أرشيف المقالات

بعض أحكام التأمين

مدة قراءة المادة : 29 دقائق .
بعض أحكام التأمين

التعريف بعقد التأمين:
يميِّز علماء القانون بين نظامِ التأمين باعتباره فكرة وطريقة ذات أثر اقتصادي واجتماعي ترتكز على نظرية عامة ذات قواعد فنية، وبين عقدِ التأمين باعتباره تصرفًا قانونيًّا يُنشئ حقوقًا والتزامات بين طرفين متعاقدين تطبيقًا عمليًّا لذلك النظام.
 
أولاً: نظام التأمين:
عرَّف الأستاذ/ مصطفى الزرقا نظام التأمين في نظر علماء القانون بأنه[1]: "نظام تعاقدي يقوم على أساس المعاوضة، غايته التعاون على ترميم أضرار المخاطر الطارئة بواسطة هيئات منظمة، تزاول عقوده بصورة فنية قائمة على أسس وقواعد إحصائية".
 
وذكر الدكتور/ عبدالرزاق السنهوري في شرح القانون المدني المصري: "أن نظرية التأمين ليست إلا تعاملاً منظمًا تنظيمًا دقيقًا بين عدد كبير من الناس مُعرَّضين جميعًا لخطرٍ واحد، حتى إذا تحقَّق الخطر بالنسبة إلى بعضهم تعاوَن الجميع على مواجهتِه بتضحية قليلة يبذلُها كلٌّ منهم، يتلافَون بها أضرارًا جسيمة تحيق بمن نزل الخطر به منهم لولا هذا التعاون"[2].
 
فالمفهوم الماثل في أذهان علماء القانون لنظام التأمين: أنه نظام تعاوني تضامني يؤدِّي إلى تفتيت أجزاء المخاطر والمصائب، وتوزيعها على مجموع المستأمنين عن طريق التعويض الذي يدفع للمصاب من المال المجموع من حصيلة أقساطهم، بدلاً من أن يبقى الضرر على عاتق المصاب وحدَه.
 
فهذه هي فكرة التأمين من الناحية النظرية، بغضِّ النظر عن الوسائل العملية والطرق المتبعة لتحقيق هذه الفكرة؛ لأن عقد التأمين الذي تُبرِمُه شركات التأمين مع المؤمَّن له ليس المقصود به التعاون وتخفيف الأضرار عن المصاب، وإنما غايته الحصول على أكبر قدرٍ من الأرباح والمكاسب.
 
ثانيًا: عقد التأمين:
هذا هو الجانب التطبيقي والواقع العملي لفكرة التأمين ونظامه، وهو الجدير بالوقوف عنده وإمعان النظر في حقيقته للتعرف على حكم الشريعة الإسلامية فيه.
 
لقد جاء في المادة (713) من القانون المدني السوري أن: "التأمين عقد يلتزم المؤمِّن بمقتضاه أن يؤدِّيَ إلى المؤمَّن له أو المستفيد الذي اشترط التأمين لصالحه مبلغًا من المال، أو إيرادًا مرتبًا، أو أي عِوَض مالي آخر في حالة وقوع الحادث أو تحقيق الخطر المبيَّن في العقد، وذلك في نظير قسط أو أية دفعة مالية أخرى يؤديها المؤمَّن له للمؤمِّن"، وهذا التعريف يدل على أمرين:
أحدهما: أن التأمين عقد من عقود المعاوضات المالية بين متعاقدين: المؤمِّن وهو الشركة، والمؤمَّن له وهو الشخص الذي يتعامل مع الشركة.
 
وهو من العقود الاحتمالية: ومن طبيعة العقد الاحتمالي ألا يحصل فيه أحد المتعاقدينِ على العِوَض أحيانًا، فالمؤمَّن له قد لا يأخذ شيئًا في أكثر الأحيان.
 
الثاني: أن عقد التأمين من عقود الغرر؛ لأنه مستور العاقبة، فإن كلاًّ من المتعاقدينِ لا يستطيع أن يعرف وقتَ العقد مقدارَ ما يعطي أو يأخذ؛ لأنه قد يدفع قسطًا من الأقساط ثم يقع الحادث فيستحق ما التزم المؤمِّن به، وقد لا يقع الحادث مطلقًا فيدفع جميع الأقساط ولا يأخذ شيئًا.
 
وكذلك المؤمِّن لا يستطيع أن يحدِّد ما يعطي وقت العقد بالنسبة لكل عقد بمفرده، (وإن كان يستطيع معرفة ذلك بطرق الإحصاء من ناحية عامة).
 
