خطب ومحاضرات
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [4]
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على نبينا محمد وعلى جميع الأنبياء والمرسلين، ورضي الله عن الصحابة الطيبين، وعمن تبعهم بإحسان إلى يوم الدين.
سبحانك لا علم لنا إلا ما علمتنا، إنك أنت العليم الحكيم.
اللهم علمنا ما ينفعنا، وانفعنا بما علمتنا يا أرحم الراحمين.
اللهم زدنا علماً نافعاً وعملاً صالحاً بفضلك ورحمتك يا رب العالمين.
سبحانك اللهم وبحمدك على حلمك بعد علمك, سبحانك اللهم وبحمدك على عفوك بعد قدرتك.
اللهم صل على نبينا محمد وعلى آله وصحبه وسلم تسليماً كثيراً.
أما بعد:
فيقول الإمام ابن حجر في الإصابة في ترجمة أبي طالب ، أورده في الجزء الرابع في باب الكنى في حرف الطاء، فالقسم الرابع له شرط عند الحافظ ابن حجر ، إذا عرفت شرطاً في كتابه يزول عنك استغراب إيراد ترجمة أبي طالب في الإصابة، مع أنه ما ترجمه الإمام ابن الأثير في أُسد الغابة، ترجمه الإمام ابن عبد البر في الاستيعاب، أما ابن حجر فله شرط خاص في الإصابة ما هو؟
القسم الأول: في كل حرف، حرف العين حرف الباء حرف التاء لمن ثبتت صحبته قطعاً وجزماً، ولا شك في ذلك، وهو صحابي لا خلاف عليه.
والقسم الثاني: للأولاد الذين ثبت أنهم وُلدوا على عهد النبي عليه الصلاة والسلام ولم يثبت لهم لقاء بالنبي عليه الصلاة والسلام ولا رواية عنه، أوردهم في القسم الثاني، قال لأنه من المؤكد أن الصحابة كانوا يأتون بأولادهم إلى النبي عليه الصلاة والسلام ليُبرِّك عليهم، فنحن بناءً على هذا نقول كل مولود أُتي به إلى النبي عليه الصلاة والسلام يحتمل هذا، وإذا أُتي به ووقع نظره على النبي عليه الصلاة والسلام ووقع نظر النبي عليه فثبت له وصف الصحبة سواء أدركه في الكبر أم لا، فكل من رأى النبي عليه الصلاة والسلام لحظة يشع النور من مفرق رأسه إلى قدميه، ويثبت له فضيلة لا تحصل لأحد من خلق الله إلى قيام الساعة، هذه رؤية خير خلق الله عليه صلوات الله وسلامه لها شأن.
القسم الثالث: في المخضرمين الذين أدركوا الجاهلية وأدركوا الإسلام، ولم يثبت لقاؤهم بنبينا عليه الصلاة والسلام، فقال: هؤلاء دون الصحابة وفوق التابعين، فينبغي إذاً أن يلحقوا بالصحابة في الفضيلة، قال: لأنه أدرك عصر النور، فيمتاز عن الذي وُلد بعد زمن النبي عليه الصلاة والسلام، ذاك وُلد قبله وأدرك الزمان الذي فيه، أما من وُلد بعد موت النبي عليه الصلاة والسلام فقد انتهى زمن النور، فليس للتابعي فضيلة المخضرم وليس للمخضرم فضيلة الصحابي.
والقسم الرابع: من ادُّعى أنه صحابي وليس صحابياً، الشيعة يدَّعون أن أبا طالب في الجنة، كيف يكون والد علي في النار، وأنت لو قلت لهم: إن أبا طالب في النار يقطعون رقبتك، والد إمامنا المعصوم في النار!
نقول لهم: والد إبراهيم في النار، يعني صار علي أعلى من إبراهيم، على نبينا وعلى علي وآل البيت الطيبين الطاهرين صلوات الله وسلامه، مهما كان استعظام كون أبي طالب في النار، فاستعظام ما لوالد إبراهيم أعظم وأعظم؛ لكن الحق أحق بالاتباع، فالشيعة يدعون أن أبا طالب من كبار الموحدين وهو في جنة النعيم، أورد الإمام ابن حجر هذا في الإصابة في القسم الرابع عند حرف الطاء من كتاب الكنى ليحقق هذا القول هل هو معتبر أو لا؟ ورده، وانظر إلى أئمتنا ليس موضوع عقل، بل احتكام لشرع مطهر، ولا يؤمن أحد حتى يكون هواه تبعاً لشرع الله.
يقول الحافظ ابن حجر في ترجمة أبي طالب : ونحن نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في جملة من يدخلها -يعني: الجنة طائعاً- لكن ورد في أبي طالب ما يمنع ذلك.
إذاً يستثنى من آل عبد المطلب أبو طالب ، وإنما خصه بالذكر دون أبي لهب لأن ذاك مفروغ منه، آية محكمة: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ [المسد:1]، أما أبو طالب فما ذكره الله باسمه، وكان ينصر النبي ويحوطه ويدافع عنه بنفسه وماله، بخلاف أبي لهب الشرير، فكان يؤذيه ويبذل ما في وسعه في إيذاء ابن أخيه، فشتان بين العمين، فذاك كونه في النار محل ثقة، وأما هذا موقفه قد يوحي للإنسان بأنه في الجنة؛ لنُصرة أبي طالب لنبينا عليه الصلاة والسلام، وقد كان النبي عليه الصلاة والسلام يقول لـأبي طالب : أُجلُّك أكثر من إجلال أبي؛ لأنك أنت الذي ربيتني ونشَّأتني ونصرتني، قل كلمة أحاج لك بها عند الله، قل: لا إله إلا الله، فلا يقول: إلهك باطل، ودينك مزيف، يقول: لولا أن تعيرني قريش لأقررت بهذا، آخر ما قاله: إنه على ملة عبد المطلب ، لا شك أن هذا كفر، فليس عندنا -كما قلنا- في دين الله محاباة.
وقد ثبت في الصحيحين عن نبينا عليه الصلاة والسلام أنه بعد أن مات قال النبي: (لأستغفرن لك ما لم أُنهَ عنك) من رواية المسيب بن حزن والد سعيد بن المسيب رضي الله عنهم أجمعين، فنزل قول الله: مَا كَانَ لِلنَّبِيِّ وَالَّذِينَ آمَنُواْ أَن يَسْتَغْفِرُواْ لِلْمُشْرِكِينَ [التوبة:113]، وهو أبو طالب .
