العدة شرح العمدة [24]


الحلقة مفرغة

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، صلى الله عليه وعلى آله وصحبه ومن والاه.

أما بعد:

أيها الإخوة الكرام الأحباب! مع كتاب الجنائز من كتاب العدة شرح العمدة للإمام موفق الدين بن قدامة المقدسي الحنبلي رحمه الله تعالى.

الحقيقة أيها الإخوة الكرام! سنقوم اليوم بالشرح النظري؛ حتى نرتب المسألة العملية أكثر؛ وحتى نربط بين النظري والتطبيق، فقه الجنائز من أهم أنواع الفقه؛ فقد كثرت البدع فيه، وغاب عن كثير من المسلمين.

وفقه الجنائز يتعلق به عدة موضوعات:

الموضوع الأول: ما يجب على الحي تجاه الميت عند احتضاره وبعد موته، ثم تغسيل الجنازة. وهناك فرق بين الجنازة -الجنازة بفتح الجيم وبكسره- فالجنازة بفتحها: هو الميت، والجنازة: هي النعش الذي يحمل فيه الميت.

ويرتبط بفقه الجنائز: غسل الميت، وتكفينه والصلاة عليه، ومن أولى الناس بالصلاة عليه، وطريقة الصلاة وصفتها، ثم اللحد في القبر، ثم القربات التي تصل إلى الميت بعد موته ما يصل منها وما لا يصل.

ومما يرتبط أيضاً بهذا الفقه الهام أولاً: البدع التي انتشرت بين المسلمين في مسائل الجنائز، وحدث ولا حرج عن هذه البدع المنتشرة بين الناس وهو يحسبون أنها سنة، مثل وضع الجريدة على القبر بزعم أن هذه ليست خاصية للنبي عليه الصلاة والسلام، وهي خاصة به كما سنبين ذلك بالأدلة.

ثانياً: ارتفاع القبور عن حدها الشرعي، وتزيينها وزخرفتها، والكتابة على ألواح رخامية: هذا قبر فلان الفلاني، والقطع له بالجنة، والندب والنياحة عليه، ونعيه كنعي الجاهلية، وإقامة السرادقات واستجلاب القراء، وتوزيع الدخان والسجائر، وكل هذا من بدع الجنائز، والموسيقى العسكرية التي تصاحب بعض الجنائز، ورفع الأعلام الصوفية في جنائز الأقطاب والأوتاد، وحدث ولا حرج، وكذلك التابوت الذي يحملون فيه الميت ويضعون فوقه غطاءً مكتوباً عليه أسماء الخلفاء الراشدين، وهذا التابوت ليس من ديننا، وحمل الميت عندنا له طريقة شرعية، ومعظم الذي نفعله الآن بشأن الميت فيه كثير من البدع.

وسنبدأ بدراسة فقه الجنائز بتدبر ثم نقوم بتنفيذ الغسل والتكفين عملياً، ونوضح الفرق بين غسل الرجل وغسل المرأة، وبين كفن الرجل وكفن المرأة، ومن أحق الناس بتغسيل الميت، ومن أحق الناس بالصلاة عليه، وهذه أمور مهمة جداً ينبغي أن نكون على علم بها.

لا بد أولاً أن تتيقن أن الميت قد مات، ويتيقن من الموت بأمور عديدة، أولاً: عن طريق الأطباء أصحاب التخصص، أو بفتح العين والفم، وبرود الأطراف.

ثانياً: أن مفاصل الميت تكون سهلة لينة، فمثلاً: إذا أغلقت فم الميت ثم عدت بعد ذلك وجذبت ما أغلقته به عاد مفتوحاً.

فإذا تيقن موته فهناك أمور تفعل بالميت في الحال، وهي:

أولاً: قوله: [ إذا تيقن موته غمضت عيناه ]. لأن (العين تتبع الروح) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، فأول أمر ينبغي على الحي أن يفعله أن يغمض عين الميت.

ثانياً: [ وشد لحياه ]. وشد اللحيين يعني: أن يشد الفم بقطعة قماش يربطها من أعلى رأسه إلى أسفل ذقنه حتى يغلق الفم؛ لأنه إذا ترك الفم مفتوحاً ربما يدخل فيه أشياء لا ينبغي دخولها، ولأنه يصبح منظره قبيحاً وقد تخرج منه رائحة.

ثالثاً: [ وجعل على بطنه مرآة أو غيرها؛ لئلا ينتفخ البطن ]. والمعنى: أن يجعل على بطنه شيئاً ثقيلاً حتى لا ينتفخ؛ لأنه إذا تأخر دفنه لأسباب شرعية فيمكن أن ينتفخ بطنه.

