شرح زاد المستقنع باب صلاة الاستسقاء


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فيقول المصنف رحمه الله: [باب صلاة الاستسقاء].

الاستسقاء: مأخوذ من السقي، والألف والسين والتاء للطلب، كقولهم: استغفر إذا سأل الله أن يغفر له، واسترحم إذا سأل الرحمة من الله عز وجل، والاستسقاء: هو طلب السقيا من الله عز وجل.

ومناسبة هذا الباب لما تقدم أنه بعد فراغه من صلاة الرهبة، وهي الصلاة التي تشرع عند رؤية كسوف القمر والشمس أو خسوفهما ناسب أن يتكلم رحمه الله على صلاة الرغبة، وهي التي يسأل فيها العباد ربهم أن يسقيهم الغيث والحياة، فناسب أن يتكلم رحمه الله على هذه الصلاة بعد ذكره لأحكام الكسوف.

وهذه الصلاة مشروعة لعموم الأدلة التي أمرت بالتضرع عند نزول البلاء وندبت إليه، كقوله سبحانه وتعالى: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] أي: فهلا إذا جاءهم بأسنا تضرعوا، فتشرع هذه الصلاة عند حصول الضيق بالناس بسبب ما كان منهم من الذنوب والمعاصي، فيتأخر عنهم القطر من السماء، ويعظم حالهم، وتشتد عليهم المئونة بسبب غور الآبار، وذهاب المياه من العيون، وانقطاع السيول والأنهار، والناس يحتاجون إلى هذه الأمور -أعني الآبار والأنهار- للشرب ولسقي الدواب، ولكي يقيموا عليها مصالحهم من زرع وحرث وماشية ونحو ذلك، فإذا انقطع القطر من السماء تضرر الناس وعظم بلاؤهم بذلك، فشرعت هذه الصلاة؛ لأن الحالة حالة شدة، والله يقول: فَلَوْلا إِذْ جَاءَهُمْ بَأْسُنَا تَضَرَّعُوا [الأنعام:43] فهي حالة شدة وبأس، فيشرع أن يتضرعوا ويسألوا الله رحمته ومن واسع فضله، وقد فعلها رسول الله صلى الله عليه وسلم، وذكر ابن حبان وغيره من العلماء رحمهم الله تعالى: أن استسقاءه عليه الصلاة والسلام وقع سنة ست من الهجرة، وذلك في شهر رمضان، فاستسقى عليه الصلاة والسلام بالمسلمين حينما شكى إليه المسلمون تأخّر الغيث، وكذلك تضررهم بالجدب، فشرعت هذه الصلاة بفعله عليه الصلاة والسلام، ولها أحكام ومسائل.

ومن ثم اعتنى الفقهاء رحمهم الله بذكرها في كتاب الصلاة؛ لأنه يشرع أن يصلى لها، وقد أجمع العلماء رحمهم الله على أن صلاة الاستسقاء تكون ركعتين، إلا خلافاً ممن لا يعتد بخلافه من أهل البدع والأهواء، حيث قالوا: إنها أربع ركعات. وأما مذهب السلف والخلف فهو أنها ركعتان لثبوت السنة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم بفعلهما دون زيادة عليهما.

قال المصنف رحمه الله: [إذا أجدبت الأرض وقحط المطر صلوها جماعة وفرادى].

الناس يتضررون بتأخر السقيا، وهذا الضرر قد يكون في النفس وقد يكون في غيرها.

أما الضرر في النفس فأشد ما يحدث في البوادي ونحوها، حيث تغور المياه في الآبار، وتنقطع السيول والأنهار، وتجف العيون ويذهب ماؤها، فتعظم عليهم الكلفة في حفر الآبار، وقد يقومون بحفرها دون أن يجدوا الماء، فحينئذٍ يتضررون بمشقة السقيا والكلفة التي يجدونها بعدم تيسر الوصول إلى الماء، فهذا النوع من الأسباب مما تشرع له صلاة الاستسقاء، فلو كان أهل محلة أو موضع تضرروا بسبب غور آبارهم وذهاب المياه من العيون وانقطاع السيول عنهم شرع لهم أن يصلوا صلاة الاستسقاء.

وأما الضرر في غير النفس فهو الذي يقع على البساتين والزروع والمراعي، فإن الدواب -كما هو معلوم- تحتاج إلى الرعي، والمراعي تعين على صلاح الدواب والبهائم، فإذا أجدبت الأرض وبعد العهد بالمطر انقطع الكلأ إما للجفاف بسبب القحط وشدة السنين، وإما أن يكون بسبب قلة المرعى لندرة المطر، فحينئذٍ تتضرر الدواب، وإذا تضررت الدواب تضرر الناس بتضرر دوابهم، وكذلك تتضرر الزروع والبساتين، فلربما جفت وماتت، حتى إن بعض الزروع لو أصابت الماء من عروقها قد تصيبها أمراض في أوراقها، ولا يزيل هذه الأمراض إلا الله جل جلاله حينما ينزل الغيث الذي يغسل أوراق هذه الأشجار، فلو سقيت الماء من جذورها فإنها تحتاج إلى هذا الغيث الذي سماه الله عز وجل ووصفه بكونه رحمة، فمن رحمته سبحانه وتعالى أن يجعل هذا الخير للزروع، فإذا انقطع القطر من السماء تضرروا، فتضررت الزروع وماتت -على الأقل- تضرروا بقلة ما يكون من هذه الزروع لقلة الماء، فسواءٌ تضرروا بانقطاع الماء الذي يشربون، أم تضرروا بقلة المرعى، أم تضرروا بهما معاً، فكل ذلك مما تشرع له صلاة الاستسقاء.

وبناءً على ذلك، فلو كانت أحوال الناس دون الحالة التي فيها الكفاية، بمعنى أنه نزل عليهم الغيث ولكن نزوله لم يكن بصورة تحيي الأرض حياة ينتفع بها الناس انتفاعاً يحصل به الاكتفاء على وجه التمام والكمال، فقد قال بعض العلماء: يشرع لهم أيضاً أن يصلوا صلاة الاستسقاء.

فعلى هذا القول لا يتوقف حكمنا بمشروعية صلاة الاستسقاء على حالة شدة الجدب الشديدة، ولا على حالة شدة القحط، فلو كان هناك نوع جدب فيه نوع ضرر يشرع أيضاً أن يصلوا صلاة الاستسقاء، فلو كان الماء موجوداً ولكنه بقلة، أو كان المرعى موجوداً ولكنه بقلة فإنه يشرع حينئذٍ أن يستسقوا.

فالحالة الأولى التي يشرع لها الاستسقاء: إذا أجدبت الأرض وقحط المطر كما نص المصنف.

والحالة الثانية: أن يكون الماء موجوداً ولكنه لا يكفي لسد الحاجة.

والحالة الثالثة: أن يستسقوا فلا يسقون، فيشرع لهم أن يكرروا الاستسقاء مرة ثانية، ويسألوا الله العظيم أن يرحمهم، ولو تكرر ذلك عشرات المرات فلا حرج؛ لأنه داخل في عموم الندب إلى التضرع وسؤال الله الرحمة.

