المطهرات من الذنوب والمعاصي


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:7-9].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]. خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً فهي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:14-16].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء، بيده الخير، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين أصبعين من أصابعه يقلبها كيفما شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب ثبت قلوبنا على دينك.

وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا وسيدنا محمداً صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا ونهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين والملأ الأعلى إلى يوم الدين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

حديثنا اليوم بحول الله وفضله بعنوان: المطهرات من الذنوب والآثام، أسأل الله عز وجل أن يطهرنا من المعاصي، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

إن العبد يخرج من هذه الدار الدنيا دار الغرور إما خبيثاً محضاً كحال المشركين فمآله إلى دار الثبور، وهي جهنم، يخلد فيها ولا يخرج منها؛ لأن من مات على الشرك لم يخرج من جهنم أبد الآبدين.

وإما أن يخرج منها طيباً محضاً فمآله إلى دار السرور الجنة، وهذا حال الأنبياء ومن سار على نهجهم برحمة الله وفضله، وإما أن يكون قد خلط عملاً صالحاً بآخر سيئاً كحالنا نحن، فيحتاج إلى ما يطهره قبل لقاء ربه عز وجل.

ولقد قسم العلماء هذه المطهرات إلى عشرة مطهرات تطهر العبد، تسعة منها في الدنيا والآخرة، والعاشر إن دخل النار فإنه يدخلها للتطهير من ذنبه؛ لأن القاعدة تقول: لا يدخل الجنة مشرك ولا يخلد في النار موحد؛ لأن الله يقول: (أخرجوا من النار من قال: لا إله إلا الله، وعمل من الخير ما يزن ذرة)، وهذا أمر هام؛ لأنه يفرق بين عقيدة أهل السنة وعقيدة الخوارج -وهي فرقة من فرق الضلال- حيث يقول أهل السنة: إن المسلم الموحد إن دخل النار فإنما يدخلها للتطهير من خبثه ولا يدخلها للخلود، وإنما يخلد في النار أهل الشرك والكفر، والنبي عليه الصلاة والسلام يقول كما في حديث أبي ذر الصحيح: (من قال: لا إله إلا الله دخل الجنة، قال أبو ذر : وإن زنا وإن سرق يا رسول الله؟! قال: وإن زنا وإن سرق... وفي الثالثة قال: وإن زنا وإن سرق رغم أنف أبي ذر).

يقول ابن حجر في فتح الباري: والمقصود عند بعض العلماء: أنه يدخل الجنة بعد أن يطهر من ذنوبه في النار.

والمطهرات العشر هي: التوبة النصوح، ثم الاستغفار، ثم الحسنات الماحية، ثم المصائب الدنيوية، ثم سكرات الموت، وضمة القبر، وكرب يوم القيامة، والشفاعات وعلى رأسها شفاعة الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ثم عفو الله عز وجل: يَغْفِرُ لِمَنْ يَشَاءُ وَيُعَذِّبُ مَنْ يَشَاءُ [آل عمران:129]. ولذلك قالوا: لا كبيرة إذا قابلك فضله، ولا صغيرة إذا قابلك عدله، والمقصود بهذا: إن فعلت الكبيرة ومت عليها وشاء الله عز وجل أن يعفو عنك عفا عنك، لا يُسْأَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَهُمْ يُسْأَلُونَ [الأنبياء:23]. وفي الصحيح: أن رجلاً قبل موته أمر أهله أن يحرقوه، ثم يأتوا بجسده إلى هواء شديد ويضعوا جسده أمام هذا الهواء حتى يوزع في أنحاء الأرض، ففعلوا الوصية، فأمر الله عز وجل ذلك الجسد أن يجمع من كل مكان وقع فيه، ثم سأله: ما الذي حملك على هذا يا عبدي؟! قال: يا رب! استحييت أن أقف بين يديك، وأنا مذنب، فإذا بالله يقول: أشهدكم يا ملائكتي! أني قد غفرت له.

ويقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لا يدخل أحدكم الجنة بعمله). ولا يدخلها إلا برحمة الله وبفضله.

إن الذنوب درن وخبث، وربنا يقول في هذا: كَلَّا بَلْ رَانَ عَلَى قُلُوبِهِمْ مَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [المطففين:14]. فكل معصية تعصي الله بها تطبع في قلبك نكتة، فإن نظرت إلى امرأة متبرجة نكت في الحال في قلبك نكتة سوداء، وإن فعلت منكراً نكت في قلبك نكتة سوداء، كما قال الحبيب عليه الصلاة والسلام: (حتى تصير القلوب على قلبين: قلب أبيض كالصفاء)، وهو قلب المؤمن كما قال الله: الَّذِينَ آمَنُوا وَتَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ [الرعد:28]، (وقلب أسود منكوس). ومرض القلوب أشد على العبد من مرض الأبدان؛ لأن مرض القلب يترتب عليه أن تخسر الآخرة، ذَلِكَ هُوَ الْخُسْرَانُ الْمُبِينُ [الحج:11]. ومرض الدنيا لا يترتب عليه ذلك.

