شرح العقيدة الواسطية [8]


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله، والصلاة والسلام على رسول الله، وعلى آله وصحبه ومن والاه، وبعد:

قال رحمه الله تعالى: [ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة:1]، وقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَنَحْنُ أَغْنِيَاءُ [آل عمران:181]، وقوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف:80]، وقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46] ].

هذه الآيات من قوله تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا [المجادلة:1] إلى آخر ما قرأ، فيها إثبات صفة السمع لله عز وجل، وفيها إثبات صفة الرؤية، وقد تقدم الكلام على الآيات التي ساقها المصنف رحمه الله في إثبات صفة السمع والبصر لله جل وعلا، وعاد ذكر هاتين الصفتين، أما السمع فأعاده باسمه، يعني: بآيات تدل على ثبوت الصفة لله عز وجل بهذا الاسم، وأما البصر فأعاده باسم آخر قد ثبت به النص وهو الرؤية، وكلا الوصفين ثابت لله عز وجل، وهو من الصفات الذاتية الثابتة لله تعالى على الوجه اللائق به.

وأفادنا في هذه الآيات أن الله سبحانه وتعالى يخص بعض خلقه بالسمع، ويخص بعض خلقه بالرؤية، وهذا التخصيص يفيد معنىً زائداً على إثبات هذين الوصفين له سبحانه وتعالى، فقوله جل وعلا: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فيه تخصيص المجادلة بسماع ما تكلمت به، وقوله سبحانه وتعالى: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قَالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ فيه تخصيص السمع بقول هؤلاء، وكذلك قوله: أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَنَجْوَاهُمْ فيه أيضاً تخصيص السمع بهؤلاء الذين يسرون ويتناجون بالباطل، وقوله: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ فيه تخصيص موسى وهارون بسماع دعوتهما لفرعون، فهذه الآيات كلها أفادت أن الله سبحانه وتعالى قد يخص بعض خلقه بسماع خاص، وهذا لا ينفي ثبوت السماع العام الذي ثبت له بالأدلة الكثيرة، ومن ذلك قوله تعالى: (إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ).

والرؤية جاء ما يدل على تخصيص بعض خلقه بالرؤية، كما في قوله تعالى: (إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى )، أما البصر فإنه لم يذكر في كتاب الله عز وجل خاصاً، إنما جاء عاماً، ومن تخصيص الرؤية قوله تعالى: وَقُلْ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَرَسُولُهُ [التوبة:105] فهذا تخصيص عمل البعض بالرؤية، والخطاب في هذه الآية للمنافقين.

المهم أن الأدلة دلت على أن الله سبحانه وتعالى يخص بعض خلقه بالسمع، ويخص بعض خلقه بالرؤية، واعلم أيضاً أن من فوائد هذه الآية التي ساقها المؤلف رحمه الله أن الله سبحانه وتعالى يسمع الأشياء بعد وقوعها، يسمع الكلام بعد وقوعه، وكذلك يرى الأشياء بعد وجودها، وهذا فيه أن السمع والبصر يتعلقان بكل مبصر وكل مسموع بعد وجودهما، مع أنه سبحانه وتعالى سميع بصير أزلاً وأبداً، فكون السمع والبصر يتعلق بالمخلوقات هذا صفة فعل، وكونه متصفاً به أزلاً وأبداً هذا صفة ذات.

ومما أفاده ذكر سماعه سبحانه وتعالى ورؤيته جل وعلا لبعض خلقه تهديده للقائلين قولاً باطلاً، ووعده بالأجر لمن قال قولاً حقاً أو فعل فعلاً حقاً، يعني: من فوائد التخصيص في السمع والبصر الوعد بالجزاء على العمل إن كان خيراً فهو وعد، وإن كان شراً فهو وعيد.

ومن فوائده أيضاً النصر والتأييد، وذلك في مثل قوله تعالى: إِنَّنِي مَعَكُمَا أَسْمَعُ وَأَرَى [طه:46]، والمراد هنا: ليس مجرد إثبات مطلق السمع ومطلق البصر أو مطلق الرؤية له جل وعلا، إنما المراد: إنني أعلم بحالكما، وقادر على نصركما وإظهاركما على عدوكما أو على من تدعوان، وثبوت ما تقدم من المعاني أمر قطعي لا حيلة في إنكاره ودفعه.