قوله: [صلوها جماعة وفرادى].

مذهب العلماء رحمة الله عليهم -ويكاد يكون مذهب الجماهير- أن صلاة الاستسقاء سنة مؤكدة، وقال بعض العلماء: إنها مستحبة. والنصوص دالة على تأكد هذه السنة، ويقوم الإمام بالاستسقاء عند رؤية أحوال الناس أو شكواهم.

والاستسقاء على ثلاثة أنوع:

النوع الأول: أن يكون بالصلاة مع الجماعة، وهذا هو الذي يعتني العلماء رحمهم الله ببيان أحكامه ومسائله في الغالب، وهو الذي ينصبّ عليه الحديث في باب صلاة الاستسقاء.

النوع الثاني من الاستسقاء: الاستسقاء من الأفراد، وذلك أن يستسقي الإنسان وحده، كأن يكون صاحب مزرعة، أو صاحب دواب ويتضرر بعدم وجود الكلأ، فيصلي ويسأل الله عز وجل، ولكن على غير صفة صلاة الاستسقاء، وإنما يصلي صلاة مطلقة يسأل الله عز وجل فيها من فضله، ويتضرع إلى الله سبحانه وتعالى، فهذا استسقاء من الأفراد.

النوع الثالث من الاستسقاء: الاستسقاء في صلاة الجمعة، وهذا ثابت عن النبي صلى الله عليه وسلم، ففي الصحيحين من حديث أنس بن مالك رضي الله عنه وأرضاه: (أن رجلاً من الأعراب دخل على رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: يا رسول الله! ادع الله أن يغيثنا وفي رواية: أنه اشتكى الجهد واللأواء التي هم فيها، وفي بعض الروايات أنه وصف شدة الجدب إلى درجة أن الدابة لا يتحرك لها ذيل من شدة ما هي فيه من الإعياء والنصب، فلما اشتكى لرسول الله صلى الله عليه وسلم رفع رسول الله صلى الله عليه وسلم كفيه حتى رئي بياض إبطيه، وقال: (اللهم أغثنا. اللهم أغثنا. اللهم أغثنا) قال أنس : فوالله ما في السماء من سحابة ولا قزعة، حتى خرجت من وراء سلع كالترس -يعني السحابة- فأمطرتنا سبتاً. وقد جاء في هذا الحديث أنهم لم يروا الشمس بسبب المطر، وما جاء قوم من ناحية إلا وذكروا الحياة والمطر وأنهم سقوا، قال: فلما كانت الجمعة الثانية دخل الرجل فاستقبل رسول الله صلى الله عليه وسلم وقال: يا رسول الله! هلكت الأموال وانقطعت السبل! فقال عليه الصلاة والسلام: (اللهم حوالينا ولا علينا اللهم على الضراب والآكام وبطون الأودية ومنابت الشجر)، وفي رواية: أنه ما أشار إلى جهة إلا تفرق السحاب عنها، وهذا من معجزاته صلوات الله وسلامه عليه.

فالمقصود: أن الاستسقاء ثلاثة أنواع:

النوع الأول: الاستسقاء جماعة، وذلك بالصلاة كما سيصفه المصنف رحمه الله.

النوع الثاني: الاستسقاء فرادى، بأن يدعو الإنسان، فالإنسان لو كان جالساً في مزرعته، أو بين دوابه وبهائمه، ونظر إلى شدة ما هو فيه، وتذكر ذنوبه وإساءته في جنب ربه فرفع كفه إلى الله يسأله أن يغيثه ويرحمه فهذا مشروع ولا حرج فيه، ولو صلى وسأل الله عز وجل في صلاته واسترحم ربه فإنه لا حرج عليه في ذلك؛ لأنه داخل في عموم التضرع، لكنه لا يصلي صلاة الاستسقاء بصفتها إذا كان منفرداً، وإنما يصلي صلاة مطلقة لعموم حديث عائشة : (كان إذا حزبه أمر فزع إلى الصلاة) ، وقد ندب الله عز وجل المبتلى للصلاة عند حصول البلاء، فقال سبحانه: وَاسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَالصَّلاةِ [البقرة:45] ، فلذلك لا حرج أن يدعو.

النوع الثالث: الاستسقاء يوم الجمعة، ويكون الاستسقاء يوم الجمعة من الخطيب إذا اشتكى إليه الناس، أو رأى هو ما بهم وأحسّ بحاجتهم، فإنه يستغيث ويسأل الله العظيم من فضله.

وقول المصنف: (إذا أجدبت الأرض) كأنه يشير به إلى الوقت الذي يكون فيه الاستسقاء، وبناءً على ذلك فإن الزمان الذي يقع فيه الاستسقاء هو وقت حصول المشقة والحاجة من الناس، حتى ولو كان ذلك في الصيف، فإن رحمة الله واسعة، والذي ينزل الغيث في مواسمه قادر على أن ينزله في غير مواسمه، فقد قال تعالى: وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [المائدة:120]، وقد قال تعالى: إِنَّمَا أَمْرُهُ إِذَا أَرَادَ شَيْئًا أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ * فَسُبْحَانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْءٍ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [يس:82-83] .

وقتها

السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها أنه: (خرج حينما بدا حاجب الشمس)، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يستحب أن تكون صلاة الاستسقاء في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح.

فقولها رضي الله عنها: (بدا حاجب الشمس)، تعبير يشير إلى ظهور ضوء الشمس، والحاجب هو الضوء، وإنما عبروا به لأن الضوء من الشمس يحجب الشمس، فأنت إذا رأيت الشمس مشرقة متوهجة بضوئها لا تستطيع أن ترى نفس الشمس؛ لأنه يحجبها عنك من شدة توهجه، ولذلك يقولون: حاجب الشمس. أي: الذي يحجب الشمس من ضوئها.

فخرج عليه الصلاة والسلام، وكان قد وعد الناس بالخروج، وهذا من السنة كما سيأتي، فيخرج ويكون وقوعها في وقت الضحى، ويصلي بعد انتهاء وقت النهي، ووقت النهي يبدأ من بعد صلاة الصبح وينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح، أما أثناء طلوع الشمس أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس فإنها لا تصلى قولاً واحداً عند العلماء، حتى حكي الإجماع على عدم مشروعية إيقاع صلاة الاستسقاء في أوقات الكراهة، فليس بمشروع أن يوقعها في هذا الوقت مع أن لها وجهاً وهو كونها من الصلوات ذوات الأسباب، لكنه لما كان الأمر فيه نوع تأسٍ واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع.

وأما آخر وقتها فبعض العلماء يقول: صلاة الاستسقاء جماعة تصح في الليل والنهار، ولا حرج أن يصلوا في الليل أو في النهار، أو في أي وقت إلا أوقات الكراهة. فهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.

وهذا المذهب لا يخلو من نظر؛ إذ لو كانت تصلى في أي وقت لالتمس عليه الصلاة والسلام وقت السحر، إلا أن بعض العلماء أجاب عن هذا الاعتراض وقال: إن وقت السحر يشق على الناس، خاصة وأن أكثرهم نائمون. لكن أجيب بأن هذه المشقة مقدور عليها؛ لأنها صلاة في يوم معين، فلا مانع أن يكلفوا بها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يندب الناس إلى إحياء العشر الأواخر، وهو يندب بذلك عامة الأمة.