التوبة النصوح

المطهر الأول: التوبة النصوح، (والتوبة تجب ما قبلها)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نعلم أن كل المعاصي يغفرها الله حتى الشرك ما دام العبد في الدنيا، كما قال الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]. وأما في الآخرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

فيا أيها العبد العاصي! إنك في أيام بركة, فعد إلى ربك عز وجل، وطهر نفسك من دنس الذنوب والمعاصي قبل أن يأتيك ملك الموت فتنادي بأعلى صوتك: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، تقول: رب! أعدني إلى الدنيا لأعمل صالحاً ولأصلي الجماعات ولأقرأ القرآن ولأذكرك ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. فعد إلى ربك، فالنفس قد يخرج ولا يعود، وقد يعود ولا يخرج، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84].

وقد اشترط العلماء للتوبة شروطاً، وهي:

الشرط الأول: أن يندم العاصي على معصيته.

الشرط الثاني: أن يقلع العاصي عن المعصية، فإن كنت مع أصدقاء سوء فاهجرهم، لأن الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. وكل الصداقات الزائفة في الدنيا تنقلب إلى عداوات يوم القيامة، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، وقد كان هؤلاء الأتباع يهتفون في الدنيا بحياتهم ويقيمون لهم السرادق ويهتفون بحياتهم، وأما يوم القيامة فقد تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:166-167].

وأول من يتبرأ منهم الشيطان الذي زين لهم المعاصي، وأضلهم عن ذكر ربهم، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22].

وفي سورة (ق) يقول ربنا سبحانه: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [ق:27]، فقرينه الجني يقول: يا رب! أنا ما أطغيته، بل هو الذي ضل، فيقول الله لهما: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:28-29].

الشرط الثالث: العزم على عدم العودة، فالعزم من عمل القلوب, فلا تقل: تبت، وأنت مصر على العودة إلى المعصية، فهذا استهزاء.

الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها إن كانت حقوقاً لآدميين.

فإن توفرت هذه الشروط الأربعة في التائب فإن الله عز وجل يبدل سيئاته حسنات، ولا ينبغي علينا أن نذكر العاصي بمعصيته، أو نفضحه بذنبه، فالمؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، ومن ثم يأمرنا ربنا عز وجل بالإعراض عن الزانية والزاني إن تابا قال تعالى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]. فالكلام عن أخبار الفواحش لا يجوز شرعاً؛ لأن فيه إشاعة الفاحشة وتشهيراً بالعاصي على الملأ، وإنما ينبغي الأخذ بيد العاصي وستره، بحيث إذا عاد إلى ربه لا نذكره بمعصيته، ومن منا لم يعص الله؟ وما منا إلا من قد ستره الله ولم يفضحه، (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وفي الحديث الصحيح أن رجلاً قد قتل تسعاً وتسعين نفساً، فهو سفاك، سفاح، ومتخصص في إهدار الدماء، فأراد أن يتوب إلى الله، فسأل عن أعلم أهل الأرض، وحسن السؤال نصف العلم، (قال: دلوني على أعلم أهل الأرض)، ولم يقل: أعبد وإنما قال: أعلم، (فدلوه على راهب)، ولكن الراهب ما كان عالماً، فأتاه فقال: (هل لي توبة؟ قال له: لا، ليست لك توبة، فقتله فأتم به المائة). فقتل مائة نفس، وربنا في القرآن ما توعد أحداً بوعيد كما توعد الذي قتل نفساً مؤمنة بغير حق، فقال الله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. وقد كان ابن عباس يقرأ هذه الآية ويقول: قاتل المؤمن عمداً ليست له توبة، وهذا رأي مرجوح خلافاً لرأي الجمهور، فليعلم الذين يستبيحون قتل النفوس المؤمنة البريئة أنهم يرتكبون إثماً كما قال ربنا تبارك وتعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]؛ لأنه استحلال، والمؤمن بنيان الله وملعون من هدم بنيان الله، ثم إن الرجل أراد أن يتوب فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على عالم فأتى إليه فأمره بالشروط الثلاثة، الإقلاع والندم والعزم، والإقلاع معناه: أن يترك القرية التي كان يسكنها؛ لأنها قرية ظالمة تساعده على المعاصي، فنقول لشبابنا الذين يتركون ديار المسلمين إلى ديار الكفر أمريكا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا: أتتركون ديار المسلمين لتذهبوا إلى ديار المشركين؟ فهل هذه الديار تعاونكم على طاعة الله أم على معصيته؟ والهجرة أنواع، منها: الهجرة من بلد المعصية إلى بلد الطاعة، وهذه واجبة عند العلماء، ومن ثم إذا كنت في مجتمع لا يعاونك على الطاعة فاترك هذا المجتمع إلى مجتمع يأخذ بيدك إلى طاعة الله عز وجل.

فالرجل عزم على التوبة وحزم أمتعته، وعزم ونوى وأقلع وترك بلدته وهجرها وتوجه إلى قرية أخرى؛ ليعبد الله فيها مع أهلها الصالحين, ولأن ملك الموت لا يحتاج إلى إذن فقد جاءه وهو في الطريق إلى القرية الصالحة، والعبد لا يعلم متى يأتيه ملك الموت، فقد كانت المسافة الزمنية بين توبته وبين موته مسافة قصيرة جداً، فلا تسوف، ولا تقل: غداً، أو بعد التخرج، أو بعد أن أتزوج، أو بعد أن أبني العمارة، أو بعد أن أشتري السيارة، أو بعد أن أزوج البنات، فربما يأتيك ملك الموت قبل ذلك، وعند ذلك ستعض أصابع الندم، فلا رجعة لدنيا أبداً.