وثبت في صحيح مسلم وغيره، أنه قيل للنبي عليه الصلاة والسلام: (عمك كان يحوطك وينصرك فهل نفعه ذلك؟ قال: نعم، كان في غمرات من نار جهنم فأخذته وشفعت له، فوضعه الله في ضحضاح من نار جهنم -أي: في نار قليلة يخوض فيها إلى كعبيه- ووضع في أخمصه -وهي الحفرة المنخفض الذي في أسفل الرجِل- جمرتان من نار جهنم يغلي منهما دماغه، وهو أهون أهل النار عذاباً، ويرى نفسه أنه أشد أهل النار عذاباً)، وشفاعة نبينا عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب في تخفيف العذاب عنه خاصة به، فلا يشفع نبي ولا صدِّيق لمشرك إلا نبينا لعمه أبي طالب ، دون إخراج من النار، إنما في تخفيف العذاب عنه، والله يقول: فَلاَ يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذَابُ وَلاَ هُمْ يُنصَرُونَ [البقرة:86]، يستثنى شفاعة نبينا عليه الصلاة والسلام لعمه أبي طالب بالنصوص الصحيحة الثابتة، وهذا مقرر عندنا أهل السنة الكرام في مبحث الشفاعة، فلا يخطرن ببال أحدكم أن هذا تخريف أو هوس، هذا مستثنى بنص صحيح، وهي من شفاعاته الخاصة التي لا يشاركه فيها أحد، كالشفاعة في فصل الحساب، والشفاعة في فتح باب الجنة، هذا كله شفاعات خاصة لا يشاركه فيها أحد من المخلوقات.
إذاً: نرجو أن يدخل عبد المطلب وآل بيته، عبد الله يدخل، أوليس كذلك؟ من آل عبد المطلب، عبد المطلب يدخل، نحن نجزم أنهم ما وحدوه، لكن بالمقابل نجزم أنه ما بُعث إليه الرسول، فإن قيل: ماذا نفعل بالنص المتقدم في صحيح مسلم ؟
نقول: على العين والرأس، نصوص تعارضت لابد من الجمع بينها، فنبينا عليه الصلاة والسلام أخبر بأنه في النار قبل أن يعلمه الله بحكم أهل الفترة، وهذا الجمع ممكن ميسور؛ لأن من كفر بالله هو ظالم لا شك في ذلك، وأثبت الله لمن كفر به الظلم، سواء جاءه رسول أو لم يأته رسول، تقدم معنا أن وجود الله ووجوب تعظيمه ثابتان في عقول بني الإنسان وفي فطرهم أثبت من وجودهم ومن الشمس في رابعة النهار، فمن لم يوحد الله قبل مجيء الرسول إليه ظالم ومشرك وكافر، بناء على النصوص التي تدل على أن الجنة لا يدخلها إلا من وحَّد، وأن النار مأوى الكافرين.
نقول: عبد المطلب في النار، وعبد الله في النار، وكل من لم يوحد الله في النار، وكل مولود مات على الكفر في النار، ثم بُيِّن لنا أن هؤلاء لهم حكم خاص، هؤلاء ليس حالهم كمن بلغته الدعوة ووقف ولم يؤمن، بل هم في ضلال وضياع، فالله سيحاسبهم يوم القيامة ويمتحنهم.
فإذاً نقول: ذاك الحديث صحيح، لكن عُورض بأدلة صحيحة ثابتة فلابد من الجمع بينها، هذا الجمع أن نقول: صدر ذاك قبل إعلام الله لنبيه عليه الصلاة والسلام بذلك، وعليه لا نرد الحديث، إنما نحمله على معنى يتلاءم مع نصوص الشرع، ووالد نبينا عليه الصلاة والسلام وجده وكل من هلك في فترة قبل بعثة رسول سيمتحن.
ما الحكم في والد نبينا وجده على نبينا صلوات الله وسلامه؟ قلنا: الله أعلم، لكن حقيقة نرجو، ووالله إن رجاءنا الإيمان لوالد نبينا عليه الصلاة والسلام عند الامتحان في يوم القيامة أعظم من رجائنا الإيمان لأبوينا ولأولادنا، رغبة في إقرار عين نبينا عليه الصلاة والسلام، لكن هذا الرجاء لا يدعونا إلى التألي والكذب على الله، نقول: والد النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة، ولا يجوز أيضاً أن نجفو ونغلظ ونقول: هو في النار، فلنقف كما علمنا نبينا عليه الصلاة والسلام في القول الذي قرره أهل السنة الكرام في هذا الحكم العام، أهل الفترة يمتحنون، فإن أطاعوا دخلوا الجنة، وإن عصوا دخلوا النار، هل سيطيع أم يعصي؟ الله عليم، لكن نرجو -كما قال الحافظ ابن حجر ، وما ألطف وأظرف وأحلى وأدق وأسد هذه العبارة-: أن يدخل عبد المطلب وآل بيته في الإيمان والجنة طائعين، وأن يؤمنوا برب العالمين، وأن يكونوا من الفائزين يوم الدين، هذا الرجاء لابد من أن يكون في نفوسنا تعظيماً لنبينا عليه الصلاة والسلام.
ما يستأنس به لبيان مشروعية رجاء الجنة لآل عبد المطلب
ثبت في مسند أبي يعلى ، والحديث رواه عمر بن شبة في أخبار مكة، ورواه أبو بشر سمويه في فوائده، والأثر في المستدرك بسند صحيح، عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه بوالده أبي قحافة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في فتح مكة أو عند حجة الوداع -غاب عني اللفظ لا يضر- ليُسلم، وقد صار شعر رأسه ولحيته كالثغامة، أي: كالثلج الأبيض، ليس فيه شعرة سوداء من كِبَره وهرمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر : (ألا تركت الشيخ في بيته ونحن نأتيه؟)؛ إكراماً لك وإجلالاً له، شيخ كبير وأنت صدِّيق، (فكل أحد له عندنا يد كافأناه عليها إلا أنت)، ولو اتخذ نبينا عليه الصلاة والسلام خليلاً من أهل الأرض لاتخذ أبا بكر خليلاً فله منزلة.
