خطب ومحاضرات
اللحوم المسمومة
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين، وأشهد أن لا إله إلا الله ولي الصالحين، وخالق الخلق أجمعين ورازقهم، رفع شأن العلماء فقال: يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَالَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجَاتٍ [المجادلة:11].
وقال: إِنَّمَا يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبَادِهِ الْعُلَمَاءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ [فاطر:28].
وقال: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَالَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ [الزمر:9].
وأشهد أن محمداً عبده ورسوله القائل: (العلماء ورثة الأنبياء، وإن الأنبياء لم يورثوا درهماً ولا ديناراً، وإنما ورثوا العلم فمن أخذه فقد أخذ بحظ وافر)
وقال: (فضل العالم على العابد كفضل القمر على سائر الكواكب في ليلة البدر).
ثم أما بعد:
فيا أيها الإخوة الكرام الأحباب! هناك ظاهرة خطيرة جدير بنا أن نقف عندها طويلاً، ألا وهي استباحة لحوم العلماء، وهذه الظاهرة يقع فيها بشكل مباشر كما هو معلوم المنافقون والعلمانيون وأعداء الدين، ولكن الأمر الذي يستحق المواجهة هو أن تنزلق أقدام بعض طلبة العلم إلى هذه الظاهرة، فتجد طويلب علم يبدأ بالمرحلة الأولى، وأول ما يبدأ يبدأ بتجريح العلماء، والتحذير من بعضهم، وعرض زلاتهم على الناس، ثم يتطور الأمر فيجرح أهل بيته وزوجته وأولاده، وهذا يعني أنه لا يريد بيان الحق وإنما يريد التجريح، ولأن المسألة خطيرة لاسيما في شباب الصحوة أو في بعضهم آثرت أن يكون هذا الموضوع: اللحوم المسمومة.
فهل رأيتم عاقلاً يتجرع لحماً مسموماً بيده؟ اسمعوا إلى قول الحافظ ابن عساكر رحمه الله، قال: اعلم أخي وفقني الله وإياك لمرضاته وجعلني وإياك ممن يخشاه ويتقه حق تقاته أن لحوم العلماء مسمومة، وعادة الله في هتك أستار منتقصيهم معلومة، وأن من أطلق لسانه في العلماء بالثلب ابتلاه الله قبل موته بموت القلب. وحدثوني عمن وقع في شيخ الإسلام ابن تيمية أو من جلد الإمام أحمد هل يعرفه الناس إلا نكرة في التاريخ، ولذلك من تتبع زلات العلماء وعرض بهم فتنه الله سبحانه وتعالى في دينه، ثم أمات قلبه قبل موته. ولأن هذه الظاهرة تقع من بعض الناس بفعل بيان الحق فلابد أن نفرق بين أمرين: بيان الحق والتجريح، وهذا أمر مهم، وسأذكر أمثلة من واقعنا المؤلم الآن على هذه الظاهرة، وأنا لا أقصد أحداً بعينه، وإنما الكلام عام.
لقد اخترت هذا الموضوع لأسباب، وهي:
أولاً: لمكانة العلماء في الإسلام، فالمتتبع للآيات القرآنية وللنصوص النبوية يجد أنها بينت أن للعلماء منزلة، فلقد أثنى الله سبحانه وتعالى على العلماء في كتابه، كما بين النبي صلى الله عليه وسلم منزلة العلماء، ولذلك قالوا: إن أعراض العلماء حفرة من حفر النار، فعندما تنتهك عرض العالم وتنهشه فإنما تقذف بنفسك في حفرة من حفر النار.
ثانياً: لتساهل الكثير في تلك الظاهرة.
ثالثاً: إن بعض طلاب العلم لا يدركون خطورة هذه القضية.
