العدة شرح العمدة [56]


الحلقة مفرغة

قال المصنف رحمه الله: [ باب الربا.

وهو في اللغة: الزيادة، قال الله سبحانه وتعالى: فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ [الحج:5]. وقال سبحانه وتعالى: أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبَى مِنْ أُمَّةٍ [النحل:92]، أي: أكثر عدداً.

ويقال: أربى فلان على فلان إذا زاد عليه.

وهو في الشرع: الزيادة في أشياء مخصوصة ].

فليس كل زيادة ربا، وليس كل ربا زيادة، فلو بعتك سيارة بسيارتين فليس هذا ربا، رغم أنه زيادة، ولمعرفة ما يجري فيه الربا لابد أن نحدد صنف السلعة، وهل هي مكيل أو موزون أو مطعوم، والخلاف بين العلماء في باب الربا كان لتحديد العلة.

قال المصنف رحمه الله: [ وقال صلى الله عليه وسلم: (اجتنبوا السبع الموبقات: الشرك بالله، والسحر، وقتل النفس التي حرم الله إلا بالحق، وأكل الربا، وأكل مال اليتيم، والتولي يوم الزحف، وقذف المحصنات الغافلات المؤمنات). وقال صلى الله عليه وسلم: (لعن الله آكل الربا وموكله وشاهديه وكاتبه). متفق عليه ].

فهم فيه سواء آكل الربا، وكاتب عقده، وشاهديه، وموكله.

قال المصنف رحمه الله: [ وأجمعت الأمة على أن الربا محرم ].

فالربا محرم بالقرآن والسنة والإجماع.

قال المصنف رحمه الله: [ والأعيان المنصوص على الربا فيها ستة، وهي في حديث عبادة بن الصامت قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والتمر بالتمر، والملح بالملح، مثلاً بمثل، سواء بسواء، فإذا اختلفت هذه الأصناف فبيعوا كيف شئتم إذا كان يداً بيد، فمن زاد أو استزاد فقد أربى) ].

فالنبي عليه الصلاة والسلام يبين في هذا الحديث نوعاً من الربا، وهو ربا الفضل، وقد قسم العلماء الربا إلى قسمين: ربا الفضل وربا النسيئة، وكان ربا الجاهلية في النسيئة، فقد كانوا يقرضون المال ويقولون للمقترض: موعد السداد في يوم كذا، فإن تأخرت عن الموعد المحدد فكل يوم تتأخر فيه عليك زيادة، أي: أنه ينظرك مقابل الزيادة، وكلما مر يوم تحمل فيه زيادة. هذا هو ربا النسيئة، وهو ربا واضح بيّن.

الظاهرية كـابن حزم ومن معه، وبعض علماء السلف تمسكوا بهذا النص، فقالوا: إن الربا في الأنواع المذكورة في الحديث فقط.

وهذا القول رده جمهور العلماء، وهو يخالف روح الشريعة؛ لأن الشريعة لا تغاير بين متماثلين ولا تجمع بين متناقضين، وهذه قاعدة مهمة جداً، قال تعالى: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الأَعْمَى وَالْبَصِيرُ [الأنعام:50]. فالأعمى والبصير متناقضان، ولا تفرق بين متماثلين، فإذا كان هذا مثل هذا فلا بد أن يكون له حكمه؛ لأنهما سواء.

وعلى هذا فالذهب والفضة لهما علة في التحريم، والأربعة الباقية لها علة.

فأما علة تحريم الذهب والفضة فقال الأحناف والحنابلة: الوزن، وقال غيرهم: الثمنية، وأما العلة في الأصناف الأخرى فقال بعضهم: إنها مكيلة، وقال بعضهم: إنها مطعومة. ولو حققنا موضع العلة لعرفنا الخلاف.

