العدة شرح العمدة [8]


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، شرع لنا ديناً قويماً، وهدانا صراطاً مستقيماً، وأسبغ علينا نعمه ظاهرة وباطنة.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، ولي المتقين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيّه من خلقه وخليله، بلّغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

أما بعد:

قبل أن نواصل الحديث مع كتاب العدة في فقه الإمام أحمد للإمام موفق الدين ابن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى نذكر بيوم عاشوراء، ويوم عاشوراء هو: اليوم العاشر من شهر الله المحرم.

وشهر الله المحرم من الأشهر الحرم التي قال الله فيها: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36]، والأربعة الحرم: ثلاثة على التوالي وشهر رجب الفرد، والتي على التوالي هي: ذو القعدة وذو الحجة والمحرم، ونبينا صلى الله عليه وسلم -قال كما رواه مسلم في صحيحه-: (أفضل الصيام بعد رمضان صيام شهر الله المحرم، وأفضل الصلاة بعد المكتوبة قيام الليل)، فصيام شهر الله المحرم من الأمور التي بينها نبينا صلى الله عليه وسلم.

وصوم عاشوراء كما هو رأي عند الفقهاء كان قد فرض على المسلمين في بدء الأمر قبل أن يفرض رمضان؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بصيامه، فلما فرض صيام رمضان نسخ صيام عاشوراء وبقي على التخيير، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (من شاء صام ومن شاء أفطر)، فتحول صيام عاشوراء من الفرض إلى الندب.

ويوم عاشوراء يوم أنجى الله فيه موسى عليه السلام من الغرق، وأغرق فيه فرعون ومن معه، والنبي صلى الله عليه وسلم صامه وأمر بمخالفة اليهود؛ وقال صلى الله عليه وسلم: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر)، ثم لم يعش حتى يصوم التاسع والعاشر، وقد يتبادر أن هناك تناقضاً بين قولنا: إنه صامه عند نزوله المدينة، يعني: في أول سنة هجرية وبين قوله: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع) ولا تناقض؛ فإنه لما رأى اليهود يصومون عاشوراء صامه وأمر بصيامه، فلما أخبر بأنهم يصومون عاشوراء ويفردونه بالصيام فأمر بمخالفتهم من الله عز وجل، وهذا في العام العاشر، فقال: (لئن عشت إلى قابل لأصومن التاسع والعاشر).

وبهذا استدل العلماء على القاعدة الأصولية التي تقول: شرع من قبلنا شرع لنا ما لم يأت شرعنا بنسخه. وشيخ الإسلام له تحفظ على هذه القاعدة، ولكن أردت أن أوضح أن الصيام عرف في بني إسرائيل فكانوا يصومون عاشوراء، والنبي صلى الله عليه وسلم صام عاشوراء.

فأريد أن أذكر بصيام هذا اليوم، وينبغي أن تضم إليه يوماً قبله أو يوماً بعده؛ حتى تخالف صيام أهل الكتاب بالنسبة لهذا اليوم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن صيامه: (يكفر ذنوب سنة ماضية)، وما أكثر ذنوبنا! فينبغي أن نتواصى بصيام يوم عاشوراء.

قال المصنف رحمه الله: [ فالصلوات الخمس واجبة على كل مسلم عاقل بالغ، إلا الحائض والنفساء، فمن جحد وجوبها لجهله عرف ذلك، وإن جحدها عناداً كفر، ولا يحل تأخيرها عن وقت وجوبها].

ذكرنا أنه لا يحل أن تؤخر الصلاة عن وقت وجوبها، وسنذكر في كتاب مواقيت الصلاة أن لكل صلاة ميقاتاً بينه جبريل للنبي عليه الصلاة والسلام، والله سبحانه قال: إِنَّ الصَّلاةَ كَانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتَابًا مَوْقُوتًا [النساء:103] وأحب الأعمال إلى الله الصلاة في أول وقتها، ولا يحل تأخيرها عن وقت وجوبها.

قال المصنف: [ إلا لناوٍ جمعها، أو مشتغل بشرطها، فإن تركها تهاوناً بها استتيب ثلاثاً فإن تاب وإلا قتل ].

