العدة شرح العمدة [19]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قيماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! لا زلنا مع كتاب الصلاة من كتاب العدة شرح العمدة للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى.

الحقيقة أن الإمام ابن حنبل ظلم بيننا الآن، وأنا في الطريق قال لي أحد الإخوة: إن بعض الناس يعيرونني ويقولون لي: يا حنبلي! ولفظة حنبلي عندنا يفهم منها أنه متشدد، أو متنطع، وهذا من صنع المستشرقين، وهو طعم شربناه وأكلناه؛ لأننا مستهدفون.

حدث ولا حرج عن العلمانية، وعن الاستشراق، وعمن صنع عند الغرب ورضع من عصارته: طه حسين ، رفاعة الطهطاوي ، قاسم أمين ، علي مبارك ، أحمد عبد المعطي حجازي ، لويس عوض ، محمد سعيد عشماوي ، وإذا ظللت أذكر هذه الأسماء ستنتهي المحاضرة وأنا لم أنته بعد من سردها.

أسماء ترتبت ورضعت ولها أذناب: نصر أبو زيد ، سيد القمي ، وما أدراك؟ هؤلاء الذين أرادوا أن يكون لهم ذكر؛ فطعنوا في الشريعة، حتى قال قائلهم -وهذا قاسم مشترك عندهم جميعاً-: إن القرآن كتاب يخضع للزمان والمكان والتقييم البشري. يعني: كتاب أدب، يمكن أن نرفض منه أو نقبل على حسب الأحوال الزمانية والمكانية، لا يوجد عندهم شيء اسمه ثوابت، إنما كل العقيدة والشريعة متغيرات على حسب الزمان والمكان.

لذلك إخوتي الكرام! أقول: من هذه الأقوال الظالمة: ذم المذهب الحنبلي، إن ابن حنبل إمام أهل السنة، ومذهبه آخر المذاهب رحمه الله تعالى، وأكثرها إحاطة بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ ولذلك قال عنه الشافعي : تركت في بغداد -يوم أن جاء إلى مصر- شاباً إذا قال: حدثنا؛ استمع الناس له، كاد يكون إماماً في بطن أمه.

ابن حنبل إمام أهل السنة قال عنه علي بن المديني شيخ البخاري : لقد حفظ الله الإسلام برجلين: بـأبي بكر رضي الله عنه يوم الردة، وبـأحمد يوم المحنة رحمه الله تعالى.

لكننا الآن إذا أردنا أن نعير شخصاً نقول له: أنت حنبلي، ولماذا تدرسون في العزيز بالله الفقه الحنبلي يا حنابلة؟! شرف لنا أن نكون من أتباع مذهب أحمد ، ولسنا ندعو إلى المذهبية أبداً ولا إلى التعصب لمذهب، لكن مذهب أحمد أكثر المذاهب إحاطة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، علاوة على أن للإمام أكثر من رواية، وهذا يدل على ثراء المذهب، فما من رواية إلا يقابلها رأي في المذهب الآخر.

فمن الظلم التعسفي وملامح الغربة في بلادنا هذه: أن يكون لقب الحنبلي دليل اتهام، وإنما لفظ الحنبلي دليل شرف؛ لأنه يتبع السنة، وليس هذا قدحاً، فكلهم من رسول الله ملتمس، ونحن مع الدليل حيث دار.

أبو حنيفة رحمه الله أسس مذهبه على بضعة أحاديث، أدرك البعض ولم يصله البعض، وكلما كان الإنسان متقدماً كان أقل في الإحاطة، فـابن حنبل رحمه الله تعالى أكثر إحاطة بسنة النبي صلى الله عليه وسلم، ورغم ذلك إذا كان المذهب مرجوحاً نقول: هذا مرجوح، والدليل ليس معه؛ لأننا كما قلنا: نمقت التعصب المذهبي، والدين بالدليل، والعلم قال الله قال رسوله.

تعلمون أن محنة الإمام كانت في مسألة خلق القرآن في زمن الخليفة المأمون في بغداد في العصر العباسي، يوم أن أقنع المعتزلة المأمون بفكر الاعتزال، وهو أن القرآن مخلوق، ومن قال: إن القرآن مخلوق فهو زنديق؛ لأن القرآن كلام الله، وكلام الله صفة من صفاته، ومعنى أنه مخلوق: أن الصفة لم تكن موجودة ثم وجدت، أي: أن الله كان لا يتكلم ثم تكلم.

ثم ما من أمر مخلوق إلا ومصيره إلى الفناء وحاشا لله عز وجل أن يفنى!