ومهما يكن فهذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه لو كان فعلها في الليل مشروعاً لفعلها عليه الصلاة والسلام، ولو قلنا: إن فعلها في السحر فيه مشقة، فإنه لا مانع أن يفعلها بين العشاءين، وهذا أرفق وأخف بكثير على الناس، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يتقصد أول النهار لا شك أنه هو الأولى والأحرى، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينتهي وقتها بالزوال كالعيد، وهذا هو الأشبه، ولذلك نجد الصحابة يلحقون صلاة الاستسقاء بصلاة العيد.

كيفيتها وحال الخارج لها

قال رحمه الله تعالى: [وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد].

ينبغي لمن خرج لصلاة الاستسقاء أن يخرج من بيته خاشعاً متخشعاً متبذلاً متذللاً متواضعاً متضرعاً؛ لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً متخشعاً متذللاً متواضعاً متضرعاً)، فهذه هي السنة في الخروج.

ومعنى خروجه خاشعاً: أن لا يدمن الالتفات يمنة أو يسرة، وإنما يكون عليه الخشوع والوقار، والتبذل: مأخوذ من البذلة، وهي الثياب التي ليس لها شأن، بمعنى أنه لم يعتن بجميل الثياب، بخلاف العيد، فإن السنة أن يلبس له أحسن ما يجد وأن يتجمل؛ لأنه يوم عز للإسلام، ولكن يوم الاستسقاء يوم ضراعة واستكانة وفاقة وحاجة واسترحام واستغفار وسؤال الله الحلم والعفو، فلذلك شرع له أن يظهر بحالة تناسب المقام.

قالوا: تكون ثيابه غير مبالغ فيها. لكن لا يمنع هذا أن يكون نظيفاً، فلا يخرج وهو نتن الرائحة، خاصة إذا كان مأموماً؛ لأنه يؤذي الناس، واجتماع الناس بعضهم مع بعض قد تؤذيهم بسببه الروائح الكريهة، ولذلك يشرع له أن يخرج بثياب ليست بذات الشأن، وأيضاً لا يبالغ في الطيب والتزين، وكذلك لا يبالغ في رفاهية الثياب.

ثم إذا انتهى إلى المصلى فإن للعلماء قولين:

قال بعض العلماء: يبتدئ بالخطبة والدعاء قبل الصلاة. وهذا فيه حديث مسلم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ثم دعا ثم صلى) .

وقال بعضهم: يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، فإذا صلى بالناس صلاة الاستسقاء رقى المنبر ثم خطب ودعا.

وهذا القول الثاني هو الأقوى؛ لأنه يؤيده حديث عائشة وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع.

وحديث عبد الله بن زيد أُجيب عنه -كما اختاره بعض المحققين، ويميل إليه الحافظ ابن حجر- بأن الأحاديث التي ذكرت الدعاء قبل الصلاة لا تعارض الأحاديث التي ذكرت الخطبة بعد الصلاة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعاء وضراعة حتى انتهى إلى المصلى، فمن رأى ضراعته ودعاءه قال: إنه خطب. وذلك حين قال لهم: (إنكم شكوتم إليَّ جدب دياركم، وانقطاع المطر وتأخر أوانه عنكم، وشدة المئونة بكم) ، قالوا: هذا فهم منه الصحابي أنه خطبة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد به أن يبين لهم عظيم رحمة الله لقوله بعد ذلك: (وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم) ، فمن نظر إلى أن هذا الدعاء السابق من النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمثابة الخطبة وبمثابة الدعاء قال: خطب ثم صلى. وأما الروايات الصريحة القوية فهي أنه صلى ثم خطب، وهذا يختاره بعض العلماء.

والخلاصة: أن للعلماء في هذه الأحاديث المختلفة أوجه:

فمنهم من يقول: السنة أن يبتدئ بالخطبة ثم يصلي.

ومنهم من يقول: يصلي ثم يخطب، على الصورة المعهودة المعروفة عندنا.

ومنهم من يقول: يخيّر، فإن شاء قدم الخطبة ثم صلى، وإن شاء خطب ثم صلى، فكل جائز ولا حرج عليه في ذلك، والأمر على السعة والخيار.

فإذا ابتدأ الصلاة صلى كصلاة العيدين، يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، على أصح أقوال العلماء، وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث حكى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء كصلاته في العيدين، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في العيدين من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه كبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً).

وقال بعض العلماء بعدم مشروعية التكبير والأقوى أنه يشرع.

الأمور التي يحث الإمام الناس عليها قبل خروجهم للاستسقاء

قال رحمه الله: [وإذا أراد الإمام الخروج لها وعد الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم وترك التشاحن، وبالصيام والصدقة].

أي: إذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء وعد الناس، فيقول لهم: في يوم كذا سنخرج للاستسقاء. فإذا حدد لهم يوماً يخرجون فيه للاستسقاء فإن الناس تتهيأ لهذا اليوم بالتوبة والاستغفار وإصلاح أحوالهم، ويكون ذلك بما ذكره المصنف رحمه الله، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة حديث يشير إلى هذا، فلا يغير الله أحوال الناس مما هم فيه من البلاء حتى يقلعوا عما هم فيه من المعصية، كما قال بعض السلف: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، فإذا تاب الناس تاب الله عليهم، وإذا استغفروه غفر لهم، وإذا استرحموه رحمهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] .

فإذا قحط المطر وتأخر فإن هذا إشارة إلى ما هم فيه من البعد عن الله وكثرة الذنوب والمعاصي، وكأنه نذير لهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يراجعوه قبل أن يعمهم بعذاب، فإذا راجعوا أنفسهم شرع لهم أن يتوبوا فيما بينهم وبين الله، فالحقوق الواجبة كالصلوات ونحوها يحافظون عليها، والحدود المحرمة كالفواحش ونحوها يقلعون عنها، وحقوق العباد ينتبهون لها، كحقوق الأقارب من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران، وتفقد أصحاب الحقوق كالعمال والمستخدمين ونحوهم، فليغير الإنسان من حاله حتى يغير الله ما به، ويصلح الله حاله؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] ، فإذا غيّر العبد من حاله غيّر الله ما به، ولذلك لما رأى قوم يونس أمارات العذاب وأمارات السخط والغضب من الله عز وجل حين تغيرت السماء وتلبدت خرجوا إلى الله رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، حتى أخرجوا دوابهم وبهائمهم، وما زالوا في البكاء والتضرع والاستغفار حتى رفع الله عنهم العذاب، وهي القرية الوحيدة التي رأت أمارات العذاب وسلّمها الله من عذابه، كما قال تعالى عنها: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] ، فهذا من رحمة الله عز وجل ولطفه بالعباد.

قوله: (وأمرهم بالتوبة).