رابعاً: تليين مفاصله، ويكون ذلك بالضم والبسط ليديه ورجليه؛ لأنه إذا ترك الميت بعد موته بدون تليين الأعصاب والعظام فستصبح جامدة في يد المغسل، فلا بد من تليينها حتى إذا جاء المغسل وجد أعضاءه لينة، فيستطيع أن يتعامل معها برفق وسهولة.

ومما يجب على الأحياء تجاه الميت عند موته أولاً:

تلقينه الشهادة، و(من كان آخر كلامه من الدنيا لا إله إلا الله دخل الجنة)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام. فإذا تلفظ بها فلا يعيدها عليه إلا إذا تكلم الميت بكلام آخر؛ حتى تكون آخر كلامه.

ثانياً: تذكيره بسعة رحمة الله عز وجل، قال صلى الله عليه وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بربه) . فيذكره بصلاته وبصيامه وبجهاده وبمحاسنه، ولا يذكر عنده عذاب أبداً، وبعض الناس يجلسون عند رأس الميت ويقرءون فوق رأسه: إِنَّ جَهَنَّمَ كَانَتْ مِرْصَادًا * لِلْطَّاغِينَ مَآبًا [النبأ:21-22]، حتى يفزع الميت، والعياذ بالله. والذي ينبغي هو ذكر آيات الرحمة وتبشيره بسعة رحمة الله عز وجل، وقد قال العلماء: ينبغي للعبد عند الاحتضار أن يغلب جانب الرجاء والطمع في رحمة الله عز وجل على جانب الخوف، وفي حال الصحة يغلب جانب الخوف. فهذه من الأمور التي ينبغي على الحضور أن يتنبهوا لها، وحدث ولا حرج عن غياب هذا الفقه في المستشفيات، وكثير من النساء ليس لهن خبرة بهذا الصنيع.

ثالثاً: توجيه الميت إلى القبلة، وفيه خلاف، والراجح أنه يوجه؛ لأن النبي عليه الصلاة والسلام أمرنا عند النوم أن نضطجع على شقنا الأيمن وأن نستقبل القبلة، والنوم والموت صنوان؛ لأننا نقول بعد قيامنا من النوم: الحمد لله الذي أحيانا بعدما أماتنا، وقال الشيخ الألباني رحمه الله تعالى: إن توجيه الميت إلى القبلة لم يصح فيه حديث، وأقول: لقد قال العلماء: إن توجيه الميت إلى القبلة عليه أدلة.

ثم بعد موته يغطى مباشرة بغطاء كبير لا يكشف الوجه، وقد غطي النبي صلى الله عليه وسلم بعد موته، ولما جاء الصديق رفع الغطاء وقبل جبهة النبي عليه الصلاة والسلام، وقال: طبت حياً وميتاً يا رسول الله!

ويمكن أن نحصر ما يجب علينا تجاه الميت في الآتي:

1- أفعال تجب قبل الغسل.

2- وضوء الميت.

3- غسل النظافة.

4- غسل الميت.

قال المصنف رحمه الله: [ فإذا أخذ في غسله ستر عورته ].

فإذا جاء المغسل رفع الغطاء وجرد الميت من ثيابه، وينبغي أن يكون معه شيء يستر به عورته من فوق السرة إلى تحت الركبة، ولا يجوز له أن ينظر إلى عورة الميت، والبعض عند تغسيل الميت ينظر إلى عورته، وهذا لا يجوز أبداً، فلا بد من ستر عورته حتى الانتهاء من تكفينه، ثم تخلع عنه.

ولا بد من التعامل مع الميت برفق وليكن مع المغسل من يعينه على تغسيل الميت، ولا يدخل على الميت إلا من كان يحبه في حال الدنيا، ولا يدخل عليه الخصوم، فهذا لا يجوز، ولا يدخل عليه الرجل إلا إذا كان صالحاً. واليوم يغسل الميت من لا يصلي والساحر والمرأة المتبرجة، ولا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل إلا إذا كانت زوجته، خلافاً للأحناف الذين قالوا: لا يجوز للزوج أن يغسل زوجته؛ لأن عقد الزواج قد انتهى، وهذا كلام باطل ولا دليل عليه، فقد صح: أن بعض الصحابة غسلوا زوجاتهم، حتى أن عائشة قالت: لو استقبلت من أمري ما استدبرت ما غسل النبي صلى الله عليه وسلم إلا زوجاته. وهذا حديث صحيح.