قال: يا رسول الله: أردت أن يأجره الله في المجيء إليك ليسلم على يديك، ويثاب على هذه الخطى، فلما وضع أبو قحافة يده في يد النبي عليه الصلاة والسلام ليبايعه على الإسلام بكى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما يبكيك يا
إذا كانت يد عمك مكان يد أبي هذا أحب إلي، لتقر عينك، فحبك يُقدم على حبنا لآبائنا وأسرنا أصولاً وفروعاً مهما كان شأنهم، والحديث صحيح.
والله نتمنى لو أن أبا طالب آمن إقراراً لعين نبينا عليه الصلاة والسلام، وإكراماً لعمه لنصرته لنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن لله الحجة البالغة، وهو أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، وهكذا من باب أولى نقول لمن لم يكفر عند مجيء رسول لوالد نبينا وجده: نتمنى أن يلهم الله هذين العبدين الإيمان عند الامتحان، وأن يكونا في غرف الجنان مع نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا تعظيم لنبينا عليه الصلاة والسلام ومحبة له.
قصة ثانية عن الصدِّيق الثاني عمر ، وهو أفضل الصديقين بعد أبي بكر ، يرويها ابن إسحاق في كتاب المغازي والسير:
لما جاء العباس رضي الله عنه بـأبي سفيان رضي الله عنه، وغفر الله له إن شاء الله، لما جاء العباس بـأبي سفيان في فتح مكة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أجاره وهو خلفه، ما رضي عمر بإجارة أبي سفيان من قِبل العباس ، وعارض، فـالعباس أخذته الحدة وتكلم كلاماً يُعذر لحدته، لكنه في غير موضعه، فقال لـعمر : يا عمر ! لو كان أبو سفيان من بني عدي لما قتلته، بنو عدي هم عشيرة عمر ، فيقول: أنت تريد قتله لأنه من بني عبد شمس وليس من قبيلتك، هذا لو كان من قبيلتك لما طالبت بقتله، فانظر ماذا قال عمر ؟!
قال عمر للعباس : والله يا عم رسول الله لأنا بإسلامك عندما أسلمت أفرح مني بإسلام الخطاب لو أسلم، يعني: لو قُدِّر أن والدي الخطاب حياً وأسلم، لما فرحت بإسلامه كفرحي بإسلامك، لمَ؟ إقراراً لعين النبي عليه الصلاة والسلام، أنت لك عند النبي منزلة، أنت صنو أبيه، فلا تتهمني، وأنا لا أرد جوارك احتقاراً لك، لكن هذا فعل ما فعل بالإسلام، والآن دعنا نضرب رقبته ولا نجيره.
فقال له: لو كان من بني عدي لما قتلته، قال: والله لأنا أفرح بإسلامك عندما أسلمت من إسلام الخطاب لو أسلم، أنتم آل البيت على رؤوسنا، هذا إجلالنا لآل بيت نبينا عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هذا حال الصحابة الكرام، فأحكي لكم بعد القصتين قصتين والحديث يجر بعضه، يعقوب بن السكيت وليس بين يدي الكتب لأتحقق من نسبة القصة إليه، لكن فيما أعلم أنها جرت منه غفر الله له ورحمه ورضي عنه، وهو صاحب كتاب إصلاح المنطق، غالب ظني كان يؤدب ويعلم أولاد الخليفة المتوكل ، هذا الذي أشك فيه هل هو المتوكل أو غيره من خلفاء بني العباس، وغالب ظني أنه هو، وليست الكتب بين يدي أتحقق والقصة أرويها من صدري، لكن غالب ظني أنه ابن السكيت مع الخليفة المتوكل ، وكان الخليفة المتوكل يميل إلى النصب ومعاداة آل البيت، فقال مرة لـيعقوب : ما تقول في هذين -ولدي الخليفة- هما أفضل أم الحسن والحسين ؟
ماذا سيقول يعقوب ؟ الحسن والحسين ؟! لا هذه منقصة للحسن والحسين ، نفضل الحسن والحسين على ولد خليفة جائر، وكل من جاء بعد الخلفاء الراشدين في جور، كانوا في كفر والله أعلم بحالهم باستثناء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، نقول: الحسن والحسين أفضل من ولدي الخليفة، يعني:
إذا أنت فضلت امرأً ذا براعة على ناقص كان المديح هو النقصا
ألم تر أن السيف ينقص قدرُه إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
يقول: هذا السيف أمضى من العصا، ويقول: هذا الرجل المبارك أحسن من اللوطي، أنت ما مدحته بهذا على الإطلاق، فقال: يا أمير المؤمنين! والله إن قنبراً الذي كان يخدم علياً أفضل منك ومن ولديك.
قنبر غلام علي وخادمه هذا ملك آل البيت له حكمهم، كلب أصحاب الكهف ذكره الله في القرآن، فكيف بمؤمن رقيق عند آل بيت أرقاء القلوب طاهرين مطهرين؟! قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، قنبر خادم علي وغلامه أفضل منك ومن ولديك، تريد أن أفضل الحسن والحسين عليهما! أنت ما تستحي! فأمر غلمانه بقتله، فوضعوه في البساط فداسوه بأرجلهم حتى قتلوه في مجلس الخليفة.
هذا حالنا نحو آل بيت نبينا، فليعلم الشيعة من يحب آل البيت، صديق هذه الأمة يقول: لو أسلم عمك كان أفرح لقلبي من إسلام والدي، والصديق الثاني الذي يفتخر الشيعة ويعيدون بيوم قتله، وعندهم يوم الغفران يوم مقتل عمر ، هذا يقول للعباس : أنا بإسلامك أفرح من إسلام الخطاب لو أسلم، وهذا الإمام يقول: قنبر خادم علي أفضل من الخليفة وولديه، فليعرف هؤلاء قدرهم!
ولأبين لكم -إخوتي الكرام- أن هذا الرجاء شرعي، أذكر لكم قصتين اثنتين من صدِّيقين هما أعظم الصدِّيقين عند ربنا العظيم، أولهما: الصديق الأول أبو بكر رضي الله عنه:
ثبت في مسند أبي يعلى ، والحديث رواه عمر بن شبة في أخبار مكة، ورواه أبو بشر سمويه في فوائده، والأثر في المستدرك بسند صحيح، عن ابن سيرين عن أنس بن مالك رضي الله عنه قال: جاء أبو بكر رضي الله عنه بوالده أبي قحافة إلى النبي عليه الصلاة والسلام في فتح مكة أو عند حجة الوداع -غاب عني اللفظ لا يضر- ليُسلم، وقد صار شعر رأسه ولحيته كالثغامة، أي: كالثلج الأبيض، ليس فيه شعرة سوداء من كِبَره وهرمه، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لـأبي بكر : (ألا تركت الشيخ في بيته ونحن نأتيه؟)؛ إكراماً لك وإجلالاً له، شيخ كبير وأنت صدِّيق، (فكل أحد له عندنا يد كافأناه عليها إلا أنت)، ولو اتخذ نبينا عليه الصلاة والسلام خليلاً من أهل الأرض لاتخذ أبا بكر خليلاً فله منزلة.