التوبة ترفع وتدفع عن الإنسان البلاء، ولذلك إذا تاب العبد تاب الله عليه، وبالتوبة يزول البلاء؛ لأن سببه الذنب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، فشرور النفس هي التي تجلب البلاء، فإذا تاب من شرور النفس تاب الله عليه، ورفع البلاء عنه، فقد قال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46] ، فالتوبة سبب من أسباب الرحمة، ولذلك إذا أكثر الإنسان من الاستغفار رحمه الله عز وجل، فمن أسباب رحمة الله بعبده أن يكثر العبد من الاستغفار، فإذا أكثر من الاستغفار رحمه الله عز وجل.

وقوله: (والخروج من المظالم) معناه أنه إذا كان هناك مسلم يعلم أنه أكل مال أحد، أو شتمه، أو سبّه، أو عابه، أو آذاه فليذهب إليه وليقل له: يا فلان! إني ظلمتك في كذا، فإن شئت أن تأخذ حقك أعطيتك حقك، وإن شئت أن تعفو فجزاك الله خيراً، ونحو هذا من الكلام الذي يكون به تطييب خاطر المظلوم، فإذا أخذ الناس حقوقهم وردت المظالم إلى أهلها رفع الله البلاء عن الناس، ورفع الله البلاء عمن ابتلاه بسبب ظلمه للناس وأذيته لهم.

قوله: (وترك التشاحن).

أي: ويوصي الإمام الناس بترك التشاحن؛ إذ الخلاف والفتن التي تقع بين الناس وتفرق جماعة المسلمين وتؤذيهم من السباب والشتائم ونحو ذلك من الأمراض التي تقع بين الناس بسبب ما يكون من فتن الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) ، فهذا يدل على أن الناس إذا انشغلوا بالدنيا ألهتهم عن الآخرة، فتقع بينهم الشحناء والبغضاء، فعلى الإمام والخطيب أن يوصي الناس أن يتركوا الشحناء، وأن يصلحوا ذات بينهم؛ لأن الله أمر بذلك فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] ، فالمسلمون كالجسد الواحد، وينبغي أن يعطف بعضهم على بعض، فإذا كان الناس في قحط وشدة، أو أصاب الناس القحط والشدة فلينظروا إلى ما هم فيه، فإذا نظروا إلى اثنين بينهما خصومة سعوا في الصلح بينهما وجمع الشمل وإزالة ما بينهما من الشحناء والبغضاء، وهذا واجب في سائر أيام السنة، وفي سائر أحوال المسلمين، فضلاً عن مثل هذه الحالة التي فيها شدة وبلاء.

فعلى المسلمين دائماً أن تكون مجالسهم معمورة بالصلح بين الناس.

وقد كان الناس في خير ورحمة حينما كان بعضهم يوصي بعضاً بالصلح، حتى قلّ أن تجد المشاكل الزوجية والأمور التي تقع بين الناس تصل إلى القضاة، بسبب وجود أهل الحل والعقد والفضل والنبل الذين كانوا يسعون للصلح بين الناس، فكان الناس في رحمة مع أنهم كانوا يعيشون في فقر وشدة وحاجة، ولكن كانوا في رحمة من الله بسبب حفاظهم على المودة وإصلاح ذات البين، ولما فقد الناس هذا كثر الشر بينهم.

يقول بعض العلماء: إن وجود الشحناء بين الناس يرفع الخير عن الأمة. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما كان معتكفاً أُري ليلة القدر، فتلاحى رجلان في الدين - أبي وابن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عن الجميع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين: ضع هكذا. ثم قال للمدين: قم فاقضه. ثم قال للصحابة صبيحتها : أريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان، فرفعت وعسى أن يكون خيراً) ، أي: أثناء الخصومة رفعت ليلة القدر، حتى كان بعض العلماء يقول: إن هذا مثال على ما جعل الله في الخصومة من البلاء على الأمة، حتى إن ليلة القدر مع ما فيها من عظيم الأجر والخير للناس رفع علمها عن الناس بسبب الخصومة والشحناء.

وقد جعل الله الشحناء سبب الفشل والخيبة، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

فينبغي للإمام أن ينصح الناس باجتماع القلوب وتآلفها وتراحمها وتعاطفها، وهو الخير الذي ذكره الله تعالى في قوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114] ، وعظيماً من الله ليست بالهينة، فإزالة الشحناء مطلوبة عند الاستسقاء، ومتأكدة في كل وقت، فينبغي للمسلمين أن يتواصوا، وأن يوصي بعضهم بعضاً لإزالة ما بينهم من الشحناء والخلاف.

قوله: (وبالصيام).

الصيام من أفضل القربات وأحبها إلى الله عز وجل، وذلك لما فيه من الإمساك عن شهوتي البطن والفرج قربة إلى الله سبحانه وتعالى، ولما فيه من الإخلاص لله عز وجل، فهو العبادة الخفية التي استأثر الله بثوابها وأجرها. فعلى الإمام أن يحثهم على أن يصوموا ويستكثروا من الصيام والصدقات والصلوات وذكر الله عز وجل، حتى يكون حالهم أدعى للإجابة من الله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله تعالى: [ويعدهم يوماً يخرجون فيه].

أي: يحدد لهم يوماً فيقول: في يوم كذا سيكون استسقاؤنا. ويخرج الناس في صبيحة ذلك اليوم للاستسقاء وسؤال الله عز وجل الغيث.

الآداب التي ينبغي مراعاتها عند الخروج لصلاة الاستسقاء

[ويتنظف ولا يتطيب ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً].

قوله: (ويتنظف) أي أن له أن يغتسل، وأن لا يكون على ثيابه القذر والنتن، خاصة مع اجتماع الناس، فكما أنه يتنظف الإمام فليتنظف المأموم؛ لأن الناس يتضررون من الروائح الكريهة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم والبصل أن يقرب المصلى.

قوله: (ولا يتطيب) لأن الطيب فيه بالغ زينة، وليس الاستسقاء بعيد، كالحال في الجمعة والعيدين؛ إذ يشرع له التطيب فيهما، ولم يتطيب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يخرج على حالته، وظاهر قوله في الحديث: (متبذلاً) يدل على أنه لم يكن متطيباً عليه الصلاة والسلام.

قوله: (ويخرج متواضعاً) التواضع: المراد به توطئة الكنف، والتواضع مندوب إليه، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أوحى إليَّّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد) ، فالتواضع مطلوب، وكلما كان الإنسان في نعمة من الله عز وجل فإنه ينبغي أن يتواضع لها، وكلما طابت نفس الإنسان كلما كمل تواضعه، ومن كانت سريرته على خير أظهر الله تلك السريرة الطيبة المباركة من خلال شمائله وآدابه التي تدل على سماحته وتواضعه، ولو لم يكن في التواضع إلا قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، لكفاه فضلاً، فهذه سمات لا توجد إلا عند المتواضعين، وكلما زاد خير الإنسان كلما تواضع، كما قيل:

إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى

فالإنسان إذا طاب أصله وطابت سريرته ظهر ذلك الطيب على شمائله وآدابه فيتواضع.

فقوله: (ويخرج متواضعاً) ممعناه: أنه لا يتكبر، ولا يصعر خده إذا خرج للصلاة، ولكن يخرج على صفة تدل على ذلته لله سبحانه وتعالى وانكساره؛ لأنه يوم فاقة وفقر وحاجة إلى الله عز وجل، وقد جاء هذا اللفظ في حديث ابن عباس : (خرج متواضعاً).

