شرح العقيدة الطحاوية [11]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على عبده ورسوله نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

قال الإمام الطحاوي رحمه الله تعالى:

[ فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه من أولياء الله تعالى، وهي درجة الراسخين في العلم؛ لأن العلم علمان:

- علم في الخلق موجود.

- وعلم في الخلق مفقود.

فإنكار العلم الموجود كفر، وادعاء العلم المفقود كفر، ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود، وترك طلب العلم المفقود].

قال المؤلف رحمه الله تعالى في سياق كلامه عن القدر: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور القلب).

(هذا) يعني: ما تقدم تقريره من المسائل فيما يتعلق بالقدر، والذي تقدم تقريره سبق علم الله جل وعلا للأشياء، وتقدم أيضاً أن القدر سر الله في خلقه، وأنه قد منع الله جل وعلا من التعمق والنظر فيه؛ لأن ذلك من أسباب الخذلان والحرمان والطغيان.

ثم قال رحمه الله: (فهذا جملة ما يحتاج إليه من هو منور قلبه) وإنما يحصل النور في القلب من القرآن الكريم، فهو النور الذي يفرق الله به بين الحق والباطل ، قال الله جل وعلا: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ [الأنعام:122] ، فالقرآن نور وروح، فكلما عظم في قلب العبد هذا النور تبددت الشبهات، وانقشعت الظلمات، وزالت كل المكدرات، وكلما خفي هذا النور كلما التبس الأمر على الإنسان، وضل وأصيب بالحيرة والوسوسة والتيه والاضطراب والتناقض، كما قال الله جل وعلا: بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جَاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ [ق:5]، والله سبحانه وتعالى بعث محمداً صلى الله عليه وعلى آله وسلم بالهدى ودين الحق ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، والنور الذي أخرجهم إليه هو نور النبوة والقرآن.

فمنور القلب هو من اقتصر على ما في القرآن واكتفى به، ومنور القلب هو الذي لم يجاوز ما جاء في القرآن والسنة في هذا الباب، ولم يدخل في هذا الأمر بعقله ولا برأيه الفاسد، بل اقتصر على ما جاءت به النصوص.

وقوله رحمه الله: (وهي درجة الراسخين في العلم) أي: إدراك ما تقدم درجة الراسخين في العلم، فليس الرسوخ في العلم التعمق فيما منع الله عز وجل العباد من النظر فيه، إذ يظن بعض الناس أن الرسوخ في العلم هو أن يتعمق الإنسان في مثل هذه الأمور وأن يبحث وأن يطيل النظر، وأن يكرر الكلام فيما حظر ومنع من الكلام فيه، ويظن ذلك تحقيقاً ورسوخاً، وهو مزلة عن الطريق المستقيم، ومضلة يضل بها عن سبيل الله القويم.

فالواجب على المؤمن، وعلى من نصح نفسه أن يقتصر على ما في الكتاب والسنة في هذا الباب، وأن لا يجاوزه؛ فإنه نور القلب وهو درجة الراسخين في العلم.

ثم قال رحمه الله في تعليل أن هذا هو المطلوب، وهذا هو الكفاية، وأنه لا حاجه للناس في طلب المزيد والنظر والتعمق في مسائل القدر: (لأن العلم علمان: علم في الخلق موجود) وهو علم الشريعة مما جاء به النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في القرآن والسنة، (وعلم في الخلق مفقود) وهو علم الغيب، ومن جملته علم الأقدار، فإن الله جل وعلا غيّب عن الخلق الأقدار، فلم يطلع أحداً على ما في اللوح المحفوظ، وهو ما رقم فيه، وكتب ما كان، وما سيكون، لم يطلع عليه ملكاً مقرباً، ولا نبياً مرسلاً: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا * إِلَّا مَنِ ارْتَضَى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ رَصَدًا [الجن:26-27] ، كل هذا احتياط، يعني: حتى ما يظهره الله جل وعلا للأنبياء من غيبه في غاية الاحتياط لهذا الغيب، حيث جعل من يرصد ما يقوله النبي ويحصي ما يبلغه لئلا يضل أو يزيد أو ينقص.

