شرح زاد المستقنع الشك في الطلاق [2]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خير خلق الله أجمعين، وعلى آله وصحبه ومن سار على سبيله ونهجه إلى يوم الدين؛ أما بعد:

فقد ترجم الإمام المصنف رحمه الله بهذه الترجمة التي تتعلق بمسائل الشكوك في الطلاق، فقال: [ باب الشك في الطلاق ].

وقد تقدم بيان مقدمات الشكوك وما يعتري الإنسان من الوسوسة في الطلاق، وبينا هدي الشريعة الإسلامية في ذلك، وقد اعتنى أئمة الإسلام وفقهاؤه ببيان الأحكام المتعلقة بالشكوك سواء كانت في العبادات أو المعاملات.

ومن أشهر المواضع التي تُبْحَث فيها مسائل الشكوك: كتاب الطهارة، وكتاب الصلاة عند بيان مسائل الشك في باب السهو، وكذلك أيضاً تذكر في باب الآنية جملةٌ من مسائل الشكوك، فتذكر في كتاب الطهارة والصلاة وجملةٌ من مسائل الصوم والحج، ثم في كتاب المعاملات تقع كثير مسائل الشكوك، ويعتني العلماء رحمهم الله ببيانها في باب الطلاق، وتعم بها البلوى، ويكثر عنها السؤال، وتكثر منها الشكوى.

وقد ذكرنا ما يتعلق بالشك في الطلاق إلا أننا ننبه أن الشك قد يقوى على الإنسان ويتسلط عليه إلى درجةٍ يفقد فيها التحكم بنفسه، وفي هذه الحالة ربما بلغ به الأمر أنه يتلفظ بالطلاق حقيقةً مع أن الله مطلعٌ على سريرته وقلبه أنه لا يريد الطلاق، وأنه لا يقصده؛ ولكن تهجم عليه الوساوس شيئاً فشيئاً حتى يتكلم ويهذي، وحينئذٍ فالأشبه أنه قد وصل إلى حالةٍ يسقط عنه فيها التكليف.

ولذلك كان بعض مشايخنا رحمةُ الله عليهم يراعون درجات الوسوسة والشكوك في الطلاق، فهناك درجات في ابتداء الطلاق، وفي ابتداء الوسوسة، وابتداء الشكوك، ودرجات مستفحلة أشبه بالمرض، فمثلها ينبغي للفقيه ألَّا يتعجل في الفتوى فيها، وعليه أن يسبر حال السائل وألَّا يتعجل في الجواب، وهذا من فقه الفتوى؛ ولذلك كان بعض العلماء رحمهم الله يحذر من الفتوى في مسائل الطلاق في الشكوك، ويتريث في جواب السائل، خوفاً من أن يفتيه بتحريم ما أحل الله له دون استبيان من حاله.

قال رحمه الله: [ من شك في طلاقٍ أو شرطه لم يلزمه]

الشك في الطلاق له صور:

الصورة الأولى: أن يكون شكاً في وقوع الطلاق.

والصورة الثانية: أن يكون شكاً في حصول الشرط الذي رتب الطلاق على وقوعه.

والصورة الثالثة: الشك في عدد الطلاق.

الصورة الأولى: أن يكون الشك في وقوع الطلاق

ففي الحالة الأولى: يشك في وجود الطلاق وعدم وجوده.

أي: هل تلفظ بالطلاق أو لم يتلفظ؟! وحينئذٍ يُلْزَم شرعاً بالرجوع إلى الأصل، ويقال له: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود.

ثم هناك أصلٌ ثانٍ: وهو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل: أن الزوجة زوجتك، وأنها امرأتك، وأنها حلالٌ لك بحكم الله عز وجل، فأنت باقٍ على هذا الأصل، وتستصحبه لعدم قوة المزيل.

وعلى كل حال فلا تطلق عليه زوجته.

مثال ذلك: لو أن شخصاً جاءه الشيطان فقال له: تلفظت بالطلاق. فقال: ما تلفظت، فحصل له شك وتردد، وأصبح في شك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، هل وقع منه الطلاق أو لم يقع، أو نبست شفتاه به وتحركت؟

ففي جميع ذلك يقال له: الأصل أنك لم تتلفظ حتى يثبت أنك تلفظت وقلت الطلاق، هذا بالنسبة لوجود الطلاق، هل وجد منه طلاق أو لم يوجد؟

فنقول: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود، ثم نقول: هذه زوجته؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان.

فالذي كان: أنها زوجته، والأصل بقاء ما كان وهي كونها زوجةً له، على ما كان، أي: على حال العصمة والزوجية وهو ما يسمى بـ(استصحاب حكم الأصل).

الصورة الثانية: أن يكون الشك في الشرط

أما النوع الثاني: وهو الشك في الشرط فمثاله:

قال: إن فعلت كذا وكذا فامرأتي طالق، ثم شك هل فعل أو لم يفعل؟

أو قال في شرطٍ عدمي: إن لم أفعل فزوجتي طالق، وشك هل فعل فزوجته لم تطلق أو لم يفعل فزوجته طالق.

للعلماء في هذا الشرط أقوال: فمنهم من قال: يفرق بين الشرط العدمي (إن لم أفعل، إن لم أقل) فلا يقع لأن الأصل العدم، وبين غيره وهو الوجودي.

والصحيح: أنه لا فرق بين العدمي الوجودي، وأنه إذا شك في الشرط هل تحقق حتى يقع الطلاق أو لم يتحقق، فإننا نقول: تبقى على الأصل: أن لا طلاق حتى تتحقق من وقوع الشرط وثبوته، مثل ما تقدم معنا في مسألة وجود الطلاق وعدمه.

وفي كلتا الصورتين الأولى والثانية، الشك في الوجود وعدمه، والشك في تحقق الشرط وعدمه، يكون التردد بين وقوع الطلاق وعدم وقوع الطلاق، فحينئذٍ يتردد بين الأمرين، أي: بين ما يوجب ثبوت وقوع الطلاق وبين ما يمنع من وقوع الطلاق ويدل على بقاء الزوجية.

