عن سير الخالدين
مدة
قراءة المادة :
12 دقائق
.
حياة المازني
للأستاذ محمد محمود حمدان
(قل بين الصبيان من اتفق له ما اتفق لي من التجارب).
(المازني)
عهد الطفولة
لم يعش المازني طفولته، أو هو جاهزاً مسرعاً، بأسرع مما يجوزها الأطفال في مثل سنه. وكأنما كانت طفولته، في قصرها واقتضابها، أشبه بالحلم الجميل بددته صحوة مفاجئة وروعه نذير غير منتظر.
فقد كبرت عليه الحياة بأحزانها وآلامها، وحملته في ذلك العمر الغض تبعاتها التي تؤخرها عن غيره عادة إلى ما بعد مرحلة الشبيبة والنضج. قضى أبوه وهو بعد طفل التاسعة.
فأرادت أمه أن تكون عليه معتمدها بعد أبيه - وكان اكبر ابنيها وإن لم يكن أكبر اخوته - وصارت تعامله كأنه رب الأسرة وسيد البيت، وأخذت توطنه على احترام النفس واحتمال العبء ومواجهة الحياة.
وقد وسعها ذلك فقد كانت رزاناً حصيفة عاقلة، (صارمة الجد، حادة قاطعة كالسيف، غالبة كالقدر) أو كما أوجز هو وصفها حي قالا عنها أنها كانت (رجلاً).
ووسع الفتى الناشئ يوم ذاك أن يفهم عن أمه.
.
ويوم سمعها تقول له في شيء من الصرامة المغتصبة يخالطها فرط الحنو: (اسمع يا إبراهيم! إنك لم تجاوز العاشرة، ولكني احب لك أن تعد نفسك من الآن، رجلنا.
.
فتسلك سلوك الرجال لا الأطفال). في ذلك اليوم، أو في تلك اللحظة منه، قطع الطفولة كلها وثباً. كان مولد المازني بالقاهرة (1890) في أحد الأحياء الوطنية التي ظلت، إلى عهد قريب، محتفظة بطابعها القديم.
وفي القاهرة درج المازني ثم شب ثم جاوز الشباب إلى الرجولة فالكهولة.
ولعل هذا سر تعصبه لها وإيثاره إياها.
ولقد عدها بلدته وإن لم تكن بلده آبائه وأجداده كانوا يستوطنون بلدة (كوم مازن) من أعمال تلا بمديرية المنوفية. ويذكر المازني أن ولادته كانت في دار لزوج عمته، وإن كانت مشاعاً لمن شاء أن يتخذه سكنا من ذوي قرابته.
وقد خصصت بعض (المناظر) - وهي الغرف الواسعة - التي تقع على جانبي الفناء من تلك الدار، مكتبا يستقبل فيه أبوه موكليه من أصحاب الدعاوى والأقضية، وكان أزهري الثقافة فاشتغل زمنا بتدريس اللغة العربية بالمدرسة الخديوية، ثم هجر التدريس واحترف المحاماة إلى آخر أيامه.
وكان على الحالين مبسوط الرزق موفور الدخل، ولكنه كان كذلك متخرق اليد بالنفقة والعطاء، مسرفاً في تحقيق رغائبه وتلبية أهوائه، ولعله لهذا السبب كان مزوجاً يكثر من البناء بالتركيبات الخصوص.
وكانت طبيعة عمله في المحاماة تقتضيه أن يلم بالقسطنطينية بي حين وحين، فكان كلما سافر إليها عاد مناه بزوجة جديدة، لا يلبث أن يعود بها أدراجه إلى بلدها فيسرحها بإحسان ويبني بسواها.
على أنه كان، فيما عدا ذلك، حليما طويل البال قليل الكلام ساك الطائر.
لعله استفاد مزية الأناة والحلم من كثرة ما راض فسه على احتمال ما كان يتعرض له، من الجفوة والمعتبة، من أبيه الشيخ أو من زوجته الشابة المصرية أو أولاده، كلما استجد عليها بإحدى تركياته الحسان. وكان، كما هو المعهود في أصحاب هذا الطبع، قليل الاستقرار فهو لا ينفك ينتقل بأهله من دار إلى دار.
وعلى الرغم من ذلك فقد استطاع المازني الطفل أن يحتفظ في ذاكرته بالصورة الغالبة على تلك الدور.
