المنقبات لسن كالعاريات يا سيادة الوزير! - ياسمينة صالح
مدة
قراءة المادة :
11 دقائق
.
ما جاء به عبد الله غلام الله وزير الشؤون الدينية الجزائري، ليس
مجرد تصريح أراد أن يتباهى به أمام جريدة فرنسية لتتناقله أغلب الصحف
الفرنسية المكتوبة والمرئية والمسموعة، بل والأوروبية، بل كان كارثة
بعينها، فهو بصفته وزيرا في دولة عربية تدين بالإسلام، حين يصف المرأة
المنقبة بأنها لا تختلف عن المرأة العارية، يريد بهكذا كلام أن يربط
الحشمة بالفسق، ويضع المحتشمات في ذات سياق الفاجرات، على اعتبار أنه
يتكلم عن العاريات، وهي بذلك عبارات خطيرة لا يمكن النظر إليها إلا من
منظور واحد أن وزير الشؤون الدينية مطالب بالاعتذار لكل المسلمات
المنقبات وغير المنقبات على حد سواء!
إعجاز الأذنين في الفقه الأمني الجزائري !
قبل فترة وجيزة، عاشت الجزائر جدالا حادا بسبب إشكالية مفبرك في أساسها وسخيفة في مضمونها أراد بعض المرضى النفسانيين أن يصعدوا بها إلى واجهة " المتمدنين" في نظر الغرب، عبر محاولة إجبار المرأة المحجبة على كشف الأذنين في الصورة البيومترية الخاصة بجواز السفر وبالبطاقة الوطنية، وقال أحد كبار المسئولين في الداخلية أن للأذنين "خاصية" مميزة، تجعل آليات الكشف البيوميتري في المطارات تتعرف على هوية المرأة إن كانت صاحبة الصورة أم لا ! وشعرنا وقتها بالذهول أن يتوصل ذلك المسئول الأمني إلى اكتشاف خطير أشبه بإعجاز الأذنين، يدفعه إلى المطالبة بكشفهما في الصورة بالنسبة للمحجبات، في الوقت الذي تستخرج بطاقات بيومترية في كندا وبريطانيا لنساء محجبات دون أن تضطر المرأة إلى كشف ذلك السر العجيب في الأذنين ! وإن جاء هذا المطلب/ المهزلة من جهة أمنية أرادت أن تفرض نفسها على حساب قيمة من الصعب تجاوزها، إلا أن ردة فعل وزارة الشؤون الدينية بالذات، في شخص وزيرها كانت أشبه بالدق على الماء ! حيث اعتبر أن مجرد "النقاش" في هذه المسألة بمثابة مضيعة للوقت، وأن ثمة أمور أهم من كشف الأذنين في الصورة البيومترية ! دون أن يقول السيد الوزير النابغة ما هي تلك الأمور الأهم التي يساهم في تحقيقها للأمة الجزائرية غير الظهور في الصحف والتعليقات الساخرة على نقاشات حساسة وضمنية، كما ذهبت شخصيات مماثلة أخرى إلى وصف الجدال بالبيزنطي، وهو الوصف الذي وضع الوزارة في خانة المشتبه بها، على اعتبار أن دورها يجب أن يتجاوز الخطاب الخشبي غير الجدي ولا المجدي، إلى خطاب متزن وواقعي ومبني على الدليل وعلى البيّنة، وعلى المنطق الذي يقول في أبسط لغته أن حجاب المرأة ليس مجرد قماش تلبسه، وليس مجرد غطاء للرأس، بل هو قيمة بعينها، وحرية شخصية لا يحق لأي شخص أو جهة أن تستهين بها، كما لا يحق لأي شخص ممارسة لعبته السياسية على حسابها للقفز إلى مناصب دنيوية آنية ! لقد ارتكب وزير الشؤون الدينية الكثير من السقطات التعبيرية في الكثير من المرات، ولعل أخطرها هذه الخرجة الأخيرة التي نشرتها أغلب الصحف الفرنسية في اليومين الماضيين والتي يؤيد فيها قرار ساركوزي بمطاردة النقاب ، حيث قال السيد عبد الله غلام الله، أن النساء المنقبات لا فرق بينهن وبين العاريات، معتبرا النقاب مجرد "لباس" ليس من الإسلام في شيء وأنه سلوك متطرف تماما مثل سلوك النساء اللواتي تخرجن عاريات إلى الشارع ! ليس هذا فقط، بل أعلن في ذات التصريح أنه يؤيد الحملة الفرنسية ضد النقاب، ولا يعتبرها حملة ضد الإسلام ! لقد تجاوز السيد عبد الله غلام الله الخطوط الحمراء في الحديث عن تأييده للحملة الفرنسية التي بكل أسف