رابعاً: عدم الفهم الصحيح لتلك القضية، فهم يخلطون بين بيان الحق وبين جرح العالم. وقد سألني أخ فاضل في الباب أنه سمع لشيخ أشرطته منتشرة أنه قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم على لسان الله -هذا في الشريط- فأثبت لله صفة اللسان، وهذا لا يجوز، وهو يخالف منهج أهل السنة، وأراد أن يقول اسم الشيخ، فقلت: لا تقل، إنما نبين الحق، ثم نتصل بالشيخ ونبين له أن هناك خطأ في الشريط الذي يحمل هذا العنوان، فإما أن تصححه، وإما أن تسحب الشريط من السوق، وإما أن تتصل بالشركة التي سوقته وتصحح هذا الخطأ، وإما أن تعتلي المنبر وتقول: هذه زلة لسان، ولاسيما أن هذا الداعية يعرف بأنه سلفي العقيدة، فلما تحدثنا مع بعض الإخوان من العلماء قالوا: لا يمكن أن يكون قد قصدها، وإنما هي سبق لسان، وبعض الناس يأخذ هذا السبق ويشهر به، ثم يحذر من اقتناء أشرطته، ويقول: إن هذا الرجل ليس على منهج السلف، وقد خرج عن الطريق، نعم أخطأ لا شك، ومن منا لم يخطئ؟ ولكن هل تعمد الخطأ؟ وهل روجع فيه؟
وهناك الآن من يلتمس هذه الأخطاء وينفخ فيها ويهولها، وبسبب هذا المنهج ضاع الكثير، فيقول مثلاً: الحافظ ابن حجر مؤول لبعض الصفات، وهذا صحيح، وفي شرحه فتح الباري أول بعض الصفات، وعلق على تأويله شيخنا العلامة ابن باز رحمه الله على الهامش، وليس معنى ذلك أنني لا أقتني فتح الباري بحجة أن الحافظ مؤول، أو شرح مسلم للإمام النووي ، أو بعض العلماء الذين زلوا في بعض المسائل، وبعض الناس يحذر منهم، فالمفروض أن الحكمة ضالة المؤمن، وحينما أستشهد بقول صحيح وهو لأهل البدع وموافق لمنهج السلف أقول في الهامش: وصاحب هذا القول أشعري المذهب، حاد عن الصواب في كذا، أو وهو مرجئ في مسألة كذا، غفر الله له. فالنقل يكون مع التبيين، وعندما أقول لطلبتي: لا تقرأ لهذا ولا لهذا ولا تسمع لهذا فمن نسمع؟ فهؤلاء علماء الأمة وهم يعدون على أصابع اليد الواحدة، فهذا المنهج ضيع علينا الكثير والكثير. وقد سألني بعض الإخوة: ما تقول في الشيخ فلان؟ قلت: رجل يبلغ دعوة الله، إن أخطأ بين خطؤه دون تجريح.
وهناك مدرسة تعظم الرجال، وتأخذ أقوال علمائها مسلمة، وتعلقها على الجدران، قال فلان كذا، وتقدس أقواله، وإذا تكلم أحد على أقوالهم تقوم الدنيا ولا تقعد، فهم يعظمون الرجال، ومنهج أهل السنة أنهم لا يعرفون الحق بالرجال، وإنما يعرفون الرجال بالحق. هذه الأسباب التي دفعتني لاختيار هذا الموضوع.
يقول النبي صلى الله عليه وسلم في الحديث المتفق على صحته: (من ضمن لي ما بين لحييه وفخذيه ضمنت له الجنة). والكثير منا يضمن ما بين فخذيه، ولكن من منا يضمن ما بين لحييه؟ يقول ابن القيم رحمه الله: كم من زاهد ورع متنسك عابد يصلي ويصوم ويسبح ويخشى الله إلا أنه لا يمر عليه يوم إلا زل لسانه في قدح أعراض الناس وفي تتبع عوراتهم وفي متابعة أخبارهم. ولهذا قال صلى الله عليه وسلم لـمعاذ : (وهل يكب الناس في النار على وجوههم إلا حصائد ألسنتهم). فهذا اللسان على صغر حجمه خطره كبير جداً، وإذا راقبت ما تقوله في اليوم والليلة وقيدت ما تتحدث به فستجد أنك تترك للسانك الحرية في تتبع العثرات.