الصورة الثالثة: أن يكون الشك في عدد الطلاق

في الصورة الثالثة: أن يتحقق من وقوع الطلاق ولكن لا يدري كم طلق زوجته، فقال: قلت لامرأتي أنت طالق وأشك، هل طلقتها ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة؟

فنقول: يبنى على الأقل، فإن قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذه ثلاث تطليقات، وفي الأصل: أن من تلفظ بالطلاق ناوياً الطلاق ثلاثاً -كما تقدم معنا- أنه تنفذ عليه الثلاث في مجلسٍ واحد أو كلمةٍ واحدة، كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانعقد عليه سواد الأمة الأعظم، ولا مخالف له من الصحابة في مواجهته حينما أفتى به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا تلفظ بهذا فالأصل أنه ملزمٌ بالثلاث، لكن لو أنه شك هل الذي قاله: طلقتين أو قال: ثلاث تطليقات فإنه يبني على اثنتين؛ لأنه إذا شك هل طلق واحدةً أو اثنتين فهو لا يشك أنه طلق واحدة، والشك في الطلقة الثانية هل وقعت أو لم تقع، وإذا شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً فإنه يجزم بأن الاثنتين وقعتا، ولكن الشك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع!

فالأصل أن يبني على الأقل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيها وأشرنا إلى قاعدتها الأصلية: (اليقين لا يزال بالشك) وذكرنا الفروع التي بناها العلماء في المسائل المتقدمة معنا في كتاب العبادات، فيقال: من شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً بنى على اثنتين، ومن شك هل طلق واحدةً أو اثنتين بنى على واحدة؟

إذاً الثلاث الصور: وقوع الطلاق وعدم وقوعه، والشك في الشرط هل وقع فيقع الطلاق أو لم يقع فلا طلاق، أو الشك في العدد؛ فإن الكل يجري فيه الزوج على اليقين، أما الزوجة فزوجته حتى يتحقق من ثبوت موجب الطلاق.

وهذا من رحمة الله لعباده، وتيسير الله عز وجل على هذه الأمة التي وضع عنها الآصار، ولو تصور المسلم أن الله آخذ كل من شك بشكه لما استقامت الحياة للإنسان، وقل أن تجد إنساناً إلا وقد ابتلاه الله بشيءٍ من حديث النفس في أمرٍ من أموره، ولذلك لو فتح باب الوسوسة لأصبح الناس في عناءٍ وضيق وحرج لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله الذي لطف بعباده، ويسر علينا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وقول المصنف: [وإن شك في عدده فطلقة وتباح له].

هذه الجملة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن قوله: (إن شك في عدده) هذا إذا شك: هل هو واحدة أو اثنتين يقال: واحدة، أما لو شك اثنتين أو ثلاثاً فإنه يبني على اثنتين قولاً واحداً عند العلماء أن من شك: هل طلق زوجته طلقتين أو ثلاثاً بنى على طلقتين؛ لأنه متيقن أنها طلقتان وشاك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع؛ مثلما ذكرنا في الصلاة.

والأصل في هذا كله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم إذا تشهد فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ..) الحديث.

هذا الحديث الثابت في الصحيح كما في رواية ابن عباس أصل عند العلماء رحمهم الله في البناء في الأعداد على الأقل، فمن شك هل صلى واحدة أو اثنتين بنى على واحدة، ومن شك في زكاته هل أخرج كل الزكاة أو نصف الزكاة بنى على أنه أخرج نصفها حتى يتحقق أنه قد أدى حق الله بأداء الكل.

والمرأة إذا كان عليها الحداد وشكت هل مر عليها أربعة أشهر وعشر، أو أربعة أشهر وتسعة أيام؛ بنت على أنها تسع حتى تتحقق من اليوم العاشر، ومن شك هل صام الشهرين متتابعين أو بقي له يوم أو يومان بنى على أنه لم يصم اليومين حتى يتحقق من ذلك.

وفي الزكاة لو أنه وجبت عليه مائة ألف، فشك هل أخرج تسعين ألفاً أو مائة ألف نقول: أنت على يقينٍ أنك أخرجت تسعين ألفاً وشككت من المائة، فالذي دفعته هو تسعون ألفاً حتى تتحقق أنك أكملتها مائة، فيجب عليه التمام والبناء على الأقل، والعكس: فلو شك هل بلغ ماله النصاب أو لم يبلغ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يتحقق أنه وصل إلى العدد الذي هو نصاب ماله.

وكذلك أيضاً في الحج: فمن طاف وشك هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط بنى على الستة، ومن سعى على الصفا والمروة وشك هل هذا الشوط هو الخامس أو السابع ولم يكن هناك قرينة، كما لو وقف على المروة وشك هل هو في الخامس أو السابع أو شك وهو على الصفا هل هو في الشوط الثاني أو في الشوط الرابع؛ فإنه يبني على الأقل وهو الثاني؛ لأنه على يقين من الأقل وعلى شكٍ مما زاد، فيبني على الأقل.

وكذلك في رمي الجمار، لو أنه شك هل رمى سبع حصيات أو ستاً، بنى على ستٍ حتى يتيقن أنه رمى السابعة.

وكذلك في المعاملات مثلما ذكرنا هنا في الطلاق: فلو أنه شك هل طلق طلقتين أو واحدة بنى على واحدة كما ذكر المصنف، وذكر الواحدة لأنها الأصل، وما زاد على ذلك يبنى على هذه المسألة، فإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثاً قلنا: يبني على اثنتين ولا يبني على واحدة؛ لأن الواحدة مفروغٌ منها، وإنما الشك هل هما طلقتان أو ثلاث تطليقات، فيقال: إنهما طلقتان حتى يتحقق أنه قد طلق الثالثة.