قوله: (إلا لناوٍ جمعها). الظهر يجمع مع العصر، والمغرب مع العشاء، وإما أن يكون جمع تقديم أو جمع تأخير، فلا يجوز أن تجمع صلاة الليل مع صلاة النهار، يعني: لا يجوز أن تجمع المغرب مع العصر، هذا لا يجوز، وإنما الجمع يكون لفرضين: إما بالنهار وإما بالليل، وشروطه أربعة:

الشرط الأول: أن يكون القصر لصلاة رباعية، فالصلاة الثنائية لا تقصر، والصلاة الثلاثية لا تقصر.

الشرط الثاني: أن يكون القصر في مسافة طويلة قدروها بأكثر من ثمانين كيلو متر، ويرى صاحب المغني أن تحديد المسافة ليس عليه دليل من كتاب ولا سنة وإنما مطلق السفر يجوز فيه القصر.

الشرط الثالث في القصر: أن يكون قد نوى القصر؛ لأن النية أمر هام جداً.

الشرط الرابع للقصر: أن يكون على سفر، فلا يجوز أن يقصر في محل الإقامة، فإذا صار خارج البلدة فله أن يشرع في القصر؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قصر الصلاة وهو يرى المدينة؛ لأنه كان قد شرع في السفر.

وهذه الشروط الأربعة للقصر عند الحنابلة سنتحدث عنها.

والجمع رخصة، بمعنى: في حالة الخوف من ضياع الوقت لك أن تجمع، وفي حالة الحبس لك أن تجمع، وفي حالة السفر لك أن تجمع، والنبي صلى الله عليه وسلم جمع بين الظهر والعصر والمغرب والعشاء من غير مرض ولا سفر وقال: (حتى لا أشق على أمتي)، رواه مسلم .

يقول بعض العلماء: هذا لأهل الأعذار؛ فمثلاً: يصح الجمع للذي يشق عليه أن يصلي الفرض في وقته كطبيب يقوم بإجراء عملية جراحية لمريض، والعملية قد تستغرق ست ساعات، فإذا فتح بطنه وقام بإجراء العملية وأذن الظهر يستحيل أن يترك بطنه مفتوحاً ليصلي ثم يعود؛ لأن هذا أمر لا يحتمل التأخير فيبقى معه حتى ينتهي تماماً، فإذا دخل وقت العصر وهو لا يزال في إجراء العملية فله أن يجمع الظهر مع العصر.

مثال آخر: طالب في جامعة دخل المدرج الساعة الحادية عشرة، فأغلق الدكتور أبواب المدرج ولم تفتح إلا بعد نداء العصر، وليس هناك ماء، فله أن يجمع في هذه الحالة؛ لتعذر الصلاة؛ لأنه في هذه الحالة لن يستطيع أن يخرج، وإن خرج فسيحدث مفسدة وقد لا يفتح له أحد، فضلاً عن عدم وجود الماء، فإن قال قائل: يتيمم قلنا: الماء موجود، لكنه غير قادر على استخدامه، فالصلاة غير ممكنه في هذه الظروف.

إذاً: هناك ظروف حرجة قد تدفع الإنسان إلى الجمع.

فإذا نوى المسلم الجمع فيجوز له أن يؤخر الصلاة عن وقتها حتى يدخل وقت الصلاة الثانية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم كان يفعله، فيجوز تأخير وقت الظهر حتى يدخل وقت العصر، والنبي عليه الصلاة والسلام صلى في يوم عرفة الظهر مع العصر جمع تقديم. وصلى بالمزدلفة المغرب والعشاء جمع تأخير والظهر والعصر جمع تقديم.