وأبقى ما بقي منها منظر الفناء الرحيب الذي كان صفة مشتركة بينها، والذي كان على هيئة الصحن تقعي في وسطه أحيانا شجرة جميز عتيقة عظيمة كثيفة الغصون، وربما قامت في موضعها نافورة ماء تروي الحديقة المترامية الأطراف من حولها. وقد قضى المازني سني الطفولة الباكرة في بيت من بيوت المماليك - وكانت تعرف ببيوت (الغز) - في درب الجماميز، ويصفه المازني فيقول (كان البيت عجيب الطراز، له بوابة ضخمة تصلح أن تكون لقلعة، ومع ذلك لا تغلق في ليل أو نهار، ثم مدخل طويل ضيق على جانبيه الغرف وهي أبداً موصدة الأبواب والمرء لا يستطيع في النهار أن يبصر كفه من شدة الظلمة، وكنا نضع مصباحاً ولكنه لم يكن يضيء شيئا، بل كان كل ماله من النفع هو أن يرينا شدة السواد ويزيده وقعاً في النفوس). وكان الصبيان من لداته وأترابه يقضون أيامهم في اللعب البريء، فيجتمعون في فناء أحد الدور، أو يخرجون إلى الطريق - أو (الحارة) كما يسمونها - يصرفون نهارهم كله فيما يتعلقون به من فنون اللهو.
وكان المازني الطفل أشوقهم إلى اللعب وأرغبهم فيه وأجزلهم حظاً منه، وقد تميز من بينهم بحب للدعابة وميل إلى الفكاهة.
وكانت فيه دفعة وجرأة تغريانه بالتقحم والمغامرة وطلب الشجار أو (جر الشكل) كما يقول، وإن كان مع ذلك ضعيفاً نحيفاً، ولقد اعتاض من ضعفه سعة الحياء والدهاء، فصارت له بفضله منزلة بين لداته الصبيان. على أنه لك يكن يهنأ بهذه الرغبة الطبيعية فيه أو يأخذ بحظه منها؛ فقد كان يدفع دونها ويحلأ عنها، فلا يهم باللعب مرة إلا زجره أهله ونهوه عنه كأنما كان يقترف منكراً ويقارب معصية، حتى لخيل إليه - وهو يدير عينه في تلك الأيام - أن وظيفة الآباء والأمهات (كانت صرف الأبناء عن النظر والتفكير، وإلزامهم الجمود ونهيهم عن كل حركة جسمية أو عقلية). ولا غرابة بعد ذلك أن تضيق نفس الطفل بالبيت وبالحياة فيه، وأن يراه أشبه بالجحيم.
فهو لا يكاد يقبل إلى الدنيا، غريباً عنها مأخوذا بجدتها مشوقا إلى معرفتها؛ يحفزه إلى ذلك فسه المتفتحة وطبعه المتوثب؛ حتى يطالبه الكبار بأن يكون له، وهو الطفل الغرير، (عقل الكبار واتزانهم وفهمهم). وربما بدا عصياً على التصديق أن تكون هذه نظرة الطفل إلى البيت في ذلك العهد.
ولكن الأمر لا يتعاصى على التحقيق، إذا عرفنا أن المازني نشأ في بيت من بيوت الورع والتقوى، فأبوه وجده من علماء الأزهر، وقد طرقت مسامع الطفل الناشئ آنذاك عبارات الثناء على جده من أفواه تلاميذه وعرف منهم منزلة مرعية للشيخ.
وكذلك كان هذا البيت ببنيانه فضلاً عن سكانه؛ فكان يقوم في فنائه مصلى أو مسجد صغير (عامراً أبداً بالمصلين ليلاً ونهاراً)، ويختلف إليه المريدون والاتباع يعقدون حلقات الذكر التي كانت تمس قلب الطفل الصغير وتملك عليه نفسه، فينغم إليهم، ويأتي بمثل ما يأتونه من صوت وحركة فكانت نشأته اقرب إلى النشأة الدينية التي يغلب عليها المحافظة والتوقر ومجافاة ما عساه يكون مظنة شك أو مدعاة ريبة، مع التشدد في التقاليد المرعية والعرف السائد، والذهاب في ذلك كله إلى حد المغالاة والإسراف.
ومن طرائف ما لقيه الطفل في هذه النشأة، أنه درج يسمع عن شخصين في البيت ولا يراهما أبداً؛ (وإن كان ذكرهما على لساني أبي وأمي؛ وهما (الست) و (الأفندي)، فأبي يقول للخادمة مثلاً، قولي كذا أو كذا (للست)، ويتحدث في أوقات شتى ولا سيما حي يكون معه رجال من أقربائنا عن هذه (الست).
وأمي لا تفتأ تقول، (الأفندي) قال أو (الأفندي) أتى أو الأفندي) خرج.