• وتجدر الإشارة إلى أن التأمين في العصر الحاضر لا يقوم به فرد نحو فرد، بل تقوم به شركات مساهمة كبيرة يتعامل معها عدد ضخم من المستأمنين، فيجتمع لها مبالغ كبيرة من أقساط التأمين، وتؤدي من هذه الأقساط المتجمعة ما يستحق عليها من تعويضات عند وقوع الحوادث والأخطار المؤمن منها، ويبقى رأس مالها سندًا احتياطيًّا، ويكون ربحها من الفرق بين ما تجمعه من أقساط وما تدفعه من تعويضات.
 
أول ظهور التأمين:
عقد التأمين عقد حديث النشأة لم يكن معروفًا من القديم، ويذكر علماء القانون أن أولَ ظهوره كان في القرن الرابعَ عشرَ الميلادي في إيطاليا؛ حيث وجد بعض الأشخاص الذين يتعهَّدون بتحمُّل الأخطار البحرية التي تتعرَّض لها السفن أو حمولتها نظير مبلغ معين، فكانت هذه بداية التأمين البحري، ثم ظهر بعده التأمينُ على الحياة، ثم انتشر بعد ذلك التأمينُ، وتنوع حتى شمل جميع نواحي الحياة، فأصبحت شركات التأمين تؤمِّن الأفراد من كل خطر يتعرَّضون له في أشخاصهم وأموالهم ومسؤولياتهم، بل أصبحت كثير من الحكومات تُجبِر رعاياها على بعض أنواع التأمين.
 
ويعدُّ العلامة ابن عابدين أوَّل مَن أفتى وتعرض للتأمين، فلقد أفتى - رحمه الله - بحرمة التأمين البحري[3].
 
أنواع التأمين:
1- ينقسم التأمين من حيث شكله إلى قسمين:
أحدهما: التأمين التعاوني، بحيث يجتمع مجموعة من الأشخاص المعرَّضين للخطر المشابه، ويدفع كل منهم اشتراكًا معينًا، وتصرف هذه الاشتراكات لأداء التعويض لمن يُصيبه الضرر، وإذا زادت الاشتراكات على ما صرف من تعويض، كان للأعضاء حق استردادها، وإن نقصت طولب الأعضاء باشتراك إضافي لتغطية العجز، وأعضاء شركة التأمين التعاوني لا يسعَون إلى تحقيق الأرباح، ولكن يسعَون إلى تخفيف الخسائر وتحمُّل المصائب، وتدار الشركة بواسطة أعضائها، فكل واحد يكون مؤمِّنًا ومؤمَّنًا له، (وهذا النوع قليل التطبيق اليوم).
 
الثاني: التأمين بقسط ثابت: وهو أن يلتزم المؤمَّن له بدفع قسط محدد إلى المؤمِّن، وهو شركة التأمين المكونة من أفراد مساهمين غير المؤمن لهم، وهؤلاء هم الذين يستفيدون من أرباح الشركة، (وهذا النوع هو السائد الآن).
 
الفرق بين النوعين:
إن الذي يتولى التأمين التعاوني ليس هيئة مستقلة عن المؤمَّن لهم، ولا يسعى أعضاؤه إلى تحقيق الربح، وإنما يسعَون إلى تخفيف الخسائر التي تلحق ببعض الأعضاء، فالغرض اجتماعي إنساني.
 
أما التأمين بقسط ثابت، فيتولاه المؤمِّن (الشركة المساهمة) الذي يهدف إلى تحقيق الربح على حساب المشتركين المؤمَّن لهم.
 
2- وينقسم التأمين من حيث موضوعه إلى قسمين:
أحدهما: تأمين الأضرار: وهو يتناول المخاطر التي تؤثر في مال أو ذمة المؤمَّن له، والغرض منه تعويضُ الخسارة التي تلحقُ المؤمَّن له بسبب الحادث، وهو ينقسم إلى قسمين:
1- تأمين على الأشياء: تعويض المؤمَّن له عن الخسارة التي تلحقه في ماله؛ مثل: التأمين على الحريق، والسرقة، والغرق، وموت الحيوانات، وسقوط الطائرات.
 
2- التأمين من المسؤولية: ضمان المؤمَّن له ضد الرجوع الذي قد يتعرَّض له من جانب الغير بسب ما أصابهم بسببه؛ حوادث السيارات، وحوادث العمل...
 