قال: يا رسول الله: أردت أن يأجره الله في المجيء إليك ليسلم على يديك، ويثاب على هذه الخطى، فلما وضع أبو قحافة يده في يد النبي عليه الصلاة والسلام ليبايعه على الإسلام بكى، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: (ما يبكيك يا
إذا كانت يد عمك مكان يد أبي هذا أحب إلي، لتقر عينك، فحبك يُقدم على حبنا لآبائنا وأسرنا أصولاً وفروعاً مهما كان شأنهم، والحديث صحيح.
والله نتمنى لو أن أبا طالب آمن إقراراً لعين نبينا عليه الصلاة والسلام، وإكراماً لعمه لنصرته لنبينا عليه الصلاة والسلام، لكن لله الحجة البالغة، وهو أعلم بخلقه سبحانه وتعالى، وهكذا من باب أولى نقول لمن لم يكفر عند مجيء رسول لوالد نبينا وجده: نتمنى أن يلهم الله هذين العبدين الإيمان عند الامتحان، وأن يكونا في غرف الجنان مع نبينا عليه الصلاة والسلام، وهذا تعظيم لنبينا عليه الصلاة والسلام ومحبة له.
قصة ثانية عن الصدِّيق الثاني عمر ، وهو أفضل الصديقين بعد أبي بكر ، يرويها ابن إسحاق في كتاب المغازي والسير:
لما جاء العباس رضي الله عنه بـأبي سفيان رضي الله عنه، وغفر الله له إن شاء الله، لما جاء العباس بـأبي سفيان في فتح مكة إلى النبي عليه الصلاة والسلام وقد أجاره وهو خلفه، ما رضي عمر بإجارة أبي سفيان من قِبل العباس ، وعارض، فـالعباس أخذته الحدة وتكلم كلاماً يُعذر لحدته، لكنه في غير موضعه، فقال لـعمر : يا عمر ! لو كان أبو سفيان من بني عدي لما قتلته، بنو عدي هم عشيرة عمر ، فيقول: أنت تريد قتله لأنه من بني عبد شمس وليس من قبيلتك، هذا لو كان من قبيلتك لما طالبت بقتله، فانظر ماذا قال عمر ؟!
قال عمر للعباس : والله يا عم رسول الله لأنا بإسلامك عندما أسلمت أفرح مني بإسلام الخطاب لو أسلم، يعني: لو قُدِّر أن والدي الخطاب حياً وأسلم، لما فرحت بإسلامه كفرحي بإسلامك، لمَ؟ إقراراً لعين النبي عليه الصلاة والسلام، أنت لك عند النبي منزلة، أنت صنو أبيه، فلا تتهمني، وأنا لا أرد جوارك احتقاراً لك، لكن هذا فعل ما فعل بالإسلام، والآن دعنا نضرب رقبته ولا نجيره.
فقال له: لو كان من بني عدي لما قتلته، قال: والله لأنا أفرح بإسلامك عندما أسلمت من إسلام الخطاب لو أسلم، أنتم آل البيت على رؤوسنا، هذا إجلالنا لآل بيت نبينا عليه الصلاة والسلام.
وإذا كان هذا حال الصحابة الكرام، فأحكي لكم بعد القصتين قصتين والحديث يجر بعضه، يعقوب بن السكيت وليس بين يدي الكتب لأتحقق من نسبة القصة إليه، لكن فيما أعلم أنها جرت منه غفر الله له ورحمه ورضي عنه، وهو صاحب كتاب إصلاح المنطق، غالب ظني كان يؤدب ويعلم أولاد الخليفة المتوكل ، هذا الذي أشك فيه هل هو المتوكل أو غيره من خلفاء بني العباس، وغالب ظني أنه هو، وليست الكتب بين يدي أتحقق والقصة أرويها من صدري، لكن غالب ظني أنه ابن السكيت مع الخليفة المتوكل ، وكان الخليفة المتوكل يميل إلى النصب ومعاداة آل البيت، فقال مرة لـيعقوب : ما تقول في هذين -ولدي الخليفة- هما أفضل أم الحسن والحسين ؟
ماذا سيقول يعقوب ؟ الحسن والحسين ؟! لا هذه منقصة للحسن والحسين ، نفضل الحسن والحسين على ولد خليفة جائر، وكل من جاء بعد الخلفاء الراشدين في جور، كانوا في كفر والله أعلم بحالهم باستثناء الخليفة الراشد عمر بن عبد العزيز رضي الله عنه وأرضاه، نقول: الحسن والحسين أفضل من ولدي الخليفة، يعني:
إذا أنت فضلت امرأً ذا براعة على ناقص كان المديح هو النقصا
ألم تر أن السيف ينقص قدرُه إذا قيل إن السيف أمضى من العصا
يقول: هذا السيف أمضى من العصا، ويقول: هذا الرجل المبارك أحسن من اللوطي، أنت ما مدحته بهذا على الإطلاق، فقال: يا أمير المؤمنين! والله إن قنبراً الذي كان يخدم علياً أفضل منك ومن ولديك.
قنبر غلام علي وخادمه هذا ملك آل البيت له حكمهم، كلب أصحاب الكهف ذكره الله في القرآن، فكيف بمؤمن رقيق عند آل بيت أرقاء القلوب طاهرين مطهرين؟! قُل لَّا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ أجراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبَى [الشورى:23]، قنبر خادم علي وغلامه أفضل منك ومن ولديك، تريد أن أفضل الحسن والحسين عليهما! أنت ما تستحي! فأمر غلمانه بقتله، فوضعوه في البساط فداسوه بأرجلهم حتى قتلوه في مجلس الخليفة.