وابن مسعود صلى خلف عثمان رضي الله عنهما في منى، والصلاة في منى في أيام التشريق وفي يوم التروية تكون قصراً لا جمعاً، يعني: كل فرض في وقته ويصلى قصراً: الظهر ركعتين والعصر ركعتين، لكن عثمان رضي الله عنه أتم، وابن مسعود قال له: صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم ومع أبي بكر ومع عمر وكانوا يقصرون الصلاة، أما أنت فقد أتممت وأنت الإمام، فأتم خلفه، ثم قال له: الخلاف شر، فلم يرد أن يختلف مع إمامه، لكن هناك من العلماء من اعتذر عن فعل عثمان بخمسة أقوال أرجحها كما قال الشيخ ابن عثيمين في الشرح الممتع: أنه رضي الله عنه كان قد تأهل في منى، وأقام فيها فأصبحت منى بالنسبة له محل إقامة، وعند ذلك يجوز له أن يتم الصلاة، وهذا أرجح الأعذار التي اعتذر بها بعض العلماء لفعل عثمان ؛ لأنه يستحيل أن يتعمد عثمان رضي الله عنه مخالفة السنة، فلاشك أن هناك سبباً جعله يتم، أو يكون قد نزل بمنى ونوى الإقامة، فأصبحت بالنسبة له دار إقامة فينبغي أن يتم فيها الصلاة؛ لأن جمهور العلماء يقولون: إذا نزل المرء إلى بلد ونوى أن يقيم فيها أكثر من أربعة أيام فله أن يتم وليس له القصر، مثال ذلك: إذا ذهبت إلى الإسكندرية من القاهرة وقد حددت مدة إقامتك فيها أسبوعاً، فهل يجوز لك أن تقصر الصلاة هناك؟ الجواب: لا؛ لأنك نزلت بها وقد نويت الإقامة أكثر من أربعة أيام، وعدد الفروض للأربعة أيام: عشرون فرضاً، والحنابلة يقولون: إن زاد عن واحد وعشرين فرضاً وقد نوى أن يقيم أكثر من واحد وعشرين فرضاً فيجب عليه أن يتم، لكن هب أنك سافرت اليوم ولا تدري متى ستعود، فلك أن تقصر وإن طالت المدة مهما طالت، سواء مكثت شهراً أو مكثت عشرة أيام أو خمسة عشر يوماً، فأنت لا تدري متى ستعود، ولو أنك حددت الإقامة بأقل من أربعة أيام فيجب عليك أن تقصر.

إذاً: في هذه الحالة أقول: جمهور العلماء على أن قصر الصلاة له ضوابط سننبه إليها، وأنا أطرح بحثاً الآن هو: هل قصر الصلاة في السفر رخصة أم عزيمة؟ يعني: إذا كنت مسافراً ولي أن أقصر هل يجب علي أن أقصر أم لي أن أقصر وإن لم أقصر فلا شيء علي؟ وشيخ الإسلام قال: القصر عزيمة، وهو قول كثير من العلماء وقالوا: من صلى في السفر أربعاً فهو كمن صلى في الحضر ركعتين؛ لأن الأصل أن الصلاة فرضت في السفر ركعتين ثم زيدت في الحضر إلى أربع، فهل الأصل أن تصلي ركعتين أم يجوز لك أن تتم الصلاة؟ وإذا أتم فهل هو آثم؟ أم يجوز له أن يقصر وهو بالخيار؟ أم يكره له القصر؟ هذه المسألة فيها ثلاثة أقوال عرضها العلماء وعليها أدلة، ولكل فريق أدلة، فأرجو أن تتتبع الأدلة حتى تعرف القول الراجح.

ومن قال: إنها عزيمة قال: إن من صلى أربعاً بطلت صلاته، وهو كمن صلى في الحضر ركعتين، فلو صلى رجل في الحضر ركعتين بطلت الصلاة كذلك من صلى في السفر أربعاً.

والسفر إنما سمي سفراً لسببين:

الأول: أنه من البروز والوضوح، يقال: امرأة سافرة، يعني: متبرجة بارزة للرجال، فالرجل حينما يسافر يبرز عن قريته، يعني: ينفصل عنها.

الثاني: لأنه يسفر عن أخلاق الرجال، ويظهر أخلاق الرجال، وقد سأل رجل رجلاً: هل تعرف فلاناً؟ قال: نعم أعرفه، قال: هل سافرت معه؟ قال: لا، قال: إذاً لا تعرفه؛ لأن السفر يظهر ويبرز معادن الرجال وأخلاقهم، وهذه حقيقة، ففي السفر تجد البخل والشح موجوداً، فربما يكون الرجل معه ماء فيبخل به عن رفيقه، يريد أن ينام فيأخذ المكان كله، وهذا يقع في المزدلفة وغيرها، فإذا قلت له: وسع قليلاً يا أخي، ينفر منك نفوراً، فالمعادن تبرز وتظهر في السفر، ولذلك سمي سفراً.

قال المصنف: [ أو مشتغل بشروطها ].

يعني: يجوز تأخير الصلاة للمشتغل بالشرط، وهذا كلام مهم، يقول في الشرح: لأنها لا تصح بدون شرطها المقدور عليه، فمتى كان شرطاً مقدوراً عليه وجب عليه الاشتغال بتحصيله، ولا يأثم بتأخير الصلاة في مدة تحصيله، كالمشتغل بنفس الوضوء والاغتسال.