إذا جئت إلى أي مسألة من هذه المسائل فهناك أصلٌ وخارج عن الأصل، ففي الصلاة الأصل أنه مطالب بأربع ركعات والله فرضها عليه، وذمته مشغولةٌ بها، فإذا جاء يقول: أصليت أربعاً أو ثلاثاً، فنحن متأكدون أن ذمته قد فرغت من الثلاث وشككنا في الرابعة، فنرجع إلى الأصل أنه لم يؤدها حتى يتحقق أنه أداها، وكذا لو طاف بالبيت وشك هل هو في الشوط السابع أو في السادس نقول: إن الله فرض عليه أن يطوف سبعاً، فإذا تحقق من ستة وجب عليه أن يتم السابع كما أمره الله.

كذلك هنا في مسألة الطلاق: الأصل أنها زوجته وامرأته، فإذا شك هل طلقها ثلاثاً فهي بائنٌ منه أو طلقها طلقتين فليست ببائنة، فالأصل أنها زوجته، فكل شيء له أصل، فإذا عارضه ما لا يقوى على رفعه وهو من الشكوك والاحتمالات سقط الشك وبنى على اليقين، وهذا معنى قول العلماء: (اليقين لا يزول بالشك)، فاليقين في الطلاق أنها زوجته، ولا يزول بالشك وهو أنه حرمها بالثلاث.

وهكذا: اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أنه طلق طلقتين، فلا يزال بالشك في الثالثة، واليقين أنه إذا شك واحدة أو اثنتين، فاليقين أنه طلق طلقة واحدة فلا نزيل يقين الواحدة بشك الثانية، وقس على ذلك بقية المسائل؛ فإنها مبينة على هذا الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

ففي الحالة الأولى: يشك في وجود الطلاق وعدم وجوده.

أي: هل تلفظ بالطلاق أو لم يتلفظ؟! وحينئذٍ يُلْزَم شرعاً بالرجوع إلى الأصل، ويقال له: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود.

ثم هناك أصلٌ ثانٍ: وهو أن الأصل بقاء ما كان على ما كان، فالأصل: أن الزوجة زوجتك، وأنها امرأتك، وأنها حلالٌ لك بحكم الله عز وجل، فأنت باقٍ على هذا الأصل، وتستصحبه لعدم قوة المزيل.

وعلى كل حال فلا تطلق عليه زوجته.

مثال ذلك: لو أن شخصاً جاءه الشيطان فقال له: تلفظت بالطلاق. فقال: ما تلفظت، فحصل له شك وتردد، وأصبح في شك هل طلق زوجته أو لم يطلقها، هل وقع منه الطلاق أو لم يقع، أو نبست شفتاه به وتحركت؟

ففي جميع ذلك يقال له: الأصل أنك لم تتلفظ حتى يثبت أنك تلفظت وقلت الطلاق، هذا بالنسبة لوجود الطلاق، هل وجد منه طلاق أو لم يوجد؟

فنقول: الأصل العدم حتى يدل الدليل على الوجود، ثم نقول: هذه زوجته؛ لأن القاعدة الشرعية تقول: الأصل بقاء ما كان على ما كان.

فالذي كان: أنها زوجته، والأصل بقاء ما كان وهي كونها زوجةً له، على ما كان، أي: على حال العصمة والزوجية وهو ما يسمى بـ(استصحاب حكم الأصل).

أما النوع الثاني: وهو الشك في الشرط فمثاله:

قال: إن فعلت كذا وكذا فامرأتي طالق، ثم شك هل فعل أو لم يفعل؟

أو قال في شرطٍ عدمي: إن لم أفعل فزوجتي طالق، وشك هل فعل فزوجته لم تطلق أو لم يفعل فزوجته طالق.

للعلماء في هذا الشرط أقوال: فمنهم من قال: يفرق بين الشرط العدمي (إن لم أفعل، إن لم أقل) فلا يقع لأن الأصل العدم، وبين غيره وهو الوجودي.

والصحيح: أنه لا فرق بين العدمي الوجودي، وأنه إذا شك في الشرط هل تحقق حتى يقع الطلاق أو لم يتحقق، فإننا نقول: تبقى على الأصل: أن لا طلاق حتى تتحقق من وقوع الشرط وثبوته، مثل ما تقدم معنا في مسألة وجود الطلاق وعدمه.

وفي كلتا الصورتين الأولى والثانية، الشك في الوجود وعدمه، والشك في تحقق الشرط وعدمه، يكون التردد بين وقوع الطلاق وعدم وقوع الطلاق، فحينئذٍ يتردد بين الأمرين، أي: بين ما يوجب ثبوت وقوع الطلاق وبين ما يمنع من وقوع الطلاق ويدل على بقاء الزوجية.

في الصورة الثالثة: أن يتحقق من وقوع الطلاق ولكن لا يدري كم طلق زوجته، فقال: قلت لامرأتي أنت طالق وأشك، هل طلقتها ثلاثاً أو اثنتين أو واحدة؟

فنقول: يبنى على الأقل، فإن قال لها: أنت طالق، أنت طالق، أنت طالق، فهذه ثلاث تطليقات، وفي الأصل: أن من تلفظ بالطلاق ناوياً الطلاق ثلاثاً -كما تقدم معنا- أنه تنفذ عليه الثلاث في مجلسٍ واحد أو كلمةٍ واحدة، كما قضى به أمير المؤمنين عمر بن الخطاب رضي الله عنه، وانعقد عليه سواد الأمة الأعظم، ولا مخالف له من الصحابة في مواجهته حينما أفتى به على منبر رسول الله صلى الله عليه وسلم.

فإذا تلفظ بهذا فالأصل أنه ملزمٌ بالثلاث، لكن لو أنه شك هل الذي قاله: طلقتين أو قال: ثلاث تطليقات فإنه يبني على اثنتين؛ لأنه إذا شك هل طلق واحدةً أو اثنتين فهو لا يشك أنه طلق واحدة، والشك في الطلقة الثانية هل وقعت أو لم تقع، وإذا شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً فإنه يجزم بأن الاثنتين وقعتا، ولكن الشك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع!