الثاني: تأمين الأشخاص: وهو يتناول كل أنواع التأمين المتعلقة بشخص المؤمَّن له، ويقصد به دفع مبلغ معين إذا وقع خطر معين للإنسان في وجوده أو سلامته، ويشمل تأمين الأشخاص نوعين أساسيين:
أ- التأمين لحال الوفاة: وهو أن يتعهد المؤمن في مقابل أقساط أن يدفع مبلغًا عند وفاة المؤمن عليه لورثته أو لأي شخص آخر.
 
ب- التأمين لحال البقاء: ويسمَّى التأمين المضادَّ، وهو التزام من المؤمِّن بدفع مبلغ من المال إلى المؤمَّن له إذا ظل حيًّا في تاريخ معين، وإذا مات قبل التاريخ المحدد لا يدفع المؤمِّن شيئًا مع احتفاظه بالأقساط.
 
ج- التأمين المختلط: والذي يجمع بين النوعين السابقين؛ حيث يلتزم فيه المؤمِّن بأداء المبلغ المؤمَّن به، إما في تاريخ معين للمؤمَّن نفسه إذا ظل حيًّا في هذا التاريخ، وإما إلى المستفيد المعين، أو إلى ورثة المؤمَّن له إذا مات قبل ذلك التاريخ، ويكون القسط في هذا النوع أكبر منه في النوعين السابقين.
 
د- التأمين من الحوادث الجسمانية: ويلتزم فيه المؤمِّن بدفع مبلغ معين إلى المؤمَّن له إذا أصابه في أثناء المدة المؤمَّن فيها حادث جسماني، أو إلى المستفيد المعين إذا مات المؤمَّن له من الحادث.
 
3- وينقسم التأمين إلى:
1- تأمين خاص: وهو ما عقد المؤمَّن له ليؤمِّن عن نفسه من خطر معين، ويكون الدافع إلى هذا التأمين الصالح الشخصي.
 
2- تأمين اجتماعي: وهو ما كان الغرض منه تأمين الأشخاص - الذين يعتمدون في معايشهم على كسب عملهم - من بعض الأخطار التي يتعرَّضون لها فتعجزهم أو تعطلهم عن العمل؛ كالمرض، والشيخوخة، والعجز.
 
حكم عقد التأمين في الشريعة الإسلامية:
أ- التأمين التعاوني:
لا شك في جواز التأمين التعاوني في الإسلام؛ لأنه يدخل في عقود التبرعات، وهو من قبيل التعاون على البر؛ لذا فهو أمر مرغوب فيه؛ لقوله -تعالى-: ﴿ وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى ﴾ [المائدة: 2]؛ وذلك لأن كلَّ مشترك يدفع اشتراكه بطيب نفس، متبرعًا بما يدفعُه لمن يحتاج إليه من سائر الشركاء، حسب الطريقة التي يتفق عليها، ولا ريبَ أن المتبرِّع إذا تبرَّع لجماعةٍ وصفت بصفة خاصة، فإنه يدخل في الاستحقاق مع هذه الجماعة إذا توافرت فيه تلك الصفة، كمَن تبرع لطلبة العلم، فإنه يستحق نصيبًا من هذا النوع إذا صار منهم، ومن هنا كان للمشترك التعاوني أن يأخذ المعونة من الجمعية إذا وقع خطر المؤمن منه.
 
وبناءً على اعتبارنا التأمين التعاوني من عقود التبرعات، فإن الغرر فيه مغتفر ولا يؤثر عليه؛ لأن محلَّ العقد في التبرعات عمومًا إذا فات على المتبرع عليه لم يلحقه بفواته ضرر؛ لأنه لم يبذل في مقابله عوضًا بخلاف عقود المعاوضات.
 
يقول الإمام القرافي في الفروق في هذا المعنى[4]:
"التصرفات ثلاثة أقسام: طرفان وواسطة:
فالطرفان:
أحدهما: معاوضة صِرْفَة، فيُجتَنب فيها ذلك، أي الجهالة والغرر إلا ما دعت الضرورة إليه.
 
وثانيهما: ما هو إحسان صرف لا يقصد به تنمية المال؛ كالصدقة والهبة والإبراء، فإن هذه التصرفات لا يقصد بها تنمية المال، بل إن فاتت على مَن أحسن إليه فلا ضرر عليه، فإنه لم يبذل شيئًا بخلاف القسم الأوَّل إذا فات بالغرر والجهالات ضاع المبذول في مقابلته، فاقتضت حكمةُ الشارع منعَ الجهالة فيه.
 
أما الإحسان الصرف، فلا ضرر فيه، فاقتضت حكمة الشرع حثَّه على الإحسان والتوسعة فيه بكل طريق بالمعلوم وبالمجهول، فإن ذلك أيسر لكثرة وقوعه قطعًا.
 
