منشور الخلافة
مدة
قراءة المادة :
8 دقائق
.
كتب الملك حسين منشورًا أذاعه على أثر المبايعة الخادعة الباطلة التي مثلت
في شونة شرق الأردن ونشر في بعض الجرائد وهذا نصه:
بسم الله الرحمن الرحيم
الحسين بن علي
{الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ العَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ
وَإِيَّاكَ نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ المُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ
المَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلاَ الضَّالِّينَ} (الفاتحة: 2-7) والصلاة والسلام على سيدنا
محمد عبده ورسوله أفضل الصلاة والتسليم، وعلى آله وصحبه وكافة أنبيائه ورسله
صلاة الله وسلامه عليهم أجمعين.
أما بعد فإني أسأله الرأفة والرحمة بعباده , والهداية والتوفيق لهم، وأن يجعلنا
هادين مهتدين غير ضالين ولا مضلين , فإنه هو البر الرحيم والمنان الكريم , ثم
إنه لما كانت الإمامة الكبرى والخلافة العظمى نظام عقد الأمة وسند قوام الملة، وكان
أمر صيرورتها وكيفيتها , وما جرى فيها مدونًا ومنقولاً عمن تلقينا عنهم ديننا القويم ,
وكان كل ما جرى من بعد عهدهم السعيد في كيفية حقوقها وصلاحيتها وسائر
معاملاتها إلى يومنا هذا موضحًا في تواريخ العالم الإسلامي وسيره المعتبر؛ فإقدام
حكومة أنقرة بما أقدمت عليه على ذلك المقام المكرم كيفما كان شكله , جعل أولي
الرأي والحل والعقد من علماء الدين المبين في الحرمين الشريفين والمسجد
الأقصى، وما جاورها من البلدان والأمصار يفاجئوننا ويلزموننا ببيعتهم بالإمامة
الكبرى والخلافة العظمى حرصًا على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع؛ لعدم
جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام , كما يفهم صراحة من توصية
الفاروق الأكرم رضي الله عنه لأهل شورى البيعة بعده كيفما كانت صيغة تلك
الإمامة وأشكالها إلى الآن وعليه.
ولما كانت المملكة الهاشمية والقطعة المباركة الحجازية مهد الإسلام ومحل
ظهوره ومطلع نوره , وكانت مصونة بعنايته تعالى من كل شائبة في حالتيها السابقة
والحاضرة , ولا سيما العمل فيها بأحكام كتاب الله وسنة رسوله بجميع خصوصياته
وعمومياته , وانطباق حكم البيعة المشروعة من المبايع والبايع له انطباقًا لا يتصور
حصوله في أي مملكة أخرى في الوقت الحاضر - كان حقًّا علينا إجابة ذلك
الطلب الديني المشروع بعد الاتكال على الله سبحانه واستمداد روحانية نبيه صلى الله
عليه وسلم؛ لذلك قبلنا البيعة متوكلين عليه عز وجل , مستمدين منه الغوث والعون
والتوفيق لما يحبه ويرضاه , وإننا نرجوه سبحانه وتعالى أن يكون هذا الأمر الذي
قضى به في حكمته الأزلية وقدرته الصمدانية , وأظهر حكمة قوله تعالى: {إِنَّ اللَّهَ
لاَ يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ} (الرعد: 11) مضاعفًا لنا باتباع
مسالك السلف الصالح.
نعم إنا لم نتعرض البحث في شؤون ذلك المقام الجليل إبان نهضتنا , لا بل
إلى قبيل جرأة أنقرة على كرامته، كيفما كانت وضعيته، وذلك حذرًا من توسع شُقّة
الاختلاف؛ لئلا يتخذه أعداء الإسلام وسيلة للتعريض بمكانته ولا نكلف سوانا بما لا
يراه، عملاً بقوله تعالى: {قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلَى شَاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدَى
سَبِيلاً} (الإسراء: 84) [1] ومع هذا فهو المسؤول أن يجعل هذه البيعة ألفة
للمسلمين تضم قاصيهم ودانيهم , وتسوقهم إلى حسن التآلف مع مجاوريهم من أبناء
دينهم وسكان بلدانهم من أهل الكتب السماوية , وسائر مواطنيهم بما ألقته إليهم
الشريعة الإسلامية , وتطبيق ما فرض في أمر: (لهم ما لنا وعليهم ما علينا) ، وكل
ما أوجبه عليهم الشرع الشريف من الرفق بالبشرية، وخدمة الإنسانية، وتجنب
الشرور، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر , مؤملين منهم حسن القيام بكل ما هو
في معنى هذا، مما أوجبه الله عليهم فردًا فردًا وجماعة جماعة،وبالأخص العلماء
الأعلام في أقطار الإسلام كافة. حرره في 5 شعبان سنة 1342 هجرية. (المنار) هذا كل ما في المنشور من موضوع الخلافة , وعبارته مفهومة في الجملة، قليلة اللحن والغلط بالنسبة لكل ما اطلعنا عليه من كلام هذا الرجل , ولعله أملاه على أحد فحسن عبارته في الجملة , وإلا فهي سخيفة ضعيفة في نفسها، وإنما هي كثيرة عليه هو , وغرضنا من نقل هذا المنشور في المنار التعليق عليه بما هو حجة على المبايع والمبايعين له , نوجز فيه؛ لأن أصل سقوط هذه الدعوى بالفعل صار قريبًا: (1) اعتراف حسين بأن سبب بيعته (إقدام حكومة أنقرة بما أقدمت عليه على ذلك المقام الكريم) أي: الخلافة - دع سخافة عبارته (بما وعليه وعلى) - وراجع عبارة جريدة (القبلة) تجده مكذبًا لهذه الدعوى ومصدقًا لقولنا السابق المكرر: إن هذه المبايعة ليست شيئًا جديدًا.