قال رحمه الله: [ وقوله: أَلَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرَى [العلق:14]، وقوله: الَّذِي يَرَاكَ حِينَ تَقُومُ * وَتَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ * إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ [الشعراء:218-220]، وقوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13]، وقوله: وَمَكَرُوا وَمَكَرَ اللَّهُ وَاللَّهُ خَيْرُ الْمَاكِرِينَ [آل عمران:54]، وقوله: وَمَكَرُوا مَكْراً وَمَكَرْنَا مَكْراً وَهُمْ لا يَشْعُرُونَ [النمل:50]، وقوله: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً * وَأَكِيدُ كَيْداً [الطارق:15-16] ].

هذه الآيات ساقها المصنف رحمه الله لإثبات هذه المعاني لله عز وجل، ففيها إثبات شدة المحال لله سبحانه وتعالى، وفيها إثبات المكر، وفيها إثبات الكيد له جل وعلا، لكن اعلم أن هذه المعاني وهذه الصفات لم يصف الله سبحانه وتعالى نفسه بها إلا على وصف الجزاء لمن فعل ذلك بغير حق، فهو سبحانه وتعالى يمكر بمن مكر مكراً باطلاً، ويكيد بمن كاد كيداً باطلاً، فهي من الأفعال والصفات التي لم يصف الله عز وجل بها نفسه إلا في جزاء من استحق ذلك، وبه نعلم أن هذه الصفات منها ما هو محمود، ومنها ما هو مذموم؛ ولذلك لم ترد في كتاب الله عز وجل في إضافاتها إلى الله سبحانه وتعالى -يعني: في وصف الله بها سبحانه وتعالى- إلا مقيدة من حيث الفعل، ومن حيث الوصف، أما من حيث ثبوت المعنى فقد ورد بدون تقييد، وذلك في قوله: وَهُوَ شَدِيدُ الْمِحَالِ [الرعد:13]، فالمحال فسره السلف بالكيد والمكر، أي: وهو شديد المكر والكيد، وهذا المعنى يثبت له على وجه الإطلاق لا في مقابلة كيد أو مكر، وكذلك قوله تعالى: أَفَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخَاسِرُونَ [الأعراف:99]، ففيه ثبوت المكر دون ذكر مقابل، وقوله: إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ [الأعراف:183] فيه ثبوت معنى الكيد له سبحانه وتعالى دون ذكر مقابل.

لكن اعلم أن هذه المعاني من حيث إطلاق الفعل أو الوصف لله جل وعلا لم ترد إلا مقيدة، أما من حيث ثبوت أصل المعنى فإنها وردت مطلقة دون قيد لفظي، وإن كان هناك قيد معنوي، حيث إنها لم تذكر إلا في سياق كيد الكائدين أو مكر الماكرين أو غفلة الغافلين عن الله عز وجل، فهي من حيث المعنى لم ترد إلا مقيدة بمعنى، وإن كان ثبت أصل اللفظ دون ذكر مقابل، لكن من حيث المعنى لا تستعمل هذه الصفات إلا في مقابل فعل من يستحق أن يفعل به ذلك، وتنبه لهذا.

واعلم أن سبب تعطيل من عطل هذه الصفات وقال: إنها لا تطلق على الله عز وجل إلا من باب المشاكلة، وإلا فليس لها حقيقة، أو من باب المقابلة ولا حقيقة لها، كقول المحرفين للصفات؛ فإنهم توهموا أن هذه المعاني لا يثبت منها إلا المعاني المذمومة، فلما كان في أذهانهم أن الكيد لا يكون إلا مذموماً، والمكر لا يكون إلا مذموماً، والمحال لا يكون إلا مذموماً، قالوا: لا نثبت ذلك لله عز وجل، وكذلك الخداع قالوا: لا يكون إلا مذموماً، فلم يثبتوه له سبحانه وتعالى، فلما لم يستقر في أذهانهم إلا المعنى المذموم لهذه الصفات عطلوا الله جل وعلا منها، وقالوا: إنها لم تذكر في الكتاب إلى على وجه المشاكلة والمقابلة دون إرادة المعنى، وهذا غلط وعدم فهم لما دلت عليه النصوص.

