الأمثال في القرآن


الحلقة مفرغة

إن الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله.

أما بعد :

فإن خير الكلام كلام الله تعالى، وخير الهدي هدي محمد صلى الله عليه وسلم، وشر الأمور محدثاتها وكل محدثة بدعة، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.

وبعد:

أيها الأخوة الكرام: إن الله تبارك وتعالى قد ضرب في كتابه الكريم مجموعة كبيرة من الأمثال: مثل لأهل النفاق ومثل للمؤمنين ومثل للمشركين ومثل لكلمة التوحيد وكلمة الشرك، ومثل لمن آتاه الله تبارك وتعالى العلم ثم تخلى عنه، ومثل لمن حمّلهم الله تبارك وتعالى التوراة ثم بعد ذلك لم يعملوا بأحكامها، مجموعة كبيرة في القرآن الكريم من الأمثال وقد قال تبارك وتعالى بعد مثل من هذه الأمثال : وَتِلْكَ الْأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ وَمَا يَعْقِلُهَا إِلَّا الْعَالِمُون َ )[العنكبوت:43].

ولما اعترض بعض المشركين -تشكيكاً في القرآن- على الأمثال التي ضربت فيه بأن بعضها لبعض المخلوقات في الدنيا كالذباب والعنكبوت فقالوا: إن كلام الملوك يتنزه عن ذكر هذه المخلوقات الضعيفة. أنزل الله تبارك وتعالى قوله : إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً مَا بَعُوضَةً فَمَا فَوْقَهَا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ مَاذَا أَرَادَ اللَّهُ بِهَذَا مَثَلاً [البقرة:26] قال جل وعلا: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَيَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ * الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثَاقِهِ وَيَقْطَعُونَ مَا أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَيُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولَئِكَ هُمُ الْخَاسِرُونَ [البقرة:26-27].

فبين سبحانه وتعالى أن الله لا يستحيي أن يضرب مثلاً -أي مثل- ولو بمخلوق من هذه المخلوقات الضعيفة، فإنها في ذاتها آية من آيات الله تبارك وتعالى، وإن ضرب المثل بهذه المخلوقات إذا كان مطابقاً لما يُضرب له المثل ومصوراً له فهذا من الحكمة والبلاغة، بل القرآن كله معجز وضرب الأمثال فيه في غاية البلاغة.

ما المقصود بالمثل؟

المثل : صورة حسية تقرب معنى أمر معنوي، فالأمور المعنوية بعيدة لأنها عقلية، تُتصور بالعقل وتُفهم، أما الأمور الحسية فتدرك بالحس: بالنظر والشم واللمس، والمحسوسات أقرب إلى الفهم من المعقولات، فعندما يكون هناك أمر عقلي ونريد أن نقربه ليفهم نضرب له مثلاً حسياً.

مثال ذلك: النبي صلوات الله وسلامه عليه يصور لنا رحمته وشفقته وإرادته صلى الله عليه وسلم أن ينجو الناس من النار، وقد أرسله الله تبارك وتعالى نذيراً للعالمين يخوفهم عذاب الله جل وعلا، وينذرهم ويحذرهم، وقد اجتهد النبي كل اجتهاد في تحذير الناس من هذا العذاب، وأول خطبة من خطبه صلوات الله وسلامه عليه خطبة عامة في الناس صعد الصفا وقال: (واصباحاه! واصباحاه! واصباحاه!) هذا إعلان عند العرب معناه تعال! هلم ! والعرب كانوا إذا سمعوا هذا النداء من مكان مشرف أو على شيء عالٍ أتوا لتلبية النداء، فإما أن يأتي بنفسه وإما أن يُرسل من طرفه من يسمع ماذا هناك، -لأن هذا النداء يدل على أن هناك أمراً خطيراً جداً- فالكل جاء، بل مكة كلها أتت، إما يأتي الشخص بنفسه وإما يرسل من يسمع ما الخبر، والنبي محمد واقف -هذا قبل أن يعلن على الناس نبوته- فقال لهم : (أرأيتم لو أخبرتكم أن خيلاً وراء هذا الوادي تريد أن تُغيْر عليكم أكنتم مُصدقي؟) لو قلت لكم: هناك عدو الآن يريد أن يهجم عليكم هنا في مكة هل تصدقونني؟ فقالوا: ما جربنا عليك كذباً. فقال لهم : (فإني نذيرٌ لكم بين يدي عذاب شديد) قال لهم: أنا أنذركم عذاب الله الشديد، هناك عذاب قادم، تُبعثون وتُحاسبون.