لا يقصد منها القضاء على المنقبات، ففرنسا بطولها وعرضها ليس فيها أكثر من 1300 منقبة فقط، بل يقصد بها القضاء على الوجود الإسلامي في فرنسا الذي وصفته أغلب الصحف بأنه البديل الأكبر بالنسبة للفرنسيين الذين أصبحوا أكثر ميلا للإسلام، حيث أن أغلب الفرنسيين بمجرد أن يغيب يقينهم إزاء المسيحية يبحثون عن البديل الذي يجدونه في الإسلام مباشرة، وأن القلة القليلة جدا تذهب إلى اليهودية ! بل وذهبت صحيفة "لوبروغري" الفرنسية إلى القول أن المنافس الأكبر للمسيحية في فرنسا هو الإسلام بلا منازع، وأن الفكر العلماني الفرنسي ليس ثابتا بدليل أن الكثير من العلمانيين انحازوا إلى أطروحة الإسلام وأسلموا ! ليس هذا فقط، بل وانتقل الإسلام إلى فنانين ورياضيين، حيث أشهرت مطربة فرنسية إسلامها نهاية السنة الماضية وارتدت النقاب (عن حرية شخصية كما قالت)، مثلما أسلم العديد من لاعبي المنتخب الفرنسي، أبرزهم "فرانك ليبيري" الذي يعد واحد من أبرز اللاعبين الفرنسيين شعبية بين الشباب الفرنسي، ذات الصحيفة "لوبروغري" كتبت أن العديد من الفرنسيين أصبحوا متأثرين بالطريقة التي يسجد فيها ليبري في الملعب، والطريقة التي تجعله يرفع يديه شكرا لله حين يسجل، فأصبحوا يقلدونه!
الحرب على القيم التي يختزلها الإسلام!
الفضائح الجنسية الأخيرة التي تفجرت في العديد من الكنائس الأوروبية، لم يكن بطلها مسلما، بل قساوسة يعانون من الشذوذ في أبشع حالاته، ضد الأطفال بشكل خاص، وضد المصابين بالاختلال العقلي والمعوقين حركيا بشكل خاص ! فضائح متتالية شملت العديد من الدول الأوروبية، وجعلت الفاتيكان يفقد صوته، ليس لأن القساوسة ارتكبوا فعلا شنيعا باغتصابهم للأطفال فحسب، بل لأن العديد من المسيحيين فقدوا الثقة في الكنيسة، صحيفة "لوسوار" البلجيكية ذكرت أن عشرات المسيحيين توقفوا عن المجيء إلى القداس يوم الأحد في المدينة الأيرلندية التي انفجرت فيها فضيحة التحرش الجنسي ضد الفتيات داخل الكنيسة، وأن 4 من 10 مسيحيين يشعرون بالخوف على أطفالهم ويفضلون عدم الحضور يوم الأحد إلى الكنيسة ! لقد نشر موقع الفاتيكان على الانترنت بعض الأخبار التي أراد أن يجعلها صغيرة، لا تستحق الذكر ، عن فضائح القساوسة (الممثلين للمسيحية في الكنيسة)، لكن الواقع أن فقدان الثقة في الكنيسة تحول إلى فقدان الثقة في المسيحية نفسها التي يثار حولها جدال لم يحدث منذ أكثر من عشرة قرون، والذي يبدو أنه يتجاوز كونه جدالا "بيزنطيا" ! ولأن الكنيسة ينخرها الدود من الداخل (الفضائح الجنسية والمالية) فإنها لن تستطيع أن تقول لأب اغتصب القس ابنه أو ابنته أن السبب في المسيحية نفسها، لكن الذي حدث أن صحيفة "دبلن" الأيرلندية كشفت أن 40% من قرائها يرون أن المسيحية عاجزة عن الرد على أسئلتهم الكونية والجوهرية، وأن ما جرى من تحرش جنسي واغتصاب ضد الأطفال يجعلهم يشعرون بحاجز نفسي قوي ضد الكنيسة، لهذا أصبحوا أقل حضورا للقداس من ذي قبل ! إنه مفترق الطرق الذي يجعل عدد الداخلين إلى الإسلام في ألمانيا أكبر من المعتاد، وأن الديانة الثانية الأهم في فرنسا هي ببساطة الإسلام، وأن أكثر من 35% من الأسبان يرون أنهم يميلون فكريا إلى الإسلام بشكل كبير للقيم الإنسانية العميقة الموجودة فيه (البر بالوالدين، تحريم الربا ، الصدقة ، حب الخير، تحريم الزنا ، العطف على الضعيف، الحشمة، التواضع، التسامح الخ)، ولو كانت هذه النسبة من مدن أندلسية لقالت الصحافة الأسبانية أنهم من أصول إسلامية، لكن النسبة شملت مدن الوسط والشمال بشكل خاص.