قال الإمام الشافعي : العلماء هم الأولياء، والله يقول: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب). وإمام أهل السنة ابن حنبل يروى أنه كان متكئاً من مرض، يعني: يجلس متكئاً، فذكر عنده عالم من العلماء فجلس واعتدل وقال: لا ينبغي أن يذكر عندنا العلماء وأنا جالس هذه الجلسة، فكان متأدباً حتى في غياب العلماء. وقد قال محمد بن سيرين : علم بلا أدب كالنار بلا حطب. ولننظر إلى حال طلبة العلم من السلف مع علمائهم حتى نتعلم الكثير من الأدب.
أسباب هذه الظاهرة متعددة، منها:
السبب الأول: الغيرة، فهذا العالم يحضر له الآلاف، وهذا يحضر له عشرات، وإن زادوا عن العشرة فالحمد لله، فيبدأ يغار. وكما قال العلماء: إن العلماء يغارون من بعضهم، ويتناطحون كما تتناطح البهائم في زرائبها.
ولذلك فكلام الذين يتكلمون في بعضهم نسميه كلام الأقران، والقرين يعني: المعاصر، فتأخذ كلامه في قرينه بحذر، فكلام الأقران يطوى ولا يروى.
السبب الثاني: الحسد.
السبب الثالث: الهوى.
السبب الرابع: التقليد، فتجد أحد الناس يقول لك: لا تسمع لفلان، فإذا قلت له: هل سمعته؟ يقول: لا، أخبرني فلان أنه يقول كذا، فيقلد من ينقله له، وكثير من طلبة العلم لا يضبط السماع، ولا يسمع بتركيز، ويسمع ما يهوى أن يسمع، فينقل للعالم أقوالاً ما قالها، وينقل الثاني والثالث، ثم إن الدائرة تتسع، وإذا رجعت إلى العالم يقول: والله ما قلت، ويكون المصدر قد سمع خطأ، فالواجب عليك أن تراجع.
السبب الخامس: التعصب الأعمى الذي أضاعنا وأضاع الأمة، وأخطر جماعة الآن على الساحة هي الجماعة الحزبية التي تحزب أفرادها، فهم حزب واحد لا يسمعون إلا لبعضهم البعض، ويقدحون في علمائنا، فهذه الجماعة التي تدعو إلى الحزبية البغيضة هي أخطر على الأمة من أي شيء؛ لأنها تطعن في وحدة الأمة، ونحن جميعاً سواء، فتجد أحدهم يمشي ويقول: أنا أنصاري، أنا تبليغي، أنا سلفي، ثم يعقد جماعة وبيعة تحت الأرض ويقيم أسراً بالليل أو بالنهار، فيا عبد الله! أعلن عن نفسك، وليكن كلامك عاماً أمام الجميع، وأما أن تتكلم تحت الأرض فأنت حزبي ماكر، وهذا الكلام قد لا يعجب البعض. وكم عانينا في قرانا من هؤلاء، وتخيلوا أنهم مرة عند محاضرة لعالم سلفي فصلوا الميكرفون وقطعوا السلك، وفي محاضرة في بلد بجوار الزقازيق أتوا بسيارة ووضعوها أمام المسجد؛ ليرتفع صوتها؛ حتى لا يخرج صوت المحاضر، فهؤلاء ناس يبغضون علماء الأمة، ولا ينتمون إلا لعلمائهم، ولا يحضرون إلا دروس بعضهم بعضا، وإن كان العالم لا ينتمي إلى جماعتهم فلا يسمعون له، فهذه جماعة خبيثة، فلنحذر من التعصب الأعمى لمذهب أو لجماعة وصدق من قال: جماعة واحدة لا جماعات، وصراط واحد لا عشرات، فجماعتنا جماعة واحدة، وأما تعدد الجماعات والولاء والبراء على أساسها فليس من ديننا في شيء فالمسلمون كلهم جماعة واحدة، والعمل الجماعي مطلوب، ولكنه في النور وليس في الظلام، وعلى غير أسماء، والولاء والبراء في عقيدة السلف لله ولرسوله.