فلما قبض ملك الموت روح الرجل، اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كما يقول عليه الصلاة والسلام، فقالت ملائكة الرحمة: إنه من أهل الجنة، وقالت ملائكة العذاب: إنه من أهل النار فهو لم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، ولم يفعل معروفاً قط، (فأرسل الله إليهم ملكاً على هيئة رجل؛ ليحكم بينهم، فقال: قيسوا بين الرجل والقرية الصالحة وبينه وبين القرية الظالمة, فإن كان إلى الصالحة أقرب فهو من أهلها، وإن كان إلى العاصية أقرب فهو من أهلها). وكان الرجل قد مات في منتصف الطريق، فأراد الله بعبده رحمة، (فأمر القرية الصالحة أن تتقارب، وأمر القرية الظالمة أن تتباعد)، وفي لفظ آخر: (إنه اقترب من القرية الصالحة بمسافة شبر واحد، فدخل الجنة مع الداخلين). فبادر بالتوبة, وعد إلى ربك عز وجل.

الاستغفار

المطهر الثاني: الاستغفار، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، ونوح قال لقومه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]. وكل ذلك باستغفار الله عز وجل، فينبغي على العبد أن يكثر من استغفار ربه، ومن سمات الأتقياء الصالحين كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]. فهم يطلبون المغفرة من الله.

وسيد الاستغفار أن تقول: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) .

وليكن شعارك:

إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني

وكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن

يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

فطلب المغفرة يكون من الله، وفي آخر البقرة وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].

وقد أخرج الإمام التقي الحافظ الزاهد ابن أبي الدنيا في كتابه الدعاء المستجاب -وقد زادت مصنفاته عن المائتين مصنف، وهو مؤدب أولاد الخلفاء في العهد العباسي- (منع بنو إسرائيل القطر من السماء فجاءوا إلى موسى عليه السلام يقولون له: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن ينزل الغيث، فدعا موسى ربه وهم يؤمنون خلفه -يقولون: آمين- ولكن الغيث لم ينزل، فأوحى الله إلى موسى: يا موسى فيهم عبد عصاني أربعين سنة مرة فأمره أن يخرج من بين صفوفهم). فالله عز وجل بسبب هذا العاصي حجب الماء، فنقول لأصحاب المعاصي الذين يحولون رمضان إلى منكرات وسهرات باطلة ويتنافسون على ما يقدمونه للناس من ضلال: اتقوا الله في خلقه، واتركوهم يعبدون ربهم، أما يكفيكم إضلال البشر في أحد عشر شهراً، حتى تكرسون الجهد وتضاعفون الضلالة في رمضان؟ (ونادى موسى على العبد العاصي: أيها العبد! اخرج من بين صفوف الناس، فلقد حرمنا الماء بسبب معاصيك، ووصل النداء إلى العبد بإذن الله، فعلم أنه هو المقصود، فطأطأ الرأس، وقال: يا رب! عبد عصاك الآن يستغفرك ويتوب إليك، رب استرني ولا تفضحني، فاطلع ربنا على صدق توبته وحسن استغفاره، فأوحى إلى موسى: أن ادع الله، وأمن الناس فنزل الماء مدراراً، فقال موسى لربه: العبد لم يخرج يا رب! قال: يا موسى! بسببه سقيتكم الماء، فقال موسى لربه: دعني أنظر إليه، فقال: يا موسى! لم أفضحه وهو عاص، فكيف أفضحه وهو تائب؟). فالله عز وجل يحب من العباد أن يستروا أصحاب المعاصي.

فالمطهر الثاني: الاستغفار ولاسيما في الثلث الأخير من الليل، عندما تنام العيون إلا عين الحي الذي لا ينام، فقم في ذلك الوقت، الذي (ينزل الله إلى السماء الدنيا وينادي: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

الحسنات الماحية

المطهر الثالث: الحسنات الماحية، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). ويقول ربنا: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]. ومن ثم شرعت الكفارات؛ لتطهر العبد من دنس المعاصي.

وقد قال بعض أهل العلم: إن جامع الرجل زوجته وهي حائض استحب له أن يكفر عن تلك المعصية بالتصدق بنصف دينار؛ لأن الصدقة تطهره من هذا الذنب، وكلما كان للذنب كفارة كانت الرحمة من الله، وهناك ذنوب عظيمة ليست لها كفارة، كاليمين الغموس، وهي الحلف بالله كاذباً ليأخذ حق أخيه، فهي ذنب عظيم ليست لها كفارة لعظمها، فإذا اختفت الكفارة فهذا يدل على أن الذنب عظيم، ومن فضل الله وكرمه علينا (أنه قد كتب الحسنات والسيئات، فمن هم بحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة فإذا فعلها كتبت له عشرا).

وفي الحديث الآخر: (اقرءوا القرآن فإن الله يأجركم على تلاوته). وكل حرف بعشر حسنات، فإذا قرأت: بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] فكم حسنة فيها؟ فإن أتممت البقرة فحدث ولا حرج عن أجر ربك عز وجل.