فمثلاً: رجل استيقظ وهو جنب قبل شروق الشمس بخمس دقائق، فإن اشتغل بالغسل خرج الوقت، فهل يشتغل بالغسل أم يتيمم ويصلي جنباً؟ الجواب: يشتغل بالغسل؛ لأن الانشغال بشرطها انشغال بها؛ لأنها لا تتم إلا بشرطها، وطهارة الثوب والبدن والمكان والطهارة من الحدث الأكبر والأصغر شرط.

فيقول: ولا يجوز تأخير الصلاة عن وقت وجوبها إلا: لناوٍ جمعها، أو مشتغل بشرطها، وشروط الصلاة هي:

الشرط الأول: دخول الوقت.

الشرط الثاني: استقبال القبلة.

الشرط الثالث: سترة العورة.

الشرط الرابع: الطهارة من الحدثين: الأكبر والأصغر.

الشرط الخامس: طهارة البدن والثوب والمكان.

الشرط السادس: النية، وهي مختلف فيها، فمن العلماء من قال: إنها شرط؛ لأن النية لا تدخل في ذات الصلاة، يعني: لابد أن تسبق الصلاة.

ومنهم من قال: إنها ركن؛ لأنها داخل الصلاة.

الصلاة من تركها تهاوناً استتيب ثلاثاً، فإن تاب وإلا قتل بالسيف؛ لما سبق، وقد اختلفت الرواية في الذي يجب قتله، فقال القاضي: يجب قتله إذا ترك صلاة واحدة حتى تضايق وقت الثانية؛ لأنه إذا ترك الأولى لم يعلم أنه عزم على تركها، فإذا خرج وقتها علمنا أنه تركها، لكن لا يجب قتله؛ لأنها فائتة، والفائتة وقتها موسع، فيصبر عليه حتى يتضايق وقت الثانية.

والرواية الثانية: أنه يجب قتله إذا ترك ثلاث صلوات ويتضايق وقت الرابعة عن فعلها؛ لأنه قد يترك الصلاة والصلاتين والثلاث لشبهة، فإذا رأيناه ترك الرابعة علمنا أنه عزم على تركها فيجب قتله، وهذا يدل على إباحة قتله.

وقال عليه السلام: (نهيت عن قتل المصلين)، فمفهومه أنه لم ينه عن قتل غيرهم، وقال: (بين العبد والكفر ترك الصلاة)، رواه مسلم.

والكفر مبيح للقتل بدليل حديث: (لا يحل دم مسلم إلا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان، أو زنا بعد إحصان، أو قتل نفس بغير حق)، متفق على معناه.

فالمقصود: أن تارك الصلاة يستتاب، واختلفوا متى يستتاب، ولـأحمد في ذلك روايتان:

الرواية الأولى: إن ترك الظهر نتركه حتى يأتي وقت العصر، فإن جاء وقت العصر ولم يصل علمنا أنه لم يجمع بينهما وقد خرج وقت الظهر مع العصر وجاء وقت المغرب، إذاً: هو قد ترك فرضين متتاليين يجوز له أن يجمعهما، فإن ترك فرضين متتاليين وجاء الفرض الثالث فإنه يستتاب، والذي يستتيبه هم أهل الحل والعقد، والذي يقتله هو ولي الأمر، أما أن كل أحد يقتل تارك الصلاة فستتحول البلاد إلى برك دماء، فيا عبد الله! أنت غير مأمور بالاستتابة ولا بالقتل، فإن الذي يستتيب تارك الصلاة هم العلماء؛ لأنهم يستطيعون أن ينفوا عنه الشبهة وأن يقيموا عليه الأدلة، والذي يقتله إن أصر على تركها هو ولي الأمر، أما أنا وأنت فليس في يدنا أن نقتل، فانتبه إلى هذا المعنى، ولا تقل: جاري لا يصلي، فتستتيبه ثم تقتله؛ لأن الاستتابة لأهل الحل والعقد، والقتل لولي الأمر، ولا يجوز غير ذلك أبداً.

قال: (فإن تركها تهاوناً بها استتيب ثلاثاً) يعني: ثلاث مرات.

والرواية الثانية لـأحمد : أن يترك ثلاثة فروض ويدخل وقت الرابعة، يعني: يترك الظهر والعصر والمغرب ويدخل وقت العشاء؛ لأنه ربما يكون متأولاً أو فاهماً فهماً خاطئاً فلا يترك ثلاثة فروض متتالية، وفي الرابعة يستتاب ويقام عليه الحجة ويبين له.