هذا حالنا نحو آل بيت نبينا، فليعلم الشيعة من يحب آل البيت، صديق هذه الأمة يقول: لو أسلم عمك كان أفرح لقلبي من إسلام والدي، والصديق الثاني الذي يفتخر الشيعة ويعيدون بيوم قتله، وعندهم يوم الغفران يوم مقتل عمر ، هذا يقول للعباس : أنا بإسلامك أفرح من إسلام الخطاب لو أسلم، وهذا الإمام يقول: قنبر خادم علي أفضل من الخليفة وولديه، فليعرف هؤلاء قدرهم!
إذا ذكرنا هؤلاء فلابد من ذكر قاض من القضاة في هذه الأيام نعلم شأنه أيضاً، ولنرى كيف القلوب دنست وخبُثت.
اختصم اثنان في قصة فقال بعض الناس لإنسان: أنت على معصية، وتخالف النبي عليه الصلاة والسلام في ذلك، استحي من الله.
فقال هذا العاصي: لعنة الله على والد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
فذاك ضربه، قال: تسب النبي ما تستحي، ثم بعد ذلك أخذا إلى المحاكمة، فقال القاضي: ماذا قلت؟ قال: قلت: لعنة الله على والد رسول الله عليه الصلاة والسلام.
قال: والد النبي كافر لعنة الله عليه بعدد ما خلق الله وبعدد ما هو خالق.
فقال له ذاك الإنسان: يا شيخ! ليس الأمر كذلك، هذا ما لعن والد النبي لأنه كافر، أنا أقول له: تخالف النبي، قال: لعنة الله على والد النبي، يعني ماذا يقصد بذلك؟ سب النبي وتحقيره، هذا كما لو قال لقائل: هذا كريم هذا مجتهد هذا صالح، لعنت والده، نسأل الله العافية، ماذا يكون هذا؟ تحقيراً له، فأنت عندما تلعن إنساناً تحقره، والكلام ليس هو بحثاً في والد النبي هل هو مؤمن أو كافر، لكن انظر ماذا نقول، بلاء، خبث، سفاهة، عمى، البحث الآن يراد منه تحقير النبي عليه الصلاة والسلام، فلو كان والده كافراً لكان ينبغي أن يوقف ذاك عند حده لتلفظه بهذه الكلمة الذي يوهم فيها تنقيص النبي عليه الصلاة والسلام، ما قرر ببحث علمي أداه إليه الدليل الشرعي أن والد النبي كافر، لا، ففي خصومة لها مقدماتها ولها دلالاتها، لذلك يقول الإمام مالك : إذا اختصم إنسان مع آخر وقال له: أما أنا فعفيف ابن عفيفة، يقول: هذا قذف، ويجلد ثمانين جلدة مباشرة، لأنه يُعرض به، مع أنه إنما قال: أما أنا فعفيف، وما قال له: أنت زان، لكن نقول: سياق الكلام معلوم، وما يريد أن يصرح لئلا يمسك منه الكلام، وبعد ذلك يقام عليه الحد، فكنَّى وعرَّض بما يدل على التصريح، يقول: اذهب أنت معروف، أما أنا فعفيف ابن عفيفة، طيب واضح ماذا تقصد من كلامك، وهنا واضح ماذا تقصد من هذا السب!
فلنعلم -إخوتي الكرام- البحث الشرعي والتأدب مع النبي عليه الصلاة والسلام، فلابد من البحث في هذه القضية ضمن هذه الأصول الثلاثة، إذا حققناها نخرج بنتيجة قطعية، الامتحان والعلم عند الرحمن، والله إن كان في النار ما أخطأنا، وإن كان في الجنة ما أخطأنا، وإذا قلنا إنه في النار وهو في الجنة يا ويلنا، أوليس كذلك؟ وإذا قلنا إنه في الجنة وسيمتحن ويدخل النار كذبنا على ربنا، فلنقف عند ما أوقفنا نبينا عليه الصلاة والسلام، ولنقل ما نعبر به عن حبنا لنبينا عليه الصلاة والسلام، نرجو -هذا كلام أئمتنا-.
ولذلك -إخوتي الكرام- عندما تنازع العلماء هذه المسألة، ودخلت فيها عواطف وانفعالات وما بُحث الأمر بحثاً على أصول متتابعة، حقيقة خرجوا عن الجادة، السيوطي يؤلف رسائل متعددة بأن والدي النبي عليه الصلاة والسلام في الجنة قطعاً وجزماً، وما عنده شك في ذلك، ويجزم بأن الله أحيا أبوي النبي عليه الصلاة والسلام وآمنا به وهما في الجنة، ويقول: الحديث ضعيف لكن له طرق، وهذا الذي يتناسب مع كرامة النبي عليه الصلاة والسلام ومنزلته عند ربه، ويورد ويورد، وينظم أشعاراً ينقلها عن ابن ناصر الدين الدمشقي وغيره:
حبا الله النبي مزيد فضل على فضل وكان به رءوفا
فأحيا أمه وكذا أباه لإيمان به فضلاً لطيفا
فسلم فالقدير بذا قدير وإن كان الحديث به ضعيفا
وأنا أقول: والله إنه جاحد ومنكر، ومثله لا يجوز أن يستدل به في ترغيب وترهيب فضلاً عن طهارة وأحكام شرعية، فضلاً عن مغيبات وأمور اعتقاد، أن نضع الأمر في موضعه، وقابل هذا الشيخ علي القاري ، فألَّف رسالة في معتقد أبي حنيفة في والدي النبي عليه الصلاة والسلام، وجزم بأنهما في النار، واحتج بمراسيل وآثار ضعيفة أيضاً مع الحديث المتقدم على أنهما في النار، وفسَّر آيات كثيرة بروايات عن التابعين أنه يكون فيها والدا النبي عليه الصلاة والسلام في النار، هذا في الحقيقة غلط، وجاء ليقول: المرسل يحتج به عند أئمتنا، هي مسألة فروع تحتج بمرسل!
وجاء أناس في هذا العصر يطبعون رسائل السيوطي وينشرون المسألة، وجاء أناس في هذا العصر يطبعون رسالة الإمام علي القاري وينشرونها، والحق ضاع -كما قلت- بين إفراط وتفريط، ودائماً الحق إذا لم يُنصف فيه هذا حاله، فلنقف عند حدنا، الحديث صحيح ثابت، وعُورض بما عُورض به مما هو صحيح ثابت، فلنضع تلك المعالم ولنخرج بنتيجة كما قلنا: حكم عام في كل من تخلفت فيه شروط التكليف بالتوحيد من أولاد المسلمين أنه يمتحن يوم الدين، فإن أطاع دخل جنة النعيم، وإلا أُدخل نار الجحيم، هذا هو الحكم الذي لا نحمل تبعة القول به عند ربنا جل وعلا.