وفي الحديث الآخر: (دخل رجل على رسول الله وقال: السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، ثم دخل آخر وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي: عشرون، ثم دخل الثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي: ثلاثون).

وفي الحديث الآخر: (من صلى الفجر في جماعة وجلس يذكر الله في مصلاه حتى تشرق الشمس ثم صلى ركعتين كتبت له حجة وعمرة تامة تامة تامة). فكم نفرط في الأجر؟.

في حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان عند البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة ثم تبعها حتى يفرغ منها كتب له قيراطان، كل قيراط كجبل أحد. فبكى أبو هريرة وقال: كم ضيعنا والله من قراريط). وإن كان أبو هريرة ضيع قراريط فماذا ضيعنا نحن؟ والمسلمون منهم من تدخل الجنازة إلى المسجد ويظل ينتظرها خارج المسجد، لا يصلي فرضاً ولا نفلاً ولا على الجنازة، وإنما ينتظر خروجها ليتبعها، ولا يوجد شيء يمنعه أن يصلي الفرض والجنازة إلا إذا كان عنده حيض في زمن يحيض فيه بعض الرجال! نسأل الله العفو والعافية.

وجمع الحسنات يسير على من يسره الله عليه، ففي الحديث (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). ولعل هذا الحديث هو دليل الشيخ حافظ حكمي صاحب كتاب معارج القبول على وزن العامل أو العمل أو صحائف الأعمال يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود : (إن قدم عبد الله أثقل يوم القيامة عند الله في الميزان من جبل أحد). فهذا دليل على أن قدمه توضع في الميزان، فإذاً العامل يوزن. ويقول ربنا عن المجرمين: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]. فلا يزن المجرم جناح بعوضة، فيؤتى بالرجل الطويل العريض ويوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة. ويوزن العمل، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (ثقيلتان في الميزان)، وصحائف الأعمال توزن بدليل حديث البطاقة، (إن الله يخرج للعبد تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مد البصر فيظن أنه قد هلك، فتخرج له بطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع في كفة والسجلات في كفة، فلا يثقل مع اسم الله شيء). وهذا معناه: أن صحائف الأعمال توزن.

فإذا فعلت ذنباً فسارع بفعل طاعة، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، كما قال ربنا سبحانه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام:160]. يقول ابن القيم : إن الله قال: ( من جاء ) ولم يقل: من فعل؛ لأنه ربما يفعل الحسنة ولكنه يبددها ويحبطها قبل لقاء الله، ثم يأتي مفلساً يوم القيامة، وقد يأتي بحسنات من صيام وحج وزكاة وأمر بالمعروف، ولكنه يأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وقذف عرض هذا واغتاب هذا وفتن على هذا ووقع في عرض هذا، ولابد من القصاص، فهذا يأخذ من حسناته وهذا يأخذ من حسناته، فهو مسكين، يفعل الحسنات لغيره، فهو يصلي لغيره، حتى إذا انتهت حسناته أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، ثم طرح في نار جهنم. نسأل الله العافية.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.

المصائب الدنيوية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

المطهر الرابع: المصائب التي تنزل بالعبد المؤمن، فكل مصيبة تنزل بك فتصبر عليها، لأن الله يكفر بها من خطاياك، حتى الشوكة تدخل في قدمك تكفر الخطايا، وإذا تعددت المصائب على العبد فصبر عليها فليعلم أن هذا تمحيص وابتلاء، قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]. فالمصائب التي تنزل على العبد يكفر الله سبحانه وتعالى بها من ذنوبه.

سكرات الموت

والمطهر الخامس: سكرات الموت، وهي كرب الموت وشدته، وأهوال الموت لم ينج منها أحد ولو نجا منها أحد لكان أحق بالنجاة منها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري أنه لما جاءه الموت ودخل في سكراته أمر عائشة أن تأتيه بإناء، فوضعوا الإناء بجواره، فكان يأخذ من الماء البارد ويصب على رأسه الطاهرة ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم هون علي سكرات الموت). (ودخل ابن مسعود عليه وهو يوعك وعكاً شديداً فقال: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقال ابن مسعود : ذلك لأن لك أجرين؟ قال: أجل). فكلما اشتدت السكرات زاد الأجر. وكما قال ابن تيمية شيخ الإسلام: حال الروح مع الجسد كحال الماء مع الإسفنجة، فالإسفنجة حينما تمتص الماء يكون الماء في كل أطرافها، وكذلك الروح تسكن في كل أنحاء الجسد، فعندما يأتي ملك الموت يجمعها من القدمين ومن الساقين إلى الفخذين ثم إلى البطن ثم إلى الصدر حتى تصل الحلقوم ثم إلى التراقي، ثم عند ذلك ينزعها ملك الموت لتفارق الجسد؛ لأن الموت عند العلماء هو مفارقة الروح للجسد، فإذا أراد ملك الموت أن ينزعها شعر العبد عند ذلك بشدة وبكرب شديد، ولذلك يقول ربنا: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:19-20].

