أرشيف المقالات

الزلزال بين الدنيا والآخرة

مدة قراءة المادة : 18 دقائق .
الزلزال بين الدنيا والآخرة


الصحة تَقْوَى وتضعُف، والجو يصحو ويغيم، والأزمة تشتد وتنفرج، والأيام تُقبِل وتُدبِر، وربك يخلق ما يشاء ويختار، وكل شيء عنده بمقدار.
 

والناس يفرطون والقدر معهم جادٌّ، ويلهُون ويوم العرض غير بعيد، ويغفُلون والحساب أمام الله شديد، وينسَون وكل ذرة من أعمالهم محسوبة؛ ﴿ يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعًا فَيُنَبِّئُهُمْ بِمَا عَمِلُوا أَحْصَاهُ اللَّهُ وَنَسُوهُ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [المجادلة: 6].
 

إيجابيات الزلزال: يرسل الله الآياتِ ليعلم الناس أن التحصن بالقوة من دون الله ضعف، والتحصن بالمال من دون الله فقر، والتحصن بالعزوة من دون الله عزلة، أما التحصن بالله عز وجل فهو القوة والغِنى والعِزوة.
 

يرسل الله آياتِه للناس حتى ينتبهوا من غفلتهم، ويُقالَوا من عثرتهم، ويعودوا إلى ربهم، ويعملوا لآخرتهم.
 

يرسل الله آياته للناس حتى يراجعوا أنفسهم، ويستغفروا من ذنبهم، ويتقربوا من خالقهم، ويراجعوا حساباتهم، ويستعدوا للقاء ربهم.
 

أسباب الزلزال: أسباب طبيعية وأسباب معنوية، كيف؟!
زلزلة الأرض لها أسباب جيولوجية معروفة، والفيضانات لها أسبابها المعلومة، والأعاصير كذلك لها أسبابها المادية، ولكن من الذي أمر الأرض أن تتحرك وتضطرب؟ ومن الذي أذِن للماء أن يزيد عن قدره المعتاد في بعض المناطق؟ ومن الذي أمر الرياح أن تتحرك بتلك السرعة العظيمة؟ أليس الله؟ أليس الذي أرسلها يريد من عباده أن يتضرعوا له، ويستكينوا له لعله يصرف عنهم هذه الآيات؟!
 
وهناك أسباب أخرى تتعلق بانحراف العباد ومعاصيهم يوضحها رسولنا صلى الله عليه وسلم؛ فيما رواه الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه، قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: ((إذا اتُّخِذَ الفيء دولًا، والأمانة مغنمًا، والزكاة مَغرَمًا، وتُعُلِّم لغير الدين، وأطاع الرجل امرأته، وعقَّ أمه، وأدنى صديقه، وأقصى أباه، وظهرت الأصوات في المساجد، وساد القبيلةَ فاسقهم، وكان زعيم القوم أرذلهم، وأُكْرِم الرجل مخافة شره، وظهرت القَينات والمعازف، وشُربت الخمور، ولعن آخر هذه الأمة أولها - فليرتقبوا عند ذلك ريحًا حمراءَ، وزلزلة، وخسفًا، ومسخًا، وقذفًا، وآياتٍ تَتَابع كنظامٍ بالٍ قُطع سِلكه فتتابع))؛ [رواه الترمذي].
 

الزلزال قد يكون عقوبة: هناك زلزال طبيعي وآخر اجتماعي؛ الطبيعي اهتزاز الأرض، أما الاجتماعي، فهو القتل والتجبر، والتشريد والإفساد في الأرض، وبينهما علاقة طردية، أن تجد ابنًا يقتل أمه ثم يحرق جثتها، أليس ذلك زلزالًا؟ وتجد أمًّا تقتل ابنها الرضيع من أجل نزوة عارضة، أليس ذلك زلزالًا؟ زوجة تقتل زوجها ثم تقطعه إِرْبًا وترميه مع القاذورات، أليس ذلك زلزالًا؟ وزميل يذبح زميلته بدم بارد أمام الناس وفي وضح النهار، أليس ذلك زلزالًا؟ تجد الفقراء يموتون جوعًا، والمفسدين مُتْخَمين، أليس ذلك زلزالًا؟! تجويع الشعوب وقهرهم، أليس ذلك زلزالًا؟ إذا كثر الفساد في الأرض برًّا وبحرًا، زادت آيات التخويف من زلازل وبراكين وأعاصير وغيرها، لماذا؟! ليعاقبهم على ما فعلوه، ولعلهم يرجعون إلى ربهم؛ ﴿ ظَهَرَ الْفَسَادُ فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ بِمَا كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ﴾ [الروم: 41].
 

