النفس والرقص
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
للكاتب الشاعر الفرنسي العظيم بول فاليري
ترجمة الدكتور طه
- 3 -
أركسيماك - أي أتكتيه! ما أشد إتقانك للقرب!
فيدر - كأن الموسيقى تستردها في هدوء، كأنها ترفعها. أركسيماك - إنما تغير الموسيقى نفسها سقراط - أي آلهة الفن، إن قوتكن لبالغة في هذه اللحظة التي تريد أن تموت.
يا له من تعليق حلو للأنفاس وللقلوب.
إن الثقل ليسقط تحت قدميها، وهذا الرداء العظيم الذي يسقط في غير صوت ينبئنا بذلك.
لا يرى جسمها إلا متحركاً أركسيماك - لقد عادت عيناها إلى الضوء. فيدر - لنستمتع بهذه اللحظة الحلوة التي تغير فيها إرادتها! كأنها الطائر الذي يصل إلى حافة السقف نفسها ثم يقطع ما بينه وبين المرمر الجميل من صلة، ويسقط في طيرانه. أركسيماك - لا أحب شيئاً حبي لما يريد أن يحدث، حتى في الحب لا أجد ألذ من الشعور الأول.
والفجر أحب ساعات النهار إلي.
لهذا أريد أن أرى في شيء من الحنان ظهور الحركة المقدسة على هذه الفتاة الحية.
أنظر.
! إنها تنشأ من هذا اللحظ المنزلق الذي يجذب في قوة رأسها ذا الأنف الحلو إلى كتفيها المضيئتين، وهذا العصب الجميل كله، عصب جسمها الصريح القوي، يظهر ويلتوي شيئاً فشيئاً من العنق إلى العقب.
ثم تمضي الرعشة في كل شيء.
ويصور في بطء مولد وثبة.
ويحظر علينا أن نتنفس حتى تنبع هذه الوثبة ملائماً في تقدير خفي مفاجئ لطرق الصنج الذي يمزق الهواء. سقراط - ما أعجبها! هاهي ذي تدخل في الاستثناء وتمضي في غير الممكن.
إن نفوسنا لمتشابهة أيها الصديقان أمام هذا السلطان الذي هو واحد كامل بالقياس إلى كل واحدة منها.
إنها لتشرب معاً كل ما هو جميل. أركسيماك - إنها لتستحيل كلها إلى رقص وتفرغ كلها للحركة الكاملة. فيدر - كأنها قبل كل شيء تمحو بهذه الخطوات التي يملؤها العقل من الأرض كل تعب وكل حمق.
وهاهي ذي تتخذ لنفسها منزلاً يرتفع قليلاً فوق الأشياء كلها، وكأنها تهيئ لنفسها عشاً في ذراعيها الناصعتين.
.
ولكن ألا يظن الآن أنها تنسج لنفسها بقدميها بساطاً من الاحساسات لا يكاد يحد.
هي تلائم وتخالف وتنسج الأرض بالزمن.
ياله من أثر بديع هذا العمل القيم تأتيه بإبهاميها العاقلتين اللتين تهجمان وتختلسان، وتعقدان وتحلان، وتتطاردان، ثم تطيران.
ما أرعهما! ما أنشطهما هاتين الماهرتين في إنشاء اللذة التي ينفق فيها الوقت الضائع!.
إن هاتين القدمين لتتناغيان وتختصمان كأنهما حمامتان.
إن نقطة من الأرض لتثير بينهما من الخصومة ما تثيره الحبة بين الحمامتين.
ترتفعان معاً ثم تصطدمان في الهواء أيضاً.
إني لأقسم بآلهة الفن ما اشتهت شفتاي قط قدمين أكثر مما تشتهيان هاتين القدمين. سقراط - وكذلك تحسد شفتاك هاتين القدمين البارعتين على فصاحتهما البالغة، وتود لو أعارتا كلماتك جناحيهما ولو زينتا ما تقول بوثباتهما. فيدر - أنا؟.
أركسيماك - لم يكن يفكر إلا في أن ينقر حمام الأقدام.
وهذه نتيجة لعنايته الحادة التي يختص بها منظر الرقص.
أي غرابة في هذا يا سقراط؟ أي شيء أدنى إلى السر الساذج الجميل، إن صديقنا فيدر مسحور بهذه الحركات الحفية الظاهرة المضيئة التي تزدهي بها إبهاماً (اتكتيه) هو يلتهمهما بعينيه، هو يمد إليهما وجهه، هو يظن أنه يحس على شفتيه جرى أظفارهما السريعة.
لا تعتذر أي فيدر العزيز، لا يأخذك اضطراب ما.
فأنت لم تشعر بشيء إلا وهو مباح غامض أي ملائم كل الملازمة لطبيعة الناس، ألسنا عبثاً منظماً؟ وتأليفنا الحي أليس اختلاطاً نعمل في نظام، واضطراباً يحدث آثاره؟ أليست الحوادث، والرغبات، والخواطر تتغير في نفوسنا على أشد الأنحاء ملاءمة للضرورة ومباعدة للفهم.
أي اختلاط من العلل والآثار. فيدر - ولكنك وضحت بنفسك أحسن التوضيح ما شعرت به أنا شعوراً ساذجاً.
سقراط أيها العزيز فيدر في الحق أنك لم تتأثر بغير سبب.
وكلما نظرت أنا إلى هذه الراقصة التي لا توصف تحدثت إلى نفسي عن الأعاجيب وأسالها كيف استطاعت الطبيعة أن تودع هذه الفتاة النحيلة الضئيلة مقداراً ضخماً من القوة والسرعة إلى هذا الحد؟ أتوجد أسطورة لهرقل وقد استحال إلى طائر؟ وكيف يستطيع هذا الرأس المحدود كأنه قبضة الصنوبر أن يثير آلافاً من المسائل والأجوبة بين أعضائه وهذه المحاولات المذهلة التي تحدثها - متخلصة منها دائماً متلقية إياها من الموسيقى ثم رادة لها في سرعة الضوء. أركسيماك - وأنا إنما أفكر في قوة الحشرة التي تستطيع بهذه الحركات التي لا تحصى في أجنحتها أن تقيم صوتها وثقلها وشجاعتها. سقراط - هذه تضطرب في شرك لحظنا كأنها الذبابة الأسيرة، ولكن عقلي الطلعة يجري في أثرها ويريد أن يلتهم ما تحدث! فيدر - أيها العزيز سقراط! ألا تستطيع إذن أن تستمتع إلا بنفسك؟ سقراط - أيها الصديقان ما حقيقة الرقص؟ أركسيماك - أليس الرقص ما نرى؟ وأي شيء أوضح في تعريف الرقص من الرقص نفسه؟ فيدر - صديقنا سقراط لا يرضى حتى يصل إلى نفس كل شيء بل إلى نفس النفس. سقراط - ولكن ما الرقص وما عسى أن تقول الخطى؟ طه حسين