تفسير سورة هود [13-35]


الحلقة مفرغة

قال تبارك وتعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ * فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود:13-14]. قوله تعالى: ((أم يقولون افتراه)) هذه الهاء تعود إلى ما أوحي إليك، يعني: أم يقولون إن النبي عليه الصلاة والسلام قد افترى هذا القرآن واختلقه. وفي (أم) وجهان: الأول: أنها منقطعة مقدرة ببل والهمزة والتقدير: بل أيقولون افتراه؟! وهذه الهمزة إنكارية. الثاني: أنها متصلة وليست منقطعة، والتقدير: أيكتفون بما أوحينا إليك أم يقولون افتراه؟! قل يا محمد في جواب هذا الزعم أنك افتريته: (( فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ ))، أي: افعلوا أنتم هذا. ((وادعوا من استطعتم)) أي: ادعوا للاستعانة من استطعتم من الإنس والجن، وهذا في غاية التحدي. ((من دون الله)) أي: ادعوا كل من تستطيعون متجاوزين الله تبارك وتعالى. ((إن كنتم صادقين)) أي: إن كنتم صادقين في أني افتريته، فأنتم عرب فصحاء مثلي، لا سيما وقد زاولتم أساليب النظم والنثر والخطب. (( فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ )) هذا تحد صارخ وواضح، كما كرر في أكثر من موضع في القرآن الكريم، قال تبارك وتعالى متحدياً لهؤلاء في أول سورة البقرة: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا [البقرة:24]. (( فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ )) أي: بما لا يعلمه غيره من نظم معجز للخلق، وإخبار بغيوب لا سبيل لهم إليها، فأنتم تعلمون أنه ما أنزل إلا بعلم الله. (( وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ ))، أي: واعلموا عند ذلك أن لا إله حق إلا الله، وأن توحيده واجب، وأن الإشراك به ظلم عظيم. (( فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ )) أي: هل أنتم مبايعون بالإسلام منقادون لتوحيد الله وتصديق رسوله صلى الله عليه وسلم بعد هذه الحجة القاطعة، ولا شك ولا ريب أن هذه الحجة بالفعل قاطعة بصورة لا جدال ولا مراء فيها.

من لطائف تحدي الكفار في الآيتين

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هاتين الآيتين لطائف: الأولى: قيل: تحدوا أولاً بعشر سور فقال هنا: (( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ )) فلما عجزوا تحدوا بسورة فقال في سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وذهب المبرد إلى أنه تحداهم أولاً بسورة ثم تحداهم بعشر سور. قوله في سورة البقرة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي: من مثله في البلاغة والإعجاز والبيان وما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وغيرها. وهي تسعة أشياء يتضمنها القرآن الكريم نظمها بعضهم بقوله: ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك، فلما وقع تعنتهم واستهزاؤهم واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفترى، فيناسبه التكثير وهو التحدي بعشر سور، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله، ألستم تقولون: إنه مفترى؟ إذاً ائتوا بعشر سور مثله مفتريات، فمن ثم ناسب أن يكون التحدي بعشر سور. اللطيفة الثانية: قوله عز وجل بعد ذلك: ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فإن ضمير (لكم) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع هنا للتعظيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم. القول الثاني: يكون الضمير عائداً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدي. وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم، بل يكونوا معه لمعارضة المعارضين. إن التحاق المؤمنين والتصاقهم به صلى الله عليه وسلم لا يكون فقط بالنصرة بالسيف وبالجهاد، وإنما يكون في الانتصار لدينه ولمعجزته التي هي القرآن، وذلك بدوام تحدي المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم. وفي هذا أيضاً إرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان بأن القرآن من عند الله، وأنه معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: ((فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا)) فدل على أن التحدي والصمود بهذا التحدي يفيد زيادة العلم وزيادة اليقين. وقوله: ((فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)) هذا العلم ليس مستأنفاً، لكنه ترسيخ للعلم الموجود في قلوبهم. القول الثالث: أن الخطاب هنا للمشركين بمعنى: فإن لم يستجب لكم من استعنتم به من دون الله، وهم المذكورون في قوله: ((وادعوا من استطعتم من دون الله))، من الجن والإنس، في افتراء قرآن مثل هذا القرآن أو عشر سور مثله. ((فإلم يستجيبوا)) أي: هؤلاء الذين دعوتموهم من الجن والإنس ((فاعلموا)) أي: فحقكم أن تعلموا حينئذ عجزكم وعجز هؤلاء الذين لم يستجيبوا لكم ولم يستطيعوا قبول التحدي، وحقكم أن تعلموا الآن أن القرآن أنزل فعلاً من عند الله، وأن الحجة قامت عليكم.