وفي المنع من ذلك وسيلة إلى تقليله، فإذا وهب له بعيرًا شاردًا، جاز أن يجده، فيحصل له ما ينتفع به، ولا ضرر عليه إن لم يجده؛ لأنه لم يبذل شيئًا"؛ اهـ.
 
فتوى هيئة كبار العلماء في المملكة العربية السعودية حول التأمين التعاوني:
وهذا النوع أقرَّت جوازَه هيئةُ كبار العلماء في المملكة العربية السعودية بالقرار رقم (51) في (4/4/1397هـ)، وقد وافق مجمع الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في شعبان سنة (1398هـ) بالإجماع على قرار هيئة كبار العلماء الآنفة الذكر؛ للأدلة التالية:
1- إن التأمين التعاوني من عقود التبرع التي يقصد بها أصالة التعاون على تفتيت الأخطار، والاشتراك في تحمل المسؤولية عند نزول الكوارث، وذلك عن طريق مشاركة أشخاص بمبالغ نقدية تخصص لتعويض مَن يصيبه الضرر، فجماعة التأمين التعاوني لا يستهدِفون تجارة ولا ربحًا من أموال غيرهم، وإنما يقصدون توزيع الأخطار بينهم والتعاون في تحمل الضرر.
 
2- خلو التأمين التعاوني من الربا بنوعَيه، ربا الفضل وربا النسيئة، فليست عقود المساهمين رِبَوية، ولا يستغِلُّون ما جمع من الأقساط في معاملات ربوية.
 
3- إنه لا يضر جهل المساهمين في التأمين التعاوني بتحديد ما يعود عليهم من النفع؛ لأنهم متبرِّعون، فلا مخاطرة، ولا غرر، ولا مقامرة، بخلاف التأمين التجاري، فإنه عقد معاوضة مالية تجارية.
 
4- قيام جماعة من المساهمين أو مَن يمثلهم باستثمار ما جمع من الأقساط لتحقيق الغرض الذي من أجله أنشئ هذا التعاون، سواء كان القيام بذلك تبرعًا أو مقابل أجر معين.
 
ب- التأمين بقسط ثابت:
كما سبق أن ذكرنا فإن عقد التأمين من العقود المستحدثة التي لم تكن معروفة قبل القرن الرابع عشر الميلادي؛ ولهذا فإننا لن نجد في حكمه نصًّا خاصًّا أو رأيًا للمتقدِّمين من الفقهاء، كما لا يوجد عقد من العقود المعروفة في الفقه الإسلامي يمكن قياس عقد التأمين عليه، لا من العقود الصحيحة ولا من العقود غير الصحيحة.
 
وما دام الأمر كذلك، فليس أمام الباحث في هذا الموضوع إلا الرجوع إلى قواعد الشريعة العامة وتطبيقها على هذا العقد المستحدث.
 
والقاعدة التي تحكم هذا الموضوع أن الأصل في العقود الجواز إلا ما ورد دليل على منعه.
 
وتطبيق هذه القاعدة يحتِّم علينا أن نبحث عمَّا إذا كان هناك دليل أو أي أمر يمنع صحة هذا العقد، ألا وهو عقد التأمين، وبالنظر والتأمل في طبيعة هذا العقد وموضوعه وآثاره نجد أنه يتضمَّن ما يلي:
أولاً: الرهان والمقامرة:
يقول الشيخ محمد بخيت المطيعي - مفتي الديار المصرية -: "عقد التأمين عقد فاسد شرعًا؛ وذلك لأنه معلَّق على خطر، تارة يقع وتارة لا يقع، فهو قمار معنًى".
 
ويقول الشيخ محمد إبراهيم: "...
أما إذا مات المؤمَّن له قبل إيفاء جميع الأقساط وقد يموت بعد دفع قسط واحد فقط...
فإذا أدَّت الشركة المبلغ الكبير لورثته أو لمن جعل المؤمَّن له ولاية قبض ما التزمت به الشركة بعد موته، ففي مقابل أي شيءٍ دفعت الشركة هذا المبلغ..
أليس هذا مخاطرة ومقامرة؟! وإذا لم يكن هذا من صميم المقامرة، ففي أي شيء تكون المقامرة؟ على أن المقامرة حاصلة أيضًا من ناحية أخرى، فإن المؤمَّن له بعد أن يوفي جميع ما التزمه من الأقساط يكون له كذا، وإذا مات قبل أن يوفِّيَها كلها يكون لورثته كذا، أليس هذا قمارًا ومخاطرة؟! حيث لا علم له ولا للشركة بما سيكون من الأمرين على التعيين"[5].
 