وأسماء بنت عميس غسلت زوجها الصديق ، والبعض يضعف هذا الحديث، وعلي بن أبي طالب غسل زوجته فاطمة ، والبعض ضعف هذا الحديث أيضاً، ولكن قول عائشة : لو استقبلت من أمري ما استدبرت لا شبهة فيه. فلا يجوز للمرأة أن تغسل الرجل، وليس للرجل أن يغسل المرأة أبداً بحال، إلا إذا كانت صغيرة لم تبلغ الحلم ولا تشتهي، ولم تبلغ الحيض حتى لا يفتن بها المغسل.

يبدأ المغسل في إعداد الأشياء التي تساعده في الغسل، والتي تسمى عدة الغسل، وهي:

1- كمامة يلبسها على فمه.

2- خرقة؛ حتى لا يمس عورة الميت بيده؛ وحتى يزيل بها النجاسة عن الميت.

3- حذاء كحذاء رجل المطافئ.

ومن يساعد المغسل عليه إعداد هذه الأشياء أيضاً.

ولا ينبغي أن يغسل الميت بماء يتأذى منه الحي، ففي الصيف لا بأس أن تغسل الميت بماء بارد، ولكن لا ينبغي أن تغسله في الشتاء بماء بارد، فهذا يتأذى منه الحي، بل تسخنه قليلاً.

وليكن بجوارك إناء كبير وزيت كافور، فهو أصلح الأنواع لوقف نزيف الدم وتجليطه، ويخلط هذا الكافور بالمياه المعدة لغسل الميت.

ثم ينقل الميت إلى المغسلة بين يدي المغسل، فيجرده من ملابسه ويدفعها لأهل بيت الميت، وفي بعض الأرياف ملابس الميت تبقى أربعين يوماً، لا يقترب منها أحد؛ لأنها ملابس شؤم؛ ولا بأس بالتصدق بها أو لبسها، وهي من الميراث، فلا ينبغي أن يستأثر بها أحد الورثة دون غيره، وفي بعض القرى إذا رأى أحد الورثة عباءة جميلة أو بدلة محترمة أخذها، وكذلك الساعة أو الخاتم، وكل ذلك يدخل في تركة الميت.

وقد حكي أن امرأة من السلف كانت تعجن عجين البيت فجاءها الخبر أن زوجها قد مات، فقالت: لا أقربك الآن، فقد أصبح لنا الآن فيك شركاء.

عصر بطن الميت لإزالة الأذى

بعد تجريد المغسل للميت من ملابسه يغطيه بسترة، ثم يضغط على بطنه ضغطاً يسيراً لتخرج البقايا والفضلات، ويكون بجواره إناء فارع يلقي فيه هذه الفضلات، ثم يضغط مرة أخرى ضغطاً خفيفاً على بطنه عند السرة وتحتها وفوقها ليخرج بقية الفضلات، ويمكن أن يجلس الميت على المغسلة لإخراج الفضلات، ويفعل هكذا حتى تخرج اليد بيضاء لا شيء فيها، ويتأكد أن جوف الميت قد صفا من كل الفضلات. وهذا معنى قول المؤلف: [ يعصر بطنه عصراً رقيقاً؛ ليخرج ما في جوفه من فضلة حتى لا يخرج بعد الغسل أو بعد التكفين فيفسد الكفن، ويلف على يده خرقة ثم ينجيه بها ].

[ ولا يحل مس عورته؛ لأن رؤيتها محرم فمسها أولى ]. فلا يحل له أن يرى العورة ولا أن يمسها.

وضوء الميت

قال المصنف رحمه الله: [ ثم يوضئه وضوءه للصلاة ].

والوضوء يكون قبل الغسل، وبعد تصفية ما في بطنه من فضلات يوضأ الميت كما يتوضأ الحي، إلا في المضمضة، فلا يدخل الماء داخل فمه وإنما يمسح مسحاً خفيفاً جداً خارج فمه، وكذلك لا يدفع الماء داخل الأنف وإنما من الخارج، ثم غسل الوجه واليدين مع المرافق ثم المسح على الرأس مع الأذنين، ثم غسل القدمين وتخليل الأصابع، وبهذا تكون قد وضأت الميت وضوءاً شرعياً صحيحاً.

هذه السنة في غسل الميت، والغسل يجزئ عن الوضوء، وهناك فرق بين الكمال والإجزاء في الفقه، فلو أن رجلاً جنباً خلع ملابسه ونزل في الماء وتمضمض واستنشق وخرج فإنه يجزئه هذا، ولكنه لا يكون كاملاً إلا إذا غسل مذاكيره ثم توضأ ثم غسل رأسه ثم صب الماء على شقه الأيمن ثم على شقه الأيسر.