السبب السادس: التعالم، ومعنى التعالم: أن البعض يبدأ في طلب العلم ثم يظن أنه قد بلغ أقصاه.
ومنها كره الحق، ومنها مخططات الأعداء.
الأثر الأول: أن يرد الناس ما يقول من حق، فالمشركون حينما أردوا أن يطعنوا في الإسلام طعنوا في شخص النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا يعطيك مؤشراً خطيراً، فإذا أراد أحد أن يهدم دعوة فإنه لا يطعن في الدعوة ولا فيمن يحملها ويبلغها، فإذا أرادوا أن يصرفوا الناس عن العالم طعنوا فيه، وقالوا: هذا عميل للصهيونية أو هذا رجل آكل للحقوق، أو أنه في بيته كذا وكذا، ويطعنون في علمه.
الأثر الثاني: جرح العالم تجريحاً لميراث النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه يبلغ ميراث رسول الله صلى الله عليه وسلم.
الأثر الثالث: أن ينصرف طلاب العلم عن مجلسه، وهذا حدث عندنا في القاهرة، وهذا صد عن سبيل الله، وأقسم بالله أن بعض الجماعات الحزبية إذا حضر في لقاءاتنا منهم شخص شطب من الجماعة وحوصر حصاراً اجتماعياً؛ لأن هذا الذي يحاضر ليس من جماعتهم، وهو عميل لنظامهم، ثم يكيلون له التهم العديدة المبيتة والمعدة سلفاً. وإذا كان في بعض المحاضرات محاضرة لعالمهم بعد المتحدث الأول، فإنهم يجلسون في الطريق العام حتى ينتهي المتحدث الأول ثم يدخلون إلى محاضرهم، وهذه هي الحزبية البغيضة بعينها. وهؤلاء يتتبعون زلات العلماء، ويظلون يروجون لهذا وهذا، وقد قابلت بعضهم فإذا بهم قد انتكسوا على أعقابهم، ولابد أن ينتكسوا؛ لأنهم دخلوا في الطريق الخطأ، فإذا حدثك أحد عن عيوب عالم فقل له: أمسك لسانك واتق الله في نفسك، ولا تنجرف مع التيار، وهل أنت تريد أن تنصح العالم أم تريد أن تفضحه؟ فهناك فرق بين النصيحة وبين الفضيحة، فانصح ولا تنقل، وليس معنى ذلك أن نعظم أو نقدس أقوال العلماء، وأن لا نرد على المخطئ خطأه، فلا تفهموني بهذه الطريقة، وإنما نبين أن من قال كذا فقد جانبه الصواب، والحق كذا، ولكن برأفة ورحمة وعدم تجريح أو تعريض.
الأثر الرابع: تقليل هيبة العالم في نظر العامة، فحينما يجرح العالم يفقد الهيبة التي كان الناس يحملونها له في صدورهم.
علاج هذه الظاهرة منها ما يتوقف على العلماء ومنها ما يتوقف على طلاب العلم:
الواجب على العلماء لعلاج هذه الظاهرة
أولاً: يجب على العلماء أن يبتعدوا بأنفسهم عن مواطن الشبهات، ولذلك قالوا: زلة العالم مضروب لها الطبل، فينبغي على العالم أن يبتعد عن مواطن الشبهات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها
هذا هو الإسلام والدين يا عبد الله! لا أن يجلس أمام امرأة متبرجة ويحاضرها، فحاضرها عن الحجاب، وقل لها: شروط الحجاب ثمانية، فستقوم وتنصرف، وهنا قد يقول قائل: لابد أن يدخل لها أولاً حتى يأخذها، وأقول: أخاف أن تأخذه هي قبل أن يأخذها. فهذا العمل ترخيص للعلم الذي يحمله، وهذا الكلام نقد عام وليس تجريحاً لأحد، وإنما هو منهج نبينه، فينبغي على العالم أن يبتعد عن مواطن الشبهات تماماً؛ لأنه يحمل دعوة، وتحركاته محسوبة تماماً.