وعقوبة الله إذا نزلت شملت الصالح والطالح، الصغير والكبير، الذكر والأنثى على حد سواء، ثم يُبعَثون على نياتهم؛ روى الإمام أحمد من حديث أم سلمة رضي الله عنها، قالت: سمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم يقول: ((إذا ظهرت المعاصي في أمتي، عمَّهم الله بعذاب من عنده، فقلت: يا رسول الله، أمَا فيهم يومئذٍ أناس صالحون؟ قال: بلى، قلت: كيف يصنع بأولئك؟ قال: يصيبهم ما أصاب الناس، ثم يصيرون إلى مغفرة من الله ورضوان))؛ [رواه أحمد].
 

وذكر ابن أبي الدنيا عن أنس بن مالك: "أنه دخل على عائشة هو ورجل آخر، فقال لها الرجل: يا أم المؤمنين، حدِّثينا عن الزَّلْزَلَةِ؟ فقالت: إذا استباحوا الزنا، وشربوا الخمور، وضربوا بالمعازف، غار الله عز وجل في سمائه، فقال للأرض: تزلزلي بهم، فإن تابوا ونزعوا، وإلا هدمها عليهم، قال: يا أم المؤمنين، أعذابًا لهم؟ قالت: بل موعظة ورحمة للمؤمنين، ونكالًا وعذابًا وسخطًا على الكافرين..."؛ [الجواب الكافي بتصرف].
 


الزلزال والقرآن: إن القرآن عندما يتنزل من السماء لينبِّهَ أهل الأرض وينذرهم من القادم، ويحذرهم من التفريط، فهو يربط المخلوق بالخالق، والأرض بالسماء، ويربط الناس بالواقع، ويحيلهم إلى ضعفهم أمام خالقهم، وفقرهم أمام ربهم، وذلهم لله رب الأرض والسماء، نعم، إن القرآن مرتع خصب، وبستان رائع، وروضة غنَّاء، نتفيأ ظلالها في معنى من معاني كلام الله عز وجل، ومع قاعدة من القواعد التي تتصل بفقه السنن الإلهية، التي تقع في الأمم والمجتمعات، تلكم هي القاعدة القرآنية التي دل عليها قول الله تعالى: ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59].
 

قالوا في الزلزال: ولقد تنوعت عبارات المفسرين في بيان المراد بهذه الآيات التي يرسلها ربنا تعالى؛ فمنهم من قال: هو الموت المتفشي الذي يكون بسبب وباء أو مرض، وآخر يقول: هي معجزات الرسل جعلها الله تعالى تخويفًا للمكذبين، وثالث يقول: آيات الانتقام تخويفًا من المعاصي.
 

قال قتادة: " ﴿ وَمَا نُرْسِلُ بِالْآيَاتِ إِلَّا تَخْوِيفًا ﴾ [الإسراء: 59] إن الله يخوف الناس بما شاء من آية لعلهم يعتبرون، أو يذكَّرون، أو يرجعون، ذُكر لنا أن الكوفة رجفت على عهد ابن مسعود، فقال: يا أيها الناس، إن ربكم يستعتبكم فأعتبوه"؛ [الطبري].
 

وزُلزلت الأرض على عهد عمر حتى اصطفقت السُّرُر، فوافق ذلك عبدالله بن عمر وهو يصلي، فلم يدْرِ، قال: فخطب عمر الناس وقال: "لئن عادت لأخرجَنَّ من بين ظهرانيكم، أو قال: إن عادت لا أساكنكم فيها".
 

آيات الله يرسلها سواء كانت زلازلَ أو براكينَ، أو عواصف وفيضانات، أو بأسًا من أي نوع؛ بهدف تخويف العباد، وترهيبهم مما يقع منهم من ذنوب ومعاصٍ، ومما علق بهم من حقد وحسد، لعلهم يرجعون إلى ربهم الذي أرسل لهم هذه الآيات، وضربهم بهذه النُّذُرِ، وإن لم يرجعوا فإن هذه علامة قسوة في القلب، وجمود العين، كيف؟!
 