وكلكم تعلمون أنهم ردوا عليه بالمقال السيئ، وقال له عمه أبو لهب : تباً لك سائر اليوم ألهذا جمعتنا؟! وتباً لك سائر اليوم: دعاء بالهلاك. ثم يقول له: ألهذا جمعتنا؟ ثم انفضوا عنه.

والشاهد أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في أشد الحرص على أن يؤمن الناس، وفي غاية الهمة والنشاط والجد في تحذيرهم من عذاب الله تبارك وتعالى، ولكن قليل من استجاب للنبي صلى الله عليه وسلم، فالنبي ضرب مثلاً لهذا فقال: (إنما مثلي ومثلكم كمثل رجل استوقد ناراً، فجاءت الفراش، فصار يذبهن وهن يغلبنه، فأنا آخذٌ بحجزكم وإنكم لتتفلتون مني) يقول: أنا سأضرب لكم مثلاً لي ولكم، يقول: أنا مثلي كمثل رجل ذهب إلى البر فاستوقد ناراً، والعادة أن الإنسان إذا استوقد ناراً في الليل، جاءته الفراش من كل مكان، فتقع في النار فتحترق، فمن رحمة هذا الرجل بهذه الدواب صار يحاول أن يبعدها من هنا ومن هنا وهي تدخل من هنا، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (فأنا أذبكم) ويقول: (أنا آخذ بحجزكم -وهذا مثل ثان، والحُجزة هي مربط الحزام- وإنكم لتتفلتون مني) يقول: أنا أسحبكم وآخذكم حتى لا تتفلتوا في النار وأنتم تتفلتون..

هذا المثل -وهو كذلك من البيئة يعرفه كل أحد- يصور حقيقة رحمة النبي وشفقته بأمته صلى الله عليه وسلم، وحرصه على ألا يقعوا في النار، وهو كذلك يصور جهل وسخافة عقول الكفار وأنهم لم يُعيروا نذارة النبي صلى الله عليه وسلم أي اهتمام، وألقوا بأنفسهم في النار.

فالمثل الحسي يوضح الصور المعنوية، فالله ضرب أمثالاً كثيرة جداً في القرآن لأمور معنوية وضحها الله وجلاها أعظم تجلية.

أول مثلين موجودين حسب ترتيب المصحف ضربهما الله لأهل النفاق، فقال الله في وصفهم : وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَبِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَمَا هُمْ بِمُؤْمِنِينَ * يُخَادِعُونَ اللَّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَمَا يَشْعُرُونَ * فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزَادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ [البقرة:8-10] وبعد أن بيّن الله أحوالهم ضرب لهم مثلاً فقال : مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ نَاراً فَلَمَّا أَضَاءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18].

هذا أول مثل في ترتيب المصحف، وهو في سورة البقرة، وقد ضربه الله لأهل النفاق، وأن حالهم مع الإيمان كحال من ذهب إلى مكان في الصحراء فاستوقد ناراً فلما أشعل النار عرف ما حوله، رأى هذا وادياً.. وهذه شجرة.. وهذا كذا.. وهذا كذا.. عرف البيئة والمكان الذي هو فيه.

ثم بعد مدة انطفأت النار وأظلم الجو مرة ثانية، فأصبح لا يرى من حوله شيئاً، فهذا حال المنافق عندما دخل في الإسلام في أول الأمر، وبعضهم إذا دخل الإسلام يدخل بصدق، فيكشف الله له حقائق الأشياء، فيعرف التوحيد والصلاة والجنة والنار، وتتضح له حقائق الأمور، ثم يأتيه شكه وكفره فيُظلم قلبه -عياذاً بالله- ثم تنسد منافذ المعرفة عنده: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ [البقرة:17] أي: الإيمان الذي كان فيهم وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ * صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ [البقرة:17-18].