أي: خرج عليه الصلاة والسلام وعليه شعار المتواضعين، ويتأكد هذا في حق الأخيار والعلماء والصالحين كطلاب العلم ونحوهم، فهم أحق الناس بهذه الخلة الكريمة التي يحبها الله ويرفع أهلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه) .

وقوله: (متخشعاً) أي: متعاطياً أسباب الخشوع من السكينة ونحوها، وأصل الشيء الخاشع: الذي فيه سكون وهدوء.

فالمعنى أن الإمام لا يكون فيه صخب ولا لغط ولا لغو، ولكن فيه سكينة ووقار يدل على حالة من الذلة لله سبحانه وتعالى والانكسار.

وقوله: (متذللاً) من الذلة، وذلك كما قلنا؛ لأن الحال والمقام يقتضي هذا، فالمقام مقام سؤال، والسائل إذا سأل ربه ينبغي أن يظهر لله عز وجل الذلة والانكسار، كأن يطأطئ رأسه وتظهر عليه آثار الخوف والوجل من الله سبحانه وتعالى حتى يرحمه ولا يخيبه فيرد عليه سؤاله ولا يجيب استسقاءه، فكل إنسان أراد الخروج فعليه أن يخرج وكله أمل أن الله يرحمه، وما يدريك فلعل الله أن يجعل دعوتك هي المجابة، ويرحم بك هذه الأمة، ويكون لك أجر هذا الدعاء وأجر هذا الخير الذي تصاب به الأمة، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ، فالله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب، فإذا خرج الإنسان بذلة واستكانة وفاقة إلى الله عز وجل فإنه حري أن يجاب.

(متضرعاً) من الضراعة: وهي بالغ السؤال.

السنة الثابتة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم في وقتها أنه: (خرج حينما بدا حاجب الشمس)، كما في حديث أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها، ولذلك قال العلماء رحمهم الله: يستحب أن تكون صلاة الاستسقاء في وقت صلاة العيدين، وذلك بعد ارتفاع الشمس قيد رمح.

فقولها رضي الله عنها: (بدا حاجب الشمس)، تعبير يشير إلى ظهور ضوء الشمس، والحاجب هو الضوء، وإنما عبروا به لأن الضوء من الشمس يحجب الشمس، فأنت إذا رأيت الشمس مشرقة متوهجة بضوئها لا تستطيع أن ترى نفس الشمس؛ لأنه يحجبها عنك من شدة توهجه، ولذلك يقولون: حاجب الشمس. أي: الذي يحجب الشمس من ضوئها.

فخرج عليه الصلاة والسلام، وكان قد وعد الناس بالخروج، وهذا من السنة كما سيأتي، فيخرج ويكون وقوعها في وقت الضحى، ويصلي بعد انتهاء وقت النهي، ووقت النهي يبدأ من بعد صلاة الصبح وينتهي بارتفاع الشمس قيد رمح، أما أثناء طلوع الشمس أو بعد صلاة الفجر وقبل طلوع الشمس فإنها لا تصلى قولاً واحداً عند العلماء، حتى حكي الإجماع على عدم مشروعية إيقاع صلاة الاستسقاء في أوقات الكراهة، فليس بمشروع أن يوقعها في هذا الوقت مع أن لها وجهاً وهو كونها من الصلوات ذوات الأسباب، لكنه لما كان الأمر فيه نوع تأسٍ واقتداء بالنبي صلى الله عليه وسلم لم يشرع.

وأما آخر وقتها فبعض العلماء يقول: صلاة الاستسقاء جماعة تصح في الليل والنهار، ولا حرج أن يصلوا في الليل أو في النهار، أو في أي وقت إلا أوقات الكراهة. فهذا مذهب طائفة من العلماء رحمهم الله.

وهذا المذهب لا يخلو من نظر؛ إذ لو كانت تصلى في أي وقت لالتمس عليه الصلاة والسلام وقت السحر، إلا أن بعض العلماء أجاب عن هذا الاعتراض وقال: إن وقت السحر يشق على الناس، خاصة وأن أكثرهم نائمون. لكن أجيب بأن هذه المشقة مقدور عليها؛ لأنها صلاة في يوم معين، فلا مانع أن يكلفوا بها، وقد كان عليه الصلاة والسلام يندب الناس إلى إحياء العشر الأواخر، وهو يندب بذلك عامة الأمة.

ومهما يكن فهذا القول لا يخلو من نظر؛ لأنه لو كان فعلها في الليل مشروعاً لفعلها عليه الصلاة والسلام، ولو قلنا: إن فعلها في السحر فيه مشقة، فإنه لا مانع أن يفعلها بين العشاءين، وهذا أرفق وأخف بكثير على الناس، لكن كونه عليه الصلاة والسلام يتقصد أول النهار لا شك أنه هو الأولى والأحرى، ولذلك قال بعض العلماء: إنه ينتهي وقتها بالزوال كالعيد، وهذا هو الأشبه، ولذلك نجد الصحابة يلحقون صلاة الاستسقاء بصلاة العيد.

قال رحمه الله تعالى: [وصفتها في موضعها وأحكامها كعيد].

ينبغي لمن خرج لصلاة الاستسقاء أن يخرج من بيته خاشعاً متخشعاً متبذلاً متذللاً متواضعاً متضرعاً؛ لما ثبت في حديث ابن عباس رضي الله عنهما وأرضاهما قال: (خرج رسول الله صلى الله عليه وسلم خاشعاً متخشعاً متذللاً متواضعاً متضرعاً)، فهذه هي السنة في الخروج.

ومعنى خروجه خاشعاً: أن لا يدمن الالتفات يمنة أو يسرة، وإنما يكون عليه الخشوع والوقار، والتبذل: مأخوذ من البذلة، وهي الثياب التي ليس لها شأن، بمعنى أنه لم يعتن بجميل الثياب، بخلاف العيد، فإن السنة أن يلبس له أحسن ما يجد وأن يتجمل؛ لأنه يوم عز للإسلام، ولكن يوم الاستسقاء يوم ضراعة واستكانة وفاقة وحاجة واسترحام واستغفار وسؤال الله الحلم والعفو، فلذلك شرع له أن يظهر بحالة تناسب المقام.

قالوا: تكون ثيابه غير مبالغ فيها. لكن لا يمنع هذا أن يكون نظيفاً، فلا يخرج وهو نتن الرائحة، خاصة إذا كان مأموماً؛ لأنه يؤذي الناس، واجتماع الناس بعضهم مع بعض قد تؤذيهم بسببه الروائح الكريهة، ولذلك يشرع له أن يخرج بثياب ليست بذات الشأن، وأيضاً لا يبالغ في الطيب والتزين، وكذلك لا يبالغ في رفاهية الثياب.

ثم إذا انتهى إلى المصلى فإن للعلماء قولين:

قال بعض العلماء: يبتدئ بالخطبة والدعاء قبل الصلاة. وهذا فيه حديث مسلم عن عبد الله بن زيد رضي الله عنه وأرضاه: (أن النبي صلى الله عليه وسلم خطب ثم دعا ثم صلى) .