قال ربنا: ﴿ وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا إِلَى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْنَاهُمْ بِالْبَأْسَاءِ وَالضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ * فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * فَلَمَّا نَسُوا مَا ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنَا عَلَيْهِمْ أَبْوَابَ كُلِّ شَيْءٍ حَتَّى إِذَا فَرِحُوا بِمَا أُوتُوا أَخَذْنَاهُمْ بَغْتَةً فَإِذَا هُمْ مُبْلِسُونَ ﴾ [الفاتحة: 42 - 44].
 

الحكمة من الزلزال: إن الله سبحانه وتعالى حكيم فيما يقضيه، عليم فيما يقدره، كما أنه حكيم عليم فيما شرعه وأمر به، وهو سبحانه يخلق ما يشاء من الآيات، ويقدرها؛ تخويفًا لعباده، وتذكيرًا لهم بما يجب عليهم من حقه، وتحذيرًا لهم من الشرك به، ومخالفة أمره، وارتكاب نهيه؛ قال الله سبحانه: ﴿ سَنُرِيهِمْ آيَاتِنَا فِي الْآفَاقِ وَفِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَوَلَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ ﴾ [فصلت: 53]، وقال تعالى: ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعًا وَيُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ ﴾ [الأنعام: 65].
 

عن مجاهد في تفسير هذه الآية: " ﴿ قُلْ هُوَ الْقَادِرُ عَلَى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذَابًا مِنْ فَوْقِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال: الصيحة والحجارة والريح، ﴿ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ ﴾ [الأنعام: 65]، قال: الرجفة والخسف".
 
ولا شك أن ما حصل من الزلازل في هذه الأيام في جهات كثيرة هو من جملة الآيات التي يخوف الله بها سبحانه عباده.
 

ولما كسفت الشمس على عهد الرسول صلى الله عليه وسلم، دعا إلى جمع الناس في المسجد، ثم بدؤوا جميعًا في صلاة مختلفة في هيئتها عن الصلوات المعتادة؛ تضرعًا إلى الله عز وجل أن يرفع عنهم البلاء؛ قال رسول الله صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق عليه: ((إن الشمس والقمر آيتان من آيات الله، وإنهما لا ينكسفان لموت أحد ولا لحياته، ولكن الله عز وجل يخوِّف بهما عباده، فإذا رأيتم ذلك، فافْزَعوا إلى ذكره ودعائه واستغفاره، ثم قال: يا أمة محمد، والله ما أحدٌ أغير من الله أن يزني عبده أو تزني أَمَتُه، يا أمة محمد، والله لو تعلمون ما أعلم لضحكتم قليلًا ولبكَيتم كثيرًا)).
 

الزلزال من علامات الساعة: كثرة الزلازل من علامات الساعة الصغرى؛ قال النبي عليه الصلاة والسلام: ((لا تقوم الساعة حتى يُقبَض العلم، وتكثر الزلازل، ويتقارب الزمان، وتظهر الفتن، ويكثر الهَرْجُ؛ وهو القتل))؛ [رواه أحمد].
 

الزلزال ومصائر الأمم: وكل ما يحدث في الوجود من الزلازل وغيرها مما يضر العباد ويسبب لهم أنواعًا من الأذى، كله بأسباب الشرك والمعاصي؛ كما قال الله عز وجل: ﴿ وَمَا أَصَابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ ﴾ [الشورى: 30].
 
الحسنات من توفيق الله للعبد وإرشاده للعمل الصالح، أما السيئات، فمن النفس ومن الشيطان، كيف؟! ﴿ مَا أَصَابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَمَا أَصَابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ ﴾ [النساء: 79].
 
وعن مصائر الأمم السابقة المكذِّبة والمفسدة؛ قال تعالى: ﴿ فَكُلًّا أَخَذْنَا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنَا عَلَيْهِ حَاصِبًا وَمِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَمِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنَا بِهِ الْأَرْضَ وَمِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنَا وَمَا كَانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَلَكِنْ كَانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ ﴾ [العنكبوت: 40].
 

قال الله تعالى في حق قوم نوح: ﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصَارًا ﴾ [نوح: 25].
 
يقول ابن كثير: "في بيان معنى قوله عز وجل: "﴿ مِمَّا خَطِيئَاتِهِمْ ﴾ [نوح: 25]؛ أي: من كثرة ذنوبهم وعُتوِّهم، وإصرارهم على كفرهم، ومخالفتهم رسولهم، ﴿ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا نَارًا ﴾ [نوح: 25]؛ أي: نُقلوا من تيار البحار إلى حرارة النار".
 

أما إذا سلكت الأمم طريق الإيمان، واتخذت سبيل التقوى، نالوا البركة في كل شيء؛ ﴿ وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ ﴾ [الأعراف: 96].
 
لذلك يجب على جميع المسلمين التوبة إلى الله سبحانه، والاستقامة على دينه، والحذر من كل ما نهى عنه من الشرك والمعاصي؛ حتى تحصل لهم العافية والنجاة في الدنيا والآخرة من جميع الشرور، وحتى يدفع الله عنهم كل بلاء، ويمنحهم كل خير.
 


ثبات الأرض وبسطها نعمة: ومن نِعَمِ الله تعالى العظيمة على عباده التي يغفُل عنها كثير من الناس نعمةُ ثبات الأرض؛ قال ربنا: ﴿ اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَرَارًا وَالسَّمَاءَ بِنَاءً ﴾ [غافر: 64].
 

وقال تعالى: ﴿ أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَرَارًا وَجَعَلَ خِلَالَهَا أَنْهَارًا وَجَعَلَ لَهَا رَوَاسِيَ وَجَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حَاجِزًا أَإِلَهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ ﴾ [النمل: 61].
 
فالله تعالى جعل الأرض؛ كما قال ابن كثير رحمه الله "قارة ساكنة ثابتة، لا تميد ولا تتحرك بأهلها، ولا ترجف بهم؛ فإنها لو كانت كذلك لَما طاب العيش عليها والحياة، بل جعلها من فضله ورحمته مهادًا بساطًا ثابتة لا تتزلزل ولا تتحرك".
 

والله سبحانه يبتلي عباده بالزلازل والبراكين؛ يذكِّرهم بنعمة ثبات الأرض وبسطها وتسويتها، وتمهيدها لاستقرار الخلائق على ظهرها، والتمكن من حرثها وغراسها، والبنيان عليها، والانتفاع بما فيها من خيرات: ﴿ أَلَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهَادًا * وَالْجِبَالَ أَوْتَادًا ﴾ [النبأ: 6، 7]، وقال سبحانه: ﴿ أَفَلَا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ * وَإِلَى السَّمَاءِ كَيْفَ رُفِعَتْ * وَإِلَى الْجِبَالِ كَيْفَ نُصِبَتْ * وَإِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ ﴾ [الغاشية: 17 - 20].
 

زلزال الآخرة: وهذه الزلازل في الدنيا تذكرنا بزلزال يوم القيامة وأهوال الآخرة، إنها تزلزل الأبدان، وتُشيِّب الولدان، وتُذهِل المراضع، وتُسقِط الحوامل، وترى الناس سكارى وما هم بسكارى؛ ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْءٌ عَظِيمٌ * يَوْمَ تَرَوْنَهَا تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَتَضَعُ كُلُّ ذَاتِ حَمْلٍ حَمْلَهَا وَتَرَى النَّاسَ سُكَارَى وَمَا هُمْ بِسُكَارَى وَلَكِنَّ عَذَابَ اللَّهِ شَدِيدٌ ﴾ [الحج: 1، 2].
 

وزلزال الدنيا لا يوازي زلزال الآخرة، زلزال الآخرة تمور فيه الأرض مورًا، وتلفِظ ما في جَوفِها، وتسير الجبال سيرًا، وتتخلى عما تحتها.
 
تركيا بلد يُضرَب فيه المثل بالصناعة والزراعة، والتقدم والتطور، والتعلم والتعليم، والتكنولوجيا والأسلحة، بلد عملاق يُضرَب به المثل في كل ذلك، وإذا به في أوقات لا تتعدى الثواني والدقائق واللحظات تتزلزل الأرض بقوة الجبار سبحانه من تحته، فلا يرى بارجاته التي صنعها، ولا بناياته التي بناها، الأم لا تجد ابنتها، والأب لا يجد ابنه، هلع وفزع، وامتحان واختبار، وفتنة بمجرد زلزال صغير أمر به الواحد القهار.
 