والحقيقة أن عقد التأمين ينطوي على المقامرة والرهان؛ لأن المقامرة والمراهنة عقد لا يستطيع فيه كل واحد من المقامرين أو المتراهنين أن يحدِّد وقتَ العقد القدرَ الذي يأخذه أو يعطيه، ولا يتبيَّن ذلك إلا في المستقبل تبعًا لحدوث أمر غير محقَّق الوقوع.
 
ثانيًا: الغرر:
عقد التأمين من عقود الغَرَر، وهي العقود الاحتمالية المتردِّدة بين وجود المعقود عليه وعدمه، وقد نهى الرسول -صلى الله عليه وسلم- عن بيع الغَرَر.
 
ويؤيِّد ذلك أن علماء القانون في تقسيمِهم العقود صنَّفوه تحت عنوان: العقود الاحتمالية التي ترادف عقود الغرر في الفقه الإسلامي.
 
والغرر في التأمين كثير لا يسير ولا متوسط؛ لأن من أركان التأمين "الخطر"، والخطر هو حادث محتمل لا يتوقف على إرادة العاقدين، وبناءً على ما سبق ذكره وإيضاحه في عقد التأمين، فإننا نقول: بأن قواعد الفقه الإسلامي تقضي بمنع عقد التأمين وفساده؛ لأنه عقد معلَّق على الرهان والمقامرة، ولأنه عقد معاوضة ينطوي على غرر كثير في أصل المعقود عليه من غير حاجة.
 
وكل واحد من هذين الأمرين يكفي وجوده في عقد من العقود حتى يعدَّ فاسدًا محرَّمًا، فكيف باجتماعهما في عقد واحد؟!
 
ثالثًا: الربا:
فإن شركات التأمين اليوم جاريةٌ على استغلال أموالها في أعمال ربوية محرَّمة، ومعروف أنه لا يجوز لمسلم أن يشترك في عمل ربوي، وهذا مما يتفق عليه المتشددون والمترخِّصون.
 
رابعًا: إن فيه تحديًا لقدر الله -تعالى- وخاصة في التأمين على الحياة.
 
خامسًا: إن في عقود التأمين الإلزام بما لا يلزم شرعًا، وإن مثل هذا الإلزام لا يجوز.
 
سادسًا: فيه بيع الأمان، والأمان لا يُباع ولا يُشترى؛ لذلك فإن التأمين لا يجوز أن يكون محل معاوضة أو تجارة.
 
سابعًا: فيه تعطيل لنظام الزكاة الذي هو ركن من أركان الإسلام.
 
فتوى هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية حول التأمين بقسط ثابت:
وهذا النوع قرَّر تحريمَه مجلسُ هيئة كبار العلماء بالمملكة العربية السعودية في دورته العاشرة المنعقدة بمدينة الرياض بتاريخ (4/4/1397هـ) بالقرار رقم (55)، كما قرَّر تحريمَه مجمعُ الفقه الإسلامي في دورته الأولى المنعقدة في شعبان (1398هـ)؛ للأدلة التالية:
1- أن عقد التأمين من عقود المعاوضات المالية المشتملة على الغرر الفاحش، فإن الكارثة قد تقع وقد لا تقع، فالجهالة قائمة فيما يعطى وفيما يؤخذ.
 
2- عقد التأمين من ضروب المقامرة؛ لما فيه من المخاطرة في معاوضات مالية، ومن الغرم بلا جناية أو تسبب فيها، فالمؤمن أو المستأمن قد يغرم أو يغنم أيًّا منهما بدون مقابل، والقمار منهيٌّ عنه في آية الميسر: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90].
 
3- أن في التأمين التجاري ربا الفضل والنسيئة؛ لأن الشركة إن دفعت للشخص أو ورثته أكثر مما دفع فهو ربا الفضل، والمؤمن يدفع ذلك للمستأمن من بعده مدة فيكون ربا نَساء، وكلاهما محرَّم.
 
4- أن التأمين التجاري من الرِّهان المحرَّم؛ لأن كلاًّ منهما فيه جهالة وغرر ومقامرة، ولم يُبِح الشرع من الرهان إلا ما فيه نصرة للإسلام؛ كالخف والحافر والنصل.
 
5- عقد التأمين التجاري فيه أخذ مال الغير بلا مقابل، وأخذ المال بلا مقابل في عقود المعاوضات التجارية محرَّم؛ لدخوله في عموم النهي في قوله -تعالى-: ﴿ يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَا تَأْكُلُوا أَمْوَالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْبَاطِلِ إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجَارَةً عَنْ تَرَاضٍ مِنْكُمْ ﴾ [النساء: 29].
 