وقال بعضهم: يبتدئ بالصلاة قبل الخطبة، فإذا صلى بالناس صلاة الاستسقاء رقى المنبر ثم خطب ودعا.

وهذا القول الثاني هو الأقوى؛ لأنه يؤيده حديث عائشة وحديث أنس بن مالك رضي الله عن الجميع.

وحديث عبد الله بن زيد أُجيب عنه -كما اختاره بعض المحققين، ويميل إليه الحافظ ابن حجر- بأن الأحاديث التي ذكرت الدعاء قبل الصلاة لا تعارض الأحاديث التي ذكرت الخطبة بعد الصلاة، وذلك أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في دعاء وضراعة حتى انتهى إلى المصلى، فمن رأى ضراعته ودعاءه قال: إنه خطب. وذلك حين قال لهم: (إنكم شكوتم إليَّ جدب دياركم، وانقطاع المطر وتأخر أوانه عنكم، وشدة المئونة بكم) ، قالوا: هذا فهم منه الصحابي أنه خطبة، مع أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقصد به أن يبين لهم عظيم رحمة الله لقوله بعد ذلك: (وقد أمركم الله أن تدعوه، ووعدكم أن يستجيب لكم) ، فمن نظر إلى أن هذا الدعاء السابق من النبي صلى الله عليه وسلم أنه بمثابة الخطبة وبمثابة الدعاء قال: خطب ثم صلى. وأما الروايات الصريحة القوية فهي أنه صلى ثم خطب، وهذا يختاره بعض العلماء.

والخلاصة: أن للعلماء في هذه الأحاديث المختلفة أوجه:

فمنهم من يقول: السنة أن يبتدئ بالخطبة ثم يصلي.

ومنهم من يقول: يصلي ثم يخطب، على الصورة المعهودة المعروفة عندنا.

ومنهم من يقول: يخيّر، فإن شاء قدم الخطبة ثم صلى، وإن شاء خطب ثم صلى، فكل جائز ولا حرج عليه في ذلك، والأمر على السعة والخيار.

فإذا ابتدأ الصلاة صلى كصلاة العيدين، يكبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً، على أصح أقوال العلماء، وذلك لحديث ابن عباس رضي الله عنهما، حيث حكى صلاة النبي صلى الله عليه وسلم في الاستسقاء كصلاته في العيدين، وقد ثبت عنه عليه الصلاة والسلام في العيدين من حديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده: (أنه كبر في الأولى سبعاً وفي الثانية خمساً).

وقال بعض العلماء بعدم مشروعية التكبير والأقوى أنه يشرع.

قال رحمه الله: [وإذا أراد الإمام الخروج لها وعد الناس وأمرهم بالتوبة من المعاصي والخروج من المظالم وترك التشاحن، وبالصيام والصدقة].

أي: إذا أراد الإمام الخروج لصلاة الاستسقاء وعد الناس، فيقول لهم: في يوم كذا سنخرج للاستسقاء. فإذا حدد لهم يوماً يخرجون فيه للاستسقاء فإن الناس تتهيأ لهذا اليوم بالتوبة والاستغفار وإصلاح أحوالهم، ويكون ذلك بما ذكره المصنف رحمه الله، وقد جاء عن أم المؤمنين عائشة حديث يشير إلى هذا، فلا يغير الله أحوال الناس مما هم فيه من البلاء حتى يقلعوا عما هم فيه من المعصية، كما قال بعض السلف: (ما نزل بلاء إلا بذنب، ولا رفع إلا بتوبة)، فإذا تاب الناس تاب الله عليهم، وإذا استغفروه غفر لهم، وإذا استرحموه رحمهم، قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] .

فإذا قحط المطر وتأخر فإن هذا إشارة إلى ما هم فيه من البعد عن الله وكثرة الذنوب والمعاصي، وكأنه نذير لهم أن يتوبوا إلى الله، وأن يراجعوه قبل أن يعمهم بعذاب، فإذا راجعوا أنفسهم شرع لهم أن يتوبوا فيما بينهم وبين الله، فالحقوق الواجبة كالصلوات ونحوها يحافظون عليها، والحدود المحرمة كالفواحش ونحوها يقلعون عنها، وحقوق العباد ينتبهون لها، كحقوق الأقارب من بر الوالدين وصلة الأرحام والإحسان إلى الجيران، وتفقد أصحاب الحقوق كالعمال والمستخدمين ونحوهم، فليغير الإنسان من حاله حتى يغير الله ما به، ويصلح الله حاله؛ لقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ مَا بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا مَا بِأَنفُسِهِمْ [الرعد:11] ، فإذا غيّر العبد من حاله غيّر الله ما به، ولذلك لما رأى قوم يونس أمارات العذاب وأمارات السخط والغضب من الله عز وجل حين تغيرت السماء وتلبدت خرجوا إلى الله رجالاً ونساءً، كباراً وصغاراً، حتى أخرجوا دوابهم وبهائمهم، وما زالوا في البكاء والتضرع والاستغفار حتى رفع الله عنهم العذاب، وهي القرية الوحيدة التي رأت أمارات العذاب وسلّمها الله من عذابه، كما قال تعالى عنها: فَلَوْلا كَانَتْ قَرْيَةٌ آمَنَتْ فَنَفَعَهَا إِيمَانُهَا إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنَا عَنْهُمْ عَذَابَ الْخِزْيِ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَمَتَّعْنَاهُمْ إِلَى حِينٍ [يونس:98] ، فهذا من رحمة الله عز وجل ولطفه بالعباد.

قوله: (وأمرهم بالتوبة).

التوبة ترفع وتدفع عن الإنسان البلاء، ولذلك إذا تاب العبد تاب الله عليه، وبالتوبة يزول البلاء؛ لأن سببه الذنب، وكان صلى الله عليه وسلم يقول في خطبته: (ونعوذ بالله من شرور أنفسنا)، فشرور النفس هي التي تجلب البلاء، فإذا تاب من شرور النفس تاب الله عليه، ورفع البلاء عنه، فقد قال تعالى حكاية عن صالح عليه السلام: لَوْلا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ [النمل:46] ، فالتوبة سبب من أسباب الرحمة، ولذلك إذا أكثر الإنسان من الاستغفار رحمه الله عز وجل، فمن أسباب رحمة الله بعبده أن يكثر العبد من الاستغفار، فإذا أكثر من الاستغفار رحمه الله عز وجل.

وقوله: (والخروج من المظالم) معناه أنه إذا كان هناك مسلم يعلم أنه أكل مال أحد، أو شتمه، أو سبّه، أو عابه، أو آذاه فليذهب إليه وليقل له: يا فلان! إني ظلمتك في كذا، فإن شئت أن تأخذ حقك أعطيتك حقك، وإن شئت أن تعفو فجزاك الله خيراً، ونحو هذا من الكلام الذي يكون به تطييب خاطر المظلوم، فإذا أخذ الناس حقوقهم وردت المظالم إلى أهلها رفع الله البلاء عن الناس، ورفع الله البلاء عمن ابتلاه بسبب ظلمه للناس وأذيته لهم.