فاعجب أين هما؟ ولماذا لا أراهما؟ واصعد إلى السطح باحثاً عنهما فلا أجدهما، وادخل كل غرفة فلا اهتدي إلى أثرهما، وانزل إلى فناء الدار فلا التقي بهما.
أين ينامان يا ترى؟ ماذا يأكلان؟ ألا يظهران أبداً؟).
وظل يجهل شخصيهما حتى قدر لهذا اللغز أن يحل على يد جده الذي قال له (لقد اخطئوا معك يا بني، وكان حقهم أن بدلوك). ونحسبنا في غنى عن القول بأن هذين الشخصين لم يكونا أحدا غير أمه وابيه، يذكر كل منها الآخر، ويتحدث عنهما الآخرون، فعلا يعدي في الإشارة أليهما عن تلك الصفتين، وكانت النتيجة هي ذلك الازدواج الساذج في وهم الطفل الصغير. على هذه الحال، دفعوا بالطفل، وهو لم يعد الخامسة، إلى كتاب من كتاتيب القاهرة لذلك العهد، على مقربة من الدار.
.
ويقول المازني (ويصبح الصباح فأحمل إلى الكتاب حملاً، وهناك توضع قدماي في (الفلقة) ويهوى عليها (سيدنا) - فقيه الكتاب - بالجريدة (المقرعة) ويكل ذلك إلى مساعدة (العريف)، وبهذا يبدأ النهار.
.). على أن عهده بالكتاب لم يطل.
فقد أصرت أمه على المدرسة وألحقته - عن طريق إحدى معارفها - بمدرسة للبنات.
ولم يلبث أن هرب منها - أو من قسوة ناظرها - إلى مدرسة أخرى كانت تقع وقتذاك في شارع تحت الريع - أو في درب سعادة - وعلم أبوه بذلك فنقله إلى مدرسة (القرشوللي) في شارع محمد علي، على مقربة من القلعة.
وبقى به هذه المرة حتى أدى الامتحان في آخر العام، ومع ذلك فقد أبى الناظر أن ينقله إلى فرقة أعلى لصغر سنه، ولعله بقي في هذه المدرسة عاما آخر، استقر بعده في المدرسة القريبة. ويقول المازني (كنت أعود عصر كل يوم إلى البيت، فأرمي كتبي وكراساتي واخرج إلى الشارع لألعب مع أقراني، فأزجر عن اللعب، فأصعد واطل على اللاعبين من الشرفة، وبي حسرة ولهفة.
واسمعهم يصفونني بالعقل والهدوء، فألعن العقل وأذم الهدوء). وقد كان في حياة أبيه لا يعدم الوسيلة إلى اللعب والاحتيال له بما يدخل في وسعه؛ فقد كان على أبيه جرأة لا يجدها على سواه.
فلما مات أبوه وهو يشرف على التاسعة أرادت أمه أن تصرفه عن اللعب وأن تنأى به عنه، وألقت إليه فيما يشبه الإيحاء أن يعد نفسه - قبل الأوان - رب الأسرة ورجلها ووحدها، وأعدت من ناحيتها للأمر عدته، فكان إذا انتهى العام الدراسي وحل الصيف، بعثت بابنها إلى كتاب في الأزهر ليحفظ القرآن فلا يجد الطفل لعبه من الوقت إلا الهين اليسير. ولقد كان المازني خليقاً أن يستوفي حظ طفولته من رغد العيش وخلو البال وعدم الاشتغال بأمر نفسه فضلاً عن أمور غيره، لولا أن الأقدار كانت تهيئ له أمراً، فكتبت عليه أن يحمل في تلك السن المتقدمة أعباء الرجال المسئولين، بما أوحى إليه من ضرورة الاعتماد على النفس والكدح في سبيل ما ينتظره من أهله في المستقبل.
نعم، لم يكن الطفل ملتزماً مطالب العيش لمن خلفهم أبوه بعده، وإنما كان عليه أن يعرف أن عهد الطفولة، أو عهد اللعب، قد مضى، وأن يقصر نفسه على غير ما تتهيأ له طاقتها في سنه.
وعندما فرغت البقية الباقية من مالا أبيه، وقد كفل ذلك سرف أخيه الأكبر؛ كان عليه أن يوطن نفسه على الفقر وأن يستعد له.
.
ولقد عرف المازني الفقر في ذلك العهد من حياته، وخبره عن كثب، وامتحن به، حتى وصفه بأنه أستاذه، ولكنه كان يلقي على دروسه كما تهوى العصا على أم الرأس!). محمد محمود حمدان