فالأصل أن يبني على الأقل، وقد بينا هذه المسألة وذكرنا كلام العلماء رحمهم الله فيها وأشرنا إلى قاعدتها الأصلية: (اليقين لا يزال بالشك) وذكرنا الفروع التي بناها العلماء في المسائل المتقدمة معنا في كتاب العبادات، فيقال: من شك هل طلق طلقتين أو ثلاثاً بنى على اثنتين، ومن شك هل طلق واحدةً أو اثنتين بنى على واحدة؟

إذاً الثلاث الصور: وقوع الطلاق وعدم وقوعه، والشك في الشرط هل وقع فيقع الطلاق أو لم يقع فلا طلاق، أو الشك في العدد؛ فإن الكل يجري فيه الزوج على اليقين، أما الزوجة فزوجته حتى يتحقق من ثبوت موجب الطلاق.

وهذا من رحمة الله لعباده، وتيسير الله عز وجل على هذه الأمة التي وضع عنها الآصار، ولو تصور المسلم أن الله آخذ كل من شك بشكه لما استقامت الحياة للإنسان، وقل أن تجد إنساناً إلا وقد ابتلاه الله بشيءٍ من حديث النفس في أمرٍ من أموره، ولذلك لو فتح باب الوسوسة لأصبح الناس في عناءٍ وضيق وحرج لا يعلمه إلا الله، فالحمد لله الذي لطف بعباده، ويسر علينا، وهدانا لهذا وما كنا لنهتدي لولا أن هدانا الله.

وقول المصنف: [وإن شك في عدده فطلقة وتباح له].

هذه الجملة تحتاج إلى تفصيل؛ لأن قوله: (إن شك في عدده) هذا إذا شك: هل هو واحدة أو اثنتين يقال: واحدة، أما لو شك اثنتين أو ثلاثاً فإنه يبني على اثنتين قولاً واحداً عند العلماء أن من شك: هل طلق زوجته طلقتين أو ثلاثاً بنى على طلقتين؛ لأنه متيقن أنها طلقتان وشاك في الثالثة هل وقعت أو لم تقع؛ مثلما ذكرنا في الصلاة.

والأصل في هذا كله حديث أبي سعيد الخدري رضي الله عنه، وحديث ابن عباس رضي الله عنهما أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إذا صلى أحدكم فلم يدر واحدةً صلى أو اثنتين فليبن على واحدة، فإن لم يدر اثنتين صلى أو ثلاثاً فليبن على اثنتين، فإن لم يدر أثلاثاً صلى أو أربعاً فليبن على ثلاث، ثم إذا تشهد فليسجد سجدتين قبل أن يسلم ..) الحديث.

هذا الحديث الثابت في الصحيح كما في رواية ابن عباس أصل عند العلماء رحمهم الله في البناء في الأعداد على الأقل، فمن شك هل صلى واحدة أو اثنتين بنى على واحدة، ومن شك في زكاته هل أخرج كل الزكاة أو نصف الزكاة بنى على أنه أخرج نصفها حتى يتحقق أنه قد أدى حق الله بأداء الكل.

والمرأة إذا كان عليها الحداد وشكت هل مر عليها أربعة أشهر وعشر، أو أربعة أشهر وتسعة أيام؛ بنت على أنها تسع حتى تتحقق من اليوم العاشر، ومن شك هل صام الشهرين متتابعين أو بقي له يوم أو يومان بنى على أنه لم يصم اليومين حتى يتحقق من ذلك.

وفي الزكاة لو أنه وجبت عليه مائة ألف، فشك هل أخرج تسعين ألفاً أو مائة ألف نقول: أنت على يقينٍ أنك أخرجت تسعين ألفاً وشككت من المائة، فالذي دفعته هو تسعون ألفاً حتى تتحقق أنك أكملتها مائة، فيجب عليه التمام والبناء على الأقل، والعكس: فلو شك هل بلغ ماله النصاب أو لم يبلغ فالأصل أنه لم يبلغ حتى يتحقق أنه وصل إلى العدد الذي هو نصاب ماله.

وكذلك أيضاً في الحج: فمن طاف وشك هل طاف سبعة أشواط أو ستة أشواط بنى على الستة، ومن سعى على الصفا والمروة وشك هل هذا الشوط هو الخامس أو السابع ولم يكن هناك قرينة، كما لو وقف على المروة وشك هل هو في الخامس أو السابع أو شك وهو على الصفا هل هو في الشوط الثاني أو في الشوط الرابع؛ فإنه يبني على الأقل وهو الثاني؛ لأنه على يقين من الأقل وعلى شكٍ مما زاد، فيبني على الأقل.

وكذلك في رمي الجمار، لو أنه شك هل رمى سبع حصيات أو ستاً، بنى على ستٍ حتى يتيقن أنه رمى السابعة.

وكذلك في المعاملات مثلما ذكرنا هنا في الطلاق: فلو أنه شك هل طلق طلقتين أو واحدة بنى على واحدة كما ذكر المصنف، وذكر الواحدة لأنها الأصل، وما زاد على ذلك يبنى على هذه المسألة، فإن شك هل طلق اثنتين أو ثلاثاً قلنا: يبني على اثنتين ولا يبني على واحدة؛ لأن الواحدة مفروغٌ منها، وإنما الشك هل هما طلقتان أو ثلاث تطليقات، فيقال: إنهما طلقتان حتى يتحقق أنه قد طلق الثالثة.

إذا جئت إلى أي مسألة من هذه المسائل فهناك أصلٌ وخارج عن الأصل، ففي الصلاة الأصل أنه مطالب بأربع ركعات والله فرضها عليه، وذمته مشغولةٌ بها، فإذا جاء يقول: أصليت أربعاً أو ثلاثاً، فنحن متأكدون أن ذمته قد فرغت من الثلاث وشككنا في الرابعة، فنرجع إلى الأصل أنه لم يؤدها حتى يتحقق أنه أداها، وكذا لو طاف بالبيت وشك هل هو في الشوط السابع أو في السادس نقول: إن الله فرض عليه أن يطوف سبعاً، فإذا تحقق من ستة وجب عليه أن يتم السابع كما أمره الله.