يقول القاسمي رحمه الله تعالى: في هاتين الآيتين لطائف: الأولى: قيل: تحدوا أولاً بعشر سور فقال هنا: (( قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ )) فلما عجزوا تحدوا بسورة فقال في سورة البقرة: وَإِنْ كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ [البقرة:23]، وذهب المبرد إلى أنه تحداهم أولاً بسورة ثم تحداهم بعشر سور. قوله في سورة البقرة: (فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ) أي: من مثله في البلاغة والإعجاز والبيان وما اشتمل عليه من الإخبار عن المغيبات والأحكام وغيرها. وهي تسعة أشياء يتضمنها القرآن الكريم نظمها بعضهم بقوله: ألا إنما القرآن تسعة أحرف سأنبيكها في بيت شعر بلا ملل حلال حرام محكم متشابه بشير نذير قصة عظة مثل وقيل: إن التحدي بسورة وقع بعد إقامة البرهان على التوحيد وإبطال الشرك، فلما وقع تعنتهم واستهزاؤهم واقتراحهم آيات غير القرآن لزعمهم أنه مفترى، فيناسبه التكثير وهو التحدي بعشر سور، فلا يعسر الإتيان بكثير مثله، ألستم تقولون: إنه مفترى؟ إذاً ائتوا بعشر سور مثله مفتريات، فمن ثم ناسب أن يكون التحدي بعشر سور. اللطيفة الثانية: قوله عز وجل بعد ذلك: ((فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ)) فإن ضمير (لكم) يعود على النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع هنا للتعظيم كما في قول من قال: وإن شئت حرمت النساء سواكم. القول الثاني: يكون الضمير عائداً على النبي صلى الله عليه وسلم وعلى المؤمنين؛ لأن المؤمنين هم تبع للنبي عليه الصلاة والسلام في الأمر بالتحدي. وفيه تنبيه لطيف على أن حقهم ألا ينفكوا عنه صلى الله عليه وسلم، بل يكونوا معه لمعارضة المعارضين. إن التحاق المؤمنين والتصاقهم به صلى الله عليه وسلم لا يكون فقط بالنصرة بالسيف وبالجهاد، وإنما يكون في الانتصار لدينه ولمعجزته التي هي القرآن، وذلك بدوام تحدي المشركين أن يأتوا بمثل هذا القرآن الكريم. وفي هذا أيضاً إرشاد إلى أن ذلك مما يفيد الرسوخ في الإيمان، والطمأنينة في الإيقان بأن القرآن من عند الله، وأنه معجزة النبي صلى الله عليه وآله وسلم؛ ولذلك رتب عليه قوله عز وجل: ((فإلم يستجيبوا لكم فاعلموا)) فدل على أن التحدي والصمود بهذا التحدي يفيد زيادة العلم وزيادة اليقين. وقوله: ((فاعلموا أنما أنزل بعلم الله)) هذا العلم ليس مستأنفاً، لكنه ترسيخ للعلم الموجود في قلوبهم. القول الثالث: أن الخطاب هنا للمشركين بمعنى: فإن لم يستجب لكم من استعنتم به من دون الله، وهم المذكورون في قوله: ((وادعوا من استطعتم من دون الله))، من الجن والإنس، في افتراء قرآن مثل هذا القرآن أو عشر سور مثله. ((فإلم يستجيبوا)) أي: هؤلاء الذين دعوتموهم من الجن والإنس ((فاعلموا)) أي: فحقكم أن تعلموا حينئذ عجزكم وعجز هؤلاء الذين لم يستجيبوا لكم ولم يستطيعوا قبول التحدي، وحقكم أن تعلموا الآن أن القرآن أنزل فعلاً من عند الله، وأن الحجة قامت عليكم.

مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ [هود:15]. لقد بين تعالى وعيد من آثر الحياة الدنيا على الآخرة وهم الكفار، فقال عز وجل: ((مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا وَزِينَتَهَا نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمَالَهُمْ فِيهَا وَهُمْ فِيهَا لا يُبْخَسُونَ)). أي: أننا نوصل إليهم جزاء أعمالهم فيها من الصحة والرزق، وهذا من عدل الله سبحانه وتعالى أنه لا يضيع أجر من أحسن عملاً، حتى الكافر إذا أحسن وعمل عملاً صالحاً كبر الوالدين، وإغاثة الملهوف، وصدق الوعد، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، فإن الله سبحانه وتعالى لا يضيع أجره، بل يوفيه أجره في الحياة الدنيا، حتى يرد الآخرة وليس معه عمل ينفعه؛ لأنه لا ينتفع بعمل صالح في الآخرة عمله في الدنيا إلا إذا كان موحداً. وهذا هو الجواب عما يستغربه بعض الناس، حينما يرون الكافر في عافية وفي سعة من الرزق، وفي وفور من أمر الدنيا؛ يقول البعض: كيف يبتلى المؤمن ويكون فقيراً ومريضاً، في حين نرى الكافر يتمتع في الدنيا؟! نقول: جاء في الحديث: (الدنيا سجن المؤمن وجنة الكافر)، فالكافر لا يثاب على الأعمال الحسنة التي يعملها في الدنيا إلا في الدنيا، أما في الآخرة فلا خلاق له عند الله سبحانه وتعالى. قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا فقط. ((وهم فيها)) أيضاً في الدنيا. ((لا يبخسون)) أي: جزاء أعمالهم في الدنيا، وهذا معلق بمشيئة الله كما قال عز وجل في سورة الإسراء: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18].

أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]. قوله تعالى: ((وحبط ما صنعوا فيها)) أي: حبط في الآخرة ما صنعوه من الأعمال الصالحة، وعليه فالضمير (فيها) عائد على الآخرة. وجوز تعلق الظرف بصنعوا، يعني: وحبط ما صنعوا في الدنيا من قبل الآخرة. فإذاً تعود (الهاء) على التفسير الثاني على الدنيا كما عادت عليها في قوله: ((نوف إليهم أعمالهم فيها)) أي: في الدنيا. ((وباطل ما كانوا يعملون)) أي: كان عملهم في نفسه باطلاً؛ لأنه لم يعمل لغرض صحيح، ولم يستوف شروط العمل الصالح الذي ينفع صاحبه.