إخوتي الكرام! فإن قال قائل: وردت نصوص بالتصريح بأناس بأعيانهم بأنهم من أهل النار، على سبيل التحديد، فلمَ لم تقولوا فيها ما قلتم في عبد الله والد رسول الله عليه الصلاة والسلام؟
ثبت في المسند والصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه، أن نبينا صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت
نقول: قف عند حدك واعرف قدرك، وليس الأمر محاباة كما قلنا إنما نصوص شرعية، عمرو بن لحي يقول النبي في الحديث الذي يخبرنا أنه رآه يجر قُصبه في النار، يقول: (وكان أول من سيَّب السوائب)، أي: هو أول من غيَّر ملة خليل الرحمن إبراهيم، وخزاعة حكمت مكة قبل رهط النبي عليه الصلاة والسلام وأسرته وقبيلته بثلاثمائة سنة، حتى انتزع منهم المُلك قصي جد النبي عليه الصلاة والسلام، وكان هذا اللعين عمرو بن لحي هو الذي أفسد دين العرب في مكة في تلك الأيام، فذهب إلى بلاد الشام وأحضر لهم الأصنام.
وقال لي مرة بعض الإخوة من أهل مكة: يا شيخ! أنتم توردون لنا الأصنام إلى مكة، قلت: وأنتم تقبلونها، إذاً: أنتم أقل عقولاً من أهل الشام! يعني أولئك يصنعون وأنتم تعبدون، إذا صنعوا خمراً أنتم تشربونه، وهنا كذلك أصنام عملت في الشام واستوردها عمرو بن لحي ونصبها عندكم فعبدتموها، إذاً: أنتم أنزل من أهل الشام عند الرحمن، أولئك صنعوا وأنتم عبدتم ما صنع غيركم! يعني: لو صنعتموه بأيديكم لكان أخف منقصة وعاراً.
عمرو بن لحي هو أول من غير ملة إبرهيم، وهو الذي وضع لهم في صيغة الطواف هذه الكلمة وكان يقولونها حتى بعثة نبينا الأمين عليه الصلاة والسلام: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك لك، إلا شريكاً هو لك تملكه وما ملك، هذه من زيادة هذا الشيطان، عمرو بن لحي الخزاعي الذين كانوا يحكمون مكة، وكان له قرين من الجن، ويأتيه دائماً ويزين له هذا، وقد ورد في كتاب الكلبي في مغازيه وسيره في أخبار عمرو بن لحي : أن قرينه جاء وقال له: أجب أبا ثمامة -يُكنى بذلك- وليته سُمي بأبي مُرة لأنها كنية الشيطان الرجيم، أجب أبا ثمامة : فقال لبيك من تهامة -يعني: أجيبك وأنا الآن في مكة ماذا تريد؟- قال: ادخل بلا ملامة، هذا شيطانه الذي يقول له هذا، فائت جدة تجد آلهة معدة، موجودة على شاطئ البحر، قيل إنها الآلهة التي عبدها قوم نوح ود وسواع ويغوث ، وقد ثبت في صحيح البخاري أنها آلت إلى العرب وعبدوها، فهل قذفها البحر إليهم وجعلها الطوفان تستقر في ذلك المكان وكشف عنها هذا التابع القرين الجني، أو هذا الجني أتى بها إلى ساحل جدة وقال لهذا: ايتِ جدة تجد آلهة معدة، خذها ولا تهب، ادع إليها تُجب، فأخذها ونصبها في مكة، وزين لهم أن الآباء كانوا يعبدونها فعبدوها، فـعمرو بن لحي يختلف عن عبد الله ، الذي نشأ كما قلنا في شريعة مندثرة ضائعة مُغيرة، أما هذا فهو أول من غير بنص النبي عليه الصلاة والسلام، ولذلك من غيَّر ملة إبراهيم في نار الجحيم.
صنف آخر نجزم بأنه من أهل الجنة وهو في الفترة، من بقي على التوحيد ويوحد الله ولم يشرك فهو في الجنة، كما حصل هذا من عدد من أهل الفترة كـزيد بن عمرو بن نفيل ، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في معجم الطبراني بسند صحيح: (أنه يُبعث أمة وحده).
وكما ثبت هذا عن ورقة بن نوفل يبعث أمة وحده، قلت: ورقة بن نوفل تنصر، زيد بن عمرو بن نفيل ما كان يتنصر، ويقول: الدين ليس هذا، أي: هذا مع أنه دين فيه ما فيه من اختلال وتغيير وتلاعب، ليس بدين حقيقي، يعني: هو ما كان عليه إبراهيم ولعله يأتي به عما قريب نبي يدعو إليه، ومات قبل ذلك، كل من هذين يُبعث أمة وحده، والحديث كما قلت في الطبراني وهو في المسند والبزار.
وكان زيد بن عمرو بن نفيل يلبي تلبية خالصة لله، فذاك يقول: لبيك اللهم لبيك، لبيك لا شريك، لك إلا شريكاً هو لك، وهذا يجيبه: لبيك اللهم حقاً حقاً تذللاً ورقاً، عذت بما عاذ به خليل الرحمن إبراهيم! فشتان بين هذا وذاك، فهذا على الفطرة.
عندنا أناس بين الصنفين لا غيروا الملة ولا بقوا على الفطرة، وما أشركوا بالله وعبدوا غير الله، إنما كانوا في جاهلية محرفة لم يحرفوها، فنقول: هم في ظلم، وأخبرنا الله أنه لا يعذبهم إلا بعد أن يحاسبهم يوم القيامة، هذا -إخوتي الكرام- ما نعتقده في هذه المسألة والعلم عند الله جل وعلا.
