أرشيف المقالات

معرفة الله تعالى وتوحيده

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
معرفةُ الله تعالى وتوحيده
 
معرفةُ الله تعالى:
كلُّ ما في الوجود من المخلوقات مفتقِرٌ إلى الله، وحادِثٌ بأمره وإرادته، ودالٌّ عليه سبحانه وتعالى.

والعاقل المؤمنُ يعرِفُ ذلك بتدبُّر آيات الله ومخلوقاته في الآفاق وفي الأنفس، قال الله تعالى: ﴿ إِنَّ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاخْتِلَافِ اللَّيْلِ وَالنَّهَارِ لَآيَاتٍ لِأُولِي الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِيَامًا وَقُعُودًا وَعَلَى جُنُوبِهِمْ وَيَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ رَبَّنَا مَا خَلَقْتَ هَذَا بَاطِلًا سُبْحَانَكَ فَقِنَا عَذَابَ النَّارِ ﴾ [آل عمران: 190، 191].

فالمؤمنون عرفوا الشأنَ الذي خلقَهم اللهُ من أجله؛ فأتمروا بأوامر الله، واجتنبوا نواهيَه، طاعةً له وطلبًا لثوابه، وهربًا من عقابه؛ لأنهم عرفوا أنهم لم يُخلَقوا عبثًا، ولم يُتركُوا سُدًى، بل خُلِقوا لعبادة الله وحدَه، قال تعالى: ﴿ وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ * مَا أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَمَا أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ * إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ ﴾ [الذاريات: 56 - 58].
 
وعرف المؤمنون أولَ ما افتَرض الله عليهم، وهو الإيمان به وتوحيدُه، والكفرُ بالطاغوتِ الذي أُمِروا أن يَكفروا به، قال تعالى: ﴿ لَا إِكْرَاهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَيُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقَى لَا انْفِصَامَ لَهَا وَاللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ ﴾ [البقرة: 256].
 
والطاغوت هو: ما تجاوَزَ به العبدُ حدَّه من: معبودٍ، أو مَتْبوعٍ، أو مُطاعٍ، والطواغيتُ كثيرون ورؤوسُهم خمسةٌ: إبليسُ لعنه الله، ومَن عُبِد وهو راضٍ، ومَن دعا الناس إلى عبادةِ نفسِه، ومن ادَّعى شيئًا من علم الغيبِ، ومَن حكم بغيرِ ما أنزل الله.
 
توحيدُ الله تعالى:
توحيدُ اللهِ هو: إفرادُه بالعبادة وحدَه، لا شريكَ له، وهو دينُ الرسل الذي لا يَقبَل اللهُ من أحد دينًا سواه.

وينقسم إلى ثلاثة أقسام:
توحيد الربوبية، وتوحيد الألوهية، وتوحيد الذَّات والأسماء والصفات.

توحيد الرُّبوبيَّة:
أما توحيدُ الربوبيَّة فهو: الإقرارُ بأنه لا ربَّ للعالمين إلا اللهُ الذي خلقَهم، ورزقهم.


وهذا النوع من التوحيد قد أقرَّ به المشركون؛ فهم يشهدون أن اللهَ هو الخالقُ وحدَه لا شريك له، وأنه لا يرزقُ إلا هو، ولا يُحيي إلا هو، ولا يُميتُ إلا هو، ولا يُدبِّرُ الأمرَ إلا هو، وأن جميعَ السموات ومن فيهنَّ، والأرضَ ومن فيها كلهم عبيدُه، وتحتَ تصرُّفه وقهرِه، قال تعالى: ﴿ قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَالْأَبْصَارَ وَمَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَيُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَمَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * فَذَلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَمَاذَا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلَالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ ﴾ [يونس: 31، 32]، وقال جل وعلا: ﴿ قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَمَنْ فِيهَا إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * قُلْ مَنْ رَبُّ السَّمَاوَاتِ السَّبْعِ وَرَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَفَلَا تَتَّقُونَ * قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَهُوَ يُجِيرُ وَلَا يُجَارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ * سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ ﴾ [المؤمنون: 84 - 89]، إلى غير ذلك من الآيات الدالة على إقرارِهم بهذا النوع من التوحيد.