وأنا قلت قبل: إننا لا نتصور أن رجلاً يختار القتل على ترك الصلاة إلا إذا كان جاحداً لها، وهذا ليس ممكناً أبداً.

وهذا يبين بياناً شافياً عظم قدر الصلاة في شرعنا، وأن البعض يضيعها وهو يظن أن هذا أمراً هيناً، وهو أمر عظيم جداً عند الله عز وجل.

قال: [ فإذا وجب قتله لم يقتل حتى يستتاب ثلاثاً، ويضيق عليه، ويدعى إلى فعل كل صلاة في وقتها، ويقال له: إن صليت وإلا قتلناك؛ لأنه قتل لترك واجب فتتقدمه الاستتابة كقتل المرتد، فإن تاب وإلا قتل بالسيف لقوله عليه الصلاة والسلام: (إذا قتلتم فأحسنوا القتلة، وليحد أحدكم شفرته وليرح ذبيحته) رواه مسلم ].

فانظروا إلى إسلامنا، يعني: حتى في الذبيحة من الأنعام لا بد أن تريحها على الجنب الذي تستريح فيه، ولا تذبحها إلا بالسكين الحادة، حتى لا تعذبها.

وهنا سؤال مهم وهو: رجل يصلي الظهر والعصر والمغرب والعشاء كل يوم بعد العشاء، فما حكمه؟

والجواب: أنه يستتاب؛ لأنه خرج بالصلاة عن وقتها، وكأنه لم يصل، يقال له: اجمع الظهر مع العصر، والمغرب مع العشاء، أما أن تصلي صلاة النهار بالليل فلا، يقول أبو بكر رضي الله عنه: إن لله حقاً بالنهار لا يقبله بالليل، وحقاً بالليل لا يقبله بالنهار.

وهنا سؤال آخر يقول: صلاة الجمعة جاءت في وقت الامتحان فهل يحضر الجمعة أو يحضر الامتحان؟

والجواب: أن هذا يبين لك أن واضع وقت الامتحان في هذا الوقت ليس له شأن بالجمعة، وأنه في وادٍ والإسلام في وادٍ آخر، فالمفروض أن واضع الامتحان يراعي أوقات الصلاة، فحتى الجمعة التي هي واجب على كل المسلمين يضع الامتحان في وقتها؟! وأقول لك: سقطت عنك الجمعة لأسباب:

السبب الأول: أن هناك في علم الأصول ما يسمى تزاحم الواجبات، وهناك واجب مضيق وواجب موسع، وهناك واجب يحتمل التأخير وواجب لا يحتمل التأخير، كمن انشغل بالصلاة فرأى ناراً قد اشتعلت في داره فهل يترك الصلاة أم يطفئ النيران؟ فيؤخر الصلاة؛ لأنه من أهل الأعذار في هذه الحالة، قال العلماء: الشيء الذي لا يحتمل التأخير يقدم، وغالب النساء تسأل: أنا أصلي الظهر وبينما أنا أصلي اشتعلت النار من البوتاجاز في الإناء فهل أترك الصلاة أم أترك البوتاجاز والنار؟ وأقول: هذا لا يحتاج إلى كلام، فالشرع يقول: ما لا يحتمل التأخير يقدم، وهذا يسمى في علم الأصول تزاحم الواجبات.

فأنت الآن إن تركت الامتحان ستعقد لك لجنة خاصة وتُحاسب، فأنت الآن في حكم المحبوس المأسور، والأسر أنواع، لكن إن استطعت أن تخرج اخرج، فإن لم تستطع سقطت عنك.

قال المصنف رحمه الله تعالى: [ باب الأذان والإقامة:

وهما مشروعان للصلوات الخمس دون غيرها، للرجال دون النساء، والأذان خمس عشرة كلمة لا ترجيع فيها، والإقامة إحدى عشرة كلمة، وينبغي أن يكون المؤذن أميناً صيتاً عالماً بالأوقات، ويستحب أن يؤذن قائماً متطهراً على موضع عالٍ، مستقبل القبلة، فإذا بلغ الحيعلة التفت يميناً وشمالاً، ولا يزيل قدميه، ويجعل أصبعيه في أذنيه، ويترسل في الأذان ويحدر الإقامة، ويقول في أذان الصبح بعد الحيعلة: الصلاة خير من النوم مرتين، ولا يؤذن قبل الأوقات إلا لها -يعني: للفجر- لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إن بلالاً

يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم

).