ومن حيث الواقع المكر ليس مذموماً على كل حال، وكذلك الكيد ليس مذموماً على كل حال، وكذلك الخداع ليس مذموماً على كل حال، بل هو في مقابل كيد الكائدين، ومكر الماكرين، وخداع المخادعين المبطلين؛ صفة كمال؛ ولذلك يتصف الله بها سبحانه وتعالى في مثل هذه المواضع.

قال رحمه الله: [ وقوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً [النساء:149]، وقوله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَاللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ [النور:22]، وقوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وقوله عن إبليس: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82]، وقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78] ].

هذه الآيات فيها ثبوت صفة العفو والمغفرة والصفح والعزة لله جل وعلا، وهي صفات كمال له سبحانه وتعالى، وهي من الصفات الفعلية، فالمغفرة والعفو والصفح والعزة من صفات ذاته سبحانه وتعالى.

الآية الأولى قوله: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً [النساء:149] فيها إثبات صفة العفو، والعفو إذا ورد مطلقاً فالمراد به التجاوز والستر، فقوله: (فَإِنَّ اللَّهَ كَانَ عَفُوّاً قَدِيراً) أي: يتجاوز عن المسيء ويستر عليه.

وقوله: وَلْيَعْفُوا وَلْيَصْفَحُوا أَلا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ [النور:22] هذا فيه إثبات العفو، وفيه إثبات الصفح، وفيه إثبات المغفرة، ومعنى العفو: التجاوز، والصفح: الإعراض عن الخطأ والذنب، والمغفرة: الستر، وكلها صفات فعل ثابتة له سبحانه وتعالى تتعلق بمشيئته.

وقوله سبحانه وتعالى: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8]، وقوله: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] كل هذا مما تثبت به صفة العزة له سبحانه وتعالى، فهو العزيز الرحيم جل وعلا، والعزة التي اتصف الله بها تتضمن ثلاثة معاني: القوة والغلبة والامتناع، وكلها ثابتة لله سبحانه وتعالى، وهي من صفات الكمال، قال الله: (وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ) فالعزة التي لله هي القوة والغلبة والامتناع، فله العزة جل وعلا وصفاً، وله العزة أيضاً خلقاً وملكاً، فالتي له خلقاً هي العزة التي يهبها سبحانه وتعالى لعباده المتقين، كالتي في قوله: وَلِلَّهِ الْعِزَّةُ وَلِرَسُولِهِ وَلِلْمُؤْمِنِينَ [المنافقون:8] ، فالعزة التي للرسول والتي للمؤمنين هل هي صفة لله عز وجل؟ لا، هي خلقه جل وعلا، والله سبحانه وتعالى يهب العزة لمن يشاء كما قال سبحانه وتعالى: وَتُعِزُّ مَنْ تَشَاءُ وَتُذِلُّ مَنْ تَشَاءُ [آل عمران:26]، فالعزة التي له هي وصفه سبحانه وتعالى، وهي فعله سبحانه وتعالى.

وقوله: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82] هذا فيه إثبات أنها من صفاته، حيث أضافها إليه سبحانه وتعالى، وأخبر عن إقسام الشيطان بها في قوله: فَبِعِزَّتِكَ لأغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ [ص:82].

ثم بعد ذلك ذكر المؤلف رحمه الله قول الله جل وعلا: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78] تبارك أي: تعاظم وتقدس وتعالى وتنزه، كل هذا يفسر به هذا الفعل، وهو قوله: (تَبَارَكَ).

واعلم أن هذا الفعل وما تضمنه من وصف لا يطلق إلا على الله جل وعلا، ولذلك لم يذكره الله عز وجل في كتابه إلا له ولأسمائه، مثل قوله: تَبَارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ [الملك:1] .. تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ [الفرقان:1]، وأما إضافته إلى أسمائه ففي مثل قوله تعالى: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78]، وذلك أنه معنى لا يناسب إلا الخالق جل وعلا، فلذلك لم يضف لغيره، ومعناه: الذي اجتمعت فيه صفات الكمال، فإن تبارك تدل على التعاظم، وعلى التعالي، وعلى المجد، وعلى كل صفة فضل وكمال، وعلى سعة تلك الصفات التي اتصف بها سبحانه وتعالى.