ضمة القبر

المطهر السادس: ضمة القبر، للقبر ضمة لن ينحو منها أحد؛ لأن سعد بن معاذ سيد الأنصار الذي اهتز عرش الرحمن لموته كما عند البخاري ما نجا من ضمة القبر، وهذه الضمة يكفر الله بها من خطايا العبد المؤمن.

كرب يوم القيامة والشفاعات

ثم كرب يوم القيامة وساعات الانتظار تكفر الخطايا والذنوب.

ثم الشفاعات يشفع الله عز وجل فيك من شاء، وسنتكلم عن الشفاعة بعد الجمعة إن شاء الله لأهميتها.

عفو الله عز وجل

ثم عفو الله عز وجل.

فإن مررت على هذا كله وشاء الله أن تدخل النار فإنك تدخلها للتطهير لا للخلود.

المطهر الأول: التوبة النصوح، (والتوبة تجب ما قبلها)، كما قال النبي عليه الصلاة والسلام، ولابد أن نعلم أن كل المعاصي يغفرها الله حتى الشرك ما دام العبد في الدنيا، كما قال الله: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا [الزمر:53]. وأما في الآخرة: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء:48].

فيا أيها العبد العاصي! إنك في أيام بركة, فعد إلى ربك عز وجل، وطهر نفسك من دنس الذنوب والمعاصي قبل أن يأتيك ملك الموت فتنادي بأعلى صوتك: رَبِّ ارْجِعُونِ * لَعَلِّي أَعْمَلُ صَالِحًا فِيمَا تَرَكْتُ [المؤمنون:99-100]، تقول: رب! أعدني إلى الدنيا لأعمل صالحاً ولأصلي الجماعات ولأقرأ القرآن ولأذكرك ولآمر بالمعروف وأنهى عن المنكر، كَلَّا إِنَّهَا كَلِمَةٌ هُوَ قَائِلُهَا وَمِنْ وَرَائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلَى يَوْمِ يُبْعَثُونَ [المؤمنون:100]. فعد إلى ربك، فالنفس قد يخرج ولا يعود، وقد يعود ولا يخرج، فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّمَا نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا [مريم:84].

وقد اشترط العلماء للتوبة شروطاً، وهي:

الشرط الأول: أن يندم العاصي على معصيته.

الشرط الثاني: أن يقلع العاصي عن المعصية، فإن كنت مع أصدقاء سوء فاهجرهم، لأن الأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ [الزخرف:67]. وكل الصداقات الزائفة في الدنيا تنقلب إلى عداوات يوم القيامة، كما قال تعالى: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا [البقرة:166]، وقد كان هؤلاء الأتباع يهتفون في الدنيا بحياتهم ويقيمون لهم السرادق ويهتفون بحياتهم، وأما يوم القيامة فقد تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَرَأَوُا الْعَذَابَ وَتَقَطَّعَتْ بِهِمُ الأَسْبَابُ * وَقَالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنَا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَمَا تَبَرَّءُوا مِنَّا كَذَلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمَالَهُمْ حَسَرَاتٍ عَلَيْهِمْ [البقرة:166-167].

وأول من يتبرأ منهم الشيطان الذي زين لهم المعاصي، وأضلهم عن ذكر ربهم، وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَلُومُوا أَنْفُسَكُمْ مَا أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَمَا أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ [إبراهيم:22].

وفي سورة (ق) يقول ربنا سبحانه: قَالَ قَرِينُهُ رَبَّنَا مَا أَطْغَيْتُهُ وَلَكِنْ كَانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ [ق:27]، فقرينه الجني يقول: يا رب! أنا ما أطغيته، بل هو الذي ضل، فيقول الله لهما: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ * مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق:28-29].

الشرط الثالث: العزم على عدم العودة، فالعزم من عمل القلوب, فلا تقل: تبت، وأنت مصر على العودة إلى المعصية، فهذا استهزاء.

الشرط الرابع: رد المظالم إلى أهلها إن كانت حقوقاً لآدميين.