فعلم الغيب علم مفقود، وهو المشار إليه في قوله: (وعلم في الخلق مفقود).

ثم قال رحمه الله: (فإنكار العلم الموجود كفر) إنكار علوم الشريعة كفر، فمن قال: إن الله لا يعلم ما الخلق عاملون فإنه كافر بالله العظيم؛ لأن الله جل وعلا أخبر في كتابه أنه بكل شيء عليم، وأنه يعلم ما الخلق عاملون: وَاللَّهُ خَلَقَكُمْ وَمَا تَعْمَلُونَ [الصافات:96] وهو بكل شيء عليم جل وعلا.

(وادعاء العلم المفقود كفر) ادعاء علم الغيب كفر: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ وَمَا يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ [النمل:65] لا يعلمون متى يبعثون، إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَيُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَيَعْلَمُ مَا فِي الأَرْحَامِ وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ مَاذَا تَكْسِبُ غَدًا وَمَا تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ [لقمان:34] فالله جل وعلا أحاط بكل شيء علماً.

فالعلم عنده سبحانه وتعالى كما قال: وَعِنْدَهُ مَفَاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُهَا إِلَّا هُوَ [الأنعام:59] سبحانه وتعالى، فمن ادعى علم الغيب كذب القرآن، ولذلك قال المؤلف رحمه الله: (وادعاء العلم المفقود كفر).

ثم قال رحمه الله: (ولا يثبت الإيمان إلا بقبول العلم الموجود) لا يثبت الإيمان، ولا تقر القدم على الإيمان إلا بقبول العلم الموجود قبولاً مجملاً، قال الله جل وعلا: فَلا وَرَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيمَا شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنفُسِهِمْ حَرَجًا مِمَّا قَضَيْتَ وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] فقوله: وَيُسَلِّمُوا تَسْلِيمًا [النساء:65] هو القبول، فيقبل ذلك قبولاً لا منازعة فيه.

يقول رحمه الله: (وترك طلب العلم المفقود) لا إشكال فيه؛ لأن العلم المفقود لا سبيل إلى تحصيله، فالغيب لا طريق إلى تحصيله إلا من طريق النبوة، فكل من زعم بأن له طريقاً يوصله إلى ما غاب وخفي من علم الله عز وجل فقد كذب بالقرآن، فالواجب عليه أن يترك ذلك، ولا يثبت إيمانه إلا بذلك.

ثم قال رحمه الله: [ونؤمن باللوح والقلم، وبجميع ما فيه قد رقم، فلو اجتمع الخلق كلهم على شيء كتبه الله تعالى فيه أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه، ولو اجتمعوا كلهم على شيء لم يكتبه الله تعالى فيه ليجعلوه كائناً لم يقدروا عليه، جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه، وما أصابه لم يكن ليخطئه].

يقول رحمه الله: (ونؤمن باللوح والقلم وبجميع ما فيه قد رقم) هذا من صلة وتمام البحث في مسائل القدر، الإيمان باللوح والقلم، اللوح: هو اللوح المحفوظ، وقد ذكره الله تعالى في مواضع عديدة منها: قوله سبحانه وتعالى: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22] فذكره الله جل وعلا بهذا الاسم في كتابه، وسماه الله جل وعلا ذكراً: وَلَقَدْ كَتَبْنَا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الأَرْضَ يَرِثُهَا عِبَادِيَ الصَّالِحُونَ [الأنبياء:105] فالذكر هو ما كتبه الله جل وعلا في اللوح المحفوظ.

وقد قال النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في جواب من سأله عن أول هذا الأمر قال: (وكتب في الذكر كل شيء) فالذكر هو اللوح المحفوظ، وقد كتب الله جل وعلا في هذا اللوح ما هو كائن إلى يوم القيامة، فقد حوى كل شيء من أفعال الرب ومن أفعال الخلق.