كذلك هنا في مسألة الطلاق: الأصل أنها زوجته وامرأته، فإذا شك هل طلقها ثلاثاً فهي بائنٌ منه أو طلقها طلقتين فليست ببائنة، فالأصل أنها زوجته، فكل شيء له أصل، فإذا عارضه ما لا يقوى على رفعه وهو من الشكوك والاحتمالات سقط الشك وبنى على اليقين، وهذا معنى قول العلماء: (اليقين لا يزول بالشك)، فاليقين في الطلاق أنها زوجته، ولا يزول بالشك وهو أنه حرمها بالثلاث.

وهكذا: اليقين لا يزول بالشك، فاليقين أنه طلق طلقتين، فلا يزال بالشك في الثالثة، واليقين أنه إذا شك واحدة أو اثنتين، فاليقين أنه طلق طلقة واحدة فلا نزيل يقين الواحدة بشك الثانية، وقس على ذلك بقية المسائل؛ فإنها مبينة على هذا الأصل الذي دلت عليه نصوص الكتاب والسنة.

قال رحمه الله: [فإذا قال لامرأتيه: إحداكما طالق طلقت المنوية، وإلا من قرعت].

وهنا حالتان:

الحالة الأولى: أن يميز من هي التي طلقها ويعينها في قرارة نفسه.

والحالة الثانية: ألا يميز، بأن يقول: إحداكما، ويرسلها هكذا فإذا قال: إحداكما طالق ونوى واحدة منهما، فمثلاً: كان بين امرأتيه وأراد أن يخوف الثانية حتى تتأدب بطلاق الأولى فقال لهما حينما تمالأتا عليه وعلم أن إحداهما هي شر وهي البلاء فقال: إحداكما طالق، فأراد أن تخاف الثانية وأن توقع على نفسها احتمال أنها مطلقة فترتدع وتدخلها الرهبة، وهو قاصدٌ في قرارة قلبه أن المطلقة خديجة، وأن الثانية وهي عائشة ليست بمطلقة، فحينئذٍ إذا عين وقال: قصدت عائشة أو قصدت خديجة عُمِل بالتعيين إجماعاً؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إنما الأعمال بالنيات)، وفي التردد يرجع إلى النية، وهذا أصل في الشريعة.

ولذلك إذا قال أحدٌ كلاماً محتملاً فلا يجوز أن يجزم بأحد الاحتمالين حتى يعين ويقول: قصدت كذا أو أردت كذا، أما إذا لم يعين ولم يبين فإننا لا نجزم؛ لأن كلامه محتمل، والله عز وجل لم يجعل المحتمل كالصريح، ولم يجعل الواضح البين كالمبهم، فكل شيءٍ قد جعل له ربك قدراً، فلا يجوز أن يرفع عن قدره ولا أن يوضع عن حقه.

فعلى كل حال إذا قال: إحداكما طالق، وعين إحدى المرأتين؛ وجب الحكم بطلاق المعينة التي عينها. فيقال له: من قصدت بالطلاق؟ فإن قال: خديجة أو عائشة حُكِم بطلاقها، فاللفظ متردد ورُجِع في تعيينه وزوال إبهامه، وتردده إلى المتلفظ وهو الزوج.

الحالة الثانية: ألا يكون هناك تعيين، ولها صور:

منها أن يقول: إحداكما طالق ويموت.

ومنها أن يقول: إحداكما طالق ولم يتمكن من مراجعة ومعرفة ماذا قصد حتى نسي، ولم يدر أهي فلانة أو فلانة، فجهل التعيين.

فإذا جهل التعيين فمذهب طائفة من العلماء رحمهم الله، أننا تحققنا من وقوع الطلاق ولكن لا ندري أيتهما التي تطلق، فحينئذٍ يصار إلى القرعة، والقرعة أصلٌ شرعي في إثبات التعيين، فإذا قصد واحدةً ونسيها فإنه يعين بالقرعة، وقال بعض العلماء: لا تطلق لا هذه ولا تلك حتى يستيقن من التي عينها بالطلاق.

فقوله: [وإلا من قرعت].

أي: التي خرجت عليها القرعة كما ذكرنا، قالوا: لأن القرعة دليلٌ شرعي تثبت به الأحكام، دل على ثبوته الكتاب والسنة، وعمل السلف الصالح من هذه الأمة، فقد بين الله تعالى أن الأنبياء عملوا بالقرعة، ولذلك قال عن نبيه يونس: فَسَاهَمَ فَكَانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ [الصافات:141]، وخرجت عليه القرعة فرمي في البحر.

وكذلك: سليمان عليه وعلى نبينا الصلاة والسلام عمل بالقرعة.

وكذلك: كان نبي الأمة صلوات الله وسلامه عليه يعمل بالقرعة كما في الصحيح: (أنه كان إذا خرج إلى سفر أقرع بين نسائه صلوات الله وسلامه عليه، فمن خرجت عليها القرعة منهن سافر بها)، فهذا يدل على العمل بالقرعة، ولذلك عمل بها الصحابة رضوان الله عليهم وعمل بها أئمة السلف رحمهم الله أجمعين، وكذلك الخلف من بعدهم.

فدل هذا على ثبوتها حجة، ولذلك يقولون: تثبت حجةً شرعاً وقدراً، فالحكم بها شرعي، وأما القدري فإن الله يقدر لعباده فإن خرجت القرعة على واحد، فإنه يكون هو المعين لما قصد من هذه القرعة في طلاقٍ وغيره.

