الأمة بين عامين


الحلقة مفرغة

الحمد لله، الحمد لله وسعت كل شيء رحمته، ونفذت في كل شيء قدرته، وأحاطت بكل شيء مشيئته، وتجلت في كل قدر حكمته، وعظمت على كل أحد نعمته، له الحمد كما يحب ويرضى، على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءًً عليه هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد كثيراً طيباً مباركاً فيه كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيى ويميت وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا وحبيبنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، علم التقى ومنار الهدى، أرسله الله إلى الناس أجمعين، وبعثه رحمة للعالمين، وختم به الأنبياء والمرسلين وجعله سيد الأولين والآخرين، فصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعه واقتفى أثره ونهج نهجه إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102].

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد: أيها الإخوة المؤمنون!

الأمة بين عامين، عام اليوم سيمضي، وآخر غداً سيأتي، وتمر الأيام وتتوالى الأعوام والعاقل من يدكر ويعتبر، ومن ينتفع ويستفيد، وما يمر مثل هذه الأيام إلا ويمر ذكر الحدث الأعظم الذي كانت فيه أمتنا بين مفترق طريقين، ليسا متناقضين ولا متعارضين بل هما متكاملان، طريق في الدعوة والإيمان، وطريق في الدولة والسلطان، مفرق الهجرة العظيمة التي غيرت مجرى تاريخ أمة الإسلام وتغير بها مجرى تاريخ البشرية كلها.

حري بنا وأمتنا اليوم تمر بأحلك الظروف وأشدها وأصعبها، من فرقة صفوفها، وتكالب أعدائها وهوانها على خصومها، واستهدافها في أصل دينها وصميم معتقدها وأصالة مناهجها، وصبغة هويتها؛ حري بهذه الأمة أن تكون لها في مثل هذه المواقف مراجعات ومحاسبات وعبر وعظات تصحح بها المسيرة وتقوم بها المعوج، وتكمل بها النقص، وما من شك أن حديثنا عن الأمة لا يعفينا كأفراد أن نستمرئ ذلك ونحبه؛ لأنه لا يواجهنا بقصورنا ولا يحدثنا عن أخطائنا ولا يجابهنا بتفريطنا وتقصيرنا.. كلا.. وإنما حديثنا عن الأمة حتى تكون المسئولية شاملة لكل أحد، لا نلقي بها على الحكام والأمراء وهم في قمة المسئولية والمحاسبة، ولا نخصها بالدعاة والعلماء وهم في المراتب العالية من ذلك، بل تعم كل أحد صغيراً وكبيراً ذكراً وأنثى كل بحسبه، فكل امرئ مسئول وفي عنقه أمانة، على عاتقة مهمة ورسالة، حملها يوم حملها محمد صلى الله عليه وسلم، وحملها معه الصحب الكرام صغاراً وكباراً رجالاً ونساءً في أحلك الظروف وأشدها، في العسر واليسر، والمنشط والمكره، بذلوا لأجل حملها الأرواح والدماء وأنفقوا الأموال والثروات، وأجهدوا الأبدان والطاقات؛ لتعلو كلمة الله عز وجل.

وقفات مهمة، أولها: الدعوة والإيمان والدولة والسلطان:

معاشر المسلمين! هل إسلامكم ودينكم له غاية في هذه الحياة ليكون صاحب الحكم والسلطان لمجرد القهر والعدوان، أو لمجرد التحكم والتسلط؟

إن ديننا وأمتنا أمة دعوة وإيمان أولاً وآخراً، إن محمداً صلى الله عليه وسلم أوجزت آيات القرآن مهمته، وذكرت لنا وصفه: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب:45].