فإن توفرت هذه الشروط الأربعة في التائب فإن الله عز وجل يبدل سيئاته حسنات، ولا ينبغي علينا أن نذكر العاصي بمعصيته، أو نفضحه بذنبه، فالمؤمن يستر وينصح، والمنافق يهتك ويفضح، ومن ثم يأمرنا ربنا عز وجل بالإعراض عن الزانية والزاني إن تابا قال تعالى: فَإِنْ تَابَا وَأَصْلَحَا فَأَعْرِضُوا عَنْهُمَا إِنَّ اللَّهَ كَانَ تَوَّابًا رَحِيمًا [النساء:16]. فالكلام عن أخبار الفواحش لا يجوز شرعاً؛ لأن فيه إشاعة الفاحشة وتشهيراً بالعاصي على الملأ، وإنما ينبغي الأخذ بيد العاصي وستره، بحيث إذا عاد إلى ربه لا نذكره بمعصيته، ومن منا لم يعص الله؟ وما منا إلا من قد ستره الله ولم يفضحه، (ومن ستر مسلماً ستره الله في الدنيا والآخرة)، وفي الحديث الصحيح أن رجلاً قد قتل تسعاً وتسعين نفساً، فهو سفاك، سفاح، ومتخصص في إهدار الدماء، فأراد أن يتوب إلى الله، فسأل عن أعلم أهل الأرض، وحسن السؤال نصف العلم، (قال: دلوني على أعلم أهل الأرض)، ولم يقل: أعبد وإنما قال: أعلم، (فدلوه على راهب)، ولكن الراهب ما كان عالماً، فأتاه فقال: (هل لي توبة؟ قال له: لا، ليست لك توبة، فقتله فأتم به المائة). فقتل مائة نفس، وربنا في القرآن ما توعد أحداً بوعيد كما توعد الذي قتل نفساً مؤمنة بغير حق، فقال الله: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء:93]. وقد كان ابن عباس يقرأ هذه الآية ويقول: قاتل المؤمن عمداً ليست له توبة، وهذا رأي مرجوح خلافاً لرأي الجمهور، فليعلم الذين يستبيحون قتل النفوس المؤمنة البريئة أنهم يرتكبون إثماً كما قال ربنا تبارك وتعالى: مَنْ قَتَلَ نَفْسًا بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسَادٍ فِي الأَرْضِ فَكَأَنَّمَا قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعًا [المائدة:32]؛ لأنه استحلال، والمؤمن بنيان الله وملعون من هدم بنيان الله، ثم إن الرجل أراد أن يتوب فسأل عن أعلم أهل الأرض، فدلوه على عالم فأتى إليه فأمره بالشروط الثلاثة، الإقلاع والندم والعزم، والإقلاع معناه: أن يترك القرية التي كان يسكنها؛ لأنها قرية ظالمة تساعده على المعاصي، فنقول لشبابنا الذين يتركون ديار المسلمين إلى ديار الكفر أمريكا وإيطاليا وفرنسا وألمانيا والنمسا: أتتركون ديار المسلمين لتذهبوا إلى ديار المشركين؟ فهل هذه الديار تعاونكم على طاعة الله أم على معصيته؟ والهجرة أنواع، منها: الهجرة من بلد المعصية إلى بلد الطاعة، وهذه واجبة عند العلماء، ومن ثم إذا كنت في مجتمع لا يعاونك على الطاعة فاترك هذا المجتمع إلى مجتمع يأخذ بيدك إلى طاعة الله عز وجل.

فالرجل عزم على التوبة وحزم أمتعته، وعزم ونوى وأقلع وترك بلدته وهجرها وتوجه إلى قرية أخرى؛ ليعبد الله فيها مع أهلها الصالحين, ولأن ملك الموت لا يحتاج إلى إذن فقد جاءه وهو في الطريق إلى القرية الصالحة، والعبد لا يعلم متى يأتيه ملك الموت، فقد كانت المسافة الزمنية بين توبته وبين موته مسافة قصيرة جداً، فلا تسوف، ولا تقل: غداً، أو بعد التخرج، أو بعد أن أتزوج، أو بعد أن أبني العمارة، أو بعد أن أشتري السيارة، أو بعد أن أزوج البنات، فربما يأتيك ملك الموت قبل ذلك، وعند ذلك ستعض أصابع الندم، فلا رجعة لدنيا أبداً.

فلما قبض ملك الموت روح الرجل، اختصمت فيه ملائكة الرحمة وملائكة العذاب، كما يقول عليه الصلاة والسلام، فقالت ملائكة الرحمة: إنه من أهل الجنة، وقالت ملائكة العذاب: إنه من أهل النار فهو لم يركع لله ركعة، ولم يسجد لله سجدة، ولم يفعل معروفاً قط، (فأرسل الله إليهم ملكاً على هيئة رجل؛ ليحكم بينهم، فقال: قيسوا بين الرجل والقرية الصالحة وبينه وبين القرية الظالمة, فإن كان إلى الصالحة أقرب فهو من أهلها، وإن كان إلى العاصية أقرب فهو من أهلها). وكان الرجل قد مات في منتصف الطريق، فأراد الله بعبده رحمة، (فأمر القرية الصالحة أن تتقارب، وأمر القرية الظالمة أن تتباعد)، وفي لفظ آخر: (إنه اقترب من القرية الصالحة بمسافة شبر واحد، فدخل الجنة مع الداخلين). فبادر بالتوبة, وعد إلى ربك عز وجل.

المطهر الثاني: الاستغفار، والنبي عليه الصلاة والسلام كان يستغفر الله في اليوم أكثر من سبعين مرة، ونوح قال لقومه: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12]. وكل ذلك باستغفار الله عز وجل، فينبغي على العبد أن يكثر من استغفار ربه، ومن سمات الأتقياء الصالحين كَانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ مَا يَهْجَعُونَ * وَبِالأَسْحَارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ [الذاريات:17-18]. فهم يطلبون المغفرة من الله.

وسيد الاستغفار أن تقول: (اللهم أنت ربي، لا إله إلا أنت، خلقتني وأنا عبدك، وأنا على عهدك ووعدك ما استطعت، أعوذ بك من شر ما صنعت، أبوء لك بنعمتك علي وأبوء بذنبي، فاغفر لي، فإنه لا يغفر الذنوب إلا أنت) .