شروط العمل الصالح المقبول

شروط العمل الصالح الذي يقبل من العبد: الشرط الأول: الإيمان فلابد أن يكون فاعله مؤمناً كي ينفعه عمله في الآخرة، قال عز وجل: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19]، إذاً لابد من الإيمان. الشرط الثاني: الإخلاص، ألا يريد بالعمل الصالح إلا وجه الله سبحانه وتعالى. الشرط الثالث: الاقتداء ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ونظير قوله تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ )) هذه الآية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، لذلك احذر أيها المؤمن! إذا دعوت الله سبحانه وتعالى أن تطلب الدنيا فقط؛ لأنها إذا كانت ساعة إجابة وكان وقت قبول هذا الدعاء، فمن قصور النظر أن تطلب العاجلة وتغفل عن الآخرة التي فيها الفوز الحقيقي الدائم الذي لا ينقطع. فالإنسان يدعو بصلاح الدنيا، لكن يردف ذلك دائماً بصلاح الدين كما علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكما في الدعاء الذي في سورة البقرة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، أما الكافر فلا يطلب إلا الدنيا، فإياك أن تتشبه به؛ لأنك إذا اهتممت بصلاح الدنيا وغفلت عن صلاح الدين فقد تندم بعد ذلك. فالإنسان يحضر قلبه في الدعاء، وكما يدعو بصلاح الدنيا فعليه أن يهتم بصلاح الآخرة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، وحرصك على الدنيا لن يخرج عما يريده الله بك سبحانه وتعالى. ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:18-20]، وتأمل قوله تعالى: (فأولئك كان سعيهم مشكوراً) إن الذي يشكر لهم هو الله سبحانه وتعالى، فأي شرف أعظم من أن الله هو الذي يشكر لك عملك. ودائماً أتذكر معنى هذه الآية الكريمة وأمثالها كلما قرأت في صفحات الوفيات أو في إعلانات الجرائد، وذلك عندما يعزي رئيس الجمهورية فلاناً أو فلاناً؛ فكم يفخر أقارب الميت إذا كان رئيس الجمهورية هو المعزي لهم؟! فما ظنك بالذي يشكر له الله سبحانه وتعالى عمله، فأي شرف أعظم من ذلك؟! والله سبحانه وتعالى هو غني عنك وعن عملك، بل أنت خلقت بنعمة الله من العدم، ووفقت للعمل الصالح الذي يشكرك الله عليه بقوة الله وإنعامه عليك، فلله الحمد أولاً وآخراً. ومن ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] لأنه ما أراد حرث الآخرة.

شروط العمل الصالح الذي يقبل من العبد: الشرط الأول: الإيمان فلابد أن يكون فاعله مؤمناً كي ينفعه عمله في الآخرة، قال عز وجل: وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ [الإسراء:19]، إذاً لابد من الإيمان. الشرط الثاني: الإخلاص، ألا يريد بالعمل الصالح إلا وجه الله سبحانه وتعالى. الشرط الثالث: الاقتداء ومتابعة النبي صلى الله عليه وسلم؛ لقوله عليه الصلاة والسلام: (من عمل عملاً ليس عليه أمرنا فهو رد). ونظير قوله تعالى: (( أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ )) هذه الآية: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا [الإسراء:18]، لذلك احذر أيها المؤمن! إذا دعوت الله سبحانه وتعالى أن تطلب الدنيا فقط؛ لأنها إذا كانت ساعة إجابة وكان وقت قبول هذا الدعاء، فمن قصور النظر أن تطلب العاجلة وتغفل عن الآخرة التي فيها الفوز الحقيقي الدائم الذي لا ينقطع. فالإنسان يدعو بصلاح الدنيا، لكن يردف ذلك دائماً بصلاح الدين كما علمنا النبي صلى الله عليه وآله وسلم، وكما في الدعاء الذي في سورة البقرة: رَبَّنَا آتِنَا فِي الدُّنْيَا حَسَنَةً وَفِي الآخِرَةِ حَسَنَةً وَقِنَا عَذَابَ النَّارِ [البقرة:201]، أما الكافر فلا يطلب إلا الدنيا، فإياك أن تتشبه به؛ لأنك إذا اهتممت بصلاح الدنيا وغفلت عن صلاح الدين فقد تندم بعد ذلك. فالإنسان يحضر قلبه في الدعاء، وكما يدعو بصلاح الدنيا فعليه أن يهتم بصلاح الآخرة: مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ [الإسراء:18]، وحرصك على الدنيا لن يخرج عما يريده الله بك سبحانه وتعالى. ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا * وَمَنْ أَرَادَ الآخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُوْلَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا * كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلاءِ وَهَؤُلاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا [الإسراء:18-20]، وتأمل قوله تعالى: (فأولئك كان سعيهم مشكوراً) إن الذي يشكر لهم هو الله سبحانه وتعالى، فأي شرف أعظم من أن الله هو الذي يشكر لك عملك. ودائماً أتذكر معنى هذه الآية الكريمة وأمثالها كلما قرأت في صفحات الوفيات أو في إعلانات الجرائد، وذلك عندما يعزي رئيس الجمهورية فلاناً أو فلاناً؛ فكم يفخر أقارب الميت إذا كان رئيس الجمهورية هو المعزي لهم؟! فما ظنك بالذي يشكر له الله سبحانه وتعالى عمله، فأي شرف أعظم من ذلك؟! والله سبحانه وتعالى هو غني عنك وعن عملك، بل أنت خلقت بنعمة الله من العدم، ووفقت للعمل الصالح الذي يشكرك الله عليه بقوة الله وإنعامه عليك، فلله الحمد أولاً وآخراً. ومن ذلك أيضاً قوله تبارك وتعالى: مَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَمَنْ كَانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيَا نُؤتِهِ مِنْهَا وَمَا لَهُ فِي الآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ [الشورى:20] لأنه ما أراد حرث الآخرة.

