خطب ومحاضرات
التاريخ الأسود لليهود
الحلقة مفرغة
الحمد لله رب العالمين الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:7-9]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:14-16]، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء ويذل من يشاء، يغني فقيراً، ويفقر غنياً، ويعز ذليلاً، ويذل عزيزاً، ويملي للظالم حتى إذا أخذه لم يفلته، مستوٍ على عرشه، بائن من خلقه، لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، قلوب العباد بين إصبعين من أصابعه يقلبها كيفما شاء وحسبما أراد، فاللهم يا مثبت القلوب! ثبت قلوبنا على دينك، اللهم يا مصرف القلوب! صرف قلوبنا إلى طاعتك، وأشهد أن نبينا ورسولنا وشفيعنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه، بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، فما ترك من خير يقربنا من الجنة إلا وأمرنا به، وما من شر يقربنا من النار إلا نهانا عنه، فترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، اللهم صل وسلم وزد وبارك عليه في الأولين والآخرين، والملأ الأعلى إلى يوم الدين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].
أما بعد:
أحبتي الكرام! ثبت في الأثر عن مجاهد أنه قال: ملك الدنيا أربعة: مؤمنان وكافران، أما المؤمنان فهما: سليمان بن داود عليهما السلام، وذو القرنين عليه السلام، وأما الكافران فهما: النمرود بن كنعان وبختنصر ، وحديثنا اليوم مع واحد من هؤلاء، نبي ابن نبي، زعم إخوان القردة والخنازير أنهم يريدون هدم الأقصى ليقيموا على أنقاضه هيكله، فما قصة الهيكل المزعوم؟ ومن هو سليمان؟ وما هي النعم التي أعطاها الله له؟ ثم مقارنة بين تكريمه في القرآن وبين سبه ولعنه في التوراة التلمود، التي حرفت بفعل فاعل، وقال ربنا فيها: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتَابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هَذَا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَنًا قَلِيلًا فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ [البقرة:79].
يزعم اليهود أن الأقصى الآن قد بني على أنقاض الهيكل، وأنه لا بد من إزالة الأقصى لإقامة الهيكل، ورغم أنهم يريدون إقامة الهيكل لنبي الله سليمان، إلا أنهم يطعنون في ذات سليمان، فهيا بنا جميعاً نستعرض تاريخهم الأسود؛ لنبين فيه عقيدتهم في الله، وعقيدتهم في رسل الله، وحالهم مع سيد البشر محمد صلى الله عليه وسلم، لعلنا إخوتي الكرام! نستبين سبيل المجرمين، ونعرف العدو من الصديق.
عقيدة اليهود في رسل الله وأنبيائه
عقيدة اليهود في الله سبحانه والملائكة والجنة والنار
أما إلحادهم في عقيدتهم في الله فنقرأ في كتاب ربنا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، ألحدوا في الجنة والنار، فقالوا: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وألحدوا في حق الملائكة حينما بينوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل هو عدوهم، فأنزل الله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن إلحادهم في النار قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80].
اليهود في توراتهم طعنوا في كل رسل الله وأنبياء الله، فلوط زنى ببنتيه زنى بمحارم، ونوح شرب الخمر حتى أخذت برأسه، وإبراهيم قدم زوجته للملك الظالم ليفعل بها الفاحشة ويتاجر في عرضه، وهارون عبد العجل من دون الله عز وجل، وعيسى تآمروا على قتله، وقتلوا يحيى وزكريا، أما النبي محمد صلى الله عليه وسلم فأنتم تعلمون ما صنعوا معه بعد خيبر، فقد قربوا له شاة مسمومة، وجاء الوحي ليخبر الحبيب عليه الصلاة والسلام بتآمرهم، فإن كانوا قد تآمروا منذ زمن على الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، فهم يتآمرون اليوم على شرعه، ويتآمرون اليوم على سنته: كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا [الكهف:5]، قالوا عن سليمان: إنه ساحر، وقالوا عن سليمان: إنه كان يعشق النساء وانشغل بعشقهن عن طاعته لربه.