القول الرابع بعد القول بأنهم في النار قيل في خصوص أولاد المشركين: إن حكمهم كحكم آبائهم، وهذا يختلف عما سبق، هناك قال: إنهم في النار إذا ماتوا قبل البلوغ، وأما هنا فيقول: إذا ماتوا قبل البلوغ فهم في النار بشرط بقاء أبويهم على الكفر، فإذا أسلم واحد من الأبوين ولو بعد خمسين سنة ينتقل الولد من النار إلى الجنة تبعاً لأبويه أو لأحدهما، نقل هذا الإمام ابن القيم في كتابه طريق الهجرتين دون أن ينقله عن أحد، ونقله إمام أهل السنة الإمام أبو الحسن الأشعري في مقالات الإسلاميين (1/190) عن بعض الخوارج، وهؤلاء البعض سماهم الإمام ابن حزم في الفصل بأنهم الأزارقة، ونقل الإمام ابن حجر في الفتح عن ابن حزم هذا، وأن الأزارقة يقولون: أن هؤلاء حكمهم كحكم أبويهم، ويُستدل لهذا بالأدلة السابقة، أنهم في النار، وعليه آباؤهم في النار؛ لكن يزيد ما تقدم معنا إذا اهتدوا فهم مثل أولاد المسلمين فينقلون إلى الجنة.
ويستدلون بحديث رواه الإمام أحمد وأهل الكتب الستة إلا الإمام النسائي عن الصعب بن جثامة رضي الله عنه قال: (سُئل النبي صلى الله عليه وسلم عن الذراري من المشركين يُبيتون -أي: يغار عليهم في البيات وفي الليل- فيصيبون منهم، فقال النبي عليه الصلاة والسلام: هم منهم)، أي: هذه الذرية والأولاد من آبائهم.
وفي رواية: قالوا: (يا رسول الله! إنا نصيب في البيات من ذراري المشركين؟ قال: هم منهم).
قوله: (هم منهم) كما تقدم معنا، أي في أحكامهم في الدنيا، وليس في الآخرة، في كل حال إن اهتدوا أوقفوا.
القول الخامس: من لم توجد فيهم شروط التكليف بالتوحيد يكونون خدم أهل الجنة يوم القيامة، ويا فوز من يفوز بتلك الرتبة، لا ينعمون كمن وحد الله ولا يعذبون لأنهم لم يكفروا بالله، فيجعلهم الله خدماً لأهل الجنة، ورد هذا عن نبينا عليه الصلاة والسلام في أحاديث متعددة حُكم بصحتها لتعدد طرقها.
منها: ما رواه الطبراني في الكبير والأوسط والبزار عن سمرة بن جندب رضي الله عنه قال: (سألنا النبي عليه الصلاة والسلام عن أولاد المشركين؟ فقال: هم خدم أهل الجنة)، الحديث فيه عباس بن منصور، وثقه الإمام ابن القطان وفيه ضعف، ولذلك قال الحافظ في الفتح (3/246): ضُعِّف إسناده.
وروى الإمام البزار والطبراني في الأوسط وأبو يعلى من رواية أنس أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (أطفال المشركين خدم أهل الجنة)، هناك رواية سمرة وهنا رواية أنس .
وفي رواية أبي يعلى : (الأطفال هم خدم أهل الجنة)، والرواية فيها يزيد الرقاشي وهو ضعيف، وقال ابن معين : إنه صدوق، كما قال الحافظ الهيثمي في المجمع.
وهناك رواية ثالثة عند أبي داود الطيالسي عن يزيد الرقاشي ، قال: (قلنا لـ
وكونهم خدم أهل الجنة لا يتعارض مع ما تقدم، لعله إذا امتُحن وأذن الله لهم بدخول الجنة يكونون خدماً فيها فترة، ثم ينعمون كما ينعم أهل الجنة، أو يستمرون خدماً ولهم حكم أهل الجنة في النعيم لكن بهذه الوظيفة، لكن هذا متى؟
بعد الامتحان؛ لنجمع بينه وبين ما تقدم، والولدان الذين يسكنون في الجنة، يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدَانٌ مُّخَلَّدُونَ [الواقعة:17]، اختلف أئمتنا، هل هم الأولاد الذين يموتون وهم صغار أو ينشئهم الله إنشاءً على قولين:
القول الأول: منقول عن علي والحسن أنهم أولاد المسلمين إذا ماتوا يجعلهم الله خدم أهل الجنة يطوفون عليها ويسقونهم ويبشرونهم ويسلمون عليهم.
ومنهم من قال: إنهم أولاد المشركين، وقد ورد في ذلك حديث أنس وهو ضعيف كما تقدم معنا، والإمام ابن القيم ذكر هذا عند هذه المسألة في كتابه حادي الأرواح إلى كتاب الأفراح وقال: حديث أنس ضعيف أن أولاد المشركين خدم أهل الجنة وهم الولدان الذين يطوفون على أهل الجنة، ثم رجح الإمام ابن القيم القول الثاني، وقال: الأشبه أنهم مخلوقون يوم القيامة، يخلقون كما تخلق الحور العين، وليس هم بأولاد المشركين ولا بأولاد المسلمين والعلم عند رب العالمين.
والحكم كما قلت: مع ثبوت الحديث، بأنهم خدم أهل الجنة بعد الامتحان، من أطاع قد يكون خادماً فترة ثم يصبح ملكاً كبقية أهل الجنة، أو يبقى في هذه الرتبة، المقصود أنه ينعم، يقول الإمام ابن القيم : ويا فوز من يفوز بتلك الرتبة!
القول السادس: ذهب إليه إمام من أئمة أهل السنة على انفراده عبد العزيز الكناني ، الذي توفي بعد سنة (240هـ)، وهو صاحب كتاب الحيدة في رده على بشر المريسي ، وفي نسبة الكتاب إليه كلام والعلم عند ربنا الرحمن، وهو من أئمة أهل السنة الكرام، ولما دخل على المعتصم ضحك بعض ولده لدمامة خلقته وللتشويه الذي في منظره، فالتفت هذا الإمام الصالح عبد العزيز الكناني وقال: يا أمير المؤمنين! علامَ يضحك هذا، هذا سفيه لمَ يضحك؟ يضحك لدمامتي، إن الله ما اصطفى يوسف لجماله، إنما اصطفاه لطيب جنانه وبيانه، يعني: نبي الله يوسف ما اصطفي لأنه جميل، إنما هو من عباد الله المخلَصين المخلِصين، علام يضحك هذا؟ هذا سفيه، يضحك إذا كان في خلقتي دمامة.