قال المصنف رحمه الله: [ لما روت أم عطية أنها قالت: لما غسلنا ابنة رسول الله صلى الله عليه وسلم زينب قال صلى الله عليه وسلم: (ابدأن بميامنها ومواضع الوضوء منها). متفق عليه ]، يعني: ابدءوا بغسل الميامن ثم مواضع الوضوء. وحديث أم عطية عمدة في فقه الجنائز، كما أن حديث عمار عمدة في فقه التيمم.

[ ولأن الحي يتوضأ إذا أراد الغسل فكذلك الميت فافعل بالميت ما يفعل بالحي ].

كيفية غسل الميت

قال المصنف رحمه الله: [ ثم يبدأ بعد ذلك بغسل مقدم رأسه ولحيته بماء وسدر؛ لتذهب عنه الأوساخ والأدران ] ولم يشر المصنف رحمه الله إلى غسل النظافة بعد الوضوء، فغسل النظافة مشروع في غسل الجنازة، فبعد أن توضئ الميت اغسل رأسه ثلاث مرات بالماء والصابون، ثم اسكب الماء على شقه الأيمن، وتتبع بالماء المغابن، وهي المفاصل والأماكن التي هي مظنة عدم وصول الماء، مثل: الإبطين، وبين الفخذين، فلا بد من تتبع المغابن بالماء عند الغسل؛ لأننا سنطيبها بعد الغسل.

ثم بعد غسل النظافة نغسله الغسل الشرعي بالماء والسدر، والسدر ورق النبق، وهذا الورق يعطي رائحة طيبة للماء.

قال المصنف رحمه الله: [ ثم يغسل شقه الأيمن ثم الأيسر ]. فبعد غسل النظافة نبدأ في الغسل الشرعي للميت، ونبدأ بغسل الشق الأيمن؛ لقوله عليه السلام: (ابدأن بميامنها).

قال المصنف رحمه الله: [ ثم يغسله أكثر من مرة ] أي: مرتين أو ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً.

قال المصنف رحمه الله: [ يمرر في كل مرة يده على بطنه؛ لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (اغسلنها ثلاثاً أو خمساً أو سبعاً إن رأيتن ذلك) ]. فإن كان هناك ضرورة للزيادة زاد، فإذا ضغط على بطنه وخرجت الفضلات مرة ثانية أزالها ووضأه مرة ثانية؛ لأن خروج الفضلات ناقض للوضوء، وكذلك يعيد الغسل إن كان قد غسله. ولو خرجت منه الفضلات كلما ضغط على بطنه فيضع قطناً في هذا الموضع ثم يغسله، فهناك بعض الموتى يكون عندهم نزيف داخلي متتابع، فلو مكثت مائة مرة فلن ينقطع.

قال المصنف رحمه الله: [ وإن خرج منه شيء غسّله وسده بقطن، فإن لم يستمسك فبطين حر ]. وهذا إشارة إلى أنه يستخدم ما يوقف النزيف. وزيت الكافور يجعل هذه المواطن تتجلط إن شاء الله تعالى.

قال المصنف رحمه الله: [ ثم ينشفه بثوب، وذلك مستحب؛ لئلا تبل الأكفان، وفي حديث ابن عباس في غسل النبي صلى الله عليه وسلم قال: (فجففوه بثوب) ] فينشف بثوب بعد انتهاء الغسل.

تطييب الميت

قال المصنف رحمه الله: [ ثم يجعل الطيب في مغابنه ]، أي: بعد أن ينتهي من الغسل والتنشيف يجعل الطيب في المغابن، وهي المفارق التي هي مظنة عدم وصول الماء.

[ في مغابنه ومواضع سجوده ]، ومواضع السجود سبعة وهي: الجبهة مع الأنف، ثم اليدان، ثم الركبتان، ثم القدمان، وإن عمم الطيب لكل الجسد فلا بأس، وإن عممه بالطيب وبالمسك على كل جسده فلا بأس.

قال المصنف رحمه الله: [ لأن المغابن مواضع الأوساخ، وأماكن السجود تطيب لشرفها، وإن طيبه كله كان حسناً؛ لقوله عليه السلام: (واجعلن في الأخيرة كافوراً أو شيئاً من كافور) ].




استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
العدة شرح العمدة [13] 2710 استماع
العدة شرح العمدة [68] 2620 استماع
العدة شرح العمدة [26] 2595 استماع
العدة شرح العمدة [3] 2521 استماع
العدة شرح العمدة [1] 2475 استماع
العدة شرح العمدة [62] 2376 استماع
العدة شرح العمدة [19] 2338 استماع
العدة شرح العمدة [11] 2334 استماع
العدة شرح العمدة [56] 2302 استماع
العدة شرح العمدة [15] 2238 استماع