6- في عقد التأمين التجاري الإلزام بما لا يلزم شرعًا، فإن المؤمن لم يُحدِث الخطر ولم يتسبب في حدوثه، وإنما كان منه مجرد التعاقد مع المستأمن على ضمان الخطر على تقدير وقوعه مقابل مبلغ يدفعه المستأمن له، والمؤمن لم يبذل عملاً للمستأمن فكان حرامًا.
 
القائلون بجواز عقد التأمين وأدلتهم[6]:
يقول بعض العلماء المعاصرين بجواز التأمين - بأنواعه المختلفة - ومنهم: الأستاذ مصطفى الزرقا، والشيخ علي الخفيف، والأستاذ عبدالوهَّاب خلاَّف، واستدلوا على ما ذهبوا إليه بالأدلة التالية:
• فلقد قاسوا عقود التأمين على بعض العقود والتصرفات المشروعة:
1- ومن ذلك: قياسها على عقد الموالاة، يذكره الحنفية في مراتب أسباب الميراث، وعقد الموالاة هذا هو أن يقولَ شخص مجهول النسب: أنت وليي تعقل عني إذا جنيت، وترثني إذا أنا مت.
 
والمراد بالعقل هو دفع التعويض المالي في جناية الخطأ.
 
يقول الأستاذ مصطفى الزرقا: "فهذا العقد يقيم رابطة حقوقية بين عاقدَيه شرعًا، قوامُها التزام شخص بأن يتحمَّل الموجب المالي عن جناية الخطأ الصادر عن الآخر، في مقابل هذا الملتزم يرث الآخر إذا مات دون الوارث، فهو أشبه ما يكون بعقد التأمين من المسؤولية".
 
الرد: والحقيقة أن هذا القياس غير صحيح؛ لأن عقد الولاء مردود اعتباره من أسباب الميراث عند سائر الفقهاء سوى الحنفية، وعلى افتراض جوازه فليس هناك علة جامعة قط بينه وبين عقود التأمين مع الشركات الاستغلالية، وهو قياس مع الفارق الكبير.
 
2- ومن ذلك: قياس عقد التأمين على نظام العاقلة في الإسلام، وتهدف الحكمة منه تخفيف أثر المصيبة على الجاني الخطأ، وصيانة دماء ضحايا الخطأ أن تذهب هدرًا، فإذا كان الشرع يذهب إلى توزيع المصيبة المالية الناشئة عن جناية القتل الخطأ على العاقلة كمبدأ تعاوني لتخفيف الضرر عن كاهل من لحقه بشكل إلزامي، فما هو المانع من أن يفتح باب تنظيم هذا التعاون على ترميم الكوارث المالية بجعله ملزمًا بطريق التعاقد والإرادة الحرة.
 
الرد: وهذا قياس مع الفارق أيضًا؛ لأن العاقلة آصرة يربطها الدم وتربطها الرحم الموصولة التي أمر الله بوصلها، ويربطها التعاون على البر والتقوى، ويربطها التكافل في تحمل الغُرْم، ولا يشبهها بأي وجه من الوجوه عقد جُعْلي يكون بين شركة مستغلة وطرف آخر يقدم لها المال كل شهر أو كل عام أو دفعة واحدة.
 
3- ومن ذلك: قياس عقد التأمين على ضمان خطر الطريق الجائز عند الحنفية، فيما إذا قال شخص لآخر: اسلك هذا الطريق فإنه آمِن، وإن أصابك فيه شيء فأنا ضامن؛ فسلكه فأُخِذ مالُه فإنه يضمن القائل، نص عليه الحنفية في باب الكفالة.
 
يقول الأستاذ الزرقا في هذا: "...
فإني أجد فيه فكرة فقهية يصلح بها أن يكون نصًّا استثنائيًّا قويًّا في تجويز التأمين على الأموال من الأخطار".
 
الرد: والحق أن هذا ليس فيه دلالة صحيحة على المراد، والفرق بينه وبين التأمين واضح بيِّن؛ إذ التأمين من عقود المعاوضات كما أسلفنا، وهذا الضمان من قبيل التبرعات، فافترقا.
 
ثم يقول الأستاذ الزرقا في صدد هذا الاستدلال: "والذي أراه أن فقهاءنا الذين قرروا هذا الحكم في الكفالة في ذلك الزمن البعيد لو أنهم عاشوا في عصرنا اليوم وشاهدوا الأخطار التي نشأت من الوسائل الحديثة، كالسيارات التي فرضت على الإنسان من الخطر بقدر ما منحته من السرعة، ولو أنهم شاهدوا ذلك ونبتت أمامهم فكرة التأمين ولمسوا ضرورته التي نلمسها نحن اليوم في سائر المرافق الاقتصادية الحيوية لتخفيف آثار الكوارث الماحقة - لَمَا ترددوا لحظة في إقرار التأمين نظامًا شرعيًّا".
 
4- ثم استدل الأستاذ الزرقا بقاعدة الالتزامات والعقد الملزم عند المالكية، وخلاصتها لو أن شخصًا وعد غيره عِدةً بقرض أو بتحمل خسارة أو بإعارة أو هبة أو نحو ذلك مما ليس بواجب عليه بالأصل، فإنه يصبح بالوعد ملزمًا في رأي عند المالكية.
 
يقول الزرقا في هذا: "فإذا نظر إلى مذهب المالكية الأوسع في القضية، فإننا نجد في قاعدة الالتزامات هذه متسعًا لتخريج عقد التأمين على أساس أنه التزام من المؤمِّن للمستأمنين، ولو إلى مقابل على سبيل الوعد بأن يتحمل عنه أضرار الحادث الخطر الذي هو معرَّض له؛ أي أن يعوض عليه الخسائر".
 
ولا يخفى أن هذا قياس مع الفارق؛ لأن الالتزام في عقد التأمين عقد معاوضة، وهذا تبرع في صورة وعد.
 
مناقشة أدلة المانعين لغرر التأمين والرد على هذه المناقشات:
1- فهم يقولون بنزع عقد التأمين من عقود الغرر، ويخفون ركنه الاحتمالي بالنسبة للمؤمِّن بالنظر إلى مجموعة العقود التي يجريها المؤمِّن، واعتبارًا لنظامه العملي بارتكازه على قواعد الإحصاء ووسائل حساب الاحتمالات، بحيث يمكن له أن يعرف مقدار العِوَض الذي يحصل عليه من مجموع المستأمنين في مدة معينة، ومقدار ما يدفعه لبعضهم من تعويضات عند وقوع الخطر.
 
الرد: نلاحظ أن الحقيقة والواقع العملي يرد هذه الدعوى؛ لأن مثل هذه المعرفة غير ممكنة، ومع وجودها يبقى الاحتمال قائمًا.
 
2- ثم يحتجُّ الأستاذ الزرقا لإثبات دعوى انتفاء الغرر بالنسبة للمؤمن له، بأن العوض المقابل للأقساط هو الأمان؛ أي إن محل العقد في التأمين هو الأمان، ويستشهد له بعقد الاستئجار على الحراسة، فهو يرى أن الأجير الحارس وإن كان مستأجرًا على عمل يؤديه وهو القيام بالحراسة، فإن عمله المستأجر عليه ليس له أي أثر أو نتيجة سوى تحقيق الأمان للمستأجر على الشيء المحروس واطمئنانه إلى استمرار سلامته من عدوان شخص أو حيوان...
وكذا الحال في عقد التأمين، يبذل فيه المستأمن جزءًا من ماله في سبيل حصوله على الأمان من نتائج يخشاها.
 
الرد: وهذا مردود؛ لأن المحل في عقد الاستئجار على الحراسة هو القيام بالحراسة والأمان هو الغاية، وفرقٌ بين الغاية والمحل، أما في عقد التأمين فإن المؤمِّن لا يقوم بأي عمل يؤدي إلى الأمان.
 
3- فيتضح لنا أن عقد التأمين من عقود الغرر لا شك في ذلك، لكن ذهب الشيخ "علي الخفيف" إلى أن الغرر في عقد التأمين يسير، واستدل على ذلك بأن الغرر الكثير المانع من جواز المعاملات والعقود هو ما أدى إلى نزاع، وهذا الغرر في التأمين لا يؤدي إلى نزاع، بحجة أن الناس تعاملوا به وشاع بينهم وانتشر، ولا يمكن أن يتعارف الناس على عقد يحوي غررًا كبيرًا يؤدي إلى نزاعهم ثم يشيع بينهم ولا يتركونه؛ إذ المقبول والمعقول أنهم إذا تعاملوا به فتنازعوا فيه تركوه.
 
ويستشهد لهذا الكلام بالعقود الجائزة والتي فيها غرر؛ مثل: عقد دخول الحمام، وعقد السلم، وإجارة الأجير نظير كسوته وطعامه.
 