فما بالنا بزلزال الآخرة؛ بقول الله تبارك وتعالى: ﴿ إِذَا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزَالَهَا * وَأَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقَالَهَا * وَقَالَ الْإِنْسَانُ مَا لَهَا ﴾ [الزلزلة: 1 - 3]؟
 
الخبراء قالوا: ما لها؟ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4] آيات قليلات في سورة نحفظها كلنا، لكننا لم نقف عليها، وهذا تقدير إلهي أن الله يعيد لك الأيام، وأنه يستنطق هذه الآيات مرة أخرى؛ ﴿ يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبَارَهَا ﴾ [الزلزلة: 4].
 
لماذا فعلت ذلك؟ ﴿ بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحَى لَهَا * يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتَاتًا لِيُرَوْا أَعْمَالَهُمْ * فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ * وَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ ﴾ [الزلزلة: 5 - 8].
 
الآيات نزلت تتحدث عن يوم القيامة، عن ذلك اليوم الرهيب، وبدأ الله تعالى الآيات بـ(إذا) التي تفيد تحقق الشيء ووقوعه، والأمثلة من هذا في القرآن كبيرة جدًّا.
 

الله عز وجل أهلك أقوامًا من قبلنا بالرجفة؛ كما أهلك قوم شعيب: ﴿ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دَارِهِمْ جَاثِمِينَ ﴾ [الأعراف: 91].
 

ماذا تفعل إذا وقعت الشدائد؟ يُستحَبُّ عند وقوع الزلزال وغيره من الصواعق والعواصف والآيات العظيمة: التضرع إلى الله تعالى، والإنابة إليه، والإقلاع عن المعاصي، والمبادرة إلى التوبة، والاستغفار، والإلحاح إليه بالدعاء، والذكر، والصدقة، وغيرها من الأسباب التي يُستدْفَع بها العذاب والنِّقَمُ؛ قال تعالى: ﴿ فَلَوْلَا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا وَلَكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ ﴾ [الأنعام: 43].
 
وكان صلى الله عليه وسلم يدعو الله عند الشدائد؛ روى البخاري ومسلم عن عائشة زوج النبي صلى الله عليه وسلم أنها قالت: ((كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا عصفت الريح، قال: اللهم إني أسألك خيرها وخير ما فيها، وخير ما أُرسلت به، وأعوذ بك من شرها وشر ما فيها، وشر ما أرسلت به، قالت: وإذا تخيَّلتِ السماء - وهي سحابة فيها رعد وبرق يُخيَّل إليه أنها ماطرة - تغير لونه، وخرج ودخل، وأقبل وأدبر، فإذا مَطَرَتْ سُرِّيَ عنه، فعرفت ذلك في وجهه، قالت عائشة: فسألته، فقال: لعله يا عائشة كما قال قوم عاد: ﴿ فَلَمَّا رَأَوْهُ عَارِضًا مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قَالُوا هَذَا عَارِضٌ مُمْطِرُنَا ﴾ [الأحقاف: 24]))؛ [أخرجه الشيخان].
 
عن جابر بن برقان قال: "كتب إلينا عمر بن عبدالعزيز في زلزلة كانت بالشام أن اخرجوا يوم الاثنين من شهر كذا وكذا، ومن استطاع منكم أن يُخرِج صدقةً فليفعل، فإن الله تعالى قال: ﴿ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى * وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى ﴾ [الأعلى: 14، 15][سنده حسن].
 

قال عليه الصلاة والسلام: ((أمتي هذه أمة مرحومة، عذابها في الدنيا الفتنُ والزلازل، والقتل والبلايا))؛ [رواه أبو داود، وهو حديث صحيح].
 

نسأل الله تعالى أن يرزقنا الاعتبار والاتعاظ بما يُوعَظ به، ونعوذ بالله من قسوة القلب التي تحول دون الفهم عن الله وعن رسوله.

شارك الخبر

ساهم - قرآن ٣