الرحلة في طلب العلم


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِنْ طِينٍ * ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ * ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ [السجدة:7-9]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خَالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ [فاطر:3]، خلق الإنسان من سلالة من طين، ثم جعله نطفة في قرار مكين، ثم خلق النطفة علقة سوداء للناظرين، ثم خلق العلقة مضغة بقدر أكلة الماضغين، ثم خلق المضغة عظاماً كأساس لهذا البناء المتين، ثم كسا العظام لحماً هي له كالثوب للابسين، ثم أنشأه خلقاً آخر، فَتَبَارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخَالِقِينَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذَلِكَ لَمَيِّتُونَ * ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ تُبْعَثُونَ [المؤمنون:14-16].

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، يؤتي الملك من يشاء، وينزع الملك ممن يشاء، ويعز من يشاء، ويذل من يشاء.

وأشهد أن محمداً عبده ورسوله صلى الله عليه وسلم.

أما بعد:

عباد الله! طريقنا واحد: القرآن والسنة بفهم سلف الأمة، فلا ندعو إلى جماعات، ولا إلى تحزب، ولا إلى تفرق، ولاؤنا للإسلام، ومعاداتنا لمن عادى الإسلام، هذا منهج أهل السنة والجماعة؛ حتى يتضح الأمر.

أحبتي الكرام! أقول: العلم طريق النجاة، وهو الأصل في خروجنا مما نحن فيه؛ لأن العلم سيجعلنا نجاهد في سبيل الله حق الجهاد حينما يفرض علينا.

باب الخروج إلى طلب العلم:

من منا خرج ليطلب العلم، وارتحل ليتلقى العلم ويستمع ويتعلم على يد العلماء؟ لذلك يقولون عبارة أريد أن نضعها في أذهاننا ونعلقها على جدران بيوتنا: لا تأخذ العلم من صحفي ولا القرآن من مصحفي. أي: أن العلم لا يؤخذ من صحفي تلقى العلم من الكتب، فمن كان شيخه كتابه كان خطؤه أكثر من صوابه، فالشيخ يوفر عليك الطريق، ولذلك انظر في تراجم السلف فلن تجد عالماً إلا وله شيوخ، وله تلاميذ، وله رحلة، يقولون في ترجمته: اسمه، لقبه، كنيته، تلامذته، شيوخه، بلاؤه، رحلته في طلب العلم، مصنفاته، فأين نحن من هذا وذاك؟!

موسى عليه السلام قام خطيباً في بني إسرائيل، وما أكثر وعظ موسى لبني إسرائيل، ولكن بني إسرائيل كما تعلمون هم اليهود قتلة الأنبياء، هم اليهود الذين ألحدوا في العقائد.

وقبل أن أسترسل في الموضوع أريد أن ألفت النظر إلى نقطة هامة: في ليلة السابع عشر من رمضان تاريخ غزوة بدر أراد اليهود أن يطفئوا بهجة وفرحة غزوة بدر على المسلمين، فكانت القنابل تتهاوى على أطفال فلسطين في نفس التوقيت، فاستدرت بوجهي خشية أن يبصق مدفع الإفطار في وجوه المتخاذلين من أمة النبي عليه الصلاة والسلام.

أحبتي الكرام! قام موسى عليه السلام خطيباً في بني إسرائيل يذكرهم، فقام له رجل وقال: يا كليم الله! من أعلم أهل الأرض؟ فقال عليه السلام: أنا، ولم يقل: أنا، والله أعلم، لذلك البخاري أتى بهذا الحديث في كتاب العلم في موضع آخر تحت عنوان: من سئل: أي الناس أعلم عليه أن يقول: الله أعلم.

فقال موسى عليه السلام: أنا، فعتب الله عز وجل عليه؛ إذ لم يرد العلم إليه، وأوحى الله إليه: يا موسى! إن لي عبداً هو أعلم منك.

وفي الحقيقة هذه القصة محور ارتكاز عند أصحاب الفكر الصوفي، ومنها أسسوا نظريات باطلة:

النظرية الأولى عند ابن عربي : أن الولي في منزلة أعلى من النبي.

قال: لأن الخضر ولي، وموسى نبي، والولي قد علم النبي، إذاً: مقام الولاية أعلى من مقام النبوة.

أرأيت إلى الشعوذة والدجل في تفضيل الأولياء على الأنبياء.

ولذلك يقول ابن عربي قولته المشهورة:

مقام النبوة في برزخ فويق الرسول ودون الولي

يقول ابن كثير وابن حجر وابن تيمية : من قال: إن الولي أفضل من النبي فقد كفر كفراً يخرج من الملة؛ لأن أفضل الأولياء هم الأنبياء، فلا يجوز أن نقول: الولي يعلم النبي، وموسى أفضل من الخضر لا شك في ذلك، والخضر كان نبياً، ولعل ابن حجر في كتابه المختصر (نبأ الخضر) وابن كثير في البداية والنهاية قد برهن على نبوته بأدلة أربعة:

الدليل الأول: أنه قال لموسى: وَمَا فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي [الكهف:82].

الدليل الثاني: أنه أقبل على قتل غلام، ويستحيل لولي أن يقتل نفساً إلا بوحي ظاهر، يعني: ولي يلهم فينادي على غلام فيقتله دون وحي من الله عز وجل هذا لا يمكن أن يكون.

الدليل الثالث: أن موسى نبي معصوم والخضر ولي غير معصوم -على قولهم- فهل يجوز لمعصوم أن يتبع غير معصوم؟ الجواب: لا؛ لأن موسى قال: هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ [الكهف:66].

إذاً: موسى نبي معصوم لن يتبع إلا نبياً معصوماً.

الدليل الرابع: أن الله قال: آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65].

ومن القصة أيضاً استنبطوا ما يسمى: العلم اللدني، أو العلم الباطن، ويدندنون حوله ليل نهار، ويقولون: يا أيها السلف! أنتم لكم العلم الظاهر ونحن أصحاب العلم الباطن، ولا أدري ما معنى العلم الباطن؟ وهل الشريعة جاءت بظاهر وباطن؟

والباطنية فرقة ضالة يحرفون الكلم عن مواضعه، وبلغة الباطن حدث التأويل الفاسد، وفي بعض تفاسير الباطنية: وَالشَّمْسِ وَضُحَاهَا [الشمس:1] أبو بكر ، وَالْقَمَرِ إِذَا تَلاهَا [الشمس:2] عمر ، وَالنَّهَارِ إِذَا جَلَّاهَا [الشمس:3] عثمان .. إلى غير ذلك من الانحراف بالقرآن عن ظاهره.

وأعجب من ذلك أقوام قالوا: إن آية في سورة التوبة قد بينت حادث مبنى التجارة في نيويورك، وهي الآية رقم (110) في سورة التوبة: لا يَزَالُ بُنْيَانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ [التوبة:110]، قالوا: إن الآية (110) والجزء الحادي عشر، والسورة رقم تسعة، والكلمات ألفان وواحد، فما هذا الذي يقولون؟ وهل هذا تفسير أثر عن رسول الله؟!

فالقرآن يفسر بالقرآن، ويفسر بقول النبي عليه الصلاة والسلام، ويفسر القرآن بأقوال الصحابة، وبأقوال التابعين، ثم بقواعد اللغة، هذا هو التفسير المأثور، أما التفسير بالإشارة فليس طريقنا، وإنما هو طريق فرق الضلال، فلا ينبغي أبداً، قلت لسائل: هل عدوا بالبدروم، فالبدروم لم يعد، والمبنى (111) بالبدروم، ولو حدثت الواقعة يوم اثني عشر سبتمبر فكيف كنا سنفسر الآية، فاتقوا الله في دين الله؟ وكفاكم هزلاً بكتاب الله رب العالمين؟

أخي الكريم! اقرأ في مقدمة ابن كثير ؛ لتعلم منهج السلف في تفسير كتاب رب العالمين.

قال موسى لفتاه يوشع : لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، والسؤال هنا: لم سار موسى تلك المسافات؟ والجواب: لأجل العلم، والعلم من كليم الله الذي قال الله في حقه: وَاصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي [طه:41]، والذي قال الله في حقه: وَكَلَّمَ اللَّهُ مُوسَى تَكْلِيمًا [النساء:164]، ما قال: أنا أرحل لطلب العلم على يد فلان، ولذلك بوب البخاري في كتاب العلم: باب الحياء في العلم، وقال مجاهد : لا يتعلم العلم مستح ولا مستكبر، وأتى بحديث علي بن أبي طالب رضي الله عنه وأرضاه لما استحيا أن يسأل النبي عليه الصلاة والسلام وقال: كنت رجلاً مذاءً، يعني: كثير المذي، فأمرت المقداد بن الأسود أن يسأل النبي صلى الله عليه وسلم لمنزلة فاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم مني، يقول ابن حجر معلقاً: فمن استحيا أن يسأل فليأمر غيره بالسؤال؛ ليسأل وهو يستمع.

ولا يمنعك الحياء من تعلم العلم يا عبد الله! ولذلك قيل: العلم ثلاثة أشبار، من حصل الشبر الأول تكبر، ومن حصل الشبر الثاني تواضع، ومن حصل الشبر الثالث علم أنه لا يعلم، فلا تكن أبا شبر، وما أكثر أصحاب الأشبار الأولى، فبمجرد أن يقبل على تحصيل العلم يظن أنه قد أحاط بكل شيء علماً، نسأل الله العفو والعافية.

رحل موسى عليه السلام، وقال لفتاه: لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا [الكهف:60]، يعني: سنوات متوالية متتابعة، فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا [الكهف:61]، والآية تثبت أن النسيان يرد على الأنبياء، انظر إلى قوله تعالى: نَسِيَا [الكهف:61]، ثم انظر إلى آخر الآيات لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ [الكهف:73]. ثم انظر إلى قول الله: وَلَقَدْ عَهِدْنَا إِلَى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَلَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْمًا [طه:115]، ثم انظر إلى قول الله: وَاذْكُرْ رَبَّكَ إِذَا نَسِيتَ [الكهف:24].

ولذلك أقول: النسيان يرد على الأنبياء، لكن لا يرد على الأنبياء في الوحي وفي التحمل والبلاغ، فالوحي الذي ينزل عليهم لا ينسون منه شيئاً؛ لأنهم سيبلغونه، قال ابن عباس -كما في كتاب بدء الوحي عند البخاري -: (كان النبي صلى الله عليه وسلم يحرك لسانه خلف جبريل؛ خشية أن يتفلت القرآن من صدره، فقال له ربه: لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ * إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ [القيامة:16-17]).

يقول العلماء: الجمع الأول للقرآن كان في صدر الحبيب محمد صلى الله عليه وسلم، ويقول له ربه في سورة طه: وَلا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضَى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَقُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْمًا [طه:114]، ففي التحمل والبلاغ لا ينسون، وما سوى ذلك قد يطرأ النسيان عليهم.

قال عز وجل حاكياً عن فتى موسى: قَالَ أَرَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنَا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَمَا أَنْسَانِيهُ إِلَّا الشَّيْطَانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَبًا [الكهف:63]، قال موسى لفتاه: ذَلِكَ مَا كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلَى آثَارِهِمَا قَصَصًا * فَوَجَدَا عَبْدًا مِنْ عِبَادِنَا آتَيْنَاهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنَا [الكهف:64-65]، قال ابن كثير : هي رحمة النبوة، وَعَلَّمْنَاهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْمًا [الكهف:65]، والخضر كان على شريعة، وموسى كان على شريعة، والشرائع قد تختلف، ففي شريعة آدم يجوز للأخ أن يتزوج أخته، وفي شريعة يعقوب يجوز أن تجمع الأختين، والشرائع تتباين.

وفي الحديث: (لما ركب موسى مع الخضر في السفينة رأى الخضر عصفوراً يأخذ بمنقاره من ماء البحر قال: يا موسى أنت على علم علمك الله إياه لا أعلمه أنا، وأنا على علم علمنيه الله لا تعلمه أنت، وما علمي وعلمك يا موسى! بالنسبة لعلم الله عز وجل إلا كما أخذ هذا العصفور بمنقاره من ماء البحر) وانظر إلى قول ربنا في سورة لقمان: وَلَوْ أَنَّمَا فِي الأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ [لقمان:27]، لو أن أشجار الأرض تحولت إلى أقلام ومدادها وحبرها البحر، وَالْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ [لقمان:27]، لتحطمت الأقلام ولنفد المداد دون أن تنفد كلمات الله، وفي آخر سورة الكهف يقول ربنا عز وجل: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ كَانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا [الكهف:107]، ثم قال ربنا: قُلْ لَوْ كَانَ الْبَحْرُ مِدَادًا لِكَلِمَاتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنفَدَ كَلِمَاتُ رَبِّي وَلَوْ جِئْنَا بِمِثْلِهِ مَدَدًا [الكهف:109].

فرحل موسى عليه السلام وانطلق مع الخضر في رحلاته الثلاث:

الرحلة الأولى: اشترط الخضر على موسى ألا يسأله عن شيء حتى يحدث له منه ذكراً، قال موسى: قَالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ صَابِرًا وَلا أَعْصِي لَكَ أَمْرًا [الكهف:69]، فيا له من تواضع لطالب العلم الشرعي! فإياك إياك أن تتكبر على طلب العلم! فإن تكبرت فلن تتعلم العلم أبداً.

قال عز وجل: فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا رَكِبَا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَهَا [الكهف:71] أي: الخضر، فقال موسى معترضاً: أَخَرَقْتَهَا لِتُغْرِقَ أَهْلَهَا لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا إِمْرًا [الكهف:71] شديد النكران، قَالَ أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ لا تُؤَاخِذْنِي بِمَا نَسِيتُ وَلا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا لَقِيَا غُلامًا فَقَتَلَهُ [الكهف:72-74].

وهنا نقول: سئل القشيري في الرسالة القشيرية وهي من عمدة كتب التصوف: هل يزني الولي؟ يعني: هل الولي معصوم أم العصمة للأنبياء فقط؟ فطأطأ الرأس وقال: وكان أمر الله قدراً مقدوراً، يعني: أن الولي غير معصوم، فهل أقبل الخضر على قتل ذلك الغلام إلا بوحي جلي ظاهر من رب العالمين سبحانه، ولو رأيتم رجلاً ينادى غلاماً ثم قتله، وسألناه: لم قتلت الغلام؟ فقال: ألهمت من الله أن أقتله، لاتهمناه في عقله؛ إذ كيف يقتل بمجرد إلهام في صدره؟ فلا بد أن يكون القتل بوحي ظاهر، قال النبي عليه الصلاة والسلام: (الغلام الذي قتله الخضر طبع عند الله كافراً).

فنادى الخضر على الغلام وفصل رأسه عن جسده، فقال موسى معترضاً: أَقَتَلْتَ نَفْسًا زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئًا نُكْرًا * قَالَ أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا [الكهف:74-75] وفي الثانية قال: أَلَمْ أَقُلْ لَكَ [الكهف:75]، وفي الأولى قال: أَلَمْ أَقُلْ إِنَّكَ [الكهف:72]، ففي الثانية تعنيف أشد أَلَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْرًا * قَالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْءٍ بَعْدَهَا فَلا تُصَاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْرًا * فَانطَلَقَا حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا [الكهف:75-77].

والقرآن سمى القرية مدينة في ذات السورة وفي ذات القصة: وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ [الكهف:82]، وهناك فرق بين القرية والمدينة، وأما حديث: (خيار أمتي في المدن) فهذا حديث لا أصل له، بل يتعارض مع النص القرآني.

قال عز وجل: حَتَّى إِذَا أَتَيَا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا [الكهف:77]، (استطعما) يعني: طلبا الطعام، وإكرام الضيف واجب، قال العلامة ابن حجر : أول من أكرم الضيف إبراهيم، وأول من لبس السراويل إبراهيم، وأول من اختتن إبراهيم عليه السلام، يقول: ماله للضيفان، وجسده للنيران، وولده للقربان، فاستحق أن يكسى عند الواحد الديان.

قال عز وجل: اسْتَطْعَمَا أَهْلَهَا فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُمَا فَوَجَدَا فِيهَا جِدَارًا يُرِيدُ أَنْ يَنقَضَّ [الكهف:77]، أي: أن يقع فَأَقَامَهُ [الكهف:77] الخضر، ويريد موسى عليه السلام أن يعترض ولكنه لا يريد أن يفارق الخضر: قَالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْرًا * قَالَ هَذَا فِرَاقُ بَيْنِي وَبَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا [الكهف:77-78].

أقول هذا القول، وأستغفر الله لي ولكم.

اتفاق ما صنعه الخضر مع الشرائع السماوية

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

بين الخضر لموسى عليهما السلام لم صنع هذه الأشياء الثلاثة، يقول ابن تيمية في فتاويه: وما صنع الخضر يتفق مع الشرائع السماوية.

أولاً: خرق السفينة إتلاف للبعض لأجل المحافظة على الكل، وهذا أمر مشروع عندنا، أي: أن إتلاف بعض الشيء للمحافظة على كل الشيء أمر مقرر، ولذلك هناك حكم فقهي يسمى التترس، فلو أن العدو تترس بصف من المسلمين -يعني: احتمى خلف ظهورهم- هل يجوز قتل هؤلاء المسلمين للوصول للعدو؟ الجواب: نعم، ولذلك عندما تتألم من ضرسك مثلاً تزيله، والضرس رغم أنه جزء من الجسد لا يجوز أن تتلفه إلا أنك تزيل البعض لأجل أن تحافظ على الكل، وهذا أمر مقرر، فالخضر لم يأت بشريعة جديدة تخالف الشرائع.

ثانياً: قتل الغلام، عندنا ما يسمى بدفع الصائل، يعني: دفع المعتدي، والغلام كان سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، فهو صائل معتدٍ يجوز أن يقتل.

ثالثاً: إقامة الجدار عمل مشروع للمحافظة على الكنز الذي تركه الأب الصالح لأبنائه.

قال عز وجل حاكياً عن الخضر: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف:78-79]، قال الإمام الشافعي : رغم أنهم يمتلكون سفينة إلا أن الله سماهم مساكين، فالمسكين: هو من يملك أقل من حاجته.

قال عز وجل: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، ويا له من أدب من نبي الله الخضر حينما نسب العيب إلى نفسه ولم ينسب العيب إلى ربه رغم أن الذي أمره بخرقها هو الله، لكنه الأدب، والأدب مطلوب حتى في استخدام الحروف، يقول زيد -كما في كتاب الصيام عند البخاري -: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقول ابن حجر : انظر يقول زيد : (تسحرنا مع)، ولم يقل: تسحرنا (و)، فاستخدم مع ولم يستخدم الواو؛ لأنه لا يجوز أن يعطف نفسه ولا الصحابة على النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا باب أدب، ولذلك الأدب في التعبير وفي اللفظ وفي حسن السؤال واجب شرعي على طالب العلم.

قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ [الكهف:79]، يعني: أمامهم، فحروف الجر بعضها يحل بدل بعض، كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، يعني على جذوع النخل، ولذلك هذا النقطة مهمة في فهم كثير من النصوص الشرعية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليصل أحدكم نشاطه فإن الله لا يمل حتى تملوا)، فصفة الملل لا ينبغي أن تنسب إلى الله، يقول ابن حجر هنا: حتى بمعنى الواو، والمعنى: (فإن الله لا يمل وتملوا)؛ لأن الله تبارك وتعالى تنزه عن صفات النقص سبحانه وتعالى، وله صفات الكمال عز وجل.

قال عز وجل: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، وهذا نسميه التغليب، أي: تغليب الأب على الأم، وتغليب الذكر على الأنثى، وتغليب العاقل على غير العاقل، وتغليب الجمع على المفرد، وتغليب المثنى على المفرد.. وهكذا، وقوله: (أَبَوَاهُ)، يعني: أباه وأمه، كما نقول للشمس والقمر: القمران، وكما نقول للتمر والماء: الأسودان.

قال عز وجل: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:80-82].

قام سعيد بن المسيب يصلي ويزيد في صلاته ثم قال لولده الصغير: يا بني! اعلم أني أزيد في صلاتي لأجلك، قال: لأجلي يا أبي؟! قال: نعم، يا ولدي! ألم تسمع إلى قول الله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فمن أراد أن يحفظ في ذريته بعد موته فليتق ربه عز وجل.

اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً على البلاء صابراً.

اللهم علمنا القرآن، اللهم ارزقنا حب القرآن، وارزقنا حفظ القرآن، وارزقنا نور القرآن، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر عبادك المستضعفين في أرض فلسطين، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم سدد رميهم، ووفق جمعهم، واجعل الدائرة على عدوهم.

اللهم أرنا في اليهود يوماً أسود؛ فإنهم لا يعجزونك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، اللهم بلغنا رمضان أعواماً وأعواماً.

اللهم إنا نسألك يا ربنا! أن ترزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة ونعيماً، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين سيدنا محمد صلى الله عليه وعلى آله وصحبه أجمعين.

وبعد:

بين الخضر لموسى عليهما السلام لم صنع هذه الأشياء الثلاثة، يقول ابن تيمية في فتاويه: وما صنع الخضر يتفق مع الشرائع السماوية.

أولاً: خرق السفينة إتلاف للبعض لأجل المحافظة على الكل، وهذا أمر مشروع عندنا، أي: أن إتلاف بعض الشيء للمحافظة على كل الشيء أمر مقرر، ولذلك هناك حكم فقهي يسمى التترس، فلو أن العدو تترس بصف من المسلمين -يعني: احتمى خلف ظهورهم- هل يجوز قتل هؤلاء المسلمين للوصول للعدو؟ الجواب: نعم، ولذلك عندما تتألم من ضرسك مثلاً تزيله، والضرس رغم أنه جزء من الجسد لا يجوز أن تتلفه إلا أنك تزيل البعض لأجل أن تحافظ على الكل، وهذا أمر مقرر، فالخضر لم يأت بشريعة جديدة تخالف الشرائع.

ثانياً: قتل الغلام، عندنا ما يسمى بدفع الصائل، يعني: دفع المعتدي، والغلام كان سيرهق أبويه طغياناً وكفراً، فهو صائل معتدٍ يجوز أن يقتل.

ثالثاً: إقامة الجدار عمل مشروع للمحافظة على الكنز الذي تركه الأب الصالح لأبنائه.

قال عز وجل حاكياً عن الخضر: سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ مَا لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْرًا * أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ [الكهف:78-79]، قال الإمام الشافعي : رغم أنهم يمتلكون سفينة إلا أن الله سماهم مساكين، فالمسكين: هو من يملك أقل من حاجته.

قال عز وجل: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكَانَتْ لِمَسَاكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا [الكهف:79]، ويا له من أدب من نبي الله الخضر حينما نسب العيب إلى نفسه ولم ينسب العيب إلى ربه رغم أن الذي أمره بخرقها هو الله، لكنه الأدب، والأدب مطلوب حتى في استخدام الحروف، يقول زيد -كما في كتاب الصيام عند البخاري -: (تسحرنا مع رسول الله صلى الله عليه وسلم)، يقول ابن حجر : انظر يقول زيد : (تسحرنا مع)، ولم يقل: تسحرنا (و)، فاستخدم مع ولم يستخدم الواو؛ لأنه لا يجوز أن يعطف نفسه ولا الصحابة على النبي عليه الصلاة والسلام، فهذا باب أدب، ولذلك الأدب في التعبير وفي اللفظ وفي حسن السؤال واجب شرعي على طالب العلم.

قال: فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَهَا وَكَانَ وَرَاءَهُمْ [الكهف:79]، يعني: أمامهم، فحروف الجر بعضها يحل بدل بعض، كقوله تعالى: وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ [طه:71]، يعني على جذوع النخل، ولذلك هذا النقطة مهمة في فهم كثير من النصوص الشرعية، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فليصل أحدكم نشاطه فإن الله لا يمل حتى تملوا)، فصفة الملل لا ينبغي أن تنسب إلى الله، يقول ابن حجر هنا: حتى بمعنى الواو، والمعنى: (فإن الله لا يمل وتملوا)؛ لأن الله تبارك وتعالى تنزه عن صفات النقص سبحانه وتعالى، وله صفات الكمال عز وجل.

قال عز وجل: وَأَمَّا الْغُلامُ فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا [الكهف:80]، وهذا نسميه التغليب، أي: تغليب الأب على الأم، وتغليب الذكر على الأنثى، وتغليب العاقل على غير العاقل، وتغليب الجمع على المفرد، وتغليب المثنى على المفرد.. وهكذا، وقوله: (أَبَوَاهُ)، يعني: أباه وأمه، كما نقول للشمس والقمر: القمران، وكما نقول للتمر والماء: الأسودان.

قال عز وجل: فَكَانَ أَبَوَاهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينَا أَنْ يُرْهِقَهُمَا طُغْيَانًا وَكُفْرًا * فَأَرَدْنَا أَنْ يُبْدِلَهُمَا رَبُّهُمَا خَيْرًا مِنْهُ زَكَاةً وَأَقْرَبَ رُحْمًا * وَأَمَّا الْجِدَارُ فَكَانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَكَانَ تَحْتَهُ كَنزٌ لَهُمَا وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:80-82].

قام سعيد بن المسيب يصلي ويزيد في صلاته ثم قال لولده الصغير: يا بني! اعلم أني أزيد في صلاتي لأجلك، قال: لأجلي يا أبي؟! قال: نعم، يا ولدي! ألم تسمع إلى قول الله: وَكَانَ أَبُوهُمَا صَالِحًا [الكهف:82]، فمن أراد أن يحفظ في ذريته بعد موته فليتق ربه عز وجل.

اللهم ارزقنا علماً نافعاً، وقلباً خاشعاً، ولساناً ذاكراً، وجسداً على البلاء صابراً.

اللهم علمنا القرآن، اللهم ارزقنا حب القرآن، وارزقنا حفظ القرآن، وارزقنا نور القرآن، واستر عوراتنا، وآمن روعاتنا.

اللهم لا تجعل الدنيا أكبر همنا، ولا مبلغ علمنا ولا إلى النار مصيرنا.

اللهم إنا نسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا، اللهم إنك عفو كريم تحب العفو فاعف عنا.

اللهم انصر الإسلام وأعز المسلمين، وانصر عبادك المستضعفين في أرض فلسطين، اللهم اربط على قلوبهم، اللهم سدد رميهم، ووفق جمعهم، واجعل الدائرة على عدوهم.

اللهم أرنا في اليهود يوماً أسود؛ فإنهم لا يعجزونك، زلزل الأرض من تحت أقدامهم.

اللهم اجعل رمضان شاهداً لنا لا علينا، اللهم بلغنا رمضان أعواماً وأعواماً.

اللهم إنا نسألك يا ربنا! أن ترزقنا قبل الموت توبة وعند الموت شهادة وبعد الموت جنة ونعيماً، ونسألك رضاك والجنة، ونعوذ بك من سخطك والنار.

وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.

هناك نقطة مهمة من أعمدة أو من ركائز الفكر الصوفي في هذه القصة وهي: أن الخضر لا يزال حياً ويجتمع بالأقطاب والأوتاد في غار حراء، ويقولون: هناك اجتماع أسبوعي، واجتماع شهري، واجتماع سنوي، ولذلك يسمون السيدة زينب سيدة الديوان.

والخضر ميت، وأدلة أنه مات كثيرة عدها ابن كثير منها:

الأول: أن الله تبارك وتعالى قال: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِينْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء:34].

ثانياً: لقد أخذ الله الميثاق على النبيين جميعاً إذا كانوا أحياء وبعث في حياتهم النبي صلى الله عليه وسلم أن يؤمنوا به، وأن ينصروه، وأن يعزروه، فأين كان الخضر في غزوة بدر؟ وأين كان الخضر في غزوة الأحزاب؟ ولم لم ينل شرف الصلاة خلف رسول الله في صلاة الجمعة والجماعات؟ ولم تخلف عن مبايعة النبي صلى الله عليه وسلم؟ وهل كان الخضر حياً ويعلم ببعثة رسول الله عليه الصلاة والسلام ويتوانى عن مقابلته، وعن إعلان الإيمان به؟

إنك تجد عجباً بل خبلاً أن الواحد منهم يجلس معك، ويقول: وعليكم السلام، فتسأله: على من ترد؟ فيقول: مر الخضر فأنا رددت السلام عليه، أنا أراه وأنت لا تراه، ثم بعد ذلك يأتي بأذكار وأوراد ويقول لك: هذه أوراد من العلم الباطني اللدني، مثل أوراد الطريقة البرهانية فيها ألفاظ سريانية: كدن..كدن، هيهات هيهات، نوو نوو، نو نو، فإذا سألته: ما هذا الكلام؟! يقول لك: هذا علم باطن لا تعترض!

فهل الأمة الآن تحتاج إلى هذا الخبل وهذا الهراء؟ إنا لله وإنا إليه راجعون، والحقيقة أنه لابد لنا أن نفهم الآيات التي في كتاب ربنا عز وجل.

فتفسير القرآن يكون بالقرآن، ولذلك الإمام محمد الأمين الشنقيطي له كتاب أضواء البيان في تفسير القرآن بالقرآن.

قال الحافظ ابن كثير : ما أجمل من القرآن في مكان بين في مكان آخر، وما أطلق في موضع قيد في موضع آخر.. وهكذا.

أو يفسر بسنة النبي صلى الله عليه وسلم بالأحاديث الثابتة عن رسولنا عليه الصلاة والسلام أو بأقوال الصحابة؛ لأنهم خير القرون، كما قال صلى الله عليه وسلم: (خير الناس قرني، ثم الذين يلونهم، ثم الذين يلونهم)، والثلاثة القرون نسميها السلف، فسلف الأمة هم قرن الصحابة ثم قرن التابعين ثم قرن تابعي التابعين.

وابن حجر أفرد موضوع الخضر بكتاب اسمه (نبأ الخضر) وتحدث عن قصته الحافظ ابن كثير في البداية والنهاية، فينبغي علينا أن نعيش مع هذه الكتب وهذه المراجع لتنقل إلى الناس فهم السلف الصالح لآيات ربنا عز وجل وأحاديث نبينا صلى الله عليه وسلم.

وقبل أن أنتقل إلى الأوراق التي بين يدي أقول: رمضان مدرسة الأجيال، فلا ينبغي علينا أن نودع رمضان دون أن ننتفع بدروس وعبر، فلا ننقطع عن القرآن الكريم، قال عز وجل: وَقَالَ الرَّسُولُ يَا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هَذَا الْقُرْآنَ مَهْجُورًا [الفرقان:30]، ونحافظ على تلاوة القرآن، وصلاة الجماعة، وقيام الليل، والتهجد، والدعاء، وصيام أيام من كل شهر، قال عز وجل: وَاعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ [الحجر:99]، يعني: الموت.

فيا عبد الله! احذر أن تتوانى بعد رمضان، فرمضان مدرسة الأجيال.

وأعيادنا في الإسلام لها مفاهيم، ولذلك يقولون: ليس العيد لمن لبس الجديد، إنما العيد لمن خاف الوعيد، فالعيد أن تصل رحمك، العيد أن تعفو عمن ظلمك، العيد أن تعطي من حرمك، وأن تمسح على رءوس الأيتام.

عيدنا يأتي بعد طاعة وبعد صيام، ونبدؤه بطاعة، بتكبير الله عز وجل، وليست أعيادنا أن نهتف فيها: بالروح بالدم نفديك يا فلان! وإنما نهتف في أعيادنا: الله أكبر الله أكبر، فنكبر ربنا عز وجل.

وفرحتنا في هذا العيد ليست من الأعماق، يقول عليه الصلاة والسلام: (للصائم فرحتان: فرحة يوم فطره، وفرحة عند لقاء ربه)، فنحن نفرح، ولكنه فرح يشوبه الحزن على ما نحن فيه، وعلى ما وصل إليه حال الأمة الإسلامية من تمزق وتشرذم وضياع لمقدساتها، وانتهاك لحرماتها وأعراضها، نسأل الله تبارك وتعالى أن يمكن لدينه في الأرض، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

هنا أمر ينبغي التنبيه عليه وهو: أن الاحتفال بعيد رأس السنة، وشم النسيم، والكريسمس وغيرها من أعياد الكافرين حرام شرعاً باتفاق العلماء، وهنا نقل من كتاب شيخ الإسلام (اقتضاء الصراط المستقيم في مخالفة أصحاب الجحيم): إنك تجد العجب العجاب في عيد رأس السنة الميلادية وما يسمونه بالكريسمس، لا أعاده الله عليهم، يخرجون إلى الحدائق العامة بنين وبنات في اختلاط ماجن، وفي فاحشة؛ وكأنهم يبدءون العام بالمجاهرة بمعصية الله عز وجل، وبالإصرار على معصية الله.

ولابد أن نعلم أننا في شرعنا نؤرخ تواريخنا بالشهور الهجرية وليس بالشهور القبطية الميلادية؛ لأننا لا نعرف هذه الشهور، إنما نعرف: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ [التوبة:36].. يَسْأَلُونَكَ عَنِ الأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَوَاقِيتُ لِلنَّاسِ [البقرة:189].

فالأهلة هي التي نعرف بها الشهور الهجرية، ونحن لا نتعبد الله عز وجل بشهور ميلادية، والشهر الهجري يكون تسعة وعشرين أو ثلاثين، وأما الشهر الميلادي فممكن أن يكون واحداً وثلاثين أو ثمانية وعشرين، فلو أن امرأة مات عنها زوجها فعدتها أربعة أشهر وعشرة أيام، فهل تعتد بالهجري أو بالميلادي؟ لو اعتدت بالميلادي فالعدة ستطول.

لذلك كل كلمة شهر جاءت في القرآن والسنة يقصد بها الشهور الهجرية، أما هذه الشهور الميلادية فنحن لا نعرفها.

ولذلك الاحتفال بعيد رأس السنة هذا من أعياد المشركين، ولابد أن نخالف أصحاب الجحيم، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (لتتبعن سنن من كان قبلكم شبراً بشبر وذراعاً بذراع حتى لو دخلوا جحر ضب لدخلتموه، قالوا: يا رسول الله! اليهود والنصارى؟ قال: فمن؟)، وكان صلى الله عليه وسلم يخالفهم في كل شيء، فكانوا لا يصلون في نعالهم فصلى بنعاله، وكانوا لا يغيرون الشيب فغير الشيب صلى الله عليه وسلم، وقال: (اعفوا اللحى وحفوا الشارب خالفوا اليهود).

فهذا أمر بالمخالفة، ولذلك في تحويل القبلة كان يحب أن يصلي إلى قبلة إبراهيم ولا يشاركهم أبداً في شيء، نحن الآن -نسأل الله العافية- نوافقهم في كل شيء، فانظر إلى يوم شم النسيم تجد أن المحلات تغلق الأبواب؛ لأنها إجازة، والناس كلهم يخرجون إلى المنتديات والحدائق، والأسرة كلها ذهبت إلى المنتديات العامة، فاحذر أن تخالط أهل الزور، قال عز وجل في وصف عباد الرحمن: وَالَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ [الفرقان:72]، والزور هنا عند بعض المفسرين يقصد به أعياد المشركين، وها نحن في أعيادنا لا نحتفل بأعيادنا بقدر ما نحتفل بأعياد المشركين، فهذه مخالفة شرعية ينبغي علينا أن نلفت النظر إليها.

سألتني أخت فاضلة قبل الجمعة، وقالت: إن هناك بالمساجد من أحل الغناء، يعني: سئل عن الغناء، فأجاب: بأنه حلال. والحقيقة أقولها والأمر لله من قبل ومن بعد: هؤلاء دعاة على أبواب جهنم من أجابهم إليها قذفوه فيها، فالنصوص واضحة بينة، لكننا الآن عندنا من يفصل الفتوى حسب الطلب، فيفتي فتوى مقاس واحد وأربعين أو ثلاثة وأربعين، يبيعون دينهم بدنيا غيرهم، أما قرءوا في كتاب الله: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ [لقمان:6]؟ ولهو الحديث هو الغناء، وابن مسعود يقول: والله! إنه الغناء، وفي سورة النجم قال عز وجل: أَفَمِنْ هَذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ * وَتَضْحَكُونَ وَلا تَبْكُونَ * وَأَنْتُمْ سَامِدُونَ [النجم:59-61]، والسمود: الغناء، وجاء في الحديث: (ليكونن من أمتي أقوام يستحلون الحر -يعني: الزنا- والحرير، والخمر، والمعازف)، فالغناء حرام يا عباد الله! قال الله عز وجل: وَاسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ [الإسراء:64]، وصوت الشيطان هو الغناء، للشيطان صوت فضلاً عن كلمات الكفر التي يسمعونها ويصفقون لها، واسمع إلى قول العندليب الأسمر: قدر أحمق الخطا سحقت هامتي خطاه، يصف القدر بأنه أحمق، ورب العالمين يقول: إِنَّا كُلَّ شَيْءٍ خَلَقْنَاهُ بِقَدَرٍ [القمر:49]، وهو يقول عن القدر: أحمق، أليس هذا كفراً وردة، فإنه يصف القدر بالحمق، ويصف أمر الله بالحمق! وآخر يقول: أتينا إلى الدنيا لا نعرف لماذا، والله عز وجل يقول: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، فنحن نعرف لماذا خلقنا.