ولكن إقرارَهم هذا، وشهادتَهم تلك، لم تُدخِلْهم في الإسلام، ولم تُنجِهم من النار، ولم تَعصِم دماءَهم وأموالهم؛ لأنهم لم يُحقِّقوا توحيدَ الألوهيَّة، بل أشركوا مع الله في عبادته؛ بصَرْفِهم شيئًا منها لغيره سبحانه وتعالى.
 
فقوم نوحٍ غَلَوْا في الصالحين: وَدٍّ، وسُواعٍ، ويَغوثَ، ويَعُوقَ، ونَسْرٍ؛ فأرسله اللهُ إليهم؛ يدعوهم إلى توحيده وإفراده بالعبادة كلِّها، ويُحذِّرُهم مما هم فيه من شركٍ وضلال، وهكذا كلُّ نبيٍّ يأتي أمتَه يُحذِّرُهم من الشرك كبيرِه وصغيرِه، غايتِه ووسيلته، حتى بعث الله محمدًا، صلوات الله وسلامه عليه إلى الناس كافة بشيرًا ونذيرًا، وداعيًا إلى الله بإذنه وسراجًا منيرًا، فدعا إلى عبادةِ الله وحدَه لا شريك له، وتَرْكِ جميع ما يُعبَدُ من دون الله، وقال للناس ما أمرَه الله به: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
 
جاء محمدٌ صلى الله عليه وسلم إلى المشركين وهم على بقيَّة من دين إبراهيم عليه السلام، يتعبَّدون ويحجُّون، ويتصدَّقون ويذكرون الله، ولكنهم يجعلون بعضَ المخلوقات وسائطَ بينهم وبين الله، يقولون: نريدُ منهم التقرُّبَ إلى الله، ونريد شفاعتَهم عنده؛ مثل الملائكة، وعيسى عليه السلام، ومريم، وأناس غيرهم من الصالحين؛ فأخبرهم صلى الله عليه وسلم أن هذا التقرُّب والدعاء لا يصلح إلا لله، ولا يصحُّ صرفُ شيء منه لغيره سبحانه: لا لملك مقرَّب، ولا لنبيٍّ مرسل، فضلًا عن غيرهما وأن ذلك وغيرَه من أنواع العبادة حقٌّ لله، فمن صرفه لغيره حَبِط عملُه قال تعالى: ﴿ وَقَدِمْنَا إِلَى مَا عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْنَاهُ هَبَاءً مَنْثُورًا ﴾ [الفرقان: 23].
 
توحيد الألوهية:
وأما توحيد الألوهية: فهو توحيدُ العبادة، وهو إفراد الله سبحانه وتعالى بجميع أنواع العبادة التي أمر بها؛ مثل: الإسلام، والإيمان، والإحسان، ومنها: الدعاءُ، والخوف، والرجاء، والتوكُّل، والرغبة، والرهبة، والخشوع، والخشية، والإنابة، والاستعانة، والاستغاثة، والذبح، والنذر، وغير ذلك من العبادات التي أمر الله بها كلِّها لله، والدليل قوله: ﴿ وَأَنَّ الْمَسَاجِدَ لِلَّهِ فَلَا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَدًا ﴾ [الجن: 18]، فمن صرف شيئًا منها لغير الله فهو مشركٌ كافر، والدليل قوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ لَا بُرْهَانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّمَا حِسَابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لَا يُفْلِحُ الْكَافِرُونَ ﴾ [المؤمنون: 117].
 
♦ ومن الأدلة على أن ما ذُكِر من أنواع العبادة:
• ما رواه الترمذي عن أنس بن مالك رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: ((الدعاء مخُّ العبادة))؛ قال ابن الأثير في النهاية: "مُخُّ الشيء خالصُه، وإنما كان مُخَّها لأمرين:
أحدهما: أنه امتثال أمرِ الله تعالى حيث قال: ﴿ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ ﴾ [غافر: 60] فهو محضُ العبادةِ وخالصُها.
الثاني: أنه إذا رأى نجاحَ الأمور من الله قطع أملَه عن سواه، ودعاه لحاجته وحدَه: (وهذا أصل العبادة) اهـ.