قال تعالى: أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَيَتْلُوهُ شَاهِدٌ مِنْهُ وَمِنْ قَبْلِهِ كِتَابُ مُوسَى إِمَامًا وَرَحْمَةً أُوْلَئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ [هود:17]. لقد أشار تعالى في هذه الآية إلى صفة المؤمنين في مقابلة أولئك الذين قال فيهم: أُوْلَئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ وَحَبِطَ مَا صَنَعُوا فِيهَا وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [هود:16]. ((أفمن كان على بينة من ربه)) أي: برهان نير، عظيم الشأن، أي: هو مسلم وثابت على الإسلام؛ لأنه يملك البينات والبراهين التي تثبته على هذا الدين. والبينة: هي العلم بالقرآن. وفسرت البينة أيضاً بالإسلام، أي: أفمن كان على الإسلام، سماه بينة لقوة ظهوره ووضوحه، إذ هو دين الفطرة قبل تدنيسها برجس الوثنية. قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) الضمير في قوله: (منه) يعود على الرب تبارك وتعالى، أي: ويتلوه شاهد من ربه، هذا التفسير الأول. التفسير الثاني في قوله: ((ويتلوه شاهد منه)) أي: يتبعه شاهد من القرآن نفسه، وهو إعجاز القرآن الكريم.

علاقة ما مضى من الكتب السماوية بالقرآن

قوله: ((ومن قبله كتاب موسى)) أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى. وقد فسر العلماء ما مضى قبل القرآن الكريم من الكتب على قولين: الأول: (ومن قبله كتاب موسى) هو التوراة، أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك. الثاني: ومن قبله كتاب موسى يشهد للقرآن أيضاً؛ ذلك لأن كتاب موسى تضمن ذكر القرآن وذكر صدق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا معناه: أن التوراة شاهدة للقرآن الكريم، بجانب ما يشهد له الإعجاز الذي فيه. ((ومن قبله كتاب موسى إماماً)) أي: مقتدى به في الدين ورحمة ونعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع ((أولئك يؤمنون به)) أي: من كانوا على بينة يؤمنون بالقرآن، فلهم الجنة. ((ومن يكفر به من الأحزاب)) يعني: أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((فالنار موعده فلا تك في مرية منه)) أي: لا تكن في شك من القرآن، أو: ولا تكن في شك من أن النار موعده. ((إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) أي: لا يؤمنون به؛ إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.