ثانياً: أن يعمل بعلمه، لا أن يقول على المنبر أو في التلفزيون: الدخان حرام حرمه الله وأدلة التحريم كذا، ثم بعد الخطبة يطلب سيجارة أو يتحدث عن اللحية وإعفائها وهو حالق لها، فكيف سيؤخذ كلامه؟ وكيف يتحدث عن أمر لا يقوم هو به؟ وكيف يتحدث عن وجوب صلاة الجماعة وهو يصلي منفرداً؟ هذا ممن قال الله في حقه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، فأين العقل؟
ثالثاً: أن يحذر من الاستدراج؛ لأن بعض الطلبة يضعون له السم في العسل، ويستدرجونه إلى ما يريدون، ويسترسلون أحياناً في السؤال، فليكن يقظاً منتبهاً، والبعض يعيد السؤال بشكل آخر حتى يزل العالم، وهدفه أن يحفر له حفرة ينزلق فيها.
رابعاً: أن لا يتعجل في الفتوى، بل يتريث ويدرس الموضوع والآثار المترتبة عليه وينظر إلى الواقع وإلى حال السائل، وهذا فهم عميق يحتاج إليه.
خامساً: أن يكون جريئاً في الحق، لا يخاف فيه لومة لائم، كالصحابة والتابعين، ومثل الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله تعالى في عصرنا، فقد خرج رئيس الجمهورية محمد نجيب يوماً وأعلن أمام الجمهور وفي التلفاز وفي كل الوسائل أنه سيصدر قانوناً يسوي فيه بين الذكر والأنثى في كل شيء، وهذا الكلام يعارض الشرع تماماً، فلما سمع الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله بهذا أرسل إليه قائلاً: إن لم تعتذر عما قلت علناً في الصحف والنشرات فسألبس كفني غداً وأذهب وكل من معي من العلماء إلى ميدان التحرير، فأرسلوا إليه يعتذرون سراً، فقال: لا أقبل إلا أن يكون الاعتذار أمام الناس جميعاً على صفحات الجرائد وفي الإذاعات المسموعة، فخرجت الصحف بالاعتذار، وأنها قد كذبت فيما قالت، وأن الصواب كذا، واعتذر محمد نجيب عما صرح به؛ لوقفة العالم الذي لا يتبع الهوى، ولا يصدر الفتوى حسب الطلب.
وفي عام 1989م صدرت الفتاوى بأن ختان الإناث مشروع في الكتاب والسنة، وفي عام 2003م صدرت بأن ختان الإناث غير مشروع أيضاً في الكتاب والسنة، وفي أول سنة 1998م صدرت الفتاوى بأن فوائد البنوك حرام بإجماع أهل العلم، وفي آخرها صدرت الفتاوى بأن فوائد البنوك حلال، فما هذا يا عبد الله؟ نسأل الله العافية. فيجب أن تحترم علمك ولا تخف في الله لومة لائم، وقل الحق ولا تخش إلا الله عز وجل، ولا تحافظ على مقعدك أو على مكسبك المادي، ولا تبع دينك بدنيا غيرك، واعلم أنك إن قلتها مت وإن لم تقلها مت، فقلها ومت يا عبد الله! فالحق أبلج والباطل لجلج، وإذا سئلت عن النقاب، فلا تقل: ليس له أصل في شرع الله، وهو عادة جاهلية، وأنت أستاذ في التفسير، تقرأ كتب التفسير وتعلم ما في ابن كثير والطبري ، فهل كان العلماء جهلة وأنت الذي تصحح لهم؟ فلابد للعالم أن يكون جريئاً.
ولما خرج مروان بن الحكم إلى صلاة العيد أخرج المنبر إلى المصلى، وهذا بدعة، فمن السنة أن يخطب الخطيب وهو واقف على الأرض، فلما رأى أبو سعيد المنبر في مصلى العيد ومروان بن الحكم يريد أن يعتلي المنبر ليخطب الناس أمسك به وقال: لقد غيرتم والذي نفسي بيده، يعني: يمسك ولي الأمر أمام الناس مراعاة للمصالح والمفاسد.