رسول الهدى صلى الله عليه وسلم، جاء ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، ليستنقذهم من الشرك إلى التوحيد، لينأى بهم عن الرذائل إلى الفضائل، ليغير مسارهم إلى وجهات شتى في هذه الحياة الدنيا لتكون لهم وجهة واحدة، هي ابتغاء رضوان الله وقصد الآخرة، ولذلك تأملوا في هذا المعنى:

الإيمان والدعوة هي الغاية من بعثته صلى الله عليه وسلم

دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه وقبيلته وأهل مكة سراً وعلانية، جمعاً وأفراداً، سعى بكل الوسائل، فلما ضاقت السبل، وسدت الأبواب، وعتا الطغاة، وتجبر الجاهليون؛ هل ركن ليكون في دائرة نفسه، أم كانت دعوته وإيمانه أعظم شيء في حياته، وهي غاية وجوده ومهمته التي انتدبه الله عز وجل إليها وابتعثه في هذه الخليقة لأجلها، والتمس عليه الصلاة والسلام له ولأصحابه طرقاً يشقون بها المسار لتحقيق دعوة الله وإقامتها في هذه الحياة كما أراد الله سبحانه وتعالى!

هيأ لأصحابه سبيل هجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الثانية، ثم مضى بنفسه عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يبتغي قوماً يؤمنون بهذه الدعوة ويحملونها في قلوبهم وعلى أكتافهم ويصبغون بها حياتهم، ويجعلونها الهدف الأسمى والغاية العظمى التي يوظفون لأجلها الطاقات والجهود والأموال، بل ويبذلون من أجلها الأرواح والدماء، فوجد صداً وإعراضاً، فرجع عليه الصلاة والسلام لم تلن له قناة، ولم يفتر له عزم، ولم يدب إلى قلبه يأس، ولم يحصل في نفسه قنوط عليه الصلاة والسلام.

كان يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة، وهماً كبيراً هو هم هذه الدعوة والإيمان كيف يغرسه في القلوب، كيف يوصله إلى العقول، كيف يخاطب به كل أذن، كيف يجلي حقيقته لكل عين وبصر وبصيرة؛ ولذلك مضى عليه الصلاة والسلام يلتمس المواسم، يمضي إلى القبائل، يعرض نفسه على هؤلاء وهؤلاء، يريد من يجعل الدعوة والإيمان راية حياته، حتى تهيأت الأسباب، وجاء نفر الأنصار الأوائل، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، ما الذي كان فيها؟

(بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان) حديث عبادة بن الصامت في بيعة العقبة.

وعندما جاء الصحابة يبايعونه ومقدمهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه، قال أبو التيهان من الصحابة: تمهلوا أيها القوم، واعلموا أنكم تبايعون رجلاً على حرب الأسود والأحمر وعلى دمائكم وأرواحكم، فانظروا ما أنتم عليه مقبلون، فقالوا: أمط عنا، فوالله لا نقيل ولا نستقيل، (أن تحموني مما تحمون منه نسائكم وأنفسكم وأموالكم) فأعطوا على ذلك بيعتهم، قالوا: فما لنا يا رسول الله إن فعلنا ذلك؟

فلم يعدهم بعرض من الدنيا ولا بحكم ولا سلطان، ولا بملك ولا صولجان، وإنما قال: (لكم الجنة) راية عظمى، إخلاص متجرد، مقصد أسمى من الدنيا وما فيها ومن فيها، لم تتعلق القلوب حينئذ ببعض الدنيا، لم تتعلق بمتعها.

الدولة والقوة وسيلة لنشر الدعوة

وعندما وصلت الأمة لتكون الآمرة الناهية والحاكمة في بلاد شتى، لم تنس أنها أمة دعوة وإيمان، فسخرت دولتها وحكمها وقوتها وسلطتها لتكون في سبيل نشر الدعوة وإقامة الإيمان والذود والذب عن حياض الإسلام.