وكذلك كل أمر مخلوق ناقص؛ ولذا يشعر بالنقص، ولذلك أبى الإمام أن يقولها، وأرسل إليه الخليفة. قال: يا أحمد ! قلها، قال: لن أقولها؛ لأنه يعلم أن زلة العالِم زلة عالَم، فأرسل إليه المأمون وقد قرر أن يقتله: ائتوني بـابن حنبل ، وفي الطريق إليه قال: اللهم لا تجمع بيني وبين المأمون بعد اليوم في الدنيا أبداً، فجاءه الصارخ بصوت مرتفع: يا أحمد ! أبشر؛ فإن المأمون قد مات.

ثم أدخلوه السجن في عهد المعتصم وجلدوه، وأبى أن يقولها رحمه الله تعالى، فهو إمام أهل السنة بلا أدنى شك.

ولد في بغداد ودفن في بغداد. أسأل الله أن يحرر بغداد.

قال المؤلف رحمه الله تعالى: المريض من أهل الأعذار والرخص، وله كيفية خاصة للصلاة: وَمَا جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ [الحج:78].

قال المؤلف رحمه الله تعالى: [ باب: صلاة المريض.

والمريض إذا كان القيام يزيد في المرض صلى جالساً، فإن لم يطق فعلى جنبه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم لـعمران بن حصين : (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً، فإن لم تستطع فعلى جنبك) فإن شق عليه فعلى ظهره، فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ إيماءً، وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه.

وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها، فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين العشاءين في وقت إحداهما، فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها، ويعتبر استمرار العذر حتى يشرع في الثانية منهما، ولا يفرق بينهما إلا بقدر الوضوء، وإن أخر اعتبر استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية، وأن ينوي الجمع في وقت الأولى قبل أن يضيق عن فعلها، ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر، ويجوز في المطر بين العشاءين ]. انتهى!

هذا باب صلاة المريض، ثم صلاة المسافر، ثم صلاة الجمعة، ثم صلاة العيدين والخوف، وننتهي من كتاب الصلاة، ثم ننتقل إلى كتاب الجنائز، ثم إلى كتاب الزكاة، ثم إلى كتاب الصوم، ثم إلى كتاب الحج والعمرة إن شاء الله عز وجل.

بالنسبة لصلاة المريض إن كان عاجزاً عن القيام فهناك قاعدة مهمة جداً في الفقه، وهي: أن تحصل من الواجبات ما تستطيع، مثال ذلك: رجل لا يستطيع أن يسجد على الأرض لألم في ظهره، نقول له: قم واركع، وعند السجود أومئ برأسك فقط. حصل من الواجبات ما تستطيع، حصلت القيام وحصلت الركوع، وأنت عاجز عن السجود؛ فأومئ برأسك في السجود، لكن البعض الآن عاجز عن السجود فيجلس ويهدر أركاناً كثيرة، ونقول: حَصِّل من الواجبات ما تستطيع، وقد يكون مصاباً بجرح فيربط على مكان الجرح في حال غسل الجنابة، ويمسح عليه ويعمم الجسد بالماء إلا هذا الموضع؛ فيحَصِّل من الواجبات ما يستطيع.

قال في الشرح: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً). قلنا: القيام مع القدرة ركن من أركان الصلاة في الفرض، فإن صلى جالساً في الفرض مع قدرته بطلت الصلاة، وإني أرى الكثير يتحرك ويذهب إلى المخبز ويأتي بخبز ويذهب إلى عمله، فإذا جاءت الصلاة جلس وقال: أنا متعب.

طيب! يا عبد الله! أنت تتحرك بصفة طبيعية، إذاً: لا يجوز لك أن تجلس إلا إذا كنت عاجزاً عن القيام، فالجلوس مع القدرة يبطل الصلاة، بعكس النافلة.

قلت: (فإن لم تستطع فقاعداً)، والقعود هنا عكس القيام، والجلوس عكس الاتكاء؛ لأن الله قال: الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا [آل عمران:191].

وفي الحديث الآخر: (كان النبي صلى الله عليه وسلم متكئاً فجلس وقال: ألا وقول الزور)، فالجلوس يكون من اتكاء، والقعود يكون من قيام، فالتعبير الصحيح: (صل قائماً، فإن لم تستطع فقاعداً)، والبعض يقعد بالافتراش، والصواب أن يجلس متربعاً، ثم يومئ برأسه عند الركوع، ثم يسجد على الأرض إن استطاع، وإن لم يستطع يومئ.