والعز بن عبد السلام سلطان العلماء لما خرج ولي الأمر يسير في الطريق العام والناس حوله قال له بصوت مرتفع: يا فلان! فقال: من المنادي؟ قال: أنا العز بن عبد السلام ، قال: ما تريد يا عز ؟! أمام جنوده وأمام الناس، قال: ما تقول لربك يوم القيامة إن سألك عن حانوت خمر كذا وبيت الدعارة في مكان كذا؟ وظل يعدد له أماكن الفواحش، فقال: أوذلك في ملكي يا عز ؟! قال: نعم، هذا عندك، قال: يا عز ! إنا وجدنا آباءنا على أمة، وهذا ميراث ورثناه، قال: إذاً: أنت من عبدة الأصنام الذين يقلدون الآباء والأجداد، ورد عليه، فأصدر ولي الأمر قراراً بتتبع هذه الأماكن وإغلاقها، وعاد العز إلى مجلس علمه، فجلس بين تلامذته فقام له تلميذ وقال له: يا إمام! أما خفت وأنت تحدث السلطان أن يبطش بك، قال: يا بني! لقد تذكرت عظمة الله فبدا بين عيني كأنه عصفور صغير.
وفي بعض البرامج التي يستضاف فيها علماء الأمة، تأتي امرأة تقدم البرنامج وبعض العلماء يجلس أمامها وهي تفتح صدرها وتلبس بنطالاً وتظهر عورتها، وتسأله: يا فضيلة الشيخ! ما رأيك في مسألة كذا، وإذا نظر العوام إلى هذه البرامج يقولون: لو كان هذا حراماً لما جلس الشيخ بين يديها، فيأخذون من جلوسه إقراراً على إباحة هذا الفعل، فاحترم علمك يا عبد الله! فإما أن يزول المنكر وإما أن تزول أنت عن المنكر، ولا يكن هدفك الظهور في الفضائيات والقناة الأولى والثانية والثالثة؛ حتى يشار إليك، فلن ينفعك هذا يوم القيامة فاتق الله في نفسك، وكن على الجادة.
الواجب على طلبة العلم تجاه هذه الظاهرة
أولاً: أن يفرقوا بين التجريح الشخصي وبين إظهار الحق، فإظهار الحق لا بأس به، ولكن بدون تجريح، فالفرق بين هذا وهذا كبير.
ثانياً: أن يجلوا العلماء ويحترموهم ويعرفوا لهم قدرهم ويتقوا الله فيهم. وقد كان الصحابي يأتي إلى بيت صحابي آخر ليسأله عن مسألة علمية فإذا وجده نائماً جلس على باب داره ينتظره حتى يخرج إليه، ولا يقلق راحة شيخه، وإنما كانوا على أدب جم في الطلب، ويوم أن ضاع هذا الأدب ضاعت هيبة العلماء وحدث ما ترونه الآن.
فظاهرة استباحة لحوم العلماء ظاهرة خطيرة، الأمر الذي دفع بعض علمائنا إلى أن يؤلف كتباً في هذه الظاهرة، ومنها لحوم العلماء مسمومة للدكتور ناصر العمر حفظه الله تعالى، والدكتور بكر أبو زيد له كتاب موقف علماء الأمة من الوقيعة في علماء الأمة، وكذلك الشيخ المقدم وغيره من علماء الأمة الذين صنفوا في هذه الظاهرة.
فإياك إياك أن تنجر إلى هذه الظاهرة، وتحذر من علماء الأمة، ولكن حث الناس على طلب العلم. وبين الحق دون جرح، ودون غيبة أو نميمة.
أسأل الله سبحانه أن يطهر ألسنتنا، وأن يرزقنا علماً نافعاً وقلباً خاشعاً.