فما بايعه أخيرًا في الشونة إلا بعض من بايعه أولاً، فإن كانت البيعة الأولى صحيحة، قامت بها عليه الحجة - قبلها أو لم يقبلها بأنه غير أهل لها وعاجز عن القيام بأقل شؤونها , إذ لم يعمل شيئًا مما توجبه عليه.
وإعادتها حجة إلزامية على المبايعين بما أسندوه إليه من الأهلية مع ظهور بطلانها بالفعل كما هو ظاهر , وبأدلة الشرع التي بيناها في فتوى الجزء الرابع وإن كانت غير صحيحة، فماذا صححها الآن؟ (2) قوله في توجيه صحة البيعة الجديدة: إنها الحرص على إقامة شعائر الدين وصيانة الشرع؛ لعدم جواز بقاء المسلمين أكثر من ثلاثة أيام بلا إمام. ننتقد هذا التوجيه: (أولاً) بأن فيه اعترافًا بصحة خلافة عبد المجيد أفندي العثماني، وأنه كان يقيم الشعائر ويصون الشرع، وهو كذب في نفسه , فإن عبد المجيد أفندي لم يكن له من الأمر شيء , وكانت حكومة أنقرة تعبث بالشرع قبل تسميته خليفة بلا سلطة ولا عمل، وفي أثنائها وبعدها. (وثانيًا) بأن حسينًا كان يقول: إن هذه الخلافة باطلة.
وأشار إلى ذلك هنا بقوله: (كيفما كان شكله) واحترس واضعو خطاب المبايعة بمكة بمثله أيضًا. (وثالثًا) بأن مبايعي علماء المسجد الأقصى ومن تبعهم من أهل سورية هم الذين كانوا يرون صحة تلك الخلافة , وبنوا المبايعة عليها.
فهذا الاختلاف بينهم وبين خليفتهم وأهل الحرم المكي معه , يقتضي جهل أحد الفريقين بالخلافة الصحيحة وغير الصحيحة وعدم أهليته للمبايعة وبطلانها من قبله , ولما كان قبول حسين لمبايعة الفريق الأول مبنيًّا على ركن الإيجاب الفاسد؛ تعين أن يكون عقد البيعة فاسدًا بفساد ركن الإيجاب بالذات , وركن القبول بالتبع , وهذا دليل إلزامي، وإلا فقد بيّنا بالأدلة التحقيقية بطلان الركنين معًا. (3) زعمه أنه أحق الناس بأن يبايع , وأن الذين بايعوه أحق المسلمين بأن يبايعوا , وأنهم أهل الحل والعقد في الإسلام , وهو ما كررنا فساده وبطلانه بالأدلة الحقيقية والإلزامية , ومنها عجزه عن القيام بأحكام الخلافة فيهم وفي غيرهم , وعجزهم عن تأييده ونصره , وقد وقع ما يظهر صدقنا فيهما؛ بزحف النجديين لإنقاذ الحجاز من هذه الخلافة الكاذبة الخاطئة , دع ما ظهر أولاً من مخالفة العالم الإسلامي كله لهم. (4) قوله: إننا لم نتعرض البحث (كذا) في شؤون ذلك المقام الجليل. إلى آخره..
ونكتفي فيه بتعليقنا هنا على عدد (2) وعلى ما سبق في خطاب بيعة مكة. ((يتبع بمقال تالٍ)) (1) في الأصل (فربك) وهو غلط لا يجوز لنا إبقاؤه على أصله.