فالدولة والقوة ليست غاية في حقيقتها؛ ولذلك ماذا فعل أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟

أنزلوه في قلوبهم قبل أن ينزل في ديارهم، وأحلوه موضع الروح بين جنوبهم، قبل أن يحل في ديار أو بقاع، وجعلوا الإسلام والإيمان أعظم همهم وأوكد شغلهم، قبل أن ينظروا إلى عرض الدنيا أو إلى أرض يبسطون عليها سلطاناً، أو إلى غنائم يغتنمونها في تلك المعركة أو تلك الغزوة.

ذلك معلم مهم في حياة أمتنا، ما الذي أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي استنفر أصحابه ليخرجوا من مسقط رأسهم وأرضهم ودورهم وبيوتهم وأموالهم وقراباتهم؟ إنه دين الله، إنها دعوة الله، إنها المقصد الأسمى الذي تدور عليه وحوله الحياة، ذلكم هو درس هذه الهجرة العظيمة.

تضحية الصحابة بكل ما يملكون في سبيل نشر الدعوة

الدعوة لا بد أن تكون قوية صلبة لا يفتر أصحابها ولا يضعفون، ولا ييأسون ولا يكلون ولا يملون ولا يتوقفون ولا يسكنون، خذوا شرقاً فإن صدت الأبواب فغرباً، وامضوا شمالاً فإن وجدت العوائق فجنوباً، لا بد أن تحملوا دعوتكم وإيمانكم في أعماق قلوبكم، وفي أغوار نفوسكم، وأن تجري مع دمائكم في عروقكم، وأن تكون هي خواطر عقولكم، وكلمات ألسنتكم، يوم ذلك ستكونون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا في ذلك الوقت هم الأمة النموذجية المثالية بوجود القدوة العظمى عليه الصلاة والسلام، ووجود الصحب الكرام الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحمل دينه وتبليغ دعوته.

وذلكم درس عظيم لا بد منه، إنهم في سبيل إمضاء هجرتهم لإقامة مجتمعهم وتشييد دولتهم، وقبل ذلك لإنفاذ دعوتهم وإظهار إيمانهم؛ جادوا بكل شيء، ولسنا بصدد ذكر قصص الهجرة فأنتم تعرفونها، فقد فرق بين أبي سلمة وزوجه أم سلمة وابنه عمر بن أبي سلمة، فما صد ذلك أحداً منهم عن أن يمضي لمراد الله عز وجل، ولطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإحقاق وإعزاز دينه، وصهيب الرومي خلف ثروة حياته كلها وجهد أيامه ولياليه من المال والثروة ليمضي إلى دعوته وإيمانه، وليلحق بنبيه ورسوله وليعلي أمته ودعوته.

وكذلكم كان من بعد آل جحش عبد الله وأهله وأخوه الضرير أبو أحمد، وأولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عندما بلغوا المدينة وأصابتهم حماها واشتد بهم المرض، ورأوا ما هو عظيم في الناحية البدنية، وجسيم في الناحية النفسية، من أرض تركوها وبلاد نشئوا فيها، وأموال خلفوها، إلى أرض ليس لهم فيها موطن ولا عمل ولا مال، فشق ذلك على النفوس، ودخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبي بكر وقد اشتدت به الحمى وهو يقول:

كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

وبلال اشتدت به الحمى فقال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

يتذكرون ديارهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك لهم في المدينة وأن يجعل فيها ضعفي ما في مكة من البركة، وأن ينقل حماها إلى الجحفة، فبرئت الأجساد، وتواصلت المسيرة.