فأما ما يتوقف على العلماء:
أولاً: يجب على العلماء أن يبتعدوا بأنفسهم عن مواطن الشبهات، ولذلك قالوا: زلة العالم مضروب لها الطبل، فينبغي على العالم أن يبتعد عن مواطن الشبهات، ولذلك قال صلى الله عليه وسلم: (على رسلكما إنها
هذا هو الإسلام والدين يا عبد الله! لا أن يجلس أمام امرأة متبرجة ويحاضرها، فحاضرها عن الحجاب، وقل لها: شروط الحجاب ثمانية، فستقوم وتنصرف، وهنا قد يقول قائل: لابد أن يدخل لها أولاً حتى يأخذها، وأقول: أخاف أن تأخذه هي قبل أن يأخذها. فهذا العمل ترخيص للعلم الذي يحمله، وهذا الكلام نقد عام وليس تجريحاً لأحد، وإنما هو منهج نبينه، فينبغي على العالم أن يبتعد عن مواطن الشبهات تماماً؛ لأنه يحمل دعوة، وتحركاته محسوبة تماماً.
ثانياً: أن يعمل بعلمه، لا أن يقول على المنبر أو في التلفزيون: الدخان حرام حرمه الله وأدلة التحريم كذا، ثم بعد الخطبة يطلب سيجارة أو يتحدث عن اللحية وإعفائها وهو حالق لها، فكيف سيؤخذ كلامه؟ وكيف يتحدث عن أمر لا يقوم هو به؟ وكيف يتحدث عن وجوب صلاة الجماعة وهو يصلي منفرداً؟ هذا ممن قال الله في حقه: أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنسَوْنَ أَنفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلا تَعْقِلُونَ [البقرة:44]، فأين العقل؟
ثالثاً: أن يحذر من الاستدراج؛ لأن بعض الطلبة يضعون له السم في العسل، ويستدرجونه إلى ما يريدون، ويسترسلون أحياناً في السؤال، فليكن يقظاً منتبهاً، والبعض يعيد السؤال بشكل آخر حتى يزل العالم، وهدفه أن يحفر له حفرة ينزلق فيها.
رابعاً: أن لا يتعجل في الفتوى، بل يتريث ويدرس الموضوع والآثار المترتبة عليه وينظر إلى الواقع وإلى حال السائل، وهذا فهم عميق يحتاج إليه.
خامساً: أن يكون جريئاً في الحق، لا يخاف فيه لومة لائم، كالصحابة والتابعين، ومثل الشيخ محمد الخضر حسين شيخ الأزهر الأسبق رحمه الله تعالى في عصرنا، فقد خرج رئيس الجمهورية محمد نجيب يوماً وأعلن أمام الجمهور وفي التلفاز وفي كل الوسائل أنه سيصدر قانوناً يسوي فيه بين الذكر والأنثى في كل شيء، وهذا الكلام يعارض الشرع تماماً، فلما سمع الشيخ محمد الخضر حسين رحمه الله بهذا أرسل إليه قائلاً: إن لم تعتذر عما قلت علناً في الصحف والنشرات فسألبس كفني غداً وأذهب وكل من معي من العلماء إلى ميدان التحرير، فأرسلوا إليه يعتذرون سراً، فقال: لا أقبل إلا أن يكون الاعتذار أمام الناس جميعاً على صفحات الجرائد وفي الإذاعات المسموعة، فخرجت الصحف بالاعتذار، وأنها قد كذبت فيما قالت، وأن الصواب كذا، واعتذر محمد نجيب عما صرح به؛ لوقفة العالم الذي لا يتبع الهوى، ولا يصدر الفتوى حسب الطلب.