وهو من أئمة أهل السنة الكبار -كما قلت- رد على بشر ، ودخل على قاضي القضاة أحمد بن أبي دؤاد بعد أن سجنه الله في جسمه، وأصابه بالفالج، وهو الذي أفتى بضرب رقبة الإمام أحمد بن حنبل ، أحمد بن أبي دؤاد دخل عبد العزيز الكناني عائداً لـأحمد بن أبي دؤاد عندما مرض، فعوتب قيل له: تزور هذا الجهمي الضال، قال: ما تدرون ما قلت له؟
قلت له: ما جئتك زائراً إنما جئتك لأحمد الله الذي سجنك في جسمك، وهو أعظم عقوبة لك، ثم دعوت عليه وخرجت. أي: ما زرته لأعزيه وأصبره، أقول: الله أنزل عقوبتك في الدنيا، ومالك عند الله أشد وأشد إذا لم تتب إليه، أنتم تلومونني على زيارته.
وكما حصل من بعض أهل السنة عندما مات بعض الجهمية وصلى عليه، قالوا: كيف تصلي عليه؟ قال: تدرون ماذا قلت؟ قلت: اللهم إنه كان يقول: إنك لا تُرى في الآخرة، فأسألك أن تحجبه عن رؤيتك، وكنت أقول: اللهم إنه كان يقول: إذا مات العاصي فلا تغفر له، فأسألك ألا تغفر له، وكنت أقول: اللهم إنه كان ينفي شفاعة نبيك عليه الصلاة والسلام في العصاة، فأسألك أن تحرمه شفاعة نبيك عليه الصلاة والسلام. يعني صليت عليه، لكن تدرون ماذا قلت؟ لا تظنوا أن هذا من باب إقرار مبتدع، إنما من باب أننا نوقفهم عند حدهم ونزجرهم بذلك.
عبد العزيز الكناني انفرد بقول قال: هم في منزلة بين منزلتين، وليس هذا بقول المعتزلة، فكونوا على علم، المعتزلة لهم أصل من أصولهم الخمسة الضالة التي هدموا بها أركان الإيمان، المنزلة بين المنزلتين يقصدون أن العاصي إذا عصى خرج من الإيمان وما دخل في الكفر، ليس بؤمن ولا كافر، وهم كما قال عنهم أئمتنا: مخانيث الخوارج؛ لأن الخوارج قالوا: من فعل كبيرة فهو كافر، يعني: جسروا وتجرءوا على تكفير العصاة، أما هو فجَبُن وضعُف، ولكن اتفقوا معهم في الحكم، اتفقوا على أن العاصي يخلد في النار، لكن الخوارج قالوا: إن العاصي كافر، والمعتزلة قالوا: ليس بكافر ولا مؤمن، وهذا قول الإباضية في هذه الأيام، كما يقول أهل السفاهة والهذيان في بلاد عمان، يقول: الخوارج أخطئوا في تكفير فاعل الكبيرة، وأهل السنة أخطئوا في عدم إخراج فاعل الكبيرة من الإيمان.
طيب، ماذا عندك أنت يا شيطان؟! قال: لا نقول كأهل السنة وكالخوارج، نقول: إن فاعل الكبيرة ليس بمؤمن كما يدعي أهل السنة إنه مؤمن عاص، وليس بكافر كما يدعي الخوارج، هو في منزلة بين الإيمان والكفر، قلت له: أيها الضال المضل! هذا القول ليس بقولك، هذا مسروق، تتحلى ليس بحليّ مستعار، تتحلى بعار مستعار، هذا العار سبقك إليه ضلال المعتزلة، فجئت ما بين خوارج ومعتزلة تتذبذب، أقول: هذا هو القول الحق في المسألة.
عبد العزيز الكناني لا يقصد بالمنزلة بين منزلتين هذا، إنما يقول في منزلة بين منزلتين من أحكام الآخرة لا في أحكام الدنيا، قلنا: في المنزلة بين منزلتين عند المعتزلة من أحكام الدنيا، أما هو فيقول: هؤلاء أهل الفترة والشيخ الخرف وأولاد المشركين يكونون بين الجنة والنار، وهم أهل الأعراف، لا من أهل الجنة ولا من أهل النار، وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيمَاهُمْ وَنَادَوْاْ أصحاب الْجَنَّةِ أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ * وَإِذَا صُرِفَتْ أَبْصَارُهُمْ تِلْقَاء أصحاب النَّارِ قَالُواْ رَبَّنَا لاَ تَجْعَلْنَا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ [الأعراف:46-47] إلى آخر الآيات.
أئمتنا اختلفوا في أهل الأعراف على اثني عشر قولاً، أرجحها أنهم من استوت حسناتهم وسيئاتهم، وحَبسُهم في الأعراف وهو سور بين الجنة والنار، لا للتخليد والتأبيد؛ لأنه ليس هناك إلا جنة ونار، لكن يحبسون فترة لأجل أن يؤهلوا لدخول الجنة، فما عندهم ما يؤهلهم لدخول هذه الدار ولا لهذه الدار، فيحبسون، فعندما يرون أهل الجنة ويطمعون يلجأون إلى الحي القيوم، قال أئمتنا في نهاية الأمر: سيدخلون الجنة؛ لأن الله إذا أطمع عبده سيحقق له طمعه، وهو عند حسن ظن عبده به فليظن به ما شاء، وظننا بربنا أنه سيغفر لنا، وأن يدخلنا الجنة من غير حساب ولا سابقة عذاب كرماً منه، لا بعمل منا، وهو أرحم الراحمين وأكرم الأكرمين.
فهؤلاء عندما أطمعهم الله لم يدخلوها وهم يطمعون، والله عند حسن ظن عبده به فليظن به ما شاء، وقيل: إنهم من مات في الفترة، وقيل: أولاد المشركين، وقيل وقيل، فـعبد العزيز الكناني يرى أنهم من لم توجد فيه شروط التكليف بالتوحيد يحبسون على الأعراف.
استمع المزيد من الشيخ عبد الرحيم الطحان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [5] | 3762 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [1] | 3464 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - من لم تجتمع فيه شروط التكليف بالتوحيد [3] | 3417 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [2] | 3275 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - تعريف علم التوحيد [2] | 3228 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - موضوع علم التوحيد [2] | 3133 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - منزلة علم التوحيد [2] | 3030 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - ثمرة علم التوحيد [1] | 2689 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - الأقوال المرجوحة في مصير غير أولاد المسلمين [2] | 2684 استماع |
مقدمة في علم التوحيد - شروط التكليف بالتوحيد [1] | 2673 استماع |