ومن جملة ما في اللوح المحفوظ القرآن العظيم، فإن الله سبحانه وتعالى ذكر ذلك في قوله: بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ * فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ [البروج:21-22]، وأما القلم فالمراد به القلم الأعظم الأول الذي كتب الله به مقادير كل شيء، فإن الله سبحانه وتعالى خلق القلم وقال له في أول خلقه: اكتب، قال ما أكتب؟ قال: اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة ، فجرى القلم بأمر الله بكتابة ما هو كائن إلى يوم القيامة، كما جاء فيما رواه أصحاب السنن من حديث فيه أن النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم قال: (إن أول ما خلق الله القلم قال له: اكتب. قال: ما أكتب؟ قال: اكتب مقادير كل شيء أو اكتب ما هو كائن إلى يوم القيامة).

من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء

وقد ثبت سبق الكتابة في أحاديث كثيرة، بل في آيات من الكتاب الحكيم: مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الأَرْضِ وَلا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلَّا فِي كِتَابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَهَا [الحديد:22] أي: من قبل أن نخلقها، هذا من القرآن، وأما من السنة ففي الصحيح قال النبي صلى الله عليه وسلم: (كتب الله مقادير كل شيء قبل أن يخلق السموات والأرض بخمسين ألف سنة، وكان عرشه على الماء)، فالله سبحانه وتعالى كتب مقادير كل شيء، وهذه الكتابة هي الكتابة العامة الشاملة.

ثم تلاها كتابات دون هذه الكتابة في المنزلة والمكانة والعظم وهي متنوعة، وكل كتابة لها قلم، وقد قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما أخبر به مما جرى ليلة المعراج: (أنه بلغ مكاناً سمع فيه صريف الأقلام) وصريف الأقلام: صوت جريها وكتابتها، وهذه الأقلام هي التي تكتب قدر الله اليومي، كما قال الله جل وعلا: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ [الرحمن:29] يعز من يشاء! ويذل من يشاء، ويعطي من يشاء، ويمنع من يشاء، ويرفع من يشاء، ويضع من يشاء، يحيي ويميت، يدبر أمر مملكته جل وعلا لا إله إلا هو.

فقول المؤلف رحمه الله: (نؤمن باللوح والقلم) اللوح: هو الذي كتب فيه المقادير، والقلم: هو الذي كتب بأمر الله ما يكون، قال: (وبجميع ما فيه قد رقم) أي: كتب، وهذا إيمان مجمل، وهو من مقتضيات ولوازم الإيمان بالقدر؛ لأن من لوازم الإيمان بالقدر الإيمان بأن الله قد كتب كل شيء، ولا يتم إيمان أحد إلا بالإيمان بهذه المرتبة.

يقول رحمه الله: (فلو اجتمع الخلق كلهم) الخلق: ليسوا خلق زمانك، بل الخلق كلهم منذ أن خلق الله الخلق إلى آخر من يخلق الله جل وعلا، (لو اجتمع الخلق كلهم على شيءٍ كتبه الله تعالى أنه كائن ليجعلوه غير كائن لم يقدروا عليه) لا إله إلا الله! وهذا يبيّن لك عظيم قدرة الرب سبحانه وتعالى، وأنه لا مبدل لخلقه، ولا راد لأمره، ولا معقب لحكمه سبحانه وتعالى ، فلو اجتمع الخلق كلهم على أن ينفعوك بأمر لم يكتبه الله لك ما نفعوك، ولو اجتمعوا كلهم على أن يردوا عنك قضاء الله في أمر كتبه الله عليك ما ردوه، وهذا قد ضمنه النبي صلى الله عليه وعلى آله وسلم في وصيته العظيمة لـابن عباس : (احفظ الله يحفظك) فكان من جملة ذلك أن قال له: (واعلم أن الخلق لو اجتمعوا على أن ينفعوك بشيء لم ينفعوك بشيء إلا بشيء قد كتبه الله لك، ولو اجتمعوا على أن يضروك بشيء لم يضروك إلا بشيء قد كتبه الله عليك، رفعت الأقلام وجفت الصحف) (رفعت الأقلام) أي: فرغ من التقدير السابق، (وجفت الصحف) الصحف المقصود بها ما رقم في اللوح المحفوظ، أو ما استنسخته الملائكة من اللوح المحفوظ، فإن الملائكة تكتب من اللوح المحفوظ ما يكون بالنسبة لكل مخلوق، قال الله جل وعلا: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] والاستنساخ هنا: هو الكتابة قبل الوقوع، فإن الاستنساخ نسخ، والنسخ يكون من منسوخ، والمنسوخ هو ما في اللوح المحفوظ، تكتبه الملائكة ثم يجري الله جل وعلا قضاءه وقدره، ثم يقابل ما وقع مما قدره الله من فعل المخلوق على ما في هذه النسخ، ثم يثبت ما فيها من خير ومن شر، فقوله: إِنَّا كُنَّا نَسْتَنسِخُ مَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ [الجاثية:29] المراد به كتابة الملائكة من اللوح المحفوظ، لا الكتابة التي يكتبها الملائكة على الإنسان كقوله تعالى: مَا يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ [ق:18] فهذه كتابة سابقة.