الرد: دعوى أن الغرر في التأمين لا يؤدي إلى نزاع فيها نظر؛ لأن كثيرًا من الحالات التي يطالب فيها المؤمن له بالتعويض لا تمر دون نزاع، حتى إن شركات التأمين عادة تجعل لها محامين متفرِّغين للدفاع عنها في منازعاتها الكثيرة.
 
أما قياس عقد التأمين على العقود التي تحوي الغرر، وهي جائزة في الشريعة، ففيه نظر؛ لأن هذه العقود جاءت الأدلة الصحيحة بجوازها، كما أن الغرر فيها يسير، والتأمين ينطوي على الغرر الكثير.
 
4- يقولون أيضًا بأن هناك حاجة تدعو إلى التأمين حتى يكون الغرر الكثير الذي فيه غير مؤثر؛ لأن الإنسان في هذه الحياة معرَّض للحوادث، والنوائب تُصِيبه في نفسه وماله وولده، وإن من مصائب الدنيا ما لا يقوى الإنسان على تحمُّلها إلا إذا استعان بغيره، ونظام التأمين نشأ نتيجة لهذه الحاجة إلى التعاون، واستشهدوا لهذا بما جاء عن الدردير من المالكية في الشرح الكبير عن الحطاب: "إن الغرر الكثير يغتفر للحاجة"، ونقل الدكتور الضرير - وهو مالكي - في رسالته عن الغرر أن "الحاجة يغتفر معها الغرر الكثير في جميع العقود"، يقول شيخ الإسلام ابن تيمية في كتابه القواعد النورانية: "وأما الغرر، فأشد الناس فيه قوة أبو حنيفة والشافعي، لكن أصول الشافعي المحرِّمة أكثر من أصول أبي حنيفة في ذلك، أما مالك، فمذهبه أحسن المذاهب في هذا، فيجوز بيع هذه الأشياء وجميع ما تدعو إليه الحاجة أو يقل غرره، وأحمد قريب منه في ذلك...".
 
الرد: الحاجة التي من أجلها يجوز العقد المشتمل على الغرر ولو كان كثيرًا يشترط فيها أن تكون عامة أو خاصة أو متعينة.
 
الحاجة العامة: هي ما يكون الاحتياج فيها شاملاً لجميع الناس.
 
والحاجة الخاصة: هي ما يكون الاحتياج فيها خاصًّا بطائفة من الناس؛ كأهل بلد أو حرفة.
 
ومعنى كون الحاجة متعينة: أن تسد جميع الطرق المشروعة للوصول للغرض سوى ذلك العقد الذي فيه الغرر، بحيث لو أمكن سد الحاجة عن طريق عقد لا غرر فيه، فإنه لا يصح اللجوء إلى العقد الذي فيه غرر.
 
ولو سلمنا بوجود حاجة عامَّة للتأمين في الوقت الحاضر، فإن الحاجة إليه غير متعينة؛ إذ يمكن تحقيق الهدف منه بطريق التأمين التعاوني القائم على التبرع، وإلغاء الوسيط المستغل لحاجة الناس الذي يسعى إلى الربح - وهو شركة التأمين - وبناءً عليه يكون التأمين عقد معاوضة مشتملاً على غرر كثير من غير حاجة فيُمنع.
 
المراجع المساعدة:
1- كشاف القناع (3/273، 288).
2- القوانين الفقهية (172، 177).
3- بدائع الصنائع (5/207).
4- مغني المحتاج (2/80، 94 - 120).
5- عقد الاستصناع في الفقه الإسلامي، كاسب عبدالكريم البدران.
6- الغرر وأثره في العقود، د.
محمد الأمين الضرير (21).
7- التأمين، د.
عيسى عبده.
8- الإسلام والتأمين، د.
محمد شوقي الفنجري.
9- حكم الشريعة في عقود التأمين، د.
حسين حامد.
10- نظام التأمين حقيقته والرأي الشرعي فيه، مصطفى أحمد الزرقا.
 
 

[1] نظام التأمين، مصطفى الزرقا 19.

[2] انظر: المرجع السابق.

[3] راجع: رد المحتار، لابن عابدين 3/273.

[4] الفروق، للقرافي 3/260 - 266.

[5] انظر في تحريم التأمين المراجع التالية:
1- التأمين بين الحظر والإباحة 24.
2- حكم الإسلام في التأمين، لعبدالله علوان 31.
3- عقود التأمين، لحمد بن حماد الحماد 13.

[6] انظر: نظام التأمين 33، حكم الشريعة الإسلامية في عقود التأمين 83 - 129.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ١