عاجل: من عمر! - أبو الهيثم محمد درويش
مدة
قراءة المادة :
6 دقائق
.
الرجال مواقف والمجتمعات كذلك..الشعوب مواقف..
الحكام مواقف..
الأمم مواقف وأفعال..
وهذه رسالة بلسان الحال من عمر بن الخطاب رضي الله عنه مثال العدل في هذه الأمة وبيان أخلاقه مع من أغلظ عليه واتهمه ظلمًا...
وبيان هكنه في إغاثة الملهوف وابن السبيل والمحتاج...
رسالة إلى كل حاكم ظالم يبطش بمن ينصحه ويطالبه بالعدل في زمنٍ زاد فيه الظلم والبطش والجبروت..
زاد فيه القتل والسجن وانتهاك الأعراض...
أين أنتم من العدل؟!
قالها عمر بلسان الحال وبالأفعال لكل حاكمٍ يأتي بعده:
روى البخاري عن ابن عباس رضي الله عنهما قال: "قَدِم عيينة بن حصن بن حذيفة، فنزل على ابن أخيه الحرِّ بن قيس، وكان من النفر الذين يدنيهم عمر، وكان القُرّاء أصحاب مجالس عمر ومشاورته، كهولًا كانوا، أو شبانًا، فقال عيينة لابن أخيه: يا ابن أخي، هل لك وجه عند هذا الأمير، فاستأذن لي عليه.
قال: سأستأذن لك عليه.
قال ابن عباس: فاستأذن الحرُّ لعيينة، فأذن له عمر، فلما دخل عليه قال: هي يا ابن الخطاب، فوالله، ما تعطينا الجزل، ولا تحكم بيننا بالعدل.
فغضب عمر، حتى همَّ أن يُوقع به، فقال له الحرُّ: يا أمير المؤمنين، إنَّ الله تعالى قال لنبيه صلى الله عليه وسلم: {خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِينَ} [الأعراف:199].
وإنَّ هذا من الجاهلين، والله ما جاوزها عمر حين تلاها عليه، وكان وقافًا عند كتاب الله".
وفي (كنز العمال) عن أنس: "أن رجلًا من أهل مصر أتى عمر بن الخطاب فقال: يا أمير المؤمنين عائذٌ بك من الظلم، قال: عُذت معاذًا، قال: سابقت ابن عمرو بن العاص فسبقته فجعل يضربني بالسوط ويقول: أنا ابن الأكرمين فكتب عمر إلى عمرو يأمره بالقدوم ويقدم بابنه معه فقدم، فقال عمر: أين المصري، خذ السوط فاضرب.
فجعل يضربه بالسوط ويقول عمر اضرب ابن الأكرمين.
قال أنس: فضرب فوالله لقد ضربه ونحن نحب ضربه، فما أقلع عنه حتى تمنينا أنه يرفع عنه، ثم قال عمر للمصري: ضع السوط على صلعة عمرو، فقال: يا أمير المؤمنين إنما ابنه الذي ضربني وقد استقدت منه، فقال عمر: لعمرو مذ كم تعبدتم الناس وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا؟! قال: يا أمير المؤمنين لم أعلم ولم يأتني".
وفي (تاريخ الطبري) عن زيد بن أسلم عن أبيه قال: "خرجت مع عمر بن الخطاب رحمه الله إلى حرّة واقم، حتى إذا كنا بصرارٍ إذا نار تؤرث، فقال: يا أسلم، إني أرى هؤلاء ركبًا قصر بهم الليل والبرد، انطلق بنا فخرجنا نهرول حتى دنونا منهم، فإذا امرأة معها صبيان لها وقِدرٌ منصوبة إلى النار وصبيانها يتضاغون، فقال عمر: السلام عليكم يا أصحاب الضوء وكره أن يقول: يا أصحاب النار، قالت: وعليك السلام، قال: أأدنوا؟ قالت: ادنُ بخير أو دع، فدنا فقال: ما بالكم؟ قالت: قصر بنا الليل والبرد، قال: فما بال هؤلاء الصبية يتضاغون؟ قالت: الجوع، قال: وأي شيء في هذا القدر ؟ قالت: ماءٌ أُسكتهم به حتى يناموا، الله بيننا وبين عمر! قال: أي رحمك الله، ما يدري عمر بكم! قالت: يتولّى أمرنا ويغفل عنّا!
فأقبل علي، فقال: انطلق بنا، فخرجنا نُهروِل، حتى أتينا دار الدقيق، فأخرج عدلًا فيه كبة شحم، فقال: أحمله علي، فقلت: أنا أحمله عنك، قال: احمله علي، مرتين أو ثلاثًا كل ذلك أقول: أنا أحمله عنك، فقال لي في آخر ذلك: أنت تحمل عني وزري يوم القيامة ، لا أمَّ لك!
فحملته عليه، فانطلق وانطلقت معه نهرول، حتى انتهينا إليها، فألقى ذلك عندها، وأخرج من الدقيق شيئًا فجعل يقول لها: ذري علي، وأنا أُحرِّك لكِ، وجعل ينفخ تحت القدر وكان ذا لحية عظيمة فجعلت أنظر إلى الدخان من خلل لحيته حتى أنضج وأدم القدر ثم أنزلها، وقال: ابغني شيئًا، فأتيته بصفيحةٍ فأفرغها فيها، ثم جعل يقول: أطعميهم، وأنا أسطح لكِ، فلم يزل حتى شبعوا، ثم خلى عندها فضل ذلك، وقام وقمت معه، فجعلت تقول: جزاكِ الله خيرًا! أنت أولى بهذا من أمير المؤمنين! فيقول: قولي خيرًا، إنكِ إذا جئتِ أمير المؤمنين وجدتني هناك إن شاء الله.
ثم تنحى ناحية عنها، ثم استقبلها وربض مربض السبع، فجعلت أقول له: إن لك شأنًا غير هذا، وهو لا يُكلِّمني حتى رأيت الصبية يصطرعون ويضحكون ثم ناموا وهدؤوا، فقام وهو يحمد الله ثم أقبل علي فقال: يا أسلم، إن الجوع أسهرهم وأبكاهم، فأحببتُ ألا أنصرف حتى أرى ما رأيت منهم".