إذاً: إذا قال: إحداكما طالق. تحققنا أن إحدى الزوجتين طالق، فإن قلنا له: عيَّن، فقال: لا أتذكر ونسيت، حكم بالقرعة، أما لو قلنا له: هل تعلمها، فقال: نعم أعلمها؛ فإنه حينئذٍ يجبر على التعيين، فإذا امتنع من التعيين امتنعت كلتا الزوجتين من تمكينه من نفسها، فإذا بلغ أمره إلى القاضي أجبره على التعيين، وقال بعض العلماء: يعزر ويسجن حتى يحدد من هي الزوجة التي قصدها بهذا اللفظ، ولا يتساهل معه في هذا؛ لأن الطلاق تترتب عليه حقوق، ولأنه لو مات حصل الإشكال، حتى لو وجدت القرعة ربما خرجت على غير المطلقة، ولذلك يلزمه شرعاً التعيين، ومن مهمات القاضي إرجاع الحقوق إلى أهلها، فالطلاق له حقوق وتبعات، خاصةً مع وجود المرأة الثانية التي لم يقع عليها الطلاق، فهو بهذه الطريقة يعلم المرأة التي لم تطلق وحينئذٍ يجب عليه أن يعين.

فإذا قال: نسيت؛ فحينئذٍ يحكم القاضي بالقرعة، فمن خرجت القرعة عليها فقد اختارها الله قدراً فينفذ الطلاق ويتعلق بها.

قال رحمه الله: [كمن طلق إحداهما بائناً ونسيها].

أي: إذا قال: إحداكما طالقٌ ثلاثاً وكانت الزوجتان معقوداً عليهما لم يدخل بهما، فالطلقة الأولى طلقة بائنة.

حكم طلاق الشك إذا تغينت المطلقة بعد القرعة بزمن

قال رحمه الله: [وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم].

هذه من آثار الحكم، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ودقة أهل العلم رحمهم الله فإنهم لا يبحثون فقط في حكم المسألة وإنما يعتنون ببيان ما يترتب عليها من آثار، وفصلوا في المسائل التي تنبني على الأصول، وفرعوا الفروع في القواعد، كل هذا حتى يكون النظر والفهم من الفقيه شاملاً؛ لأن الشريعة شريعة كمال، ومن كمال الشريعة العناية بمثل هذه المسائل.

ولو أن القرعة خرجت على واحدة وطلقت عليه، وتبين بعد خمس سنوات أو ست سنوات من هي التي قصدها، فتذكر وقال: كنت أقصد فلانة، وتبين أن التي قصدها غير التي خرجت عليها القرعة، فقد عاش مع هذه المطلقة البائنة منه وهي امرأة أجنبية؛ عاش معها على أنها زوجته وفي عصمته، وربما أنجب منها أولاده، وكذلك أيضاً الثانية هي زوجته وفي عصمته وربما تزوجت أجنبياً، وهي امرأة في عصمة غيره، فما الحكم في هذه الآثار؟

أولاً: بالنسبة للزوجة التي بقيت في عصمته وهي أجنبية، فوطؤه لها وطء شبهة لا يوجب الحد لا عليه ولا عليها، وهذا ما يسميه العلماء بنكاح الشبهة، بأن يكون عنده شبهة تبيح له وطء امرأة يظن أنها زوجته، فحينئذٍ يدرأ عنه الحد ولا يفتى أنه زان، ولا يحكم بزناه، ولذلك لما عُرّف الزنا قيل: (الوطء في غير نكاحٍ صحيح ولا شبهة)، فشبهة النكاح تدرأ الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وتسري عليه الأحكام، فيكون ما أنفق عليها لقاء استمتاعه بها، والنفقة ليست واجبة على الأجنبية، فنقول: ليس من حقك أن تسترد نفقة السنوات الماضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلها المهر بما استحل من فرجها، وقال تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، فدل على المعاوضة في جانب الوطء والنفقة.

ثانياً: بالنسبة للمرأة الثانية التي هي في عصمته، والتي تبين أنها زوجته، فحينئذٍ ينظر فيها:

قال بعض العلماء: ترد له بكل حال، وهذا في الحقيقة أقوى المذاهب وأعدلها وأولاها بالصواب؛ لأن نكاح الثاني فاسدٌ تبين خطؤه، وقد ظنوا أنها أجنبية منه، والظن مخطئ، وإذا تبين خطؤه رجع إلى الأصل.

قاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) أي: الذي بان خطؤه، فنحن صححنا النكاح بظننا أنها أجنبية، وقد تبين أنها محصنة، وقد نص الله في كتابه على أن المحصنات من النساء لا يحل نكاحهن، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز نكاح المرأة وهي في عصمة الزوج، وإذا ثبت هذا فهي امرأة في عصمة زوج، فيكون دخول نكاح الثاني لاغياً وترد إلى الأول.

هذا عند بعض العلماء؛ لكن أشكل على هذا القول أن بعض أهل العلم -كما اختاره المصنف رحمه الله- قال: إنها إذا تزوجت رجلاً ثانياً وقال الأول: أنا قصدت بالطلاق فلانة فيتهم في قوله؛ لأننا نكون حينئذٍ قد ألغينا نكاحاً ثابتاً؛ لأن النكاح الثاني وقع بصفته الشرعية، وأردنا أن نلغيه بقول من يتهم في قوله، لأنه ربما قصد رجوع تلك المرأة إليه؛ فقال: أتذكر من التي طلقتها! أنا طلقت فلانة. فقالوا: لا يصح أن نرفع اليقين من كونها زوجةً للثاني باحتمال من هذا الرجل الذي قد يتهم في قوله.