حال الأمة إذا لم تكن دعوتها هي غايتها

تلك أمة كانت دعوتها هي غايتها، وذلك هو الذي ينبغي أن تتذكره أمتنا اليوم، وقد فتنت بالعروش واشتغلت بالسلطان وتنافست على الملك، وجعلت ذلك أوكد همها وغاية قصدها، فضلت عن مسارها، وضيعت دعوتها وافتقدت رسالتها، وغيبتها تلك الأحداث كلها لتكون من سقط المتاع، ولتكون في ذيل قائمة الأمم تأثيراً وقيادة وريادة؛ لأنها لم تدرك أنها إنما وجدت في هذه الحياة لتقول: إنها أمة الإسلام ولترفع راية الإيمان، ولتعلم أن كل جدها وجهدها وقوتها وسلطانها وملكها ومالها إنما هو لإعلاء كلمة الله ولإعزاز دين الله، ويوم تفقد غايتها وتتخلى عن رسالتها فلن تكون لها عزتها ولن تعود لها قوتها، ولن تتبوأ في هذه الحياة الدنيا وفي هذه البشرية قيادتها وريادتها كما كان عليه رسول الهدى صلى الله عليه وسلم وصحبه الكرام وأمة الإسلام على مدى تاريخها الطويل.

وتأملوا ماذا فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم عندما وصل المدينة، والقلوب متشوقة للقائه، والنفوس متلهفة لتسخر كل جهدها وطاقتها وفق أمره وإرشاده، هل بنى قصر الحكم؟ هل شيد دار الإمارة؟ بدأ ببناء المسجد؛ ليعلق القلوب به وليربط الخلق بالخالق، وليقول لأمة الإسلام: كل أرض تدخلونها، وكل فتح تفتحونه، فابدءوا فيه بأن تؤكدوا صلتكم بالله عز وجل، فذلكم هو أساس وجودكم وهو سر قوتكم وهو ضمان وأمان استمراركم بإذنه سبحانه وتعالى.

ثم ألف بين القلوب وآخى بين المهاجرين والأنصار، فآوى بلالاً، وآخى صهيباً، ونادى بـسلمان في العالمين، وأخرج النموذج المثالي الفريد الذي ليس في البشرية كلها نموذج مثله، يوم نبذ كل الاختلافات في الأعراق والأنساب والقدرات والطاقات والملكات وجعلها كلها تحت لا إله إلا الله محمد رسول الله، لم يكن فرق بين أبي بكر التيمي ولا عمر العدوي ولا بلال الحبشي ولا صهيب الرومي، إنما كلهم أهل إيمان فضلهم بتقوى الله، عزهم بالبذل والتضحية لإعزاز دين الله، شرفهم ومناقبهم بحسب ما كان من دعوة الله عز وجل، المهاجرون إنما فضلهم بهجرتهم لذلك، الأنصار إنما فضلهم بنصرتهم لذلك، البدريون إنما هم أصحاب فضل وتقدم على الأصحاب لذلك.

وهكذا معاشر الإخوة المؤمنين .. يوم يكون تفاضلنا ببذلنا لدعوتنا وبقيامنا بحق ديننا، يوم تكون المراتب بحسب ما يبذل المرء لدينه ولأمته ولرسالته؛ يومئذ لا يكون فينا ما أخبر به النبي صلى الله عليه وسلم من أن يتصدر في الناس الرويبضة، قالوا: وما الرويبضة يا رسول الله! قال: (الرجل التافه يتكلم في شأن العامة)، إنما يتصدر الرجل ويتقدم بحسب ما يكون من بذله لدينه وأمته، الدين هو الهدف والغاية، والدين هو المنهج والطريق ذلكم ما تقرع به الهجرة آذاننا وعقولنا، كلما تجددت ذكراها وكلما انقضى عام وأتى عام.

دعا النبي صلى الله عليه وسلم قومه وقبيلته وأهل مكة سراً وعلانية، جمعاً وأفراداً، سعى بكل الوسائل، فلما ضاقت السبل، وسدت الأبواب، وعتا الطغاة، وتجبر الجاهليون؛ هل ركن ليكون في دائرة نفسه، أم كانت دعوته وإيمانه أعظم شيء في حياته، وهي غاية وجوده ومهمته التي انتدبه الله عز وجل إليها وابتعثه في هذه الخليقة لأجلها، والتمس عليه الصلاة والسلام له ولأصحابه طرقاً يشقون بها المسار لتحقيق دعوة الله وإقامتها في هذه الحياة كما أراد الله سبحانه وتعالى!