الفوائد المستنبطة من قوله تعالى: (أفمن كان على بينة)

نذكر بعض الفوائد هنا: الأولى: (مَنْ) في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً، وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبيّن مصيرهم ومآلهم. وفي شرح الكشاف: أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، أي: لا يعقبونهم في المنزلة أو يقاربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم فضلاً عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]. الثانية: قرئ ((ومن قبله كتابُ موسى)) بالرفع، وقرئ: ((ومن قبله كتابَ موسى)) بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في يتلوه، أي: يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ممن آمن من أهل الكتاب كـعبد الله بن سلام ، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى، لما يجدونه مكتوباً عندهم. و((يتلوه)) من التلاوة فتكون الآية كقوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10]. الثالثة: قوله: ((ومن الأحزاب)) الأحزاب جمع حزب، والحزب جماعة الناس، ويطلق الأحزاب على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، فهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية؛ لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناول كل من شاكلهم من سائر الطوائف. وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، قال سعيد : كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ )). فهذا يفيدنا أن المقصود بالأحزاب في الآية الملل كلها، وبالذات اليهود والنصارى؛ كما في نص الحديث المذكور. فإذاً كل من بلغته بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع بالإسلام وسمع بالقرآن فما عليه إلا أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وقبل ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن الدين الحق، ليس هذا فحسب، بل يجب عليه أن يصيب الحق، فلا يعذر الشخص أن يقول: أنا اجتهدت وبذلت وسعي وتوصلت إلى أن الحق مثلاً في اليهودية أو النصرانية، فهذا لا يقبل منه وليس عذراً؛ لأن للحق أدلة وعلامات، فلا يمكن أبداً أن يلتبس الحق في أحقية دين الإسلام، وفي أن القرآن كلام الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا الإسلام ديناً، هذه حقيقة أوضح من الشمس. فتوحيد الله سبحانه وتعالى، النبوات، الإيمان بالغيبيات، كل هذه الأشياء عليها من الأدلة ما لا يدع عذراً لكافر، لكنه الجهل أو العناد والجحود بعد المعرفة، فمن ثم يجب على كل كافر أن يجتهد في البحث عن الحق أولاً، وأن يصل إلى الحق ثانياً، فلا يعذر إذا قال: اجتهدت فوجدت الحق في غيره.

قوله: ((ومن قبله كتاب موسى)) أي: ومن قبل القرآن كتاب موسى. وقد فسر العلماء ما مضى قبل القرآن الكريم من الكتب على قولين: الأول: (ومن قبله كتاب موسى) هو التوراة، أي: ويتلو تلك البينة من قبله كتاب موسى مقرراً لذلك. الثاني: ومن قبله كتاب موسى يشهد للقرآن أيضاً؛ ذلك لأن كتاب موسى تضمن ذكر القرآن وذكر صدق نبوة النبي عليه الصلاة والسلام. فهذا معناه: أن التوراة شاهدة للقرآن الكريم، بجانب ما يشهد له الإعجاز الذي فيه. ((ومن قبله كتاب موسى إماماً)) أي: مقتدى به في الدين ورحمة ونعمة عظيمة على المنزل إليهم، تهديهم وتعلمهم الشرائع ((أولئك يؤمنون به)) أي: من كانوا على بينة يؤمنون بالقرآن، فلهم الجنة. ((ومن يكفر به من الأحزاب)) يعني: أهل مكة ومن ضامهم من المتحزبين على رسول الله صلى الله عليه وسلم. ((فالنار موعده فلا تك في مرية منه)) أي: لا تكن في شك من القرآن، أو: ولا تكن في شك من أن النار موعده. ((إنه الحق من ربك ولكن أكثر الناس لا يؤمنون)) أي: لا يؤمنون به؛ إما لقصور أنظارهم واختلال أفكارهم، وإما لعنادهم واستكبارهم.