قال: (فإن لم تستطع فعلى جنبك)، الأول: قائماً، والثاني: قاعداً، ثم على جنب، والجنب متجه إلى القبلة، يستقبل بوجهه القبلة وهو على جنبه، وأجمعوا على أن من لم يطق القيام فرض عليه أن يصلي قاعداً، فإذا شق عليه -يعني: الصلاة على جنبه- صلى على ظهره، ووجهه ورجلاه إلى القبلة؛ لأن ذلك أسهل عليه.

مثال ذلك: رجل يشق عليه أن يصلي على جنبه، يجعل القدمين إلى القبلة، ويستلقي على ظهره مستقبل القبلة، بحيث إذا اعتدل قام إلى القبلة، وهذه طريقة أخرى.

ولذلك قلت: هناك خلاف بالنسبة للقبر، هل الميت يوجه إلى القبلة هكذا، يعني: وجهه إلى القبلة، أم ينام بحيث تكون رجلاه إلى القبلة وهو على ظهره، بحيث لو قام كالنائم تماماً، الحالتان هنا ثابتتان.

قال: (فإن عجز عن الركوع والسجود أومأ بهما)، يعني: وإيماء الركوع يكون أعلى من إيماء السجود؛ اعتباراً بأصلهما.

قال: (وعليه قضاء ما فاته من الصلوات في إغمائه) كالنائم، ثم يقضي ما فاته من صلوات، بمعنى: رجل يغيب عن الوعي مدة طويلة، فغاب عن الوعي من الظهر إلى العشاء، ثم فاق بعد العشاء، فإنه يصلي ما فاته بالترتيب؛ لأنه مكلف منذ لحظة رجوع العقل، وإذا غاب العقل سقط التكليف؛ لذلك هناك خلاف بين العلماء في حكم صلاة السكران، رجل شرب الخمر بإرادته، وأخذت بعقله؛ فقال لزوجته: أنت طالق، ما حكم صلاته؟

هنا اختلف العلماء:

فمن العلماء من قال: يقع عقوبة له؛ لأنه تناول الخمر بإرادته.

وشيخ الإسلام ابن تيمية يقول: لا يقع؛ لأن العقل مناط التكليف، وإثم الخمر مسألة، ووقوع الطلاق مسألة أخرى، وهو لم يرد الطلاق.

كذلك يقول: إن الطلاق يتعدى إلى الغير، أي: أن ضرره يتعدى للزوجة، فما ذنب الزوجة أن تطلق والزوج سكران؟! فـشيخ الإسلام يدافع عن تلك القضية فيقول: لا يقع طلاق السكران حتى لو كان بإرادته، لكن بعض العلماء يقولون: يقع؛ لأنه تناوله بإرادته، فلا بد من تعزيره؛ للتفريق بينه وبين من أصابه السكر بغير إرادته، فأقول هنا: إذا غاب عن الوعي صار كالنائم تماماً، فالنائم إن استيقظ وفات عليه فرض ماذا يصنع؟

قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (من نام عن صلاة أو نسيها؛ فليصلها إذا ذكرها)؛ فتصبح في حقه واجبة من لحظة الاستيقاظ، فلا يقل: أنا نمت من قبل الظهر، وقمت المغرب، فأصلي الظهر غداً مع ظهر اليوم الثاني. هذا كلام باطل، فوقت الصلاة يبدأ من لحظة الاستيقاظ، والتذكر يجعلها واجبة عليه في الحال.

وعلى ذلك يقضي ما فاته بالترتيب، ظهر فعصر، ثم مغرب فعشاء، فإن دخل في غيبوبة ثلاثة أيام أصبح عليه صلاة ثلاثة أيام: فجر وظهر وعصر ومغرب وعشاء، يصلي الفروض في اليوم الأول، ثم الفروض في اليوم الثاني، ثم الفروض في اليوم الثالث، وهكذا.

قال: (وإن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها، فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء في وقت إحداهما).

الحقيقة أن هذا الكلام معتبر جداً، ويحل عندنا إشكالات بالجملة، صلى النبي صلى الله عليه وسلم الظهر والعصر والمغرب والعشاء، من غير سفر ولا مطر ولا خوف؛ حتى لا يشق على أمته؛ فيجوز لأهل الأعذار أن يصلوا الظهر والعصر جمعاً؛ لأن وقتهما واحد، والمغرب والعشاء وقتهما واحد؛ لذلك نسمي المغرب والعشاء: العشاءين، ونسمي الظهر والعصر: صلاتي العشي، فوقتهما واحد، لكن هذا لمن شق عليه.

مثال ذلك: طالب في المدرج، والأستاذ أغلق الباب من الثانية عشرة ولن يفتح إلا بعد العصر، وهو عاجز عن الصلاة في المحاضرة، ويشق عليه الخروج، وإن خرج أحدث فتنة، ماذا يصنع؟

يصلي الظهر والعصر بعد خروجه؛ لأنه شق عليه.. إلى غير ذلك من الأعذار.

فلا تقل: لماذا يا شيخ؟! لا بد أن يصلي. أقول: نعم. الصلاة في وقتها إلا لمن شق عليه.

مثال ذلك: طبيب يجري عملية جراحية لمريض، وعمليات الأعصاب والمخ تستغرق سبع ساعات إلى ثماني ساعات، دخل الطبيب الساعة الثانية عشرة مثلاً، وخرج بعد العصر بساعتين، هل يقول الطبيب للمريض: انتظر حتى أصلي الظهر؟ لا يمكن أن يتركه هكذا، فهذا شق عليه.

كذلك جندي يقوم على حراسة مدفع أو طائرة أو بنك إسلامي.. إلى غير ذلك.

قال: ( إن شق عليه فعل كل صلاة في وقتها فله الجمع بين الظهر والعصر، وبين المغرب والعشاء ) لحديث ابن عباس قال: (جمع رسول الله صلى الله عليه وسلم بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء بالمدينة من غير خوف ولا مطر) متفق عليه.

وقوله: (بالمدينة)، يعني: من غير سفر أيضاً، صلى الظهر والعصر والمغرب، لكن لا يفعل ذلك أحد من غير عذر.

فالأصل: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103]، ولا يخرج المكلف عن الأصل إلا لعذر.

قال: (وقد أجمعنا على أن الجمع لا يجوز من غير عذر، فلم يبق إلا لمرض؛ ولأن النبي..) يقول: إن الجمع هنا كان لعذر -لمرض- لذلك أورده في باب المريض، وقلنا: إن الجمع لا يجوز إلا لعذر، وهو جمع بدون خوف أو مطر، إذاً: يبقى المرض، فهو يقصد هنا: أنه جمع لعلة المرض؛ ولذلك من الفقهاء من رأى أن المسجون يجوز له أن يجمع بين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.

قال: (ولأن النبي صلى الله عليه وسلم أمر سهلة بنت سهيل وحمنة بنت جحش بالجمع بين الصلاتين لأجل الاستحاضة، وهو نوع مرض)، وهذه نقطة في غاية الأهمية للنساء، فلنعلمها نساءنا: إن طهرت المرأة بعد صلاة العصر في الساعة الخامسة مثلاً فإنها تصلي الظهر والعصر؛ لأن الوقت واحد.

وإن حاضت بعد العصر ولم تصل العصر فانقطعت عنها الصلاة ومضى من الوقت بقدر ما كان يكفي لصلاتها فإنه يلزمها قضاء العصر؛ لأنه مضى عليها وقت كان يكفي للصلاة ففرطت فيه؛ فإن طهرت في وقت إحدى الصلاتين عليها أن تصلي الفرضين: الظهر والعصر، والمغرب والعشاء.

قال: (وهو مخير في التقديم والتأخير، أيَّ ذلك فعل جاز)، يعني: الظهر مع العصر، جمع تقديم أو جمع تأخير.

قال: (لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقدم إذا ارتحل بعد دخول الوقت، ويؤخر إذا ارتحل قبله؛ طلباً للأسهل، فكذلك المريض)، يعني: إذا خرج بعد الظهر يجمع بين الظهر والعصر وهو على دابة السفر؛ لأنه ارتحل بعد دخول الوقت، وإذا ارتحل قبل دخول الوقت جمع جمع تأخير.

إذا ارتحل قبل الوقت يؤخر، وإذا ارتحل بعد الوقت يقدم.

فإن قيل: إذا أذن المؤذن وأقيمت الصلاة وأنا في الطريق إلى العزيز فإنه ينبغي أن أصلي في المسجد الذي أقيمت الصلاة فيه ولا أنتظر حتى أذهب إلى العزيز، لماذا أفعل ذلك رغم أنني أعلم أنكم تؤخرون الإقامة؟

الجواب: لعل ملك الموت يأتيك في الطريق، فيا عبد الله! عجل بالطاعة، طالما أنك سمعت الإقامة والأذان بمسجد مجاور فصل، ولا تؤخر الصلاة مع مسجد آخر، فبعض الإخوة يقطع المسافات ويصر على الصلاة هنا، فإذا سمعت الإقامة في مسجد مجاور فادخل وصل؛ حتى تبرأ الذمة من الصلاة المكتوبة عليك، لا سيما أن المساجد جميعها تستوي فيها الصلاة.