وفي عام 1989م صدرت الفتاوى بأن ختان الإناث مشروع في الكتاب والسنة، وفي عام 2003م صدرت بأن ختان الإناث غير مشروع أيضاً في الكتاب والسنة، وفي أول سنة 1998م صدرت الفتاوى بأن فوائد البنوك حرام بإجماع أهل العلم، وفي آخرها صدرت الفتاوى بأن فوائد البنوك حلال، فما هذا يا عبد الله؟ نسأل الله العافية. فيجب أن تحترم علمك ولا تخف في الله لومة لائم، وقل الحق ولا تخش إلا الله عز وجل، ولا تحافظ على مقعدك أو على مكسبك المادي، ولا تبع دينك بدنيا غيرك، واعلم أنك إن قلتها مت وإن لم تقلها مت، فقلها ومت يا عبد الله! فالحق أبلج والباطل لجلج، وإذا سئلت عن النقاب، فلا تقل: ليس له أصل في شرع الله، وهو عادة جاهلية، وأنت أستاذ في التفسير، تقرأ كتب التفسير وتعلم ما في ابن كثير والطبري ، فهل كان العلماء جهلة وأنت الذي تصحح لهم؟ فلابد للعالم أن يكون جريئاً.
ولما خرج مروان بن الحكم إلى صلاة العيد أخرج المنبر إلى المصلى، وهذا بدعة، فمن السنة أن يخطب الخطيب وهو واقف على الأرض، فلما رأى أبو سعيد المنبر في مصلى العيد ومروان بن الحكم يريد أن يعتلي المنبر ليخطب الناس أمسك به وقال: لقد غيرتم والذي نفسي بيده، يعني: يمسك ولي الأمر أمام الناس مراعاة للمصالح والمفاسد.
والعز بن عبد السلام سلطان العلماء لما خرج ولي الأمر يسير في الطريق العام والناس حوله قال له بصوت مرتفع: يا فلان! فقال: من المنادي؟ قال: أنا العز بن عبد السلام ، قال: ما تريد يا عز ؟! أمام جنوده وأمام الناس، قال: ما تقول لربك يوم القيامة إن سألك عن حانوت خمر كذا وبيت الدعارة في مكان كذا؟ وظل يعدد له أماكن الفواحش، فقال: أوذلك في ملكي يا عز ؟! قال: نعم، هذا عندك، قال: يا عز ! إنا وجدنا آباءنا على أمة، وهذا ميراث ورثناه، قال: إذاً: أنت من عبدة الأصنام الذين يقلدون الآباء والأجداد، ورد عليه، فأصدر ولي الأمر قراراً بتتبع هذه الأماكن وإغلاقها، وعاد العز إلى مجلس علمه، فجلس بين تلامذته فقام له تلميذ وقال له: يا إمام! أما خفت وأنت تحدث السلطان أن يبطش بك، قال: يا بني! لقد تذكرت عظمة الله فبدا بين عيني كأنه عصفور صغير.
وفي بعض البرامج التي يستضاف فيها علماء الأمة، تأتي امرأة تقدم البرنامج وبعض العلماء يجلس أمامها وهي تفتح صدرها وتلبس بنطالاً وتظهر عورتها، وتسأله: يا فضيلة الشيخ! ما رأيك في مسألة كذا، وإذا نظر العوام إلى هذه البرامج يقولون: لو كان هذا حراماً لما جلس الشيخ بين يديها، فيأخذون من جلوسه إقراراً على إباحة هذا الفعل، فاحترم علمك يا عبد الله! فإما أن يزول المنكر وإما أن تزول أنت عن المنكر، ولا يكن هدفك الظهور في الفضائيات والقناة الأولى والثانية والثالثة؛ حتى يشار إليك، فلن ينفعك هذا يوم القيامة فاتق الله في نفسك، وكن على الجادة.
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
التاريخ الأسود لليهود | 2409 استماع |
الوقت وحرص الصالحين عليه | 2395 استماع |
الرحلة في طلب العلم | 2337 استماع |
فاصبر صبراً جميلاً | 2275 استماع |
وثيقة حرمات لا حدود | 2257 استماع |
استكمال تفسير سورة الحاقة 2 | 2226 استماع |
وقفة مع سورة الإنسان | 2219 استماع |
إنا بلوناهم | 2099 استماع |
ذرني ومن يكذب بهذا الحديث | 2059 استماع |
بناء البيت .. دروس وعبر | 2011 استماع |