نذكر بعض الفوائد هنا: الأولى: (مَنْ) في قوله تعالى: ((أَفَمَنْ كَانَ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ))، مبتدأ حذف خبره لإغناء الحال عن ذكره، وهذا سر حذف معادل الهمزة كثيراً، وتقديره: أفمن كان على بينة من ربه كأولئك الذين ذكرت أعمالهم وبيّن مصيرهم ومآلهم. وفي شرح الكشاف: أن التقدير: أمن كان يريد الحياة الدنيا كمن كان على بينة من ربه، أي: لا يعقبونهم في المنزلة أو يقاربونهم، والاستفهام للإنكار فيفيد أنه لا تقارب بينهم فضلاً عن التماثل، فلذلك صار أبلغ من نحو قوله تعالى: أَفَمَنْ كَانَ مُؤْمِنًا كَمَنْ كَانَ فَاسِقًا لا يَسْتَوُونَ [السجدة:18]. الثانية: قرئ ((ومن قبله كتابُ موسى)) بالرفع، وقرئ: ((ومن قبله كتابَ موسى)) بالنصب عطفاً على الضمير المنصوب في يتلوه، أي: يتلو القرآن شاهد ممن كان على بينة من ربه ممن آمن من أهل الكتاب كـعبد الله بن سلام ، وشهادتهم على أنه حق لا مفترى، لما يجدونه مكتوباً عندهم. و((يتلوه)) من التلاوة فتكون الآية كقوله تعالى: وَشَهِدَ شَاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرَائِيلَ عَلَى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَاسْتَكْبَرْتُمْ [الأحقاف:10]. الثالثة: قوله: ((ومن الأحزاب)) الأحزاب جمع حزب، والحزب جماعة الناس، ويطلق الأحزاب على من تألبوا على حرب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وكذا كل نبي قبله، فهو إطلاق شرعي، وعليه حمل الأكثر الآية؛ لكون السورة مكية، إلا أن اللفظ يتناول كل من شاكلهم من سائر الطوائف. وفي صحيح مسلم عن سعيد بن جبير عن أبي موسى الأشعري رضي الله عنه أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (والذي نفسي بيده لا يسمع بي أحد من هذه الأمة يهودي، أو نصراني، ثم لا يؤمن بي إلا دخل النار)، قال سعيد : كنت لا أسمع بحديث من النبي صلى الله عليه وسلم على وجهه إلا وجدت مصداقه في القرآن، فبلغني هذا الحديث فجعلت أقول: أين مصداقه في كتاب الله؟ حتى وجدت هذه الآية: (( وَمَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الأَحْزَابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ )). فهذا يفيدنا أن المقصود بالأحزاب في الآية الملل كلها، وبالذات اليهود والنصارى؛ كما في نص الحديث المذكور. فإذاً كل من بلغته بعثة النبي صلى الله عليه وسلم وسمع بالإسلام وسمع بالقرآن فما عليه إلا أن يؤمن به صلى الله عليه وسلم وبما جاء به. وقبل ذلك عليه أن يجتهد في البحث عن الدين الحق، ليس هذا فحسب، بل يجب عليه أن يصيب الحق، فلا يعذر الشخص أن يقول: أنا اجتهدت وبذلت وسعي وتوصلت إلى أن الحق مثلاً في اليهودية أو النصرانية، فهذا لا يقبل منه وليس عذراً؛ لأن للحق أدلة وعلامات، فلا يمكن أبداً أن يلتبس الحق في أحقية دين الإسلام، وفي أن القرآن كلام الله، وأن الله سبحانه وتعالى لا يرضى إلا الإسلام ديناً، هذه حقيقة أوضح من الشمس. فتوحيد الله سبحانه وتعالى، النبوات، الإيمان بالغيبيات، كل هذه الأشياء عليها من الأدلة ما لا يدع عذراً لكافر، لكنه الجهل أو العناد والجحود بعد المعرفة، فمن ثم يجب على كل كافر أن يجتهد في البحث عن الحق أولاً، وأن يصل إلى الحق ثانياً، فلا يعذر إذا قال: اجتهدت فوجدت الحق في غيره.