ثم ضرب لهم مثلاً ثانياً؛ وهذا لأن أهل النفاق متلونون وهم أصعب، الفرق الثلاث، فالناس جميعاً بإزاء الإسلام ثلاث فرق: أهل الإيمان وهم الواضحون في باطنهم وظاهرهم قال جل وعلا : الم * ذَلِكَ الْكِتَابُ لا رَيْبَ فِيهِ [البقرة:1-2] ثم بيّن أنواع الناس في إزاء هذا القرآن فقال : هُدىً لِلْمُتَّقِينَ * الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَيُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَمِمَّا رَزَقْنَاهُمْ يُنْفِقُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِمَا أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَمَا أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَبِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ * أُولَئِكَ عَلَى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ [البقرة:2-5] فهذه طائفة أهل الإيمان.

والصنف الثاني: هم الكفار الأصليون، وهم كذلك واضحون، صور الله حالهم في قوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ * خَتَمَ اللَّهُ عَلَى قُلُوبِهِمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [البقرة:6-7].

ثم المنافقون وهم كفار، لكنهم يظهرون الإيمان، فحالهم مشتبه، حقيقتهم الكفر وظاهرهم الإيمان، وهم متلونون، وهذا المتلون يحتاج أن يُوصف ليُعرف الخطر، وأعظم خطر على الإسلام هو النفاق، وبعضهم متمرد في النفاق حتى أن النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لا يعرفه كما قال جلا وعلا: وَمِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرَابِ مُنَافِقُونَ وَمِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفَاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلَى عَذَابٍ عَظِيمٍ [التوبة:101] ناعم الملمس، لا تقدر أن تمسك منه شيئاً، كما قال تبارك وتعالى : وَإِذَا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسَامُهُمْ وَإِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ [المنافقون:4] أي: من حلاوة منطقهم، لكن فيهم صفات يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُم ْ وقوله تعالى: هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ جملة تامة، يعني كأنه لا عدو غيرهم هُمُ الْعَدُوُّ [المنافقون:4] إذاً: فغيرهم ليس بعدو، يعني كأن الكافر الأصلي ليس بعدوٍ بالنسبة لعداوة هؤلاء قَاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ [المنافقون:4].

فلذلك تعدد ضرب المثل لهم.

والمثل الثاني الذي ضربه الله في القرآن للمنافقين قال : أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّمَاءِ فِيهِ ظُلُمَاتٌ وَرَعْدٌ وَبَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصَابِعَهُمْ فِي آذَانِهِمْ مِنَ الصَّوَاعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَاللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكَافِرِينَ * يَكَادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصَارَهُمْ كُلَّمَا أَضَاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَإِذَا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قَامُوا وَلَوْ شَاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَأَبْصَارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ [البقرة:19-20] الصيب هو المطر الذي يصيب الأرض، أي: كأصحاب صيب فيه ظلمات، المطر دائماً يُضرب به المثل للخير، كما مثّل النبي صلى الله عليه وسلم الهدى والنور الذي أرسله الله تبارك وتعالى به بالمطر، قال: (مثل ما بعثني الله به من الهدى والعلم كمثل مطر أصاب أرضاً فكان منها طائفة نقية ... إلى آخر الحديث) فالخير يشبه بالمطر دائماً، فالله قال ( أو كصيب ) أي: مطر، لكن هذا المطر مصاحب لأمور ( فيه ظلمات ) فهو مطر ليلي ( ورعد وبرق ) فهو مصاحب لأمور مخيفة.