أحبتي الكرام! هذا شأن اليهود مع أنبياء الله ومع رسل الله.
أما إلحادهم في عقيدتهم في الله فنقرأ في كتاب ربنا: وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا [المائدة:64]، قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، ألحدوا في الجنة والنار، فقالوا: وَقَالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كَانَ هُودًا أَوْ نَصَارَى تِلْكَ أَمَانِيُّهُمْ قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنتُمْ صَادِقِينَ [البقرة:111]، وألحدوا في حق الملائكة حينما بينوا للنبي صلى الله عليه وسلم أن جبريل هو عدوهم، فأنزل الله: قُلْ مَنْ كَانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلَى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقًا لِمَا بَيْنَ يَدَيْهِ وَهُدًى وَبُشْرَى لِلْمُؤْمِنِينَ [البقرة:97]، ومن إلحادهم في النار قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّامًا مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْدًا فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [البقرة:80].
أحبتي الكرام! لقد أنعم الله على سليمان بنعم عديدة.
نعمة الفهم في العلم
فالفهم رزق وعطاء وحكمة: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
القصة كما جاءت في كتب التفاسير: أن رجلاً ترك غنمه فنزلت في زرع رجل بالليل فأفسدت عليه زرعه فتحاكما إلى داود عليه السلام، فقدر داود ما أتلفت بقيمة الغنم، وحكم بالغنم لصاحب الزرع تعويضاً له عما أتلفت، لكن عندما خرجا من عنده لقيهما سليمان فقال لهما: بم قضى بينكما أبي؟ قالا: بكذا، فعاد بهما وقال لأبيه: إني أرى فيها رأياً، قال: ما تقول يا بني؟! قال: أرى أن ندفع الزرع لصاحب الغنم، وأن ندفع الغنم لصاحب الزرع، أما صاحب الزرع فيأخذ الغنم ينتفع بأصوافها وألبانها وسمونها، وأما صاحب الغنم فيأخذ الزرع ويقوم بزراعته ورعايته حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحبها ويعود الزرع إلى صاحبه، فقال ربنا سبحانه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].
وابن عباس على حداثة سنه يجلسه عمر مع كبار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ممن شهد بدراً، فيقرأ على مسامعهم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ثم يسألهم عما فهموا من السورة، فإذا بـابن عباس يفهم غير ما فهم الجميع، يقول: يا عمر ! أرى أن هذه السورة نعي من الله عز وجل للحبيب محمد، أي: إشارة إلى اقتراب أجله ودنو عمره ومفارقته للحياة، من أين فهم؟ من قول الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:98]، والاستغفار عادة يكون في ختام الشيء، فختام المجالس الاستغفار، وختام الصلاة الاستغفار، فإن الله عز وجل قد أمر نبيه بالاستغفار، إذاً: حياة النبي أوشكت على النهاية، وهكذا فهم ابن عباس من النص ما لم يفهمه الكبار.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنها قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم) -والإمام البخاري يأتي بهذا الحديث كعادته في أكثر من موضع، ففي موضع في كتاب العلم يقول: باب الفهم في العلم، ثم يعود فيقول: باب الإمام يطرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من علم- فقال: (إن من الشجر لشجرة لا يسقط ورقها، مثلها مثل المؤمن، حدثوني ما هي؟ يقول
والبخاري لفقهه بعد الباب مباشرة يأتي بباب: العلم يضيع بين الكبر والحياء، فإن كنت تستحيي فكلف غيرك ليسأل؛ ولذلك جاء بحديث علي بن أبي طالب يقول فيه: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن
أحبتي الكرام! أقول: قال ابن عمر : (حدثتني نفسي أنها النخلة ومنعني الحياء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: إنها النخلة)، والسؤال الآن ما وجه الشبه بين المؤمن والنخلة؟
كلهما نفعه ممتد، المؤمن نفعه بعد موته يمتد، والنخلة بعد خلعها نفعها يمتد، فكلها نفع، وهكذا المؤمن إن مات يترك علماً ينتفع به، ويترك ولداً صالحاً يدعو له، ويترك معهداً يخرج منه طلبة العلم، ويترك آثاراً، فهو في قبره ميت، لكنه في واقع الأمر ما مات؛ لذلك قال الشاعر:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال أسماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
كان سلفنا يرحل، لكنه لا يرحل إلى ألمانيا أو إلى إيطاليا ليطلب الرزق في مجتمع المعاصي، هيهات هيهات! قال عليه الصلاة والسلام: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين)، والرحلة لا تكون إلا في طاعة، فقد كانوا يرحلون لطلب العلم، فهذا جابر بن عبد الله أحد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم يسمع حديثاً، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يحشر الناس حفاة عراة)، فقال: من الذي سمعه من رسول الله؟ قالوا: عبد الله بن أنيس قال: أين هو؟ قالوا: في أرض الشام، فـجابر في المدينة وابن أنيس في الشام، ويحزم جابر المتاع ويعد العدة ويركب الراحلة ويقطع آلاف الكيلو مترات؛ لكي يسمع حديثاً واحداً لرسول الله عليه الصلاة والسلام طلباً لعلو الإسناد، فيأتي إلى الشام ويطرق الباب فيقول عبد الله : من؟ فيقول: أنا جابر ، يقول: جابر من؟ يقول: صحابي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيفتح ابن أنيس ويعانق جابراً ، وفي الحديث مشروعية معانقة المسافر. قال ابن أنيس : ما جاء بك يا جابر ؟! قال: يا عبد الله ! سمعت أنك سمعت حديثاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول فيه: كذا وكذا، قال: نعم يا جابر ! سمعت ذلك أذناي، فعاد جابر يحدث بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام بسند عال عن عبد الله بن أنيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه رحلة لطلب العلم، فأين الذين يرحلون لطلب العلم؟ وأين الذين يجتهدون لتحصيل العلم؟ الأمة الآن تجتهد في طلب الدنيا!
تعليم سليمان عليه السلام منطق الحيوان
فإن سليمان لو شعر بالنملة وبأمة النمل ما داسها؛ لذلك قالت النملة: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18]، فكم من دولة عتيدة عظيمة جبارة تريد أن تبتلع دولة صغيرة، وكم من صاحب قصر داس على صاحب كوخ، وكم من رجل آتاه الله قوة فاستغل قوته في البطش والتعدي على من لا ينبغي له أن يتعدى عليهم، إن النملة لها حق الحياة، فلا ينبغي أن يصادر حقها في الحياة أبداً، ادْخُلُوا مَسَاكِنَكُمْ [النمل:18]، قال ابن القيم رحمه الله: هناك دروس مستفادة من كلام النملة مع بني جنسها.
أولاً: الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، فلو أننا كنا بدلاً من النملة لتنحينا جانباً وتركنا الباقي ليقتل، لا نأمر بالمعروف ولا ننهى عن المنكر، لكن النملة أحبت لبني جنسها ما أحبت لنفسها، وهذا هو المعنى الغائب في معنى الأخوة، الأخوة ليست شعارات، الأخوة عمل وترجمة، انظر إلى حال السلف الصالح: رجل فقير يهدى إليه ذراع شاة، فيأخذ الذراع ويقول: أخي فلان أشد حاجة مني، فيطرق الباب ويعطيه، فيقول الآخر: أخي فلان أشد حاجة مني، فيعطيها إلى الثالث، والثالث إلى الرابع، والرابع إلى الخامس، وتنتقل ذراع الشاة بينهم حتى تصل إلى صاحبها الأول: وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ [الحشر:9].