ومن لوازم هذا الاسم أنه سبحانه وتعالى يبارك فيمن يشاء من عباده وخلقه، لكن من اقتصر في تفسير هذا الفعل بأنه الذي يهب البركة لمن يشاء فقد قصر في هذا المعنى، فإنه أوسع من ذلك وأجل وأعظم، فمعنى هذه الكلمة أجل من أن نحصره فقط في الذي يهب البركة لمن يشاء، لا شك أن من لوازم اتصافه سبحانه وتعالى بهذا الفعل أن يكون ذلك المعنى ثابتاً، وهو أنه يهب البركة لمن يشاء، لكن المعنى أوسع من ذلك.

والتبارك أضافه سبحانه وتعالى إلى أسمائه فقال: (تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ)، واسم مفرد مضاف يعم جميع الأسماء، ولو لم يكن من بركة الأسماء إلى أنها تدل على الخالق، وأنها تعرف الخلق به؛ لكان ذلك كافياً، مع أن أسماءه سبحانه وتعالى بركتها أوسع من ذلك، وبهذا نعلم بطلان مذهب المعتزلة الذين يقولون: إن الأسماء أعلام محضة لا تتضمن المعاني، فهو سميع بلا سمع، عليم بلا علم، بصير بلا بصر، قدير بلا قدرة، وقد افتروا على الله كذباً؛ لأنها لو كانت أعلاماً مثل زيد وصالح وخالد وعمر وبكر، مجرد أعلام لا ينظر إلى معانيها؛ لما كانت مباركة، لكن لما أضاف البركة لهذه الأسماء، ووصفها بهذا الوصف، وأثبت لها هذا الفعل؛ دل ذلك على أنها تحتوي على معاني، ومن أجل ما يكون فيها من البركة أنها تدل على ما يتصف به سبحانه وتعالى وما يجب له.

وقوله: تَبَارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ [الرحمن:78] تقدم الكلام على قوله: (ذِي الْجَلالِ وَالإِكْرَامِ)، وأن معنى: (ذي الجلال) أي: الكبرياء والعظمة، والإكرام هو المحبة والحمد.

ومن بركة أسمائه سبحانه وتعالى أنه لا تستباح الذبائح ولا تحل إلا بذكر اسمه، وَلا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرْ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ [الأنعام:121].

قال رحمه الله: [ وقوله: فَاعْبُدْهُ وَاصْطَبِرْ لِعِبَادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65]، وقوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4]، وقوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وقوله: وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165]، وقوله: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111]، وقوله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1]، وقوله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:1-2]، وقوله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92]، وقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74]، وقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] ].

جميع هذه الآيات مقصودها وموضوعها واحد، وهو إثبات الكمال لله عز وجل في صفاته وأفعاله وأسمائه وما يجب له، وتنزيهه سبحانه وتعالى عن النقائص والعيوب، وقد نزه الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه عن العيوب: تارة بنفيها، وتارة بإثبات أضدادها، فقوله تعالى: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً [مريم:65] هذا فيه نفي السمي، وهو النظير والمثيل، فقوله: (هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيّاً) نفي أن يكون له سمي جل وعلا في صفاته أو في أفعاله أو في أسمائه أو فيما يجب له.

وكذلك قوله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ [الإخلاص:4] هذا نفي أن يكون له كفؤ في شيء مما يجب له أو مما يتصف به سبحانه وتعالى.

وقوله: فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَندَاداً وَأَنْتُمْ تَعْلَمُونَ [البقرة:22]، وَمِنْ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَندَاداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَالَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبّاً لِلَّهِ [البقرة:165] هذا فيه نفي الند، وهذا النفي المتقدم في الآيات كله نفي مجمل، والمقصود منه والمراد به: إثبات الكمال له سبحانه وتعالى.

وقوله: وَقُلْ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الإسراء:111] هذا فيه نفي الولد، وهو نفي مفصل المقصود منه نفي ما ادعاه الجاهلون من أن لله ولداً كما قال النصارى وكما قال اليهود وكما قال المشركون، وقال الله: وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ [الإسراء:111] هذا فيه نفي الشريك لإثبات تفرده بالملك، وهو من مقتضيات ربوبيته سبحانه وتعالى، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنْ الذُّلِّ [الإسراء:111] أي: لم يكن له نصير بسبب ذل، ولم يكن له محبوب بسبب الذل، فقوله: (مِنْ الذُّلِّ) أي: لأجل الذل، فمن هنا سببية، أي: لم يتخذ جل وعلا أولياء ليتقوى بهم أو لينتصر بهم على غيرهم، فهو الغني الحميد سبحانه وتعالى، وإنما يتخذ الله أولياء رحمة وإحساناً وبراً وكرماً وجوداً، فالولاية الثابتة في قوله: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ [يونس:62] هل هي ولاية نصر، أي: أنه تولاهم ليتقوى بهم ويعتز؟

لا، وتعالى الله عن ذلك علواً كبيراً، إنما هي ولاية رحمة وإحسان وبر وكرم منه جل وعلا.