وليكن شعارك:

إلهي لا تعذبني فإني مقر بالذي قد كان مني

وكم من زلة لي في البرايا وأنت علي ذو فضل ومن

يظن الناس بي خيراً وإني لشر الناس إن لم تعف عني

فطلب المغفرة يكون من الله، وفي آخر البقرة وَاعْفُ عَنَّا وَاغْفِرْ لَنَا وَارْحَمْنَا أَنْتَ مَوْلانَا فَانصُرْنَا عَلَى الْقَوْمِ الْكَافِرِينَ [البقرة:286].

وقد أخرج الإمام التقي الحافظ الزاهد ابن أبي الدنيا في كتابه الدعاء المستجاب -وقد زادت مصنفاته عن المائتين مصنف، وهو مؤدب أولاد الخلفاء في العهد العباسي- (منع بنو إسرائيل القطر من السماء فجاءوا إلى موسى عليه السلام يقولون له: يا كليم الله! ادع لنا ربك أن ينزل الغيث، فدعا موسى ربه وهم يؤمنون خلفه -يقولون: آمين- ولكن الغيث لم ينزل، فأوحى الله إلى موسى: يا موسى فيهم عبد عصاني أربعين سنة مرة فأمره أن يخرج من بين صفوفهم). فالله عز وجل بسبب هذا العاصي حجب الماء، فنقول لأصحاب المعاصي الذين يحولون رمضان إلى منكرات وسهرات باطلة ويتنافسون على ما يقدمونه للناس من ضلال: اتقوا الله في خلقه، واتركوهم يعبدون ربهم، أما يكفيكم إضلال البشر في أحد عشر شهراً، حتى تكرسون الجهد وتضاعفون الضلالة في رمضان؟ (ونادى موسى على العبد العاصي: أيها العبد! اخرج من بين صفوف الناس، فلقد حرمنا الماء بسبب معاصيك، ووصل النداء إلى العبد بإذن الله، فعلم أنه هو المقصود، فطأطأ الرأس، وقال: يا رب! عبد عصاك الآن يستغفرك ويتوب إليك، رب استرني ولا تفضحني، فاطلع ربنا على صدق توبته وحسن استغفاره، فأوحى إلى موسى: أن ادع الله، وأمن الناس فنزل الماء مدراراً، فقال موسى لربه: العبد لم يخرج يا رب! قال: يا موسى! بسببه سقيتكم الماء، فقال موسى لربه: دعني أنظر إليه، فقال: يا موسى! لم أفضحه وهو عاص، فكيف أفضحه وهو تائب؟). فالله عز وجل يحب من العباد أن يستروا أصحاب المعاصي.

فالمطهر الثاني: الاستغفار ولاسيما في الثلث الأخير من الليل، عندما تنام العيون إلا عين الحي الذي لا ينام، فقم في ذلك الوقت، الذي (ينزل الله إلى السماء الدنيا وينادي: هل من مستغفر فأغفر له؟ هل من تائب فأتوب عليه؟) كما قال النبي عليه الصلاة والسلام.

المطهر الثالث: الحسنات الماحية، يقول الحبيب صلى الله عليه وسلم: (وأتبع السيئة الحسنة تمحها). ويقول ربنا: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود:114]. ومن ثم شرعت الكفارات؛ لتطهر العبد من دنس المعاصي.

وقد قال بعض أهل العلم: إن جامع الرجل زوجته وهي حائض استحب له أن يكفر عن تلك المعصية بالتصدق بنصف دينار؛ لأن الصدقة تطهره من هذا الذنب، وكلما كان للذنب كفارة كانت الرحمة من الله، وهناك ذنوب عظيمة ليست لها كفارة، كاليمين الغموس، وهي الحلف بالله كاذباً ليأخذ حق أخيه، فهي ذنب عظيم ليست لها كفارة لعظمها، فإذا اختفت الكفارة فهذا يدل على أن الذنب عظيم، ومن فضل الله وكرمه علينا (أنه قد كتب الحسنات والسيئات، فمن هم بحسنة ولم يفعلها كتبت له حسنة فإذا فعلها كتبت له عشرا).

وفي الحديث الآخر: (اقرءوا القرآن فإن الله يأجركم على تلاوته). وكل حرف بعشر حسنات، فإذا قرأت: بسم الله الرحمن الرحيم الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِلْمُتَّقِينَ [البقرة:1-2] فكم حسنة فيها؟ فإن أتممت البقرة فحدث ولا حرج عن أجر ربك عز وجل.

وفي الحديث الآخر: (دخل رجل على رسول الله وقال: السلام عليكم، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: عشر حسنات، ثم دخل آخر وقال: السلام عليكم ورحمة الله، فقال النبي: عشرون، ثم دخل الثالث فقال: السلام عليكم ورحمة الله وبركاته، فقال النبي: ثلاثون).

وفي الحديث الآخر: (من صلى الفجر في جماعة وجلس يذكر الله في مصلاه حتى تشرق الشمس ثم صلى ركعتين كتبت له حجة وعمرة تامة تامة تامة). فكم نفرط في الأجر؟.

في حديث أبي هريرة في كتاب الإيمان عند البخاري يقول صلى الله عليه وسلم: (من صلى على جنازة ثم تبعها حتى يفرغ منها كتب له قيراطان، كل قيراط كجبل أحد. فبكى أبو هريرة وقال: كم ضيعنا والله من قراريط). وإن كان أبو هريرة ضيع قراريط فماذا ضيعنا نحن؟ والمسلمون منهم من تدخل الجنازة إلى المسجد ويظل ينتظرها خارج المسجد، لا يصلي فرضاً ولا نفلاً ولا على الجنازة، وإنما ينتظر خروجها ليتبعها، ولا يوجد شيء يمنعه أن يصلي الفرض والجنازة إلا إذا كان عنده حيض في زمن يحيض فيه بعض الرجال! نسأل الله العفو والعافية.

وجمع الحسنات يسير على من يسره الله عليه، ففي الحديث (كلمتان خفيفتان على اللسان حبيبتان إلى الرحمن ثقيلتان في الميزان: سبحان الله وبحمده، سبحان الله العظيم). ولعل هذا الحديث هو دليل الشيخ حافظ حكمي صاحب كتاب معارج القبول على وزن العامل أو العمل أو صحائف الأعمال يوم القيامة، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم عن عبد الله بن مسعود : (إن قدم عبد الله أثقل يوم القيامة عند الله في الميزان من جبل أحد). فهذا دليل على أن قدمه توضع في الميزان، فإذاً العامل يوزن. ويقول ربنا عن المجرمين: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَزْنًا [الكهف:105]. فلا يزن المجرم جناح بعوضة، فيؤتى بالرجل الطويل العريض ويوضع في الميزان فلا يزن عند الله جناح بعوضة. ويوزن العمل، والدليل على هذا قوله صلى الله عليه وسلم: (ثقيلتان في الميزان)، وصحائف الأعمال توزن بدليل حديث البطاقة، (إن الله يخرج للعبد تسعة وتسعين سجلاً، كل سجل منها مد البصر فيظن أنه قد هلك، فتخرج له بطاقة فيها لا إله إلا الله، فتوضع في كفة والسجلات في كفة، فلا يثقل مع اسم الله شيء). وهذا معناه: أن صحائف الأعمال توزن.

فإذا فعلت ذنباً فسارع بفعل طاعة، فإن الحسنة بعشرة أمثالها، كما قال ربنا سبحانه: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ [الأنعام:160]. يقول ابن القيم : إن الله قال: ( من جاء ) ولم يقل: من فعل؛ لأنه ربما يفعل الحسنة ولكنه يبددها ويحبطها قبل لقاء الله، ثم يأتي مفلساً يوم القيامة، وقد يأتي بحسنات من صيام وحج وزكاة وأمر بالمعروف، ولكنه يأتي وقد شتم هذا وأكل مال هذا وقذف عرض هذا واغتاب هذا وفتن على هذا ووقع في عرض هذا، ولابد من القصاص، فهذا يأخذ من حسناته وهذا يأخذ من حسناته، فهو مسكين، يفعل الحسنات لغيره، فهو يصلي لغيره، حتى إذا انتهت حسناته أخذ من سيئاتهم وطرحت عليه، ثم طرح في نار جهنم. نسأل الله العافية.

أقول هذا القول وأستغفر الله لي ولكم.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

المطهر الرابع: المصائب التي تنزل بالعبد المؤمن، فكل مصيبة تنزل بك فتصبر عليها، لأن الله يكفر بها من خطاياك، حتى الشوكة تدخل في قدمك تكفر الخطايا، وإذا تعددت المصائب على العبد فصبر عليها فليعلم أن هذا تمحيص وابتلاء، قال تعالى: وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ * الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ [البقرة:155-156]. فالمصائب التي تنزل على العبد يكفر الله سبحانه وتعالى بها من ذنوبه.

والمطهر الخامس: سكرات الموت، وهي كرب الموت وشدته، وأهوال الموت لم ينج منها أحد ولو نجا منها أحد لكان أحق بالنجاة منها الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ففي صحيح البخاري أنه لما جاءه الموت ودخل في سكراته أمر عائشة أن تأتيه بإناء، فوضعوا الإناء بجواره، فكان يأخذ من الماء البارد ويصب على رأسه الطاهرة ويقول: (لا إله إلا الله إن للموت لسكرات، اللهم هون علي سكرات الموت). (ودخل ابن مسعود عليه وهو يوعك وعكاً شديداً فقال: يا رسول الله! إنك لتوعك وعكاً شديداً، فقال: إني أوعك كما يوعك رجلان منكم، فقال ابن مسعود : ذلك لأن لك أجرين؟ قال: أجل). فكلما اشتدت السكرات زاد الأجر. وكما قال ابن تيمية شيخ الإسلام: حال الروح مع الجسد كحال الماء مع الإسفنجة، فالإسفنجة حينما تمتص الماء يكون الماء في كل أطرافها، وكذلك الروح تسكن في كل أنحاء الجسد، فعندما يأتي ملك الموت يجمعها من القدمين ومن الساقين إلى الفخذين ثم إلى البطن ثم إلى الصدر حتى تصل الحلقوم ثم إلى التراقي، ثم عند ذلك ينزعها ملك الموت لتفارق الجسد؛ لأن الموت عند العلماء هو مفارقة الروح للجسد، فإذا أراد ملك الموت أن ينزعها شعر العبد عند ذلك بشدة وبكرب شديد، ولذلك يقول ربنا: وَجَاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذَلِكَ مَا كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ * وَنُفِخَ فِي الصُّورِ ذَلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ [ق:19-20].