ثم قال رحمه الله بعد أن قرر هذا الكلام: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة) القلم الذي جف هو القلم الأول السابق الذي كتب الله به مقادير كل شيء، (جف) أي: انقطعت كتابته.

وقد ذكّر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه بهذا في مواضع عديدة، فلما استأذنه أبو هريرة رضي الله عنه في الاختصاء أعرض عنه، ثم كرر مرة ثانية وثالثة، قال: (جف القلم بما أنت لاقٍ) كما في صحيح البخاري أي: أن الأمر قد فرغ سواءً فعلت هذا أو لم تفعل، فما كتبه الله عليك لا محالة أنه سيدركك.

قال المؤلف رحمه الله: (جف القلم بما هو كائن إلى يوم القيامة، وما أخطأ العبد لم يكن ليصيبه) (ما أخطأ العبد) يعني: ما تجاوزه إلى غيره (وما أصابه) أي: ما ناله ونزل به، (لم يكن ليخطئه) أي: لم يكن ليتجاوزه إلى غيره، وهذا من كلام الصحابة رضي الله عنهم، وورد مرفوعاً ونقل عن جماعة منهم: (إنك لو أنفقت مثل جبل أحدٍ ذهباً في سبيل الله لم يتقبله الله منك حتى تؤمن بالقدر، وأن ما أصابك لم يكن ليخطئك، وما أخطأك لم يكن ليصيبك) نقل هذا عن عبادة بن الصامت وعن غيره من الصحابة رضي الله عنهم ، وهذا فيه عظيم منزلة القدر، وصدق ما قاله ابن عباس : (القدر نظام التوحيد، فمن كذب بالقدر نقض توحيده).

اعتقاد سبق علم الله في كل كائن من خلقه

قال رحمه الله: [وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه، فقدر ذلك تقديراً محكماً مبرماً ليس فيه ناقض ولا معقب، ولا مزيل ولا مغير، ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه، وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة، والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته، كما قال الله في كتابه: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]، وقال تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] ].

يقول رحمه الله فيما يجب عقده من مسائل القدر: (وعلى العبد أن يعلم أن الله قد سبق علمه في كل كائن من خلقه) سبق تقرير هذا بأدلته، وأن الله جل وعلا تقدم علمه الخلق، وأنه علم بهم قبل أن يخلقهم سبحانه وتعالى.

ثم قال: (فقدر ذلك تقديراً محكماً) أي: قدر ما علمه (تقديراً محكماً) أي: متقناً، فالإحكام يطلق على الإتقان، قال الله جل وعلا: كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ [هود:1] (أحكمت) أي: أتقنت، فالله جل وعلا أتقن هذا القدر إتقاناً عظيماً يدل على عظيم قدره جل وعلا وعظيم قدرته، ولذلك لما سئل الإمام أحمد رحمه الله عن تعريف القدر، قال: القدر قدرة الله؛ لأن من كذب بالقدر فقد كذب بقدرة الله جل وعلا.

يقول رحمه الله: (فقدر ذلك تقديراً محكماً) أي: متقناً (مبرماً) أي: لا ناقض له، فما أبرم فهو الشيء الذي أحكم وعقد بما لا نقض له، ولذلك قال رحمه الله بعد أن وصف حكم الله وتقديره بالإبرام: (ليس فيه ناقض)أي: يزيل الحكم بالكلية، فلا أحد يقدر أن يرد قدر الله جل وعلا، بل قدر الله نافذ لنفوذ قدرته ومشيئته سبحانه وتعالى، فهو ذو القدرة البالغة والمشيئة النافذة سبحانه وبحمده لا إله إلا هو.

