وتلك الأيام نداولها بين الناس
مدة
قراءة المادة :
4 دقائق
.
وتلكَ الأيامُ نُداوِلُهَا بينَ النَّاسِ وَلَدِي الحبيب، كَمْ علا زيفُ الباطلِ على نورِ الحقِ فغرَّ سُفَهَاء وتَرَدَّدُوا في نُصْرةِ الحقِّ إِذْ رَأَوْهُ مُنْتَكِسًا فهم في ريبهم يتردَّدُون.
أَلَمْ يعلم هؤلاء أنَّ للباطلِ جولةٌ على الحقِّ حتى يمحِّصَ اللهُ الصفَّ ويُرَبِّي المؤمنين ويُزَكِّي نفوسَ المحسنين.
ولا يعلو الباطلُ أبدًا على الحقِّ إلا إذا اختلطَت بالحقِّ الشوائبُ فلَزِمَ التطهيرُ أوَّلًا حتى يمكَّنُوا ويُنْصَرُوا، وقديمًا قالوا التخْلِيَةُ قبلَ التَحْلِيَة.
وهذا أيضًا مِنْ سُنَنِ الله في خلقهِ ﴿ وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاس ﴾[1].
فإنْ رأيتَ يومًا الحقَّ مُضْطَهَدًا والباطلَ مُنَعَّمًا فلا تَعْجَبْ ولا تحزن.
ألمْ تقرأ قولَ ربِّكَ ومَوْلاك في وصفِ أهلِ الكفرِ، وهل بعد الكفرِ باطلٌ وضلالٌ؟! ﴿ وَلَوْلَا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً وَاحِدَةً لَجَعَلْنَا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمَنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفًا مِنْ فَضَّةٍ وَمَعَارِجَ عَلَيْهَا يَظْهَرُونَ * وَلِبُيُوتِهِمْ أَبْوَابًا وَسُرُرًا عَلَيْهَا يَتَّكِئُونَ * وَزُخْرُفًا وَإِنْ كُلُّ ذَلِكَ لَمَّا مَتَاعُ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَالْآَخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ ﴾[2].
هذا حالُ أهلُ الباطلِ، فما حالُ أهلِ الحقِّ إذن؟! مضت سُنُّةُ المولى عزَّ وجل أنْ يُبْتَلُوا حتَّى يُمَكَّنُوا، وصدق ربُّ العالمين حين قال: ﴿ أَحَسِبَ النَّاسُ أَن يُتْرَكُوا أَن يَقُولُوا آمَنَّا وَهُمْ لَا يُفْتَنُونَ ﴾[3].
بَلْ إنَّ الجنة مرهونة لهم بهذا الابتلاء، قال تعالى: ﴿ أمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جَاهَدُوا مِنكُمْ وَيَعْلَمَ الصَّابِرِينَ ﴾[4]، بلْ يصيرُ اﻷمرُ إلى الزلزلة بَعْدَمَا تمسُّهُم البأساءُ والضَرَّاءُ:﴿ أَمْ حَسِبْتُمْ أَن تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَلَمَّا يَأْتِكُم مَّثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِن قَبْلِكُم ۖ مَّسَّتْهُمُ الْبَأْسَاءُ وَالضَّرَّاءُ وَزُلْزِلُوا حَتَّىٰ يَقُولَ الرَّسُولُ وَالَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتَىٰ نَصْرُ اللَّهِ ۗ أَلَا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ ﴾[5]، هذا ولَوْ شاءَ اللهُ لانْتَصَرَ مِنْ أهلِ الباطلِ ولكن هذه سُنَّةُ اللهِ في ابتلاء المؤمنين، قال تعالى:﴿ لَوْ يَشَاءُ اللَّهُ لَانتَصَرَ مِنْهُمْ وَلَٰكِن لِّيَبْلُوَ بَعْضَكُم بِبَعْضٍ ﴾[6].
وأمثلةُ علوِّ الباطل على الحقِّ في فتراتٍ ثم انتصار الحقِّ في نهايةِ المطافِ مُشاهَدة ولا تحتاج كثير دليل.
فمَنْ مِنَّا لا يعلم حين رُمِيَ يوسف ـ عليه السلام ـ في غيابات الجب وحيدًا، ثمَّ في ظلمةِ السجنِ أسيرًا، ثمَّ هو على خزائنِ اﻷرض ممكنًا وعزيزًا.
وأينَ أُذُنُ عبدالله بن مسعود ـ رضي الله عنه ـ يوم شَجَّها أبوجهلٍ فانطرحَ عدوُّ اللهِ في قليبِ بدرٍ، ونالَ ابنُ مسعودٍ أُذُنًا بأُذُنٍ ورأسًا زِيادة.
فلا يغررك بنيَّ الحق علوُّ الباطلِ ولا انكسار الحقِّ، فكمْ علا زبدُ البحرِ ولكنَّهُ ما يلبثُ أنْ يُمْسِي جفاءًا، وَلَكَمْ هبطت أرضُ خيرٍ لَمَّا هطلَ عليها الماءُ فصارتْ بعد هبوطها جناتٍ فيها من الشجرِ الطيبِ ما أنَّ أَصْلُهُ ثابتٌ وفرعهُ في السماء.
[1] سورة آل عمران، آية 140.
[2] سورة الزخرف، الآيات 33-35.
[3] سورة العنكبوت، آية 2.
[4] سورة آل عمران، آية 35.
[5] سورة البقرة، آية 214.
[6] سورة محمد، آية 4.