ويستحب لمن سمع المؤذن أن يقول كما يقول؛ لقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: (إذا سمعتم النداء فقولوا مثلما يقول)].

قوله: (هما مشروعان للصلوات الخمس) أي: الأذان والإقامة، والأذان لغة: هو الإعلان، واصطلاحاً: هو الإعلان بدخول الصلاة بألفاظ مخصوصة.

ومن تعريفهم للأذان بهذه الصورة ينبغي أن نعلم أنه لا يجوز لأحد أن يزيد في الأذان حرفاً، أو أن يزيد فيه كلمة، فلا يجوز أن يقول قائل: أشهد أن سيدنا محمداً رسول الله بزعم أنه يحب رسول الله، فإنه كاذب في دعواه؛ لأن من يحب أحد يتبعه، فالمحبة اتباع، وأنت حين تقول: أسيد النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه سيد، والسيد مطاع، فالسيد المطاع يأمرك أن تؤذن بهذه الطريقة فتسييدك فيه عدم طاعة، يعني: أنت تسيد قولاً لكنك في واقع الأمر لا تسود. قلت لأحدهم: هل أنت تحب رسول الله أكثر من بلال؟ قال: نعم، لأنه لا يجد إجابة، فقلت: بلال كيف كان يؤذن هل كان يقول: أشهد أن محمداً أم أن سيدنا محمداً؟ كان يقول: أشهد أن محمداً رسول الله، وأبو محذورة كان يؤذن هكذا، وهكذا في زمن الصحابة والتابعين وتابعي التابعين لم يكن فيه سيدنا، فدل ذلك على أنها بدعة محدثة، قالوا: لأن الشافعي قال: من باب الأدب، والأدب قدم على العلم، ويستدلون باستدلالات منها: أن أبا بكر أمره الرسول صلى الله عليه وسلم أن يصلي فرفض الأمر وعاد إلى الصلاة مأموماً، فقدم الأدب على الأمر، وفي الحديث: أن أبا بكر كان يصلي بالناس جماعة والنبي صلى الله عليه وسلم في قباء يصلح بين طائفتين وبين قبيلتين- فجاء النبي والصديق يصلي إماماً في الركعة الأولى فصفق الصحابة على أيديهم، فالتفت أبو بكر بطرف عينه فرأى النبي صلى الله عليه وسلم في الصف الأول فأشار إليه: أن اثبت، وفي هذا أمر له أن يصلي، فأبى أبو بكر وتراجع، وبعد الصلاة قال له: (ما لك تراجعت إذ أمرتك؟ فقال: ما كان لـابن أبي قحافة

أن يصلي إماماً برسول الله)، وهذا من باب الأدب.

قالوا: فـأبو بكر قدم الأدب على الأمر، إذاً: لنا أن نقدم الأدب على الأمر، فنقول: هذا قياس مع الفارق؛ فهذا أدب أقره النبي صلى الله عليه وسلم، أما (سيدنا) فهو أدب لم يقره، فلا يجوز أن تجتهد في أدب لم يقره النبي صلى الله عليه وسلم، بل أنت بذلك قليل الأدب؛ لأن الأدب أن تتبع، الأدب أن تتبع السنة وأن تطيع السيد الذي تسوده.

فقوله: (الأذان خمس عشرة كلمة)، يعني: أن كلمات الأذان معدودة، فلو أن أحداً قال: ست عشرة فيكون بذلك قد ابتدع.

وهي: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، الله أكبر، الله أكبر، لا إله إلا الله، فهذه خمس عشرة كلمة.

والمراد بالكلمة هنا الجملة، ومن ذلك قول الله عز وجل في سورة الكهف: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]، وهم قالوا جملة، وهي: قَالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَدًا[الكهف:4]، فقال الله: كَبُرَتْ كَلِمَةً[الكهف:5]، فسمى الجملة كلمة، فدل على أن الجملة تسمى كلمة.

فالأذان للصلوات الخمس دون غيرها؛ لأن المقصود منه الإعلان بوقت الصلاة المفروضة على الأعيان، وهذا لا يوجد في غيرها؛ ولأن مؤذن النبي صلى الله عليه وسلم كان يؤذن لها دون غيرها.