قال تبارك وتعالى: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]. مثال افتراء الكذب على الله سبحانه وتعالى: قول المشركين للملائكة إنهم بنات الله، أو قولهم في الأصنام إنهم شفعاء عند الله. ومعنى قوله: ((ومن أظلم ممن افترى على الله كذباً)) أي: لا أحد أظلم ممن يكذب على الله سبحانه وتعالى. ((أولئك يعرضون على ربهم)) أي: يساقون إليه سوق العبيد المفترين على ملوكهم في ذل وفي هوان. ((ويقول الأشهاد)): أي: الذين يشهدون بالحق يوم القيامة من الملائكة والنبيين والجوارح: ((هؤلاء الذين كذبوا على ربهم ألا لعنة الله على الظالمين)) هذا تهويل عظيم مما يحيط بهم حينئذ؛ لظلمهم بالكذب على الله. قيل: ولا يبعد أن تكون الآيات للدلالة على أن القرآن ليس بمفترى، فإن من يعلم حال من يفتري على الله كيف يرتكبه؟! يعني: إذا كان الرسول نفسه عليه الصلاة والسلام هو الذي يتلو عليهم هذه الآية الكريمة: وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا أُوْلَئِكَ يُعْرَضُونَ عَلَى رَبِّهِمْ وَيَقُولُ الأَشْهَادُ هَؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ [هود:18]: فلا يعقل إذاً أن يفتري هو على الله الكذب، ويدعي أن القرآن من عند الله وهو ليس من عند الله. وقد أدرك هرقل هذه الدلالة، فلما سأل أبا سفيان كي يمتحن صدق النبي عليه الصلاة والسلام -والقصة في كتاب بدء الوحي في صحيح البخاري- قال له: (هل يكذب؟ فقال: لا يكذب فقال هرقل : فما كان ليدع الكذب على الناس ويكذب على الله)، هل يعقل أنه لا يكذب على الناس ثم يكذب على الله سبحانه وتعالى؟! ومما يستدل به على صدق نبوة النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم: اشتهار دينه وانتشاره في آفاق الأرض، ورفع ذكره بهذه الصورة التي لم تقع لأحد من البشر سواه عليه الصلاة والسلام في كل أقطار الدنيا، وفي كل الأزمان من بعد بعثته، بل ومن قبل بعثته عليه الصلاة والسلام. فالله سبحانه وتعالى ما كان أبداً ليرفع شأن كاذب يكذب عليه بهذه الطريقة؛ لأن هذا فيه تلبيس للحق على الناس، فهذه من علامات صدق نبوته صلى الله عليه وآله وسلم.

قال تعالى: الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَيَبْغُونَهَا عِوَجًا وَهُمْ بِالآخِرَةِ هُمْ كَافِرُونَ [هود:19]. ((الذين يصدون عن سبيل الله)) أي: عن دينه القويم. لم يذكر هنا المفعول به، والتقدير: الذين يصدون عن دين الله كلَّ من يقدرون على صده وعلى إبعاده عن طريق الله سبحانه وتعالى. ((ويبغونها عوجاً)) الهاء تعود على السبيل: قُلْ هَذِهِ سَبِيلِي [يوسف:108]، فكلمة السبيل في هاتين الآيتين مؤنثة. ((ويبغونها عوجاً)) أي: يطلبونها معوجة بالكفر، يحرفون الناس عن الصراط المستقيم، ولا يرضون أن تكون مستقيمة. أو ((يبغونها عوجاً)) أي: يصفونها لهم بالاعوجاج، وينفرون الناس عن الإسلام بوصفه أنه دين معوج، دين التصوف، دين الإرهاب، دين التعصب والتشدد والتزمت إلى آخره، فينفرون عن دين الله بوصفه بصفة لا تليق به كالاعوجاج. ((وهم بالآخرة هم كافرون)) أي: هم يصدون أنفسهم عن الحق؛ لأنهم كافرون بالآخرة، ويصدون غيرهم أيضاً عن طريق محاربة الإسلام وتشويهه، ويدعون الناس إلى طرق معوجة تقودهم إلى النار والعياذ بالله.