وفي الحديث الصحيح عنه صلى الله عليه وسلم أنه قال: ((الدعاء هو العبادة)).

ودليل الخوف قولُه تعالى: ﴿ إِنَّمَا ذَلِكُمُ الشَّيْطَانُ يُخَوِّفُ أَوْلِيَاءَهُ فَلَا تَخَافُوهُمْ وَخَافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [آل عمران: 175].
ودليلُ الرجاء قوله تعالى: ﴿ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
ودليلُ التوكُّل قولُه تعالى: ﴿ وَعَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ ﴾ [المائدة: 23]، وقوله تعالى: ﴿ وَمَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ ﴾ [الطلاق: 3].

ودليلُ الرغبة والرهبة والخشوع قوله تعالى: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ ﴾ [الأنبياء: 90].


ودليلُ الخشية قوله تعالى: ﴿ فَلَا تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِي ﴾ [البقرة: 150].
ودليلُ الإنابة قوله تعالى: ﴿ وَأَنِيبُوا إِلَى رَبِّكُمْ وَأَسْلِمُوا لَهُ ﴾ [الزمر: 54].
ودليلُ الاستعانة قولُه تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5].
وفي الحديث: ((إذا استعنْتَ، فاستعِنْ بالله))؛ رواه الترمذي في حديث مُطوَّل.

والمعنى: إذا أردتَ طلبَ المعونة المتعلِّقة بأمر الدنيا والآخرة، فاستعِنْ بالله؛ إذ لا معينَ ولا فاتحَ باب، ولا مانعَ عطاء إلا الله وحده سبحانه لا شريك له، وهو قريبٌ مجيب، فلا حاجةَ لجعل الواسطةِ بينَه وبين عبده، كما يشير إليه قولُه تعالى: ﴿ إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ ﴾ [الفاتحة: 5]؛ أي: لا نعبد إلا إياك، ولا نستعين إلا بك.

ودليلُ الاستعاذةِ قوله تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ﴾ [الفلق: 1]، وقوله تعالى: ﴿ قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ * مَلِكِ النَّاسِ * إِلَهِ النَّاسِ ﴾ [الناس: 1 - 3].

ودليلُ الاستغاثة قولُه تعالى: ﴿ إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ ﴾ [الأنفال: 9].
ودليلُ الذبح قولُه تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّ صَلَاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لَا شَرِيكَ لَهُ وَبِذَلِكَ أُمِرْتُ وَأَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ ﴾ [الأنعام: 162، 163]، وقولُه: ﴿ فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَانْحَرْ ﴾ [الكوثر: 2].

وفي الحديث: ((لعن الله مَن ذبح لغير الله))؛ رواه مسلم مطوَّلًا.
ودليلُ النَّذْر قولُه تعالى: ﴿ يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَيَخَافُونَ يَوْمًا كَانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيرًا ﴾ [الإنسان: 7].

فإذا عرف أن هذه المذكورات عبادات، فالعبادات كلُّها لله وحده لا شريك له؛ كما أمر الله بذلك، وأرسل به رسلَه عليهم الصلاة والسلام.
 
وتوحيدُ العبادة هو معنى لا إله إلا الله، وهو التوحيد الذي دعَتْ إليه الرسل من أولهم إلى آخرهم، وهو الذي من أجله قامت المعاركُ بينهم وبين أمَمِهم حتى لا تكون فتنةٌ، ويكون الدين كلُّه لله.

وهذا النوع من التوحيد هو الذي جَحَده المشركون وحاربوا أنبياءَهم من أجله، لما دعوهم إلى تحقيقه استنكارًا منهم لتلك الدعوة التي دعَتْهم لترك ما عليه الآباء من شرك وضلال.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٢