وهنا ينبغي أن تفرق بين أذانين: أذان أبي محذورة وأذان بلال، فـأبو محذورة كان يرجع، وبلال كان لا يرجع.

والترجيع هو أنك قبل أن تتلفظ بأشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، تقول: أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله بصوت منخفض.

والأذان الذي له ترجيع له إقامة معينة، والأذان الذي ليس له ترجيع له إقامة أخرى، وإن لم ترجع يجوز لك أن تقيم بالطريقة التي نقيم بها الآن، فإن رجّع المؤذن يشفع الإقامة، بمعنى أن يقول: الله أكبر، الله أكبر، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن لا إله إلا الله، أشهد أن محمداً رسول الله، أشهد أن محمداً رسول الله، حي على الصلاة، حي على الصلاة، حي على الفلاح، حي على الفلاح، قد قامت الصلاة، قد قامت الصلاة، الله أكبر الله أكبر، لا إله إلا الله، فشفع الإقامة؛ لأنه رجع في النداء، فإن رجع في النداء ينبغي أن يشفع الإقامة، وهذا يسمى أذان أبي محذورة، والحديث في البخاري عن عبد الله بن زيد بن عبد ربه وفيه: أنه انشغل المسلمون بكيفية الإعلان عن الصلاة بعد أن فرضت الصلاة، فجمعهم النبي يستشيرهم كيف نعلن عن دخول الوقت؟ فقال بعضهم: نتخذ ناقوساً، يعني: جرساً، فقال: (لا، هذا فعل النصارى، وقال بعضهم: نشعل ناراً، فقال: لا، هذا فعل المجوس، وقال بعضهم: نتخذ بوقاً، فقال: لا، هذا فعل اليهود).

فلما ذهب هذا الصحابي الجليل انشغل بالنداء فنام، فرأى في المنام رجلاً معه ناقوس، فقال: أعطني هذا الناقوس، قال: لم؟ قال: نعلن به عن الصلاة، قال: ألا أدلك على ما هو خير من ذلك؟ قال: بلى، قال: قل: الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، الله أكبر، وعلمه الأذان، فقام بعد الصباح وأخبر النبي صلى الله عليه وسلم بما رأى في منامه، فقال: (إنها رؤيا حق، قم وعلمها بلالاً

؛ فإنه أندى منك صوتاً)، فعلم بلالاً هذه الألفاظ دون ترجيع، وهذا يسمى أذان بلال .

فكان يؤذن بلال وأبو محذورة وابن أم مكتوم، وفي الحديث: (لا يغرنكم أذان بلال

لصلاة الفجر فإنه يؤذن بليل، فكلوا واشربوا حتى يؤذن ابن أم مكتوم

)، وابن أم مكتوم كان رجلاً أعمى، وفي الحديث مشروعية أذان الأعمى لكن بشرط أن يكون له من يخبره بدخول الوقت؛ لأن الأعمى لا يستطيع أن يعرف الوقت، قال: (وكان رجلاً أعمى لا يؤذن حتى يقال له: أصبحت أصبحت)، يعني: طلع الصبح فأذن.

قال: (وهما مشروعان للصلوات الخمس)، فلا يشرع للعيدين نداء، ولا قول: (الصلاة جامعة) كما يفعل البعض الآن في صلاة العيد، حيث يقولون: الصلاة جامعة، بل هو كلام باطل، وما استندوا إليه فهو مرسل من مراسيل الزهري ومراسيل الزهري ضعيفة كما قال الشيخ ابن باز رحمه الله، أما ما ثبت عن الشافعي: أن صلاة العيد تقاس على صلاة الكسوف؛ لأن في الكسوف قال النبي صلى الله عليه وسلم: (الصلاة جامعة)، والعيد أيضاً يقاس عليها، قلنا: لا قياس؛ لأن هذا أمر تعبدي، وهذا ما عليه أكثر العلماء وجمهور السلف: أن صلاة العيد ليس لها نداء لا (الصلاة جامعة) ولا نداء بأذان ولا بغير ذلك، وقد بوب البخاري في صحيحه: باب ليس للعيد أذان ولا إقامة.

وقوله: (للرجال دون النساء)، قال الحسن وإبراهيم والشعبي وسليمان بن يسار : ليس على النساء أذان ولا إقامة، إذاً: الأذان للرجال دون النساء، فالمرأة لا تؤذن ولا تقيم.

وصلى الله على نبينا محمد، وعلى آله وصحبه وسلم.