قال: (فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها)، يعني: إذا صلى الظهر والعصر جمع تقديم نوى أن يجمع الظهر مع العصر، عند فعل الصلاة، والجمع لغة واصطلاحاً معناه: أن يجمع بين شيئين، فلا يصل الظهر ثم يمكث ساعة أو ساعتين ثم يصلي العصر، فهذا ليس بجمع، فالجمع أن يقتربا من بعضهما البعض، ولا يفصل بينهما بوقت زمني طويل؛ لأن العرف والعادة تمنع أن نقول عن هذا: جمع كما أن المسافر إذا أراد الجمع لابد أن ينزل من على راحلته؛ لأن الصلاة على الراحلة لا تصح إلا في النافلة.

(فإن جمع في وقت الأولى اشترط نية الجمع عند فعلها؛ لأنها نية يفتقر إليها فاعتبرت عند الإحرام كنية القصر، ويعتبر استمرار العذر حتى يشرع في الثانية منهما؛ لأن افتتاح الأولى موضع النية، وبافتتاح الثانية يحصل الجمع؛ فاعتبر العذر فيهما)، والمعنى: أنه إذا أراد الجمع لا بد أن يكون معذوراً، والعذر قائم، فإن زال العذر زال الجمع.

جاء في البخاري : أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا ارتحل بعد الظهر وقد صلى الظهر في إقامته لا يشرع في صلاة العصر إلا بعد أن يخرج؛ لأنك ربما تقصر في محل الإقامة وهذا لا يجوز، كأن يأتيك اتصال يقول لك: أنت مسافر بعد العصر، فصليت العصر قصراً مثلاً قبل وقته، وبعدها بربع ساعة جاء اتصال آخر ألغى السفر، فعلى ذلك لابد أن تشرع على متن السفر، فإن كنت ماشياً قبل الوقت ثم أعرضت عن السفر لعذر طارئ صليت مرة ثانية.

قال: (ولا يفرق بينهما إلا بقدر الوضوء)، يعني: لا يفرق بين الفرضين المجموعين إلا بقدر الوضوء، والمسافة الزمنية للوضوء خمس دقائق، إذاً: الفرق بين الفرضين لا يزيد عن هذا حتى يسمى جمعاً؛ لأن معنى الجمع: المتابعة والمقاربة، ولا يحصل ذلك مع الفرق الطويل، والمرجع في طول ذلك وقصره إلى العرف، وقدر الوضوء يكون حسب العرف.

قال: (وإن أخر) يعني: جمع تأخير (اعتبر استمرار العذر إلى دخول وقت الثانية)، يعني: تأخير الصلاة إلى وقت الصلاة الثانية لا يكون إلا بامتداد العذر واستمراره.

مثال ذلك: رجل قرر أن يجمع الظهر مع العصر جمع تأخير، فزال العذر بعد العصر، أو قبل العصر بدقيقتين، فهنا لا يجوز الجمع؛ لأن العذر قد زال، فلا بد من بقاء العذر للجمع.

قال: (ويجوز الجمع للمسافر الذي له القصر؛ لما روى أنس : (أن النبي صلى الله عليه وسلم كان إذا أعجل به السير يؤخر الظهر إلى وقت العصر؛ فيجمع بينهما، ويؤخر المغرب حتى يجمع بينها وبين العشاء حتى يغيب الشفق)، متفق عليه)، إذاً: يجوز الجمع للمسافر الذي له القصر، فإذا كنت في سفر طويل ورخص لك بالقصر رخص لك في الجمع، فالجمع والقصر رخصتان ثابتتان عن النبي صلى الله عليه وسلم.

قال: (ويجوز في المطر بين العشاءين خاصة؛ لأن أبا سلمة قال: من السنة إذا كان في يوم مطر أن يجمع بين المغرب والعشاء، وكان ابن عمر يجمع إذا جمع الأمراء بين المغرب والعشاء، ولا يجمع بين الظهر والعصر للمطر، وأما المطر الذي لا يبل الثياب فلا يبيح الجمع؛ لعدم المشقة فيه، وكذلك الطل والثلج كالمطر).

إن كان المطر شديداً حتى في النهار جاز الجمع، وهذا معناه: أن المطر يحول بينك وبين الوصول إلى المسجد، كأن يكون مطراً شديداً تتأثر معه الحركة؛ ولذلك كان ينادى في أوقات: صلوا في رحالكم.. صلوا في رحالكم، بل: حي على الصلاة تستبدل بـ: صلوا في رحالكم؛ للتعذر في الوصول إلى المسجد في مثل هذه الأحوال، فالمطر الشديد يجوِّز لنا أن نجمع بين الفرضين الظهر والعصر، والمغرب والعشاء في المسجد.