قوله: (وترك التشاحن).

أي: ويوصي الإمام الناس بترك التشاحن؛ إذ الخلاف والفتن التي تقع بين الناس وتفرق جماعة المسلمين وتؤذيهم من السباب والشتائم ونحو ذلك من الأمراض التي تقع بين الناس بسبب ما يكون من فتن الدنيا، كما قال عليه الصلاة والسلام: (ما الفقر أخشى عليكم، ولكن أخشى عليكم ما يفتح الله من زهرة الدنيا، فتنافسوها كما تنافسها من قبلكم فتهلككم كما أهلكتهم) ، فهذا يدل على أن الناس إذا انشغلوا بالدنيا ألهتهم عن الآخرة، فتقع بينهم الشحناء والبغضاء، فعلى الإمام والخطيب أن يوصي الناس أن يتركوا الشحناء، وأن يصلحوا ذات بينهم؛ لأن الله أمر بذلك فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَأَصْلِحُوا ذَاتَ بَيْنِكُمْ [الأنفال:1] ، فالمسلمون كالجسد الواحد، وينبغي أن يعطف بعضهم على بعض، فإذا كان الناس في قحط وشدة، أو أصاب الناس القحط والشدة فلينظروا إلى ما هم فيه، فإذا نظروا إلى اثنين بينهما خصومة سعوا في الصلح بينهما وجمع الشمل وإزالة ما بينهما من الشحناء والبغضاء، وهذا واجب في سائر أيام السنة، وفي سائر أحوال المسلمين، فضلاً عن مثل هذه الحالة التي فيها شدة وبلاء.

فعلى المسلمين دائماً أن تكون مجالسهم معمورة بالصلح بين الناس.

وقد كان الناس في خير ورحمة حينما كان بعضهم يوصي بعضاً بالصلح، حتى قلّ أن تجد المشاكل الزوجية والأمور التي تقع بين الناس تصل إلى القضاة، بسبب وجود أهل الحل والعقد والفضل والنبل الذين كانوا يسعون للصلح بين الناس، فكان الناس في رحمة مع أنهم كانوا يعيشون في فقر وشدة وحاجة، ولكن كانوا في رحمة من الله بسبب حفاظهم على المودة وإصلاح ذات البين، ولما فقد الناس هذا كثر الشر بينهم.

يقول بعض العلماء: إن وجود الشحناء بين الناس يرفع الخير عن الأمة. والأصل في ذلك ما ثبت في الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم: (أنه لما كان معتكفاً أُري ليلة القدر، فتلاحى رجلان في الدين - أبي وابن أبي حدرد الأسلمي رضي الله عن الجميع- فقال النبي صلى الله عليه وسلم لصاحب الدين: ضع هكذا. ثم قال للمدين: قم فاقضه. ثم قال للصحابة صبيحتها : أريت ليلتكم هذه فتلاحى رجلان، فرفعت وعسى أن يكون خيراً) ، أي: أثناء الخصومة رفعت ليلة القدر، حتى كان بعض العلماء يقول: إن هذا مثال على ما جعل الله في الخصومة من البلاء على الأمة، حتى إن ليلة القدر مع ما فيها من عظيم الأجر والخير للناس رفع علمها عن الناس بسبب الخصومة والشحناء.

وقد جعل الله الشحناء سبب الفشل والخيبة، فقال سبحانه وتعالى: وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ [الأنفال:46].

فينبغي للإمام أن ينصح الناس باجتماع القلوب وتآلفها وتراحمها وتعاطفها، وهو الخير الذي ذكره الله تعالى في قوله: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْوَاهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ ابْتِغَاءَ مَرْضَاةِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْرًا عَظِيمًا [النساء:114] ، وعظيماً من الله ليست بالهينة، فإزالة الشحناء مطلوبة عند الاستسقاء، ومتأكدة في كل وقت، فينبغي للمسلمين أن يتواصوا، وأن يوصي بعضهم بعضاً لإزالة ما بينهم من الشحناء والخلاف.

قوله: (وبالصيام).

الصيام من أفضل القربات وأحبها إلى الله عز وجل، وذلك لما فيه من الإمساك عن شهوتي البطن والفرج قربة إلى الله سبحانه وتعالى، ولما فيه من الإخلاص لله عز وجل، فهو العبادة الخفية التي استأثر الله بثوابها وأجرها. فعلى الإمام أن يحثهم على أن يصوموا ويستكثروا من الصيام والصدقات والصلوات وذكر الله عز وجل، حتى يكون حالهم أدعى للإجابة من الله سبحانه وتعالى.

قال رحمه الله تعالى: [ويعدهم يوماً يخرجون فيه].

أي: يحدد لهم يوماً فيقول: في يوم كذا سيكون استسقاؤنا. ويخرج الناس في صبيحة ذلك اليوم للاستسقاء وسؤال الله عز وجل الغيث.

[ويتنظف ولا يتطيب ويخرج متواضعاً متخشعاً متذللاً متضرعاً].

قوله: (ويتنظف) أي أن له أن يغتسل، وأن لا يكون على ثيابه القذر والنتن، خاصة مع اجتماع الناس، فكما أنه يتنظف الإمام فليتنظف المأموم؛ لأن الناس يتضررون من الروائح الكريهة، ولذلك نهى النبي صلى الله عليه وسلم من أكل الثوم والبصل أن يقرب المصلى.

قوله: (ولا يتطيب) لأن الطيب فيه بالغ زينة، وليس الاستسقاء بعيد، كالحال في الجمعة والعيدين؛ إذ يشرع له التطيب فيهما، ولم يتطيب عليه الصلاة والسلام، ولذلك يخرج على حالته، وظاهر قوله في الحديث: (متبذلاً) يدل على أنه لم يكن متطيباً عليه الصلاة والسلام.

قوله: (ويخرج متواضعاً) التواضع: المراد به توطئة الكنف، والتواضع مندوب إليه، وأمر به النبي صلى الله عليه وسلم فقال: (إن الله أوحى إليَّّ أن تواضعوا حتى لا يبغي أحد على أحد) ، فالتواضع مطلوب، وكلما كان الإنسان في نعمة من الله عز وجل فإنه ينبغي أن يتواضع لها، وكلما طابت نفس الإنسان كلما كمل تواضعه، ومن كانت سريرته على خير أظهر الله تلك السريرة الطيبة المباركة من خلال شمائله وآدابه التي تدل على سماحته وتواضعه، ولو لم يكن في التواضع إلا قوله عليه الصلاة والسلام: (ألا أنبئكم بأقربكم مني مجلساً يوم القيامة، أحاسنكم أخلاقاً، الموطئون أكنافاً، الذين يألفون ويؤلفون)، لكفاه فضلاً، فهذه سمات لا توجد إلا عند المتواضعين، وكلما زاد خير الإنسان كلما تواضع، كما قيل:

إن كريم الأصل كالغصن كلما ازداد من خير تواضع وانحنى

فالإنسان إذا طاب أصله وطابت سريرته ظهر ذلك الطيب على شمائله وآدابه فيتواضع.