فالمطر إذا جاء مع الرعد والبرق والصواعق يصير حال الناس فيه بين الخوف والطمع، الطمع في المطر والخوف مما يصاحبه، فشبه الله تبارك وتعالى أهل النفاق مع الإسلام كحال أهل مطر مصاحب لهذه الأشياء، فيخبر الله تبارك وتعالى بقوله: ( كلما أضاء لهم ) -يعني هذا البرق- مشوا فيه وإذا أظلم عليهم قاموا وقفوا وتحيروا ( ولو شاء الله لذهب بسمعهم وأبصارهم إن الله على كل شيء قدير ).

فالمنافقون مع الإسلام إن كان وجدوا خيراً مشوا معه، ولكنهم يخافون من زواجر الإسلام، فهناك حروب، والمسلمون معرضون لتكالب الأمم كلها عليهم، كما قال المشركون للنبي صلى الله عليه وسلم لما قام يدعوهم إلى الإسلام قالوا: إنك جئت بمعاداة الناس كلهم وليس لنا طاقة بأن نعادي كل الأمم. أنت جئت تكفر اليهود والنصارى وتكفر الجميع: وَقَالُوا إِنْ نَتَّبِعْ الْهُدَى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنَا [القصص:57] لا يبقى منا أحد، فنحن نعلم أن هذا هو الهدى، لكن بسببه نتخطف من أرضنا، أي: يخطفنا الناس من كل مكان، قال الله جل وعلا : أَوَلَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبَى إِلَيْهِ ثَمَرَاتُ كُلِّ شَيْءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَلَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ [القصص:57].

فهذا حال أهل النفاق أنهم يرجون ما في الإسلام من خير من وفتح ونصر ولكن يخافون الدائرة أو الكبوة التي تقع على أهل الإسلام.

ضرب الله مثلاً للكفار بين عدم فقههم وفهمهم لهذا الدين المنزل، كأنهم مجموعة من القطيع الذي لا يفهم من كلام الراعي إلا النداء إلى الطعام والشراب، قال: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171] فهذا مثل الكافر.

(ومثل الذين كفروا) يعني: في دعوة النبي لهم ( كمثل الذي ينعق ) وينعق: ينادي ( بما لا يسمع ) يعني: لا يسمع كلاماً يستفيد منه إلا دعاءً ونداء.

فالغنم إذا نعق بها الراعي لا تعرف منه إلا النداء للذي يقول لك: تعال للطعام أو للشراب، هذا الذي يمكن أن تفقهه من كلام الراعي، أما لو قام الراعي وخطب فيها خطبة فإنها لا تفهم شيئاً.. فكذلك هؤلاء الكفار، يعني: لا يعلمون شيئاً أو لا يدركون شيئاً مما يعظهم به النبي صلى الله عليه وسلم.

فهذه هي حالهم مع الداعي الذي يدعوهم إلى الهدى، قال الله: (صُمٌّ) يعني عن سماع الحق، (بُكْمٌ) لا يتكلمون بحق (عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ) وهذا مثل مطابق للواقع؛ لأن الذي يناديه الرب جل وعلا ويرسل له الرسول المبلغ الهادي الذي يتكلم بكلام بيّن واضح يقول: أن أيا قوم هذا هو طريق الله الذي أنتم مقبلون عليه، ومحاسبون بين يديه، ينتظركم عذاب شديد، وسجن أبدي لا تخرجون منه، أرضه نار، وفراشه نار، وجداره نار، وسقفه نار لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهَادٌ وَمِنْ فَوْقِهِمْ غَوَاشٍ [الأعراف:41] يناديهم ويقول : وَقُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شَاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَمَنْ شَاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَاراً أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِنْ يَسْتَغِيثُوا يعني: من النار يُغَاثُوا لكن بماذا؟ بِمَاءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ [الكهف:29] فهذا الغوث: ( يغاثو بماء كالمهل ) والمهل: كل معدن مذاب من الرصاص أو الحديد كما تسميه العرب.

فهو ماء لكنه في حرارة المعدن المذاب يشوي الوجوه إذا اقترب منها، كما قال المفسرون من السلف: إذا قرب هذا الماء إلى وجهه سقطت فروة وجهه فيه، وفروة الوجه هي: غلاف الوجه، ومن شدة الحرارة المنبعثة من هذا الماء الحار.

يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءَتْ مُرْتَفَقاً [الكهف:29] ساء الرفق بهم أن يغاثوا بمثل هذا.

فمن لا يسمع لهذه وهذا كلام الرب ليس بهزل، فالله يقول: إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ * وَمَا هُوَ بِالْهَزْلِ [الطارق:13-14] فهذا ليس بهزل، بل كلام الرب الإله سبحانه وتعالى، فوعيده في الكفار حق لا يتخلف، وهو لا بد كائن: فَوَرَبِّ السَّمَاءِ وَالْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ مَا أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ [الذاريات:23] فمن لا يسمع هذا ولا يعمل له حساباً ولا يقيم له وزناً، فهو أصمُّ أعمى لا يعقل.

لأنه لو كان يعقل و يسمع لقدَّر لهذا الكلام قدره، رسالة جاءتك من ملك السماوات والأرض يناديك مباشرة ويقول: يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا وَلا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ * إِنَّ الشَّيْطَانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوّاً إِنَّمَا يَدْعُو حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحَابِ السَّعِيرِ * الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَأَجْرٌ كَبِيرٌ [فاطر:5-7] هذا نداء من الرب لكل أحد ( يا أيها الناس ) نحن الناس، وهذا النداء مباشر من الله لكل واحد فينا، وأقول مباشر وليس عن طريق الرسول، فالرسول أخذ الرسالة وبلغها، فالرسول مبلغ للرسالة فقط، يقول هذا كلام الله أنا أبلغكم إياه وأنتم أمام مسئولية، ومسئولية الرسول تخلو بالبلاغ فهو ما عليه إلا البلاغ فقط، كما قال تبارك وتعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ * وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لا يَسْمَعُونَ * إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ [الأنفال:20-22] ثم قال جل وعلا : وَلَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأسْمَعَهُمْ وَلَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَهُمْ مُعْرِضُونَ [الأنفال:23] وقال: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [لأنفال:46] ثم قال جل وعلا: فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّمَا عَلَيْهِ مَا حُمِّلَ وَعَلَيْكُمْ مَا حُمِّلْتُمْ وَإِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَمَا عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ [النور:54] يعني: إذا بلغ النبي صلى الله عليه وسلم فقد انتهت مسئوليته أمام الله تبارك وتعالى وتبقى مسئولية المبلغ، فمن لا يسمع كلام الرب تبارك وتعالى يبقى كما قال تعالى: وَمَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِمَا لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعَاءً وَنِدَاءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ [البقرة:171].

في سورة البقرة ضرب الله تبارك وتعالى للصدقة خمسة أمثال متوالية، فالصدقة باب عظيم من أبواب الخير، والله تبارك وتعالى حث أهل الإيمان عليها بكل سبيل، وقد ضرب القرآن في باب حث أهل الإيمان على الصدقة مجموعة من الأمثال حتى تشجع وتحث أهل الإسلام على الصدقة.

تنمية الله لثواب الصدقة

أول مثل من هذه الأمثال هو تنمية الله تبارك وتعالى لثواب الصدقة، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] هذا مثل من واقعنا، فإنَّ الفلاَّح يضع في الأرض حبة واحدة ولكنه يحصد سبعمائة حبة عندما يأتي الحصاد، هذه بركة الأرض والزراعة، والله يضاعف لمن يشاء.

وكما يضاعف الله تبارك وتعالى في بركات الأرض بهذه البذور، كذلك أخبر الله تبارك وتعالى أن الصدقة عنده على هذا النحو، ينميها فيصل أجر الدينار الواحد أو الدرهم الواحد إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، يضاعف لمن يشاء أكثر من هذا، والله واسع عليم.

مثل من ينفق ولا يستفيد من صدقته

مثل ثانٍ ضربه الله تبارك وتعالى لمن ينفق ولا يستفيد من صدقته، وهم ثلاثة : الكافر إذا تصدق لا يحصل على شيء، والمرائي إذا تصدق لا يحصل على شيء، والمانُّ والمؤذي الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي من تصدق عليه لا يحصل على شيء، هؤلاء ليس لهم ثواب عند الله.