ثم يقول: جئت لا أعلم شيئاً عن حياتي الآتية، ولكني أبصرت أمامي طريقاً فمشيت، فانظر إلى هذا الكلام الذي فيه كفر واضح وبين، ولكن القوم يطربون ويصفقون، ويستدل بعضهم بحديث: (دخل أبو بكر على النبي صلى الله عليه وسلم في يوم عيد فوجد عنده جاريتين تغنيان، فقال: أمزمار الشيطان في بيت رسول الله؟ فقال: دعهما يا أبا بكر ! فإنه يوم عيد)، يستدلون بهذا الحديث ولو قرءوا في تفسيره وفهمه لعلموا.

أولاً: كانتا جاريتين، يعني: لم يبلغا المحيض، ولا تزالان صغيرتين.

ثانياً: هل كان معهما أركسترا، وناي، وأورج، يعزفان بها؟ لم يكن شيء من ذلك، إنما كانتا يتغنيان بأناشيد يوم بعاث، وهي أناشيد حماسية ليس فيها ضرب ولا طبل ولا زمر ولا شيء من هذا الكلام، وإنما هو كلام طيب، فنهاهما الصديق عن ذلك، والنبي صلى الله عليه وسلم قال: (دعهما يا أبا بكر !)؛ لأنهما كانتا تغنيان بكلام طيب ليس فيه إسفاف، وغير مصحوب بآلات موسيقية، فضلاً عن أن الجاريتين كانتا صغيرتين، كما قال ابن حجر في الفتح.

وكاتب في الأهرام كتب يقول: إن إمام مسجد في القاهرة خطب جمعة يقول فيها: (إن النبي صلى الله عليه وسلم قام يصلي بالليل فجاء حذيفة فوقف عن يمينه، يقول: فقرأ سورة البقرة كاملة، فقلت: لعله يركع، فقرأ النساء، ثم قرأ آل عمران وركع) يعني: قرأ البقرة والنساء وآل عمران في ركعة، فماذا يقول هذا الكاتب صاحب العقل؟ يقول: لما حسبت المسافة الزمنية لقراءة الثلاث سور وجدتهما تستغرق ست أو سبع أو ثمان ساعات، ويركع أيضاً في ثلاث أو أربع ساعات، ويرفع ساعة، إذاً: يريد عشرين ساعة، إذاً: ضيع الفروض! فهل رأيتم إلى أين أوصله عقله، فإنا لله وإنا إليه راجعون.

فنقول له: إن النبي عليه الصلاة والسلام معان من ربه على طاعته، والمعان من ربه لا تسل عن حاله. وهذا كما قال أحدهم: كيف يكون للمؤمن في الجنة سبعون من الحور العين؟ فانظروا إلى هذه العقول، إلى أين أوصلت هؤلاء القوم، وطبعاً هؤلاء من أرباب مدرسة المعتزلة، الذين يعرضون النصوص على العقل، فإن قبل العقل قبلوا، وإن رفض العقل رفضوا، ونحن نقول: العقل يستخدم في فهم النص وليس في رد النص.

وقال قائلهم أيضاً: أنا لا أقبل أن موسى يفقأ عين ملك الموت، رغم أن الحديث في البخاري ، فنقول له: قبل أن تتهم البخاري اتهم عقلك بسوء الفهم، ففهم النص مهم، وانظر إلى أقوال العلماء، فإنهم قالوا: إنه جاء ملك الموت في صورة بشرية ودخل إلى البيت دون أن يستأذن، وأنت الآن إن دخل أحد إلى بيتك دون استئذان فلك أن تفقأ عينه، وهذا حكم شرعي ثابت.

فكتب يقول: هل البخاري معصوم؟ البخاري مليء بالأحاديث الضعيفة.

فنقول له: من أنت حتى تقول: إن البخاري فيه أحاديث ضعيفة؟ فكما أن الله حفظ القرآن فقد حفظ السنة، وعهد بها إلى رجال حفظوها ودافعوا عنها، والبخاري لم يضع في كتابه الصحيح إلا الحديث الذي تيقن من صحته إلى النبي صلى الله عليه وسلم.

فلابد لنا أن نفهم النصوص الشرعية على حسب ما ورد عن سلفنا الصالح، أسأل الله تبارك وتعالى أن يرزقنا الإخلاص في القول والعمل وفي السر والعلن.


استمع المزيد من الشيخ أسامة سليمان - عنوان الحلقة اسٌتمع
التاريخ الأسود لليهود 2410 استماع
الوقت وحرص الصالحين عليه 2397 استماع
اللحوم المسمومة 2350 استماع
فاصبر صبراً جميلاً 2277 استماع
وثيقة حرمات لا حدود 2259 استماع
استكمال تفسير سورة الحاقة 2 2228 استماع
وقفة مع سورة الإنسان 2220 استماع
إنا بلوناهم 2102 استماع
ذرني ومن يكذب بهذا الحديث 2061 استماع
بناء البيت .. دروس وعبر 2014 استماع