يقعون في أرض معركة فيحتضرون عطشاً، وكل يحتاج إلى قطرة ماء قبل موته ليشرب وهو معذور، الروح تخرج والعطش شديد، وإن شرب لا حرج عليه، يأتي الساقي إلى الأول فيقول له: خذ الماء واشرب فأنت الآن مفارق للحياة. فيقول: اذهب بالماء إلى أخي الذي بجواري فإنه أشد حاجة للماء مني، فيذهب إلى الثاني فيقول: اذهب إلى الثالث فالرابع! وهكذا مشهد يا ليتنا نعيش ذلك المشهد، حتى يصل إلى الأخير فيأمره أن يعود إلى الأول، فيأتي إلى الأول فيجده قد فارق الحياة، والثاني فارق الحياة، والثالث فارق الحياة، وهكذا ماتوا جميعاً دون أن يشربوا، لكنهم شربوا عند الله: وَسَقَاهُمْ رَبُّهُمْ شَرَابًا طَهُورًا [الإنسان:21]، فأين هذا المعنى يا عباد الله؟!
النملة حريصة: يَا نداء، أَيُّهَا تنبيه، النَّمْلُ جمع، ادْخُلُوا أمر، مَسَاكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ نهي، سُلَيْمَانُ وَجُنُودُهُ خصصت وعممت، ثم أحسنت الظن بقولها: وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:18].
سليمان تبسم ضاحكاً من قولها، والأنبياء كان ضحكهم تبسماً، تقول أمنا عائشة رضي الله عنها: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم مستجمعاً ضاحكاً)، أي: ما رأيته يفتح فاه هكذا، ولم يكن يضحك بصوت مرتفع ولا بقهقهة، إنما كان ضحكه تبسماً عليه الصلاة والسلام. قالت: (ما رأيت النبي مستجمعاً ضاحكاً حتى أرى لهواته)، واللهوات: في مؤخرة الفم، ونحن الآن نتنافس ونقول: المسرحية بها ثلاثة آلاف ضحكة. وكثرة الضحك تميت القلب، فيا ويل الذين يضحكون الناس بكذب، قال في حقهم النبي صلى الله عليه وسلم: (ويل له، ويل له، ويل له، قالوا: من يا رسول الله؟! قال: الذي يكذب الكذبة ليضحك الناس).
أحبتي الكرام! كذلك في قصته مع الهدهد دروس وعبر، قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ [النمل:20]، وكلمة تَفَقَّدَ تشير إلى معنى: (كلكم راع وكلكم مسئول عن رعيته)، فيا من تملأ البطن، وتنام في بروج مشيدة، وتترك الفقراء لا يملكون طعاماً، سيسألك ربك عز وجل يوم القيامة، اسمعوا إلى قول عمر وهو في المدينة: لو تعثرت بغلة في العراق لسئلت عنها: لِمَ لَمْ تمهد لها الطريق يا عمر ؟! إن البغلة في أمة الإسلام لها حق، فلا بد لكل ولي أمر أن يتفقد رعيته، فكم من مظلوم لا يجد من ينصره، وكم من جائع لا يجد من يطعمه، وكم من فقير لا يجد من يؤويه، وكم من يتيم لا يجد من يكفله. حدث ولا حرج يا عبد الله! كلهم أمانة في رقبة ولي الأمر يوم القيامة، وأنت في بيتك راع ومسئول عن رعيتك، فيا من تصلي في الصف الأول، ويا من تقرأ القرآن ثم تترك لبنتك حرية اختيار زيها، فتلبس البنطال وتخرج بعورتها المغلظة. اعلم أنك ستحاسب بين يدي الله يوم لقيامة.
أحبتي الكرام! قال تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:20-21]، والمتهم برئ حتى تثبت إدانته، وهذا أصل شرعي، لكن الظلمة يوجهون الاتهام؛ لأن قلوبهم تحمل الحسد والحقد، قال الله سبحانه: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران:118]، آخر مقال لكاتب يهودي يكتب في صحيفة صهيونية: إن المقابل لضرب تلك الأماكن في الولايات المتحدة لم يشف غليلنا إلا أن تضرب الكعبة، ذلك الصندوق الأسود الذي يحاط بحوائط، حتى توجه المسلمون إلى خراب في خراب، أقول له: إن كنت عازماً على ما تقول فاقترب من بيت الله عز وجل، فستكون نهايتك كنهاية أبرهة الذي خرج من اليمن ليهدم بيت الله، وتخلى الجميع عن بيت الله، ولكن للبيت رب يحميه. قال سبحانه: وَمَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحَادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذَابٍ أَلِيمٍ [الحج:25]، وقال سبحانه: أَلَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحَابِ الْفِيلِ * أَلَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ * وَأَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْرًا أَبَابِيلَ * تَرْمِيهِمْ بِحِجَارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ [الفيل:1-4]، فالحجارة في القديم كانت سبباً في نهاية أبرهة ، وستكون بفضل الله في العصر الحديث سبباً في نهاية إخوان القردة والخنازير، أسأل الله أن يثبت أطفال الحجارة، وأن يربط على قلوبهم، وأن يوحد جمعهم وأن يجعل الدائرة على أعدائهم.
يقول سبحانه: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [النمل:21]، هكذا الراعي لا يعرف المجاملة، ولا يعرف المحسوبية، وكما يقولون في لغة الأرياف: (اضرب المربوط يخاف السايب)، فلو غاب الهدهد ولم يعذر لأصبح الأمر على مصراعيه يغيب متى شاء، فسليمان أعلن أنه سيعذبه حتى يفهم الحضور أنه لا ينبغي لأحد أن يغيب إلا بعذر، قال تعالى: فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ [النمل:22]، جاء الهدهد واقترب من سليمان، مع أنه في ملك سليمان، لكنه أخذ يعبر عن رأيه، فلا تقنين للأصوات، ولا مصادرة للآراء، ولا حجر على صاحب فكر. قال الهدهد في بلاغة وحكمة وقوة شخصية: أَحَطتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، والآية فيها دليل على أن سليمان لا يعلم الغيب، فقد غاب عنه أن في سبأ امرأة تسجد للشمس من دون الله، كذلك لما توكأ على عصاه ومات تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ مَا لَبِثُوا فِي الْعَذَابِ الْمُهِينِ [سبأ:14].
ولما كان موسى في رحلته يبحث عن الخضر نام قليلاً وانفلت الحوت من يوشع ، فقال له: آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف:62]، ولو كان موسى يعلم الغيب لعلم أن الحوت قد خرج؛ لذلك نقول: الغيب لله رب العالمين: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الْبَرِّ وَالْبَحْرِ [الأنعام:59].
فما بال أقوام يدعون علم الغيب؟ وتسمعون عن قراءة الفنجان التي يحضرها بعض طبقات المثقفين، ولعلكم سمعتم في الآونة الأخيرة عن امرأة خرجت في الإسكندرية، وهب لها من كل أنحاء مصرنا من يطلب العلاج والتداوي، ولو كان لهؤلاء عقيدة ثابتة لعلموا أن الذي يملك جلب النفع ودفع الضر هو الله سبحانه، لكنهم على شفا جرف هار.
أيها الإخوة الكرام! قال الله تبارك وتعالى: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل:22]، والنبأ هو الخبر العظيم، إِنِّي وَجَدتُّ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ [النمل:23].
قال الهدهد ذلك مستنكراً على الرجال أن تملكهم امرأة، وفي عصرنا تخرج علينا من تقول: الله ظلم النساء بعدم مساواتهن في الميراث بالرجال، أقول لها: رب العالمين يقول: وَلَيْسَ الذَّكَرُ كَالأُنْثَى [آل عمران:36]، والأحكام الشرعية التي يختلف فيه الرجال عن النساء كثيرة، فليس للمرأة أن تؤم الرجال في صلاة، وليس لها أن تؤذن، وليس لها كذلك أن تخطب الجمعة أو تخطب العيد، بل حتى في العقيقة للذكر شاتان وللأنثى شاة، بل في الشهادة كذلك الآيات بينة: فَإِنْ لَمْ يَكُونَا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَامْرَأَتَانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَدَاءِ [البقرة:282]، يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الأُنثَيَيْنِ [النساء:11]، حتى في البول إذا تبول المولود قبل فطامه على ثيابك إن كان ذكراً ينضح، وإن كانت أنثى يغسل، فهذه أحكام يختلف فيها الرجال عن النساء، والله يقول: وَلا تَتَمَنَّوْا مَا فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلَى بَعْضٍ لِلرِّجَالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَلِلنِّسَاءِ نَصِيبٌ [النساء:32].
وفي زمن الإحن والمحن، وفي زمان الفتن يريدون للمرأة أن تزاحم الرجل، فتكون عمدة أو قاضية أو مأذوناً يتولى عقد الزواج، وكل شيء فعلوه، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (لن يفلح قوم ولوا أمرهم امرأة)، وليس هذا قدحاً في المرأة، فالمرأة خلقت لوظيفة سامية وعالية، هذه الوظيفة أن تربي الأجيال وتخرج النسل وتنشئ الشباب الذي يدافع عن المقدسات وتزرع فيه العقيدة، وانظروا إلى الصحابيات في زمان رسول الله عليه الصلاة والسلام، امرأة يموت أولادها الأربعة فتقول: الحمد لله الذي شرفني بقتلهم جميعاً؛ تقول ذلك لأنها ربت رجالاً في المساجد، ولقد ضل أقوام زعموا أن الجهاد شعارات، فتركوا المساجد والجماعات، والقائل يقول:
لا بد من صنع الرجال ومثله صنع السلاح
لا يصنع الأبطال إلا في مساجدنا الفساح
في روضة القرآن في ظل الأحاديث الصحاح
شعب بغير عقيدة ورق يذريه الرياح
من خان حي على الصلاة يخون حي على الكفاح
فأول طريق للالتزام على منهج الله أن تلتزم حدود الله وأوامره، وأن تستقيم على شرع الله: فَاسْتَقِمْ كَمَا أُمِرْتَ [هود:112]، خُذِ الْكِتَابَ بِقُوَّةٍ [مريم:12]، فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ [الذاريات:50]، وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ [آل عمران:133].
أحبتي الكرام! الأمر جد لا هزل فيه، ولا ينبغي أبداً لنا أن نتقاعس عن التصفية والتربية، فذاك هو طريق السلف الصالح أن تصفي ثم تربي، وصدق من قال: كلمة التوحيد قبل توحيد الكلمة، فلن تجتمع الأمة إلا إذا كانت على عقيدة ثابتة راسخة، ثم بعد ذلك لا يهمنا.
الأولى: أن الله عز وجل آتاه نعمة الفهم في العلم، وأعتقد أن سوء الفهم هو الذي مزق الأمة إلى فرق وجماعات، فالخوارج كفروا مرتكب المعصية بكبيرته من سوء فهمهم، والمرجئة قالوا: لا يضر مع الإيمان معصية ولا ينفع مع الكفر طاعة، فنزعوا العمل من مسمى الإيمان؛ لسوء فهمهم، والمعتزلة قالوا عن مرتكب الكبيرة: إنه في منزلة بين المنزلتين في الدنيا وفي الآخرة ومخلد في النار؛ لسوء فهمهم، والجبرية قالوا: إن العبد لا اختيار له، إنما هو كالريشة في مهب الهواء لا اختيار له وهو مسير، فلماذا يحاسبه الله؟ لسوء فهمهم، والروافض الشيعة الأشرار وقعوا في أصحاب سيد البشر عليه الصلاة والسلام؛ لسوء فهمهم، ولذا فأقول: سوء الفهم مشكلة الأمة؛ ولذلك الإمام البخاري يضع في كتاب العلم باباً يحمل هذا العنوان: باب الفهم في العلم، وليس حفظ النص هو المشكلة، المشكلة أن تفهم ما في النص، والأفهام تختلف؛ ولذلك انظر أخي الكريم! إلى تلك النعمة، يقول ربنا في حقها: وَدَاوُدَ وَسُلَيْمَانَ إِذْ يَحْكُمَانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَكُنَّا لِحُكْمِهِمْ شَاهِدِينَ * فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ وَكُلًّا آتَيْنَا حُكْمًا وَعِلْمًا [الأنبياء:78-79]، ولذلك شيخ الإسلام ابن تيمية رحمه الله كان إذا سئل عن تفسير آية يقرأ لها مائة تفسير، ثم يذهب إلى أحد المساجد ويسجد بين يدي ربه ويقول: يا معلم آدم وإبراهيم علمني! ويا مفهم سليمان فهمني!
فالفهم رزق وعطاء وحكمة: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشَاءُ وَمَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْرًا كَثِيرًا [البقرة:269].
القصة كما جاءت في كتب التفاسير: أن رجلاً ترك غنمه فنزلت في زرع رجل بالليل فأفسدت عليه زرعه فتحاكما إلى داود عليه السلام، فقدر داود ما أتلفت بقيمة الغنم، وحكم بالغنم لصاحب الزرع تعويضاً له عما أتلفت، لكن عندما خرجا من عنده لقيهما سليمان فقال لهما: بم قضى بينكما أبي؟ قالا: بكذا، فعاد بهما وقال لأبيه: إني أرى فيها رأياً، قال: ما تقول يا بني؟! قال: أرى أن ندفع الزرع لصاحب الغنم، وأن ندفع الغنم لصاحب الزرع، أما صاحب الزرع فيأخذ الغنم ينتفع بأصوافها وألبانها وسمونها، وأما صاحب الغنم فيأخذ الزرع ويقوم بزراعته ورعايته حتى يعود كما كان، وتدفع الغنم إلى صاحبها ويعود الزرع إلى صاحبه، فقال ربنا سبحانه: فَفَهَّمْنَاهَا سُلَيْمَانَ [الأنبياء:79].
وابن عباس على حداثة سنه يجلسه عمر مع كبار أصحاب رسول الله عليه الصلاة والسلام ممن شهد بدراً، فيقرأ على مسامعهم: إِذَا جَاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَالْفَتْحُ [النصر:1] ثم يسألهم عما فهموا من السورة، فإذا بـابن عباس يفهم غير ما فهم الجميع، يقول: يا عمر ! أرى أن هذه السورة نعي من الله عز وجل للحبيب محمد، أي: إشارة إلى اقتراب أجله ودنو عمره ومفارقته للحياة، من أين فهم؟ من قول الله تعالى: فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ [الحجر:98]، والاستغفار عادة يكون في ختام الشيء، فختام المجالس الاستغفار، وختام الصلاة الاستغفار، فإن الله عز وجل قد أمر نبيه بالاستغفار، إذاً: حياة النبي أوشكت على النهاية، وهكذا فهم ابن عباس من النص ما لم يفهمه الكبار.
روى البخاري عن ابن عمر رضي الله عنها قال: (خرج علينا النبي صلى الله عليه وسلم) -والإمام البخاري يأتي بهذا الحديث كعادته في أكثر من موضع، ففي موضع في كتاب العلم يقول: باب الفهم في العلم، ثم يعود فيقول: باب الإمام يطرح المسألة على أصحابه ليختبر ما عندهم من علم- فقال: (إن من الشجر لشجرة لا يسقط ورقها، مثلها مثل المؤمن، حدثوني ما هي؟ يقول
والبخاري لفقهه بعد الباب مباشرة يأتي بباب: العلم يضيع بين الكبر والحياء، فإن كنت تستحيي فكلف غيرك ليسأل؛ ولذلك جاء بحديث علي بن أبي طالب يقول فيه: (كنت رجلاً مذاءً -أي: كثير المذي- فاستحييت أن أسأل النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأن
أحبتي الكرام! أقول: قال ابن عمر : (حدثتني نفسي أنها النخلة ومنعني الحياء، فقال النبي عليه الصلاة والسلام لأصحابه: إنها النخلة)، والسؤال الآن ما وجه الشبه بين المؤمن والنخلة؟
كلهما نفعه ممتد، المؤمن نفعه بعد موته يمتد، والنخلة بعد خلعها نفعها يمتد، فكلها نفع، وهكذا المؤمن إن مات يترك علماً ينتفع به، ويترك ولداً صالحاً يدعو له، ويترك معهداً يخرج منه طلبة العلم، ويترك آثاراً، فهو في قبره ميت، لكنه في واقع الأمر ما مات؛ لذلك قال الشاعر:
الناس من جهة التمثيل أكفاء أبوهم آدم والأم حواء
فإن يكن لهم في أصلهم حسب يفاخرون به فالطين والماء
ما الفخر إلا لأهل العلم إنهم على الهدى لمن استهدى أدلاء
وقدر كل امرئ ما كان يحسنه وللرجال على الأفعال أسماء
وضد كل امرئ ما كان يجهله والجاهلون لأهل العلم أعداء
ففز بعلم تعش حياً به أبداً الناس موتى وأهل العلم أحياء
كان سلفنا يرحل، لكنه لا يرحل إلى ألمانيا أو إلى إيطاليا ليطلب الرزق في مجتمع المعاصي، هيهات هيهات! قال عليه الصلاة والسلام: (أنا بريء من كل مسلم أقام بين أظهر المشركين)، والرحلة لا تكون إلا في طاعة، فقد كانوا يرحلون لطلب العلم، فهذا جابر بن عبد الله أحد أصحاب النبي محمد صلى الله عليه وسلم يسمع حديثاً، أن النبي عليه الصلاة والسلام قال: (يحشر الناس حفاة عراة)، فقال: من الذي سمعه من رسول الله؟ قالوا: عبد الله بن أنيس قال: أين هو؟ قالوا: في أرض الشام، فـجابر في المدينة وابن أنيس في الشام، ويحزم جابر المتاع ويعد العدة ويركب الراحلة ويقطع آلاف الكيلو مترات؛ لكي يسمع حديثاً واحداً لرسول الله عليه الصلاة والسلام طلباً لعلو الإسناد، فيأتي إلى الشام ويطرق الباب فيقول عبد الله : من؟ فيقول: أنا جابر ، يقول: جابر من؟ يقول: صحابي النبي محمد صلى الله عليه وسلم، فيفتح ابن أنيس ويعانق جابراً ، وفي الحديث مشروعية معانقة المسافر. قال ابن أنيس : ما جاء بك يا جابر ؟! قال: يا عبد الله ! سمعت أنك سمعت حديثاً من رسول الله عليه الصلاة والسلام يقول فيه: كذا وكذا، قال: نعم يا جابر ! سمعت ذلك أذناي، فعاد جابر يحدث بحديث رسول الله عليه الصلاة والسلام بسند عال عن عبد الله بن أنيس إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فهذه رحلة لطلب العلم، فأين الذين يرحلون لطلب العلم؟ وأين الذين يجتهدون لتحصيل العلم؟ الأمة الآن تجتهد في طلب الدنيا!
استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
الوقت وحرص الصالحين عليه | 2395 استماع |
اللحوم المسمومة | 2347 استماع |
الرحلة في طلب العلم | 2337 استماع |
فاصبر صبراً جميلاً | 2275 استماع |
وثيقة حرمات لا حدود | 2257 استماع |
استكمال تفسير سورة الحاقة 2 | 2226 استماع |
وقفة مع سورة الإنسان | 2218 استماع |
إنا بلوناهم | 2098 استماع |
ذرني ومن يكذب بهذا الحديث | 2059 استماع |
بناء البيت .. دروس وعبر | 2011 استماع |