(ولا معقب) أي: لا مؤخر يؤخر قدر الله، فإذا جاء أجل الله لا تأخير ولا تقديم، لِكُلِّ أَجَلٍ كِتَابٌ [الرعد:38] أي: مكتوب لا يتجاوز هذا ولا يتعداه، وَلَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْسًا إِذَا جَاءَ أَجَلُهَا [المنافقون:11] فالله سبحانه وتعالى لا يؤخر ما قضى وقدر، ولا يستطيع أحد أن يؤخر ما قدره الله جل وعلا وقضاه.

(ولا مزيل ولا مغير) (لا مزيل) أي: لا رافع، فهو في معنى: لا ناقض (ولا مغير) أي: مبدل، ويشمل التخفيف والتحويل والتأخير، فهو أعم من قوله: (ولا معقب) يعني: لا يمكن أن يحول ولا يزول، فهم -أي: الخلق- لا يملكون كشف الضر ولا تحويله، ولا يملكون كشف ما قدره الله ولا تحويله.

قال رحمه الله: (ولا ناقص ولا زائد) أي: لا ناقص عما كتب في اللوح المحفوظ وما سبق به العلم ولا زائد، بل كل ذلك بتقدير محكم مطابق كما قال الله سبحانه وتعالى: َمَا يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَلا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلَّا فِي كِتَابٍ [فاطر:11].

فكل زيادة في الأعمار وكل نقص فيها سواء في أعمار العموم -أي: جنس بني آدم- أو أعمار الخصوص -يعني: عمر الفرد- من حيث الزيادة أو النقص إلا في كتاب، فإنه لا مبدل لها ولا معقب ولا مزيل ولا مغير.

قال رحمه الله: (من خلقه في سماواته أو أرضه) أي: ليس في حكمه ناقض ولا معقب ولا مزيل ولا مغير ولا ناقص ولا زائد من خلقه في سماواته وأرضه.

ثم قال رحمه الله: (وذلك) أي: الاعتقاد بأن الله سبحانه وتعالى علم ما الخلق عاملون قبل أن يخلقهم، وقدر ذلك قبل خلقهم، وكتب ذلك قبل خلقهم يقول رحمه الله: (وذلك من عقد الإيمان وأصول المعرفة) أي: من أصول الإيمان والمعرفة بالله سبحانه وتعالى، فبهما يكمل للعبد الإيمان.

الإيمان بالقدر من تمام توحيد الله

قال رحمه الله تعالى: (والاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته) أي: ذلك من الاعتراف بتوحيد الله وربوبيته، ومن هذا نعلم أن من تمام التوحيد -توحيد الربوبية- أن يؤمن الإنسان بالقدر، فمن ضل في مسألة القدر فإنه لم يحقق الإيمان بتوحيد الربوبية؛ لأن من توحيد الربوبية الإيمان بأن الله خالق، وأنه مالك، ولابد للخلق والملك من قدرة ومشيئة وعلم.

قال رحمه الله: (كما قال تعالى: وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيرًا [الفرقان:2]) خلق كل شيء فقدره سبحانه وتعالى تقديراً محكماً، وتأكيد التقدير هنا بالمصدر توكيد للمعنى، وأنه بقدر، وأنه ما من شيء مخلوق إلا بقدر الله جل وعلا، قال سبحانه وتعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38].