فلو أن رجلاً باع طناً من الحديد بطنين من الحديد فإنا قلنا: الحديد موزون، فلو أن العلة في تحريم الذهب والفضة هي الوزن، لقلنا: هذا التعامل ربوي، لأن العلة هي الوزن.

ولو أن رجلاً باع كتاباً بكتابين لكان جائزاً؛ لأن هذا التعامل ليس مطعوماً ولا مأكولاً ولا موزوناً.

والراجح: أن العلة في الذهب والفضة الثمنية، وقول الأحناف والحنابلة بأن العلة هي الوزن قول ضعيف ومرجوح، وعلى هذا فلو أنني استبدلت طناً من النحاس بطنين منه فهذا عند الحنابلة والأحناف ربا، والراجح أنه ليس بربا؛ لأن العلة في الذهب والفضة هي الثمنية، وقيمتها في كونها لها قيمة ثمنية، ومعنى ذلك أن هذه النقود فيها ربا؛ لأن لها قيمة، فلو أننا اليوم تعارفنا على شراء السلع بالحديد لدخله الربا؛ لأن العلة في الذهب والفضة الثمنية، فأي سلعة لها ثمنية التعامل جرى فيها الربا، ولذلك يجري الربا في الأوراق النقدية والعملة الفضية؛ لأن الثمنية هي علة التحريم في الذهب والفضة.

وأما علة التحريم في الأصناف الأربعة الأخرى فقال بعضهم: الكيل، وقال بعضهم: الطعم، والراجح ما حققه ابن تيمية من كونها مطعومة ومكيلة، فلو أني أعطيتك برتقالة فأعطيتني برتقالتين فهذا ليس بربا؛ لأن البرتقال مطعوم ولكنه غير مكيل، ونحن نشترط في التعامل الربوي أن يكون مطعوماً ومكيلاً.

فلو أعطيتك إردباً من القمح، وأخذت منك إردبين فهذا ربا؛ لأنه مكيل ومطعوم.

ولو أعطيتك كيلوين من التمر وأخذت منك كيلو واحد رطباً فهذا ربا؛ لأنه مكيل ومطعوم.

وكذلك لو أعطيتك كيلوين ذرة وأخذت منك كيلو واحد.

وأما لو أعطيتك بطيخة ببطيختين فهذا مطعوم وليس مكيلاً، فليس فيه ربا.

ولو كان معك كيلو أرز من الدرجة الأولى وأردت استبداله بكيلوين من الدرجة الثانية فهذا عين الربا؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (البر بالبر، والقمح بالقمح، والشعير بالشعير). والأرز من هذا الجنس، فهو مطعوم ومكيل، وقد أتى بلال بتمر من خيبر فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (يا بلال ! أوكل تمر خيبر هكذا؟ قال: يا رسول الله! هذا تمر طيب نستبدله بتمر رديء قال: هو عين الربا يا بلال !).

واليوم إذا أرادت المرأة أن تستبدل الذهب القديم بذهب جديد فإنها تدفع الفارق بينهما وهذا ربا، فلا بد أن تبيع القديم أولاً وتحصل على ثمنه، ثم تشتري منه أو من غيره؛ لأنه لا يجوز في الذهب والفضة إلا بالمثل.

ومن قواعد الربا: القاعدة الأولى: إن اتحدت الأجناس وكانت ربوية فلا بد فيها من شرطين:

1- التقابض في مجلس العقد.

2- المماثلة.

القاعدة الثانية: إذا اتحدت الأجناس وكانت غير ربوية، فلا يشترط التقابض ولا المماثلة.

القاعدة الثالثة: إذا بيع جنس ربوي بجنس آخر غير ربوي، فلا يشترط التقابض في مجلس العقد، ولا تشترط المماثلة، فالمماثلة لا تشترط إلا إذا كانت الأجناس متحدة.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز بيع مطعوم مكيل أو موزون بجنسه إلا مثلاً بمثل؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم: (نهى عن بيع الطعام بالطعام إلا مثلاً بمثل). رواه مسلم من حديث معمر بن عبد الله ، والمماثلة المعتبرة في الشرع هي المماثلة في الكيل والوزن، فدل على أنه لا يحرم إلا في مطعوم يكال أو يوزن، ولا يحرم فيما لا يُطعم كالأشنان والحديد، ولا فيما لا يكال كالبطيخ والرمان، وهي إحدى الروايات ].

ومن ثراء مذهب الإمام أحمد رحمه الله تعدد الروايات، فله أكثر من رواية في تحديد العلة، والرواية الثالثة هي: أن العلة في تحريم الذهب والفضة هي الثمنية، وفي تحريم الأصناف الأربعة الكيل وكونها مطعومة.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز بيع مكيل من ذلك بجنسه وزناً، ولا موزون كيلاً ].

ومعنى ذلك: أن المكيل لا بد أن يقابله مكيلاً، والموزون لا بد أن يقابله موزوناً فلا آخذ مثلاً مقابل الصبرة من البر 20 كيلو جراماً من بر؛ لأن هذه مكيلة وهذا موزون، ولا بد من معادلة الكيل بالكيل.

ولو أعطيتك كيلة من التمر فلا يجوز أن تعطيني بدلاً منها 20 كيلو جراماً من التمر؛ لأن هذا موزون مقابل مكيل، وهذا لا يجوز في الأوصاف الربوية، فلا بد أن يقابل المكيل مكيلاً، والموزون موزوناً، وأما المكيل بالموزون فلا يجوز.

قال المصنف رحمه الله: [ وقد سبق أن قضية البيع المساواة، والمساواة المرعية في الشرع هي المساواة في المكيل كيلاً، وفي الموزون وزناً، فإذا تحققت المساواة في ذلك لم يضر اختلافها فيما سواه ].

فلو أعطيتني 20 كيلو جراماً تمراً مقابل 20 كيلو تمراً جيداً فلا يضر، فالمهم التماثل في الميزان، وألا يكون هذا مكيلاً وهذا موزوناً.

قال المصنف رحمه الله: [ وإن لم توجد المساواة في ذلك لم يصح البيع؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب وزناً بوزن، والبر بالبر كيلاً بكيل). (البر بالبر مداً بمد، والشعير بالشعير مداً بمد) ]، أي: اتحاد وحدة القياس، ولو أعطيتني بالوزن وأعطيتك بالكيل لاختلفت الأوزان، فلا بد من المساواة في الوزن.

قال المصنف رحمه الله: [ (فمن زاد أو اسزاد فقد أربى). فأمر بالمساواة في الموزونات المذكورة في الوزن، وأمر بالمساواة في المكيلات في الكيل، ولأن حقيقة الفضل مبطلة للبيع، والمساواة مشترطة، فيجب العلم بوجود الشرط، فلا يجوز بيع المكيل بالمكيل وزناً؛ لأن تماثلهما في الكيل شرط ].

قال المصنف رحمه الله: [ وإن اختلف الجنسان جاز بيعه كيف شاء يداً بيد ]، أي: أنه إذا اختلف الجنسان كقمح بتمر، أو قمح بملح.

فلا بد هنا من شرط واحد وهو التقابض في مجلس العقد، ولا تشترط المماثلة إذا اختلفت الأجناس.

قال المصنف رحمه الله: [ ولم يجز النسأ فيه لذلك ] أي: التأخير، فالمقابضة ليست شرطاً؛ لأنها اختلفت الأجناس.

قال المصنف رحمه الله: [ وفي لفظ أبي داود : (لا بأس ببيع الذهب بالفضة والفضة أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا) ].

فلو أن معي 20 جراماً من الذهب لجاز أن أشتري بها 100 جرام من الفضة بشرط التقابض في مجلس العقد، ولا يشترط التماثل؛ لأن كلا الصنفين ربوي -الذهب والفضة-.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا بأس ببيع البر بالشعير والشعير أكثرهما يداً بيد، وأما نسيئة فلا ].