فقوله: (ويخرج متواضعاً) ممعناه: أنه لا يتكبر، ولا يصعر خده إذا خرج للصلاة، ولكن يخرج على صفة تدل على ذلته لله سبحانه وتعالى وانكساره؛ لأنه يوم فاقة وفقر وحاجة إلى الله عز وجل، وقد جاء هذا اللفظ في حديث ابن عباس : (خرج متواضعاً).

أي: خرج عليه الصلاة والسلام وعليه شعار المتواضعين، ويتأكد هذا في حق الأخيار والعلماء والصالحين كطلاب العلم ونحوهم، فهم أحق الناس بهذه الخلة الكريمة التي يحبها الله ويرفع أهلها، فقد قال صلى الله عليه وسلم: (ما تواضع أحد لله إلا رفعه) .

وقوله: (متخشعاً) أي: متعاطياً أسباب الخشوع من السكينة ونحوها، وأصل الشيء الخاشع: الذي فيه سكون وهدوء.

فالمعنى أن الإمام لا يكون فيه صخب ولا لغط ولا لغو، ولكن فيه سكينة ووقار يدل على حالة من الذلة لله سبحانه وتعالى والانكسار.

وقوله: (متذللاً) من الذلة، وذلك كما قلنا؛ لأن الحال والمقام يقتضي هذا، فالمقام مقام سؤال، والسائل إذا سأل ربه ينبغي أن يظهر لله عز وجل الذلة والانكسار، كأن يطأطئ رأسه وتظهر عليه آثار الخوف والوجل من الله سبحانه وتعالى حتى يرحمه ولا يخيبه فيرد عليه سؤاله ولا يجيب استسقاءه، فكل إنسان أراد الخروج فعليه أن يخرج وكله أمل أن الله يرحمه، وما يدريك فلعل الله أن يجعل دعوتك هي المجابة، ويرحم بك هذه الأمة، ويكون لك أجر هذا الدعاء وأجر هذا الخير الذي تصاب به الأمة، وما ذلك على الله بعزيز، وفي الحديث الصحيح عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه قال: (رب أشعث أغبر ذي طمرين مدفوع بالأبواب لو أقسم على الله لأبره) ، فالله لا ينظر إلى الصور ولا إلى الأشكال، ولكن ينظر إلى القلوب، فإذا خرج الإنسان بذلة واستكانة وفاقة إلى الله عز وجل فإنه حري أن يجاب.

(متضرعاً) من الضراعة: وهي بالغ السؤال.

[ومعه أهل الدين والصلاح والشيوخ والصبيان والمميزون ].

أثر عن عمر بن الخطاب رضي الله عنه أنه استسقى بعم رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو العباس بن عبد المطلب.

فيكون مع الإمام أهل الدين والصلاح، كالعلماء والأخيار الذين عرفوا بالاستقامة والتمسك بالكتاب والسنة والعبادة على منهج السلف بعيداً عن البدع والأهواء، وأهل الخير وأهل التمسك بالدين، فمثل هؤلاء ترجى إجابة دعوتهم بإذن الله عز وجل لما فيهم من الخير والاستقامة والالتزام بدين الله عز وجل، وكلما كان الإنسان أكثر صلاحاً واستقامة كلما كانت دعوته أرجى للإجابة؛ لأن الله سبحانه وتعالى يذكر من ذكره، ووعد الذي يكون على استقامة بالطاعة والخير وذكر لله عز وجل أن يذكره، فمن ذكر الله في الرخاء ذكره في الشدة، فلذلك يخرج بأمثال هؤلاء من العلماء وطلاب العلم والأخيار الصالحين ونحوهم من أهل الفضل والنبل، وهذا أدعى لإظهار الحاجة لله سبحانه وتعالى، على خلاف ما إذا خرج بأهل الدنيا من الأغنياء والأثرياء فإن الحال يكون على عكس هذا تماماً.

قوله: [والشيوخ].

أي: يخرج معه الشيوخ؛ لأن كبار السن قلوبهم منكسرة، ولذلك لما ذكر النبي صلى الله عليه وسلم الإمامة قال: (فإن كانوا في الهجرة سواء فأكبرهم سناً)، وكبر السن مظنة أن يكون الإنسان أقرب إلى الآخرة؛ لأن كبار السن فيهم خشوع، فقد جبروا الزمان، وعزفت نفوسهم عن الدنيا، وأقبلوا على الآخرة، فالخشوع منهم أكثر، ولذلك يكون الدعاء منهم أرجى إجابة من غيرهم، فالمهم أن يتعاطى أسباب إجابة الدعاء.

وبعض العلماء يستدل لهذا بحديث ابن ماجة : (لولا شيبان ركّع، وصبيان رضّع، وبهائم رتّع لصببت العذاب عليكم صباً) ، إلا أن هذا الحديث تكلم العلماء رحمهم الله على إسناده.

قوله: [والصبيان المميزون].

أي: ويخرج معه الصبيان المميزون، وذلك لقلة ذنوبهم؛ لأنهم غير مكلفين، فدعاؤهم وسؤالهم الله عز وجل أرجى إجابة، مع أن خروج الصبيان فيه نوع استرحام لله عز وجل، فإن خروج الإنسان بأطفاله من الصغار فيه نوع من الذلة لله عز وجل.

قال رحمه الله: [وإن خرج أهل الذمة منفردين عن المسلمين لا بيوم لم يمنعوا].

أهل الذمة هم اليهود والنصارى الذين فتحت بلادهم وأحبوا أن يبقوا على دينهم ويدفعوا الجزية.

أما من جاء من الكفار إلى بلاد المسلمين، ودخل بأمان من واحد منهم فإن أمانه يكون ماضياً على جميع المسلمين، لحديث علي في الصحيح: (ذمة المسلمين واحدة يسعى بها أدناهم وهم حرب على من سواهم) ، فالكافر إذا دخل بلاد المسلمين يسمى مستأمناً، وإن كان من اليهود والنصارى الذين يدفعون الجزية فهو من أهل الذمة.

فإن أراد أهل الذمة الخروج للاستسقاء فقد اتفق العلماء على عدم السماح لهم أن يخرجوا منفردين في يوم معين؛ لأنهم إذا خرجوا منفردين في يوم معين ربما امتحن الله العباد فنزل الغيث في اليوم الذي استسقوا فيه فتحصل الفتنة للناس، وربما ظنوا أنهم سقوا باستسقائهم، ولذلك لا يشرع أن يمكنوا من الاستسقاء منفردين.

واختلف العلماء إذا طلبوا الخروج مع المسلمين المستسقين:

فقال بعض العلماء -كما اختاره المصنف رحمه الله-: يجوز أن يخرجوا مع المسلمين، ولكن يعتزلون المسلمين، ولا يصلون معهم، حتى لا تكون لهم يد منة، فإذا ظهر الفضل كانت نسبته للمسلمين، وهم أحق بذلك وأولى به؛ لأنهم على دين الله الصحيح، وأولئك على غير دين الإسلام، ولذلك لا يشرع أن يكونوا مع المسلمين في نفس المصلى، وإنما يعتزلون ويكونون بناحية غير ناحية المسلمين.