ثم قال: وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً [الإسراء:111] بعد أن ذكر ما نفاه مما يقتضي كماله سبحانه وتعالى قال: (وَكَبِّرْهُ تَكْبِيراً)، فالتكبير هو التعظيم، وذلك أن الله جل وعلا أعظم مما تدركه العقول، بل ما جاء في النصوص إنما هو شيء من كماله، وما اخفي عنا شيء كثير، وشيء عظيم.

ومن الحكمة أن الإنسان في دبر كل صلاة يقول: سبحان الله والحمد لله والله أكبر، فسبحان الله ماذا يحصل بها؟ تنزيه الله عز وجل عن كل نقص، وقوله: الحمد لله إثبات كل كمال لله جل وعلا، وقوله: الله أكبر، أي: أنه مهما بالغت في التنزيه، ومهما بالغت في إثبات الكمال؛ فإنك لن تقدره جل وعلا حق قدره، كما قال سبحانه وتعالى: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ [الأنعام:91].

ولذلك -يا إخوان- من قال هذه الكلمات بعد دبر الصلوات مستحضراً هذه المعاني كفرت عنه الذنوب ولو كانت مثل زبد البحر، ولكن الذي يقولها دون إدراك لما تضمنته من المعاني لا يحصل له هذا الفضل.

وقال الله: يُسَبِّحُ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَلَهُ الْحَمْدُ وَهُوَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [التغابن:1] فيه تنزيه الله عز وجل عن النقص، واعلم أنه حيث ما سبح الله سبحانه وتعالى نفسه في كتابه أو جاء ذلك في السنة فالمراد تنزيه الله عز وجل عن النقص، هذا أولاً.

ثانياً: المراد أيضاً إثبات الكمال له في الصفات.

ثالثاً: نفي ما وصفه به الجاهلون، فهذه معان ثلاثة تثبت بالتسبيح، المعنى الأول: نفي النقص في صفاته، المعنى الثاني: إثبات الكمال له سبحانه وتعالى، المعنى الثالث: نفي ما وصفه به الجاهلون.

وقال الله: تَبَارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقَانَ عَلَى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعَالَمِينَ نَذِيراً [الفرقان:1] تقدم الكلام على تبارك قبل قليل، وأن معناها: تبارك وتعاظم وتقدس وكثرت بركته وخيراته.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَلَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً [الفرقان:2] هذا تقدم، وَلَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ [الفرقان:2] تقدم أيضاً وَخَلَقَ كُلَّ شَيْءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً [الفرقان:2].

وقال الله: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَمَا كَانَ مَعَهُ مِنْ إِلَهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلَهٍ بِمَا خَلَقَ وَلَعَلا بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ * عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَتَعَالَى عَمَّا يُشْرِكُونَ [المؤمنون:91-92] يشركون أي: يسوون به غيره، فالشرك مداره على التسوية، والتسوية تكون في الأسماء والصفات، وتكون في الربوبية، وتكون في الإلهية فيما يجب له من العبادة، والله عز وجل قد تنزه وتعالى عن كل شرك في أي نوع من أنواع التوحيد.

وقوله: فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الأَمْثَالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ [النحل:74] هذا فيه نفي المثيل عن الله سبحانه وتعالى.

وقوله: قُلْ إِنَّمَا حَرَّمَ رَبِّي الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ وَالإِثْمَ وَالْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَأَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ مَا لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطَاناً وَأَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ مَا لا تَعْلَمُونَ [الأعراف:33] هذا فيه أنه تنزه عن الشرك سبحانه وتعالى، وأنه حذر عباده أن يقولوا عليه -في شيء مما اتصف به، أو مما شرعه أو أي شيء مما يتعلق به سبحانه وتعالى- ما لا يعلمون، والواجب على المؤمن أن يقف في أخبار الله عز وجل وفي أحكامه على ما جاءت به النصوص.