيام عن الميت فيه خلاف، وأما صيام النذر فلا خلاف فيه؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (من مات وعليه صوم نذر صام عنه وليه) وأما صيام رمضان فأرجح الأقوال أن تطعم عن كل يوم مسكيناً إن مات وقد أفطر أياماً منه. هذا هو الوارد. وأعمال الصدقة الجارية كماء السبيل أو المصحف كل هذا يصل إلى الميت، وأما قراءة القرآن فالخلاف فيه شديد، والبحث مطلوب فيه.