ولذلك قالوا: لا نرفع اليقين بالشك، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، قالوا: لكن صححنا الأول وقويناه في حالةٍ واحدة، وهي أن يثبت بالدليل أنه عين التي قصدها؛ كأن يكون مع رجلين وقال: خديجة طالقٌ مني، فتكون هي التي عينها، ثم رجع إلى بيته فنسي من التي طلقها أهي خديجة أو عائشة، فلما قيل له: من الذي طلقت؟ قال: أنا أجزم بأن إحداهما طلقت ولكن لا أدري أخديجة أو عائشة، فنقول حينئذٍ: عيَّن، فإن قال: لا أدري ولا أستطيع، قلنا: هل سمعك أحد؟ فإن قال: سمعني رجلان، قلنا: هل تستطيع أن تعثر عليهما؟ فإن قال: لا. ثم بعد سنتين التقى بالرجلين فقال: هل طلقت خديجة أو عائشة؟ فإن قالوا: طلقت خديجة، فحينئذٍ لا إشكال أن ثبوت البينة والدليل يقوى على رفع نكاح الثاني وإلغائه؛ لأنه دل الدليل على ثبوت العصمة للمرأة وأنها باقية على نكاح زوجها الأول وقد نكحت الثاني امرأة محصنة، فلا يصح نكاح الثاني، وقد تبين خطؤه، وهذه هي الحالة التي نصحح فيها هذا القول ونقويه، ونقويه أيضاً ديانةً فيما بينه وبين الله، فإنه إذا جزم فيما بينه وبين الله أنه عين خديجة فلا إشكال، وهذا فيما بينه وبين الله، ويحل له أن يرجع إليها ما لم تكن قد تزوجت؛ على التفصيل الذي ذكرنا.

وقوله: [أو تكن القرعة بحاكم].

أي: بحكم الحاكم كما سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء، ولا يجوز نقضه ولا فسخه إلا إذا عارض نصاً صريحاً قاطعاً في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شذ عن الإجماع، فهذه هي الحالات التي تنقض فيها أحكام القضاة، أما لو كانت المسألة خلافية وقضى القاضي بأحد القولين فلا يجوز لأحد أن ينقض قوله كائناً من كان؛ لأن الله تعبده أن يقضي في هذه المسألة بما يراه الحق.

ولو فتح الباب لكل قاضٍ أن ينقض أحكام من قبله من القضاة الذين خالفوه لما استقام الأمر، ولذلك لا يعقب على حكم القاضي الذي تأهل للقضاء إلا إذا عارض نصاً من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماعاً كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

ويشترط في النص أن يكون صريحاً، فإن النص المحتمل كما أنه يحتمل قول الآخر فهو يحتمل قول القاضي، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، وما دام أن الشريعة جاءت بنصوص محتملة فقد عذر كل من أخذ بهذه الاحتمالات ما لم يكن بعضها أرجح من بعض، وحينئذٍ يعمل المسلم فيما بينه وبين الله بما ترجح، لكن الراجح عندي لا ألزم به غيري إذا رآه مرجوحاً، فكلٌ يعمل بما ترجح عنده، وهذا الذي جعل العلماء يقرون القاعدة المعروفة: (لا إنكار في الخلاف) أي: لا ينكر في المسألة الخلافية.

فإذا رفعت القضية إلى القاضي فأقرع بينهما وحكم أن المطلقة خديجة ففي هذه الحالة نحكم بأن خديجة قد أصبحت أجنبيةً وحل نكاح الثاني لها، ولا يمكن أن يزال هذا اليقين بشكٍ خاصة وأن الزوج الأول متهم في قوله.

قال رحمه الله: [وإن تبين أن المطلقة غير التي قرعت ردت إليه ما لم تتزوج أو تكن القرعة بحاكم].

هذه من آثار الحكم، وهذا من كمال الشريعة الإسلامية ودقة أهل العلم رحمهم الله فإنهم لا يبحثون فقط في حكم المسألة وإنما يعتنون ببيان ما يترتب عليها من آثار، وفصلوا في المسائل التي تنبني على الأصول، وفرعوا الفروع في القواعد، كل هذا حتى يكون النظر والفهم من الفقيه شاملاً؛ لأن الشريعة شريعة كمال، ومن كمال الشريعة العناية بمثل هذه المسائل.

ولو أن القرعة خرجت على واحدة وطلقت عليه، وتبين بعد خمس سنوات أو ست سنوات من هي التي قصدها، فتذكر وقال: كنت أقصد فلانة، وتبين أن التي قصدها غير التي خرجت عليها القرعة، فقد عاش مع هذه المطلقة البائنة منه وهي امرأة أجنبية؛ عاش معها على أنها زوجته وفي عصمته، وربما أنجب منها أولاده، وكذلك أيضاً الثانية هي زوجته وفي عصمته وربما تزوجت أجنبياً، وهي امرأة في عصمة غيره، فما الحكم في هذه الآثار؟

أولاً: بالنسبة للزوجة التي بقيت في عصمته وهي أجنبية، فوطؤه لها وطء شبهة لا يوجب الحد لا عليه ولا عليها، وهذا ما يسميه العلماء بنكاح الشبهة، بأن يكون عنده شبهة تبيح له وطء امرأة يظن أنها زوجته، فحينئذٍ يدرأ عنه الحد ولا يفتى أنه زان، ولا يحكم بزناه، ولذلك لما عُرّف الزنا قيل: (الوطء في غير نكاحٍ صحيح ولا شبهة)، فشبهة النكاح تدرأ الحد، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (ادرءوا الحدود بالشبهات)، وتسري عليه الأحكام، فيكون ما أنفق عليها لقاء استمتاعه بها، والنفقة ليست واجبة على الأجنبية، فنقول: ليس من حقك أن تسترد نفقة السنوات الماضية؛ لأن النبي صلى الله عليه وسلم قال: فلها المهر بما استحل من فرجها، وقال تعالى: فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ [النساء:24]، فدل على المعاوضة في جانب الوطء والنفقة.

ثانياً: بالنسبة للمرأة الثانية التي هي في عصمته، والتي تبين أنها زوجته، فحينئذٍ ينظر فيها:

قال بعض العلماء: ترد له بكل حال، وهذا في الحقيقة أقوى المذاهب وأعدلها وأولاها بالصواب؛ لأن نكاح الثاني فاسدٌ تبين خطؤه، وقد ظنوا أنها أجنبية منه، والظن مخطئ، وإذا تبين خطؤه رجع إلى الأصل.

