غرق فرعون 1 - محمد علي يوسف
مدة
قراءة المادة :
5 دقائق
.
المكان: شاطئ بحر القصب المسمى حاليا بخليج السويس..الزمان: في مثل هذا اليوم قبل عدة آلاف من السنين.
من بعيد بدت العاصفة الرملية، أصوات تتعالى تدريجيا مع اقتراب الغبار الثائر، صليل معادن ودبيب مدوٍ يتصاعد، يبدو أنه وقع سنابك خيل يختلط بصهيلها الذى يتضح رويدا رويدا، يبدو أنه ما كانوا يفرون منه.
ليست عاصفة رملية إذا إنما هى سحابة تراب أثارته سنابك خيل الطاغية.
تردد الخبر بين الجمع الواقف على مشارف بحر هائج ترتطم أمواجه بأقدامهم ثم تعود آفلة إلى منبعها لتتلوها أمواج أخر، توجهت أنظار الجمع القلق إلى الجيش الجرار الذى يقترب بخطى حثيثة، يبدو أنه لا فائدة، سرى ذلك الشعور فى قلوب قوم ما انفكوا عن الإرجاف لأعوام وقد أفسدت فطرتهم عقود من الظلم والاستعباد جعلت شعار لومهم لمنقذهم وقائدهم: " أوذينا من قبل أن تأتينا ومن بعد ما جئتنا "، لم يتغيروا على ما يبدو، اليأس نفسه والخوف الذى طالما صاحبهم يظهر الآن من أعين تدور فى محاجرها كالذى يغشى عليه من الموت ، إنا لمدركون..
كلمتان حوتا عديدا من المؤكدات اللفظية نطق بها بنو إسرائيل بأصوات رعديدة تقطر بالفزع وتنضح بفقدان الأمل، و كأنهم نسوا كل ما مر بهم، وكأن كل الآيات التى رأوا فيها تجليات قدرة ربهم يجريها على يدى قائدهم قد تم محوها من أذهانهم، يا لضعف ذاكرتكم!
أنسيتم العصا المتحولة واليد البيضاء من غير سوء آية أخرى، أغفلتم عن الجراد والقمل والضفادع والدم التى ابتلى بها عدوكم ومذلكم وقومه بينما نجاكم الله منها؟ ويحكم، أين عقولكم؟!
إنه نبيكم ومنقذكم الذى ما كذبكم يوما، أولم يعدكم أن يهلك ربكم عدوكم ويستخلفكم فى الأرض من بعدهم فينظر كيف تعملون، فمالكم كيف تحكمون؟!
ثم كانت الصفعة؛ صفعة يقين على قلب كل مرجف واهن أكد بيأس أنهم مدركون، صفعة بكلمة من ثلاثة أحرف بددت غيابات الإرجاف البادى من صياحهم، كلا....
قالها الكليم وضيئة تتلألأ بأنوار العقيدة ، كلا...
قالها حاسمة قاطعة لا شك فيها، و كيف لا يفعل وهو من ارتقى على درجات الثقة درجة تلو أخرى، كيف لا يفعل وقد تعلم الدرس مرة بعد مرة، تعلم أنه لا يخاف لدى الله المرسلون، تعلم ألا يخاف وهو الأعلى بإيمانه، تعلم أنه بآيات ربه ومن اتبعه الغالبون، و تذكر الوعد الربانى؛ الوعد الذى كلمه به ربه منذ أعوام مخاطبا إياه وأخاه:
لا تخافا إننى معكما أسمع وأرى، هذا الوعد الذى وجد قلبا خصيبا لتنمو فيه جذور الثقة المطلقة فى مآل الأمر وتنبت منها شجرة طيبة من يقين راسخ أصلها ثابت ووفرعها فى السماء تؤتى أكلها كل حين بإذن ربها.
و كان من أُكُلِها أن قال بعد حرفه الحاسم:
{إِنَّ مَعِيَ رَبِّي} ، إنه يدرك معنى المعية؛ معية الملك الحق، فكيف يخاف أو يشك؟!
إن معه ربه يسمع ويرى، لا شك إذاً أنه سيهدى، لذا قالها بحزم نافذ: {سَيَهْدِينِ} ، لكن كيف؟! لا توجد أسباب؛ من أمامهم بحر لجى ثائر لا يأمن أصحاب السفن على أنفسهم فيه، فما بالك بقوم قد أجهدهم طول المسير فى صحراء مصر الشرقية وقد جفت حلوقهم وجلودهم تحت حر شمسها، ولا مركب لهم إلا أقدام قد كلت من عناء الرحلة، و من خلفهم طاغوت وجيش هادر لا هم لهم ولا غاية إلا إفناءهم، من أين أتيت بهذا اليقين يا موسى؟! دلنا إذا على المفر وخبرنا بربك عن طريق النجاة.
و من أدراكم أنه يعرف بعد؟!
إنه يصدق ربه، وهذا قد يسبق علمه بالتفاصيل لكنه يوقن أنه سيعلم فى الوقت المناسب، و هاقد علم، قد جاء الوحى، وصل روح القدس القوى الأمين، ها هى العصا ترتفع من جديد لا لتتحول هذه المرة إنما لتحوِّل؛ لتحول مغرقا عميقا، إلى ملاذ آمن، وسبحان من جعل المغرق ملاذا، والملاذ مغرقا! نعم؛ لقد كان الملاذ يوما مغرقا لولد نوح عليه السلام، فلم ينجه جبل آوى إليه ولم يعصمه ارتفاعه من أمر الله، و ها هو المغرق يتحول إلى الملاذ الوحيد الذى سيأوى إليه موسى وقومه، مشهد مهيب لم تر الدنيا مثله؛ جبلان عظيمان من الماء كأنهما شلالان يهدران عن اليمين والشمال وبينهما أودية ضيقة يختلط طين أرضها بشعب مرجانية حادة يجاهد القوم فى تفاديها والمرور من خلالها، يا له من مشهد ويا لها من آية!
لقد انشق البحر فكان كل فرق كالطود العظيم، مر بنو إسرائيل يسارعون الخطي، ولو نظر أحدهم إلى جبل الماء بجواره لربما أفزعه ظل قرش يتجول، أو سرب مخلوقات بحرية يسبح بحثا عن رزقه، ولا تفصل بينهم وبينه إلا أمتار.
لكن الله أراد لهم أن يمروا، و أن يأمنوا وينجوا.