كل هذه الحقائق هي التي ترعب اليهود ومن ثمة المسيحيين الداعمين للفكر الصهيوني الراغب في القضاء على الإسلام كقيمة إنسانية صمدت كل هذه القرون، لهذا أن تأتي الإجراءات القمعية المناهضة للمسلمين في دول استعمارية سابقة، فهذا جزء من حملة أخرى يراد بها ضرب الهوية الإسلامية في عقر دارها، وإن نجحوا في أعوام سابقة، إلا أن الصحوة الدينية التي تعيشها العديد من المجتمعات العربية (64% من الجزائريات محجبات، و61% من المغربيات محجبات، 97% من الموريتانيات محجبات) تبدو اليوم بالنسبة للمتصهينين أشبه بناقوس الخطر!
أنت مطالب بالاعتذار يا سيد الوزير !
وزير الشؤون الدينية الجزائري أخطأ إذن خطأ كبيرا، وعليه أن يعتذر لكل المسلمات، المنقبات وغير المنقبات، وأن يقدم استقالته إن كان في وجهه دم، فقد قدم وزراء دول ( تفوقت علينا بهذه الطريقة) استقالتهم بسبب جملة صغيرة ومقتضبة، ووزراء آخرون قدموا استقالتهم بسبب مقالة انتقاد وجهت إليهم، وحان للوزراء العرب المسلمين أن يشعروا ببعض الخجل على دمهم، وأن يقدموا استقالتهم وقد وصلت الأخطاء إلى هذا الحد، إذ كيف يمكن لوزير الشؤون الدينية أن يؤيد الحرب الفرنسية على النقاب ـ والجميع يعرف أنها حرب على الإسلام تحت سقف النقاب ـ، وكيف يمكن تبرير مطاردة المحجبات في فرنسا وفي إيطاليا وبلجيكا وإسبانيا؟ وكيف يمكن إيجاد معنى منطقي للحملة المسعورة على كل ما هو مسلم في أوروبا اليوم يا سيد الوزير؟ وكيف يجب تقليم أظافر المرأة التي تختار ارتداء النقاب في دولة تطالب المرأة بحق العري وحق الزنا، وحق الفجور؟ أليس النقاب جزء من حرية المرأة في النهاية؟ أليست النساء المنتقبات (وأغلبهن فرنسيات الأصول) راشدات لهن حق ارتداء اللباس اللائي يردنه ضمن ما يكفله القانون لهن من حقوق مدنية؟ فكيف يمكن الرد على "ماريان" الفرنسية المسلمة التي صرحت لقناة فرانس2 بأنها فرنسية عن سابع جد، وأنها اعتنقت الإسلام عن اقتناع، وحرة في نقابها الذي تلبسه ! " ماريان" لم تتربَ في دولة عربية ليقال أن النظام الذكوري يقيدها كما يقول البعض، بل هي فرنسية متزوجة من مسلم، وتعيش في فرنسا وترتدي النقاب لأنها أرادت ذلك، فهل سوف يلغي ساركوزي المادة 43 من القانون المدني الفرنسي الذي يعطي للمواطن الفرنسي (للمواطنة الفرنسية) حق اختيار طريقة عيشه، لإجبار "ماريان" على التعري باسم التمدن؟ ما يحدث قمة في النفاق في المجتمع الفرنسي والأوروبي بشكل خاص، وهو نفاق يساهم في بلورته بكل أسف بعض المسلمين الذين يريدون ربح رضا الغرب على حساب القيم المستمدة من شريعة الله، فليس النقاب كالعري يا سيد الوزير، والمنقبات لسن مثل العاريات، وهن اخترن لبسهن الإسلامي، وليس ثمة قوة في العالم تفرض عليهن التراجع عن قناعتهن وعن أفكارهن الإسلامية، وعن دينهن، فهن يمارسن الحرية التي تتبجح أوروبا (والجمعيات النسائية، ومنظمات حقوق الإنسان) بالدفاع عنها، وهي حريتهن الأبسط في الحياة الكريمة دون أن تضطر المسلمات إلى التوقف كل عشرين متر أمام شرطي يطالبهن بكشف وجههن وإظهار هويتهن كما لو كن قنبلة موقوتة ! فيا ليتك تخجل على دمك وتستقيل يا سيد الوزير !
6/6/1431 هـ