هيأ لأصحابه سبيل هجرة الأولى إلى الحبشة، ثم الثانية، ثم مضى بنفسه عليه الصلاة والسلام إلى الطائف يبتغي قوماً يؤمنون بهذه الدعوة ويحملونها في قلوبهم وعلى أكتافهم ويصبغون بها حياتهم، ويجعلونها الهدف الأسمى والغاية العظمى التي يوظفون لأجلها الطاقات والجهود والأموال، بل ويبذلون من أجلها الأرواح والدماء، فوجد صداً وإعراضاً، فرجع عليه الصلاة والسلام لم تلن له قناة، ولم يفتر له عزم، ولم يدب إلى قلبه يأس، ولم يحصل في نفسه قنوط عليه الصلاة والسلام.

كان يحمل بين جنبيه نفساً عظيمة، وهماً كبيراً هو هم هذه الدعوة والإيمان كيف يغرسه في القلوب، كيف يوصله إلى العقول، كيف يخاطب به كل أذن، كيف يجلي حقيقته لكل عين وبصر وبصيرة؛ ولذلك مضى عليه الصلاة والسلام يلتمس المواسم، يمضي إلى القبائل، يعرض نفسه على هؤلاء وهؤلاء، يريد من يجعل الدعوة والإيمان راية حياته، حتى تهيأت الأسباب، وجاء نفر الأنصار الأوائل، وكانت بيعة العقبة الأولى والثانية، ما الذي كان فيها؟

(بايعنا رسول الله صلى الله عليه وسلم على السمع والطاعة في العسر واليسر، والمنشط والمكره، وعلى أثرة علينا، وعلى ألا ننازع الأمر أهله إلا أن تروا كفراً بواحاً لكم عليه من الله برهان) حديث عبادة بن الصامت في بيعة العقبة.

وعندما جاء الصحابة يبايعونه ومقدمهم أسعد بن زرارة رضي الله عنه، قال أبو التيهان من الصحابة: تمهلوا أيها القوم، واعلموا أنكم تبايعون رجلاً على حرب الأسود والأحمر وعلى دمائكم وأرواحكم، فانظروا ما أنتم عليه مقبلون، فقالوا: أمط عنا، فوالله لا نقيل ولا نستقيل، (أن تحموني مما تحمون منه نسائكم وأنفسكم وأموالكم) فأعطوا على ذلك بيعتهم، قالوا: فما لنا يا رسول الله إن فعلنا ذلك؟

فلم يعدهم بعرض من الدنيا ولا بحكم ولا سلطان، ولا بملك ولا صولجان، وإنما قال: (لكم الجنة) راية عظمى، إخلاص متجرد، مقصد أسمى من الدنيا وما فيها ومن فيها، لم تتعلق القلوب حينئذ ببعض الدنيا، لم تتعلق بمتعها.

وعندما وصلت الأمة لتكون الآمرة الناهية والحاكمة في بلاد شتى، لم تنس أنها أمة دعوة وإيمان، فسخرت دولتها وحكمها وقوتها وسلطتها لتكون في سبيل نشر الدعوة وإقامة الإيمان والذود والذب عن حياض الإسلام.

فالدولة والقوة ليست غاية في حقيقتها؛ ولذلك ماذا فعل أولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم؟

أنزلوه في قلوبهم قبل أن ينزل في ديارهم، وأحلوه موضع الروح بين جنوبهم، قبل أن يحل في ديار أو بقاع، وجعلوا الإسلام والإيمان أعظم همهم وأوكد شغلهم، قبل أن ينظروا إلى عرض الدنيا أو إلى أرض يبسطون عليها سلطاناً، أو إلى غنائم يغتنمونها في تلك المعركة أو تلك الغزوة.

ذلك معلم مهم في حياة أمتنا، ما الذي أخرج محمداً صلى الله عليه وسلم؟ ما الذي استنفر أصحابه ليخرجوا من مسقط رأسهم وأرضهم ودورهم وبيوتهم وأموالهم وقراباتهم؟ إنه دين الله، إنها دعوة الله، إنها المقصد الأسمى الذي تدور عليه وحوله الحياة، ذلكم هو درس هذه الهجرة العظيمة.

الدعوة لا بد أن تكون قوية صلبة لا يفتر أصحابها ولا يضعفون، ولا ييأسون ولا يكلون ولا يملون ولا يتوقفون ولا يسكنون، خذوا شرقاً فإن صدت الأبواب فغرباً، وامضوا شمالاً فإن وجدت العوائق فجنوباً، لا بد أن تحملوا دعوتكم وإيمانكم في أعماق قلوبكم، وفي أغوار نفوسكم، وأن تجري مع دمائكم في عروقكم، وأن تكون هي خواطر عقولكم، وكلمات ألسنتكم، يوم ذلك ستكونون أمة محمد صلى الله عليه وسلم، الذين كانوا في ذلك الوقت هم الأمة النموذجية المثالية بوجود القدوة العظمى عليه الصلاة والسلام، ووجود الصحب الكرام الذين اصطفاهم الله لصحبة نبيه وحمل دينه وتبليغ دعوته.

وذلكم درس عظيم لا بد منه، إنهم في سبيل إمضاء هجرتهم لإقامة مجتمعهم وتشييد دولتهم، وقبل ذلك لإنفاذ دعوتهم وإظهار إيمانهم؛ جادوا بكل شيء، ولسنا بصدد ذكر قصص الهجرة فأنتم تعرفونها، فقد فرق بين أبي سلمة وزوجه أم سلمة وابنه عمر بن أبي سلمة، فما صد ذلك أحداً منهم عن أن يمضي لمراد الله عز وجل، ولطاعة رسوله صلى الله عليه وسلم، ولإحقاق وإعزاز دينه، وصهيب الرومي خلف ثروة حياته كلها وجهد أيامه ولياليه من المال والثروة ليمضي إلى دعوته وإيمانه، وليلحق بنبيه ورسوله وليعلي أمته ودعوته.

وكذلكم كان من بعد آل جحش عبد الله وأهله وأخوه الضرير أبو أحمد، وأولئك النفر من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، حتى عندما بلغوا المدينة وأصابتهم حماها واشتد بهم المرض، ورأوا ما هو عظيم في الناحية البدنية، وجسيم في الناحية النفسية، من أرض تركوها وبلاد نشئوا فيها، وأموال خلفوها، إلى أرض ليس لهم فيها موطن ولا عمل ولا مال، فشق ذلك على النفوس، ودخلت أم المؤمنين عائشة رضي الله عنها على أبي بكر وقد اشتدت به الحمى وهو يقول:

كل امرئ مصبح في أهله والموت أدنى من شراك نعله

وبلال اشتدت به الحمى فقال:

ألا ليت شعري هل أبيتن ليلة بواد وحولي إذخر وجليل

وهل أردن يوماً مياه مجنة وهل يبدون لي شامة وطفيل

يتذكرون ديارهم، فدعا النبي صلى الله عليه وسلم أن يبارك لهم في المدينة وأن يجعل فيها ضعفي ما في مكة من البركة، وأن ينقل حماها إلى الجحفة، فبرئت الأجساد، وتواصلت المسيرة.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة اسٌتمع
رمضان ضيفنا المنتظر 2909 استماع
المرأة بين الحرية والعبودية 2732 استماع
فاطمة الزهراء 2699 استماع
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها 2630 استماع
المرأة والدعوة [1] 2544 استماع
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم 2535 استماع
غزوة أحد مواقف وصور 2534 استماع
قراءة في دفاتر المذعورين 2488 استماع
خطبة عيد الفطر 2469 استماع
التوبة آثار وآفاق 2453 استماع