فلو أني أعطيتك كيلة من الشعير مقابل كيلتين من البر شريطة أن تعطيني إياهما بعد أسبوع فهذا ربا؛ لأنه لا بد من التقابض في مجلس العقد، وإن اختلف الجنسان فيجوز لانتفاء المماثلة ولكن لا بد من التقابض في مجلس العقد، فالنسيئة تعني التأخير، وهذا هو الذي أراده المصنف.

قال المصنف رحمه الله: [ فما اتحدت علة ربا الفضل فيهما كالمكيل بالمكيل والموزون بالموزون عند من يعلل بهما، والمطعوم عند من يعلل به فهذا لا خلاف بين أهل العلم في تحريم النسأ فيه ]، أي: لا اختلاف بين أهل العلم في أن الأجناس إذا اختلفت تجوز الزيادة، ولكن بشرط التقابض في مجلس العقد.

قال المصنف رحمه الله: [ وما اختلفت علتاهما كالمكيل بالموزون ففيه روايتان عن أحمد .

إحداهما: لا يجوز النسأ فيه بالقياس على ما اتفقت علتهما ].

أي: لأن هذا صنف ربوي مكيل وهذا موزون، كالبرتقال بالقمح، فالبرتقال موزون والقمح مكيل، والقمح ربوي والبرتقال ليس ربوياً عند من قال: إن العلة هي المطعوم والمكيل، وأما من قال: العلة الطعم صار فيه الربا.

قال المصنف رحمه الله: [ ولا يجوز النسأ فيه ولا التفرق قبل القبض؛ لقوله صلى الله عليه وسلم: (يداً بيد). فيحتمل أنه أراد به القبض، وعبّر باليد عن القبض ].

والقبض بمعنى: التقابض في مجلس العقد، وهذا هو الشرط، والقبض يغني عن الحلول كما قال بعض العلماء.

وهذا الباب مهم جداً، فأعيد ما قلت في اختصار شديد.

الربا: لغة: هو الزيادة، واصطلاحاً: هو الزيادة في أشياء مخصوصة.

وهو من الكبائر بالكتاب والسنة والإجماع، وينقسم إلى قسمين: ربا الفضل وربا النسيئة.

أما ربا الفضل فقد جاء في حديث عبادة بن الصامت قال صلى الله عليه وسلم: (الذهب بالذهب، والفضة بالفضة، والبر بالبر، والشعير بالشعير، والملح بالملح، والتمر بالتمر، فمن زاد أو استزاد فقد أربى).

وفي الحديث الآخر: (يداً بيد ومثلاً بمثل). وهذا الحديث هو العمدة في كتاب الربا.

والعلة في تحريم الذهب والفضة الثمنية، والعلة في تحريم الأصناف الأربعة أنها مكيلة ومطعومة، فكل مطعوم متى تحقق فيه هذا الشرط فهو ربا.

وعلى هذا اشترط العلماء للسلع الربوية شرطان، وهما: التقابض والمماثلة.التقابض: بمعنى يداً بيد، والمماثلة: مثلاً بمثل، وحتى الرديء بالجيد لا بد من المماثلة فيهما.

نكتفي بهذا القدر، وجزاكم الله خيراً، وبارك الله فيكم.

والسلام عليكم ورحمة الله.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
العدة شرح العمدة [13] 2694 استماع
العدة شرح العمدة [68] 2618 استماع
العدة شرح العمدة [26] 2594 استماع
العدة شرح العمدة [3] 2517 استماع
العدة شرح العمدة [1] 2473 استماع
العدة شرح العمدة [62] 2373 استماع
العدة شرح العمدة [19] 2335 استماع
العدة شرح العمدة [11] 2331 استماع
العدة شرح العمدة [15] 2235 استماع
العدة شرح العمدة [8] 2164 استماع