(أمر الله) أي: مأموره سبحانه وتعالى، وهنا فائدة: أن المصادر التي تضاف إلى الله عز وجل قد تضاف على جهة الصفة ويقصد بها مسمى الصفة، وقد يرد المصدر ويُراد به مفعول تلك الصفة، فقول الله عز وجل: هَذَا خَلْقُ اللَّهِ [لقمان:11] (خلق الله) المشار إليه هنا هو المخلوق، فأطلق المصدر على مفعول الصفة، فيطلق المصدر في لغة العرب كثيراً ويُراد به المعمول المفعول لتلك الصفة، كما قال تعالى: أَتَى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ [النحل:1] هل الذي أتى هو صفة الله عز وجل أو مفعول الصفة؟ مفعول الصفة، (أتى أمر الله) أي: أتى مأمور الله، أي: مخلوق الله الذي قضاه سبحانه وتعالى، ومن ذلك قوله تعالى: وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا [الأحزاب:38] أي: كان مأمور الله سبحانه وتعالى، أي: ما أمر به سبحانه وتعالى وقضى بخلقه (قدراً مقدوراً) أي: قدراً محدداً لا يتجاوز ما حدد ولا يتعدى ما قضى سبحانه وتعالى.

وبهذا ينتهي ما ذكره المؤلف في هذا المقطع من كون الإيمان بالقدر من لوازم الإيمان وأصول المعرفة، ومن لوازم الاعتراف بتوحيد الله تعالى وربوبيته.

حكم من خاصم في القدر

ثم قال رحمه الله: [فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً، وأحضر للنظر فيه قلباً سقيماً، لقد التمس بوهمه في فحصه الغيب سراً كتيماً، وعاد بما قال فيه أفاكاً أثيماً].

ذكر رحمه الله هذا الكلام في ختام مبحث القدر في هذا المقطع، وهو سيعيد بعض ما يتعلق بالقدر يقول: (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً) (خصيماً) فعيل بمعنى: فاعَلَ، يعني: خَاصَم، فويل له إذا خاصم قدر الله كما فعل إبليس عليه من الله ما يستحق من اللعن حيث قال: رَبِّ بِمَا أَغْوَيْتَنِي [الحجر:39] فخاصم الله جل وعلا في قدره.

فهؤلاء الذين خاصموا الله في قدره بأن أنكروه أو كذبوه أو جعلوه حجة على ترك الشريعة ومخالفة الأمر، (فويل لمن صار لله تعالى في القدر خصيماً) ويل: كلمة وعيد، قيل: إنها واد في جهنم، وهذا لا يثبت بسند صحيح، وإنما (ويل) كلمة عذاب فهي كلمة إنشاء وإخبار، (إنشاء) أي: دعاء، فإذا قلت: (ويل) فأنت تدعو بالويل على هذا، (وإخبار) أي: أنك تخبر أنه استحق الويل، وهذا ليس بغريب في اللغة أن تأتي كلمة وتفيد معنيي الجملة؛ لأن الجمل إما أن تكون إنشائية أو خبريه.

و(ويل) تضمنت هذين المعنيين: المعنى الإنشائي، والمعنى الخبري.

قال: (وأحضر للنظر فيه) يعني: في القدر (قلباً سقيماً) وهذا فيه أنه لا يسلم الإنسان من غوائل البحث في القدر إذا كان صاحب قلب سقيم مليئ بالمعارضة وعدم التعظيم للنصوص، ثم قال: (لقد التمس بوهمه) أي: ظنه الكاذب وتوهمه الفاسد في فحص الغيب (سراً كتيماً) ولا يمكن أن يصل إلى شيء (كتيماً) فعيل بمعنى: مفعول، أي: سراً مكتوماً لم يظهره الله سبحانه وتعالى لأحد، كما قال سبحانه وتعالى: عَالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلَى غَيْبِهِ أَحَدًا [الجن:26].

ثم قال: (وعاد بما قال فيه) أي: بعد أن استصحب القلب السقيم، والنظر الكليل، والوهم الفاسد، (عاد بما قال فيه) يعني: في القدر (أفاكاً) أي: كذاباً (أثيماً) أي: مأثوماً فأثيم فعيل بمعنى: مفعول أي: مأثوم، ومعناه قد حصَّل الإثم من رب العالمين.

وبالله التوفيق. والله تعالى أعلم.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور خالد بن عبد الله المصلح - عنوان الحلقة اسٌتمع
شرح العقيدة الطحاوية [17] 2735 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [8] 2630 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [20] 2362 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [2] 2352 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [13] 2235 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [5] 2104 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [15] 2064 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [6] 2056 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [9] 2045 استماع
شرح العقيدة الطحاوية [4] 2040 استماع