قاعدة: (لا عبرة بالظن البين خطؤه) أي: الذي بان خطؤه، فنحن صححنا النكاح بظننا أنها أجنبية، وقد تبين أنها محصنة، وقد نص الله في كتابه على أن المحصنات من النساء لا يحل نكاحهن، وأجمع العلماء على أنه لا يجوز نكاح المرأة وهي في عصمة الزوج، وإذا ثبت هذا فهي امرأة في عصمة زوج، فيكون دخول نكاح الثاني لاغياً وترد إلى الأول.

هذا عند بعض العلماء؛ لكن أشكل على هذا القول أن بعض أهل العلم -كما اختاره المصنف رحمه الله- قال: إنها إذا تزوجت رجلاً ثانياً وقال الأول: أنا قصدت بالطلاق فلانة فيتهم في قوله؛ لأننا نكون حينئذٍ قد ألغينا نكاحاً ثابتاً؛ لأن النكاح الثاني وقع بصفته الشرعية، وأردنا أن نلغيه بقول من يتهم في قوله، لأنه ربما قصد رجوع تلك المرأة إليه؛ فقال: أتذكر من التي طلقتها! أنا طلقت فلانة. فقالوا: لا يصح أن نرفع اليقين من كونها زوجةً للثاني باحتمال من هذا الرجل الذي قد يتهم في قوله.

ولذلك قالوا: لا نرفع اليقين بالشك، وهذا القول هو الذي اختاره المصنف، قالوا: لكن صححنا الأول وقويناه في حالةٍ واحدة، وهي أن يثبت بالدليل أنه عين التي قصدها؛ كأن يكون مع رجلين وقال: خديجة طالقٌ مني، فتكون هي التي عينها، ثم رجع إلى بيته فنسي من التي طلقها أهي خديجة أو عائشة، فلما قيل له: من الذي طلقت؟ قال: أنا أجزم بأن إحداهما طلقت ولكن لا أدري أخديجة أو عائشة، فنقول حينئذٍ: عيَّن، فإن قال: لا أدري ولا أستطيع، قلنا: هل سمعك أحد؟ فإن قال: سمعني رجلان، قلنا: هل تستطيع أن تعثر عليهما؟ فإن قال: لا. ثم بعد سنتين التقى بالرجلين فقال: هل طلقت خديجة أو عائشة؟ فإن قالوا: طلقت خديجة، فحينئذٍ لا إشكال أن ثبوت البينة والدليل يقوى على رفع نكاح الثاني وإلغائه؛ لأنه دل الدليل على ثبوت العصمة للمرأة وأنها باقية على نكاح زوجها الأول وقد نكحت الثاني امرأة محصنة، فلا يصح نكاح الثاني، وقد تبين خطؤه، وهذه هي الحالة التي نصحح فيها هذا القول ونقويه، ونقويه أيضاً ديانةً فيما بينه وبين الله، فإنه إذا جزم فيما بينه وبين الله أنه عين خديجة فلا إشكال، وهذا فيما بينه وبين الله، ويحل له أن يرجع إليها ما لم تكن قد تزوجت؛ على التفصيل الذي ذكرنا.

وقوله: [أو تكن القرعة بحاكم].

أي: بحكم الحاكم كما سيأتي إن شاء الله في كتاب القضاء، ولا يجوز نقضه ولا فسخه إلا إذا عارض نصاً صريحاً قاطعاً في كتاب الله، أو سنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو شذ عن الإجماع، فهذه هي الحالات التي تنقض فيها أحكام القضاة، أما لو كانت المسألة خلافية وقضى القاضي بأحد القولين فلا يجوز لأحد أن ينقض قوله كائناً من كان؛ لأن الله تعبده أن يقضي في هذه المسألة بما يراه الحق.

ولو فتح الباب لكل قاضٍ أن ينقض أحكام من قبله من القضاة الذين خالفوه لما استقام الأمر، ولذلك لا يعقب على حكم القاضي الذي تأهل للقضاء إلا إذا عارض نصاً من كتاب الله، أو من سنة النبي صلى الله عليه وسلم، أو إجماعاً كما سيأتي إن شاء الله بيانه.

ويشترط في النص أن يكون صريحاً، فإن النص المحتمل كما أنه يحتمل قول الآخر فهو يحتمل قول القاضي، وليس أحد الاحتمالين بأولى من الآخر، وما دام أن الشريعة جاءت بنصوص محتملة فقد عذر كل من أخذ بهذه الاحتمالات ما لم يكن بعضها أرجح من بعض، وحينئذٍ يعمل المسلم فيما بينه وبين الله بما ترجح، لكن الراجح عندي لا ألزم به غيري إذا رآه مرجوحاً، فكلٌ يعمل بما ترجح عنده، وهذا الذي جعل العلماء يقرون القاعدة المعروفة: (لا إنكار في الخلاف) أي: لا ينكر في المسألة الخلافية.

فإذا رفعت القضية إلى القاضي فأقرع بينهما وحكم أن المطلقة خديجة ففي هذه الحالة نحكم بأن خديجة قد أصبحت أجنبيةً وحل نكاح الثاني لها، ولا يمكن أن يزال هذا اليقين بشكٍ خاصة وأن الزوج الأول متهم في قوله.




استمع المزيد من الشيخ محمد بن محمد مختار الشنقيطي - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح زاد المستقنع كتاب البيع [4] 3707 استماع
شرح زاد المستقنع باب الرجعة [1] 3623 استماع
شرح زاد المستقنع باب ما يختلف به عدد الطلاق 3445 استماع
شرح زاد المستقنع باب صلاة التطوع [3] 3378 استماع
شرح زاد المستقنع واجبات الصلاة 3345 استماع
شرح زاد المستقنع باب الإجارة [10] 3322 استماع
شرح زاد المستقنع باب التيمم [1] 3277 استماع
شرح زاد المستقنع باب صوم التطوع [2] 3232 استماع
شرح زاد المستقنع باب شروط القصاص 3187 استماع
شرح زاد المستقنع باب نفقة الأقارب والمماليك [6] 3172 استماع