أما الكافر فإن الكفر لا تقبل منه حسنة، ولو صلى وصام وفعل أي شيء من الخير فلا يقبله الله تبارك وتعالى.

والمرائي الذي تصدق ولكن ليرى الناس فعله، وكأنه يقول للناس: انظروا إليّ وأنا أتصدق؛ حتى يمدحوه، فيفعل ذلك لكن ليس لله وإنما ليُري الناس فعله، فهذا غير مقبول لأنه من راءى راءى الله به ومن سمّع سمّع الله به.

فهذا عند الله لا يقبل الله عمله لأنه غير معمول له.

وكذلك الحال في إنسان مخلص، مجتهد، يتصدق لله لكن يأتيه الشيطان فيُبطل صدقته بأن يدعوه إلى أن يمن بها فيقول لمن أعطاه الصدقة: أنا فعلت لك وفعلت لك، أو يؤذيه -مثلاً- بأن يقول أمام الناس: لحم هذا نبت من خيري أو بسببي.

فآذاه أو تكبر عليه أو احتقره؛ لأنه كان ينفق عليه.

فالله ضرب لهؤلاء مثلاً قال جل وعلا : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:264] فهؤلاء جميعاً مثل بعض، ثم قال جل وعلا : كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] وهو: الحجر الأملس عليه تراب يزال باليد، هل تنفع هذه التربة للزراعة؟ وهل يمكن أن ينبت زرع فوق هذا الحجر؟ فإذا كان هذا الرجل مغفلاً، فإنه سوف يضع بذوراً فوق هذه الشجرة، فإذا نزل المطر جرفها، قال جل وعلا: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً [البقرة:264] الصلد: هو الصُلب الذي ليس عليه ذرة غبار، قال جل وعلا: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:264] لا يستطيعون أن ينالوا من ثواب عملهم شيئاً، وذلك أن الله لا هؤلاء الثلاثة.

فهذا مثله كالذي يزرع فوق الصخور، الذي يزرع فوق الصخر لا يحصل على شيء، فهذا مثل من البيئة ظاهر يجلي الحقيقة ويجعل أي إنسان عنده عقل يحذر من فعل هؤلاء الثلاثة، إن كان كافراً وتصدق لا يقبل منه، إن كان مؤمناً وتصدق لكن راءى بعمله لا يقبل منه، إن كان مؤمناً وتصدق ثم منَّ فلا يقبل منه.

مثل المتصدق المخلص الذي لا يمن

ضرب الله بعد ذلك مثلاً للمؤمن الذي يتصدق ويلتزم الأدب ولا يمُن ولا يؤذي، فقال: وَمَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمُ ابْتِغَاءَ مَرْضَاتِ اللَّهِ وَتَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ [البقرة:265] جنة: بستان، بربوة: عالية، أَصَابَهَا وَابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265] فيضاعف الله له الثمر، مثلما ضاعف ثمرة هذا البستان، ومثله مضاعفة صدقة هذا العبد فَآتَتْ أُكُلَهَا ضِعْفَيْنِ [البقرة:265].

مثل المنان والمؤذي

ذكر الله تبارك وتعالى مرة ثانية المنان بالصدقة بعد أن فعلها لله، فقال جل وعلا: أَيَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَأَعْنَابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ لَهُ فِيهَا مِنْ كُلِّ الثَّمَرَاتِ [البقرة:266] يتمنى أن تكون له جنه فيها من كل الثمرات المتخيلة في الدنيا تجري من تحتها الأنهار، ثم قال الله تعالى في وصف حال صاحب هذه الجنة: وَأَصَابَهُ الْكِبَرُ [البقرة:266] فتحصل على هذا البستان وهذا البيت عند كبر سنه وَلَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفَاءُ [البقرة:266] يظهر من هذه الآية أنه تزوج متأخراً فأنجب بعد ما صار كبيراً في السن.

ثم يقول الله عز وجل: فَأَصَابَهَا إِعْصَارٌ فِيهِ نَارٌ فَاحْتَرَقَتْ [البقرة:266] جاءها إعصار، الإعصار هو: أن تأتي الريح الشديدة التي تعصر ما أمامها من أشجار وغيرها، هذا يخرب مباشرة، حتى إنه في بعض الأماكن يقتلع الأشجار، يقتلع الأبنية، بل بعض السيارات في أمريكا في بعض الإعصارات تصل إلى أربعين أو خمسين أو ستين متراً ترتفع إلى أعلى.

وهذا الإعصار لم يكن وحده بل فيه نار، هذه مصيبة شخص كان له هذا البستان العظيم وهو كبير السن وعنده أولاد ما زالوا صغاراً، هذا مصيبته أكبر مصيبة، لا يقدر مرة أخرى على إعادة بناء البستان من جديد لأنه كبير في السن، ولا أولاده عندهم قدرة على أنهم يفعلون هذا، وجاءت له هذه الجنة وقت التقاعد أو الشيخوخة ويريد أن يستريح من عناء الدنيا ومن عناء الكدح، فجاءت مصيبته في أحرج الأوقات، الله يقول: مصيبة هذه كمصيبة المتصدق الذي جعل الله له ثواباً عظيماً جداً من الصدقة، وكل عمل يوفى صاحبه له الأجر ثم ينتهي الأمر إلا الصدقة، الصدقة تظل تنمو إلى يوم القيامة: (إن الله يربي لأحدكم صدقته كما يربي أحدكم فلوه حتى تكون التمرة كالجبال) لأن الله يربيها، وما معنى يربيها؟ أي: أنه إذا تصدق شخص بدرهم، فإن هذا الدرهم يظل يزيد ويزيد ويزيد، حتى يصير عشرات الآلاف، فإن الله يربي لأحدكم صدقته يعني ينميها باستمرار، يتصدق بتمرة واحدة فإذا بها يوم القيامة كأنه تصدق بجبال من التمر، هذا أصل الصدقة وليس الثواب، فهذا رجل قد كان له أجر عظيم جداً فهو ثواب لصدقته، وجاء يوم القيامة ليأخذ ثواب الصدقة، ثم لما جاء يوم القيامة بمنه، وبأذاه أرسل هذه الشرارة فأحرقت أجره، فجاء يوم القيامة وليس هناك شيء، كل الأجر الذي كان له وهذه الصدقة التي نمت له وكبرت، لما منَّ على من تصدق أو منَّ بصدقته ومدح نفسه بعد ذلك أو آذى من تصدق عليه، محق الله تبارك وتعالى عليه ثواب الصدقة.

فهذا مثل يجعل المؤمن يتفقد عمله فلا يمن ولا يؤذي أحداً، حتى يتقبل الله ذلك العمل لوجهه الكريم، حتى لو جاء المُتَصَدَّقُ عليه وسبه أو شتمه.

وقد كانت أم المؤمنين عائشة رضي الله تعالى عنها إذا أرسلت صدقة إلى أحد تقول لخادمتها: [انتظري، وانظري ما يقولون، وبما يدعون، حتى ندعو لهم بمثلها ويكون أجرنا على الله] لأن الدعاء مكافأة وأم المؤمنين حريصة على أن يحصل لها الأجر كاملاً يوم القيامة، كما قال النبي: (من صنع لكم معروفاً فكافئوه) فواجب أن تكافئ من صنع لك معروفاً، يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من صنع لكم معروفاً فكافئوه فإن لم تجدوا ما تكافئوه؛ فادعوا له حتى تظنوا أنكم قد كافأتموه) وقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من قال لأخيه إذا أحسن إليه: جزاك الله خيراً. فقد أجزل له في المثوبة) فلو قلت له: جزاك الله خيراً فقد أجزلت له في المثوبة وكافأته على إحسانه، فانظر فعل أم المؤمنين وفقهها، فإنها فعلت ذلك حتى يبقى أجرها على الله ثم انظر إلى هذا الذي يتصدق ويكلف نفسه، ثم يذهب ثواب عمله بالمن والأذية.

أول مثل من هذه الأمثال هو تنمية الله تبارك وتعالى لثواب الصدقة، قال تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنَابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَاللَّهُ يُضَاعِفُ لِمَنْ يَشَاءُ وَاللَّهُ وَاسِعٌ عَلِيمٌ [البقرة:261] هذا مثل من واقعنا، فإنَّ الفلاَّح يضع في الأرض حبة واحدة ولكنه يحصد سبعمائة حبة عندما يأتي الحصاد، هذه بركة الأرض والزراعة، والله يضاعف لمن يشاء.

وكما يضاعف الله تبارك وتعالى في بركات الأرض بهذه البذور، كذلك أخبر الله تبارك وتعالى أن الصدقة عنده على هذا النحو، ينميها فيصل أجر الدينار الواحد أو الدرهم الواحد إلى سبعمائة ضعف إلى أضعاف لا يعلمها إلا الله، يضاعف لمن يشاء أكثر من هذا، والله واسع عليم.

مثل ثانٍ ضربه الله تبارك وتعالى لمن ينفق ولا يستفيد من صدقته، وهم ثلاثة : الكافر إذا تصدق لا يحصل على شيء، والمرائي إذا تصدق لا يحصل على شيء، والمانُّ والمؤذي الذي يَمُنُّ بصدقته ويؤذي من تصدق عليه لا يحصل على شيء، هؤلاء ليس لهم ثواب عند الله.

أما الكافر فإن الكفر لا تقبل منه حسنة، ولو صلى وصام وفعل أي شيء من الخير فلا يقبله الله تبارك وتعالى.

والمرائي الذي تصدق ولكن ليرى الناس فعله، وكأنه يقول للناس: انظروا إليّ وأنا أتصدق؛ حتى يمدحوه، فيفعل ذلك لكن ليس لله وإنما ليُري الناس فعله، فهذا غير مقبول لأنه من راءى راءى الله به ومن سمّع سمّع الله به.

فهذا عند الله لا يقبل الله عمله لأنه غير معمول له.

وكذلك الحال في إنسان مخلص، مجتهد، يتصدق لله لكن يأتيه الشيطان فيُبطل صدقته بأن يدعوه إلى أن يمن بها فيقول لمن أعطاه الصدقة: أنا فعلت لك وفعلت لك، أو يؤذيه -مثلاً- بأن يقول أمام الناس: لحم هذا نبت من خيري أو بسببي.

فآذاه أو تكبر عليه أو احتقره؛ لأنه كان ينفق عليه.

فالله ضرب لهؤلاء مثلاً قال جل وعلا : يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقَاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَالْأَذَى كَالَّذِي يُنْفِقُ مَالَهُ رِئَاءَ النَّاسِ وَلا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الْآخِرِ [البقرة:264] فهؤلاء جميعاً مثل بعض، ثم قال جل وعلا : كَمَثَلِ صَفْوَانٍ [البقرة:264] وهو: الحجر الأملس عليه تراب يزال باليد، هل تنفع هذه التربة للزراعة؟ وهل يمكن أن ينبت زرع فوق هذا الحجر؟ فإذا كان هذا الرجل مغفلاً، فإنه سوف يضع بذوراً فوق هذه الشجرة، فإذا نزل المطر جرفها، قال جل وعلا: فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوَانٍ عَلَيْهِ تُرَابٌ فَأَصَابَهُ وَابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً [البقرة:264] الصلد: هو الصُلب الذي ليس عليه ذرة غبار، قال جل وعلا: لا يَقْدِرُونَ عَلَى شَيْءٍ مِمَّا كَسَبُوا [البقرة:264] لا يستطيعون أن ينالوا من ثواب عملهم شيئاً، وذلك أن الله لا هؤلاء الثلاثة.

فهذا مثله كالذي يزرع فوق الصخور، الذي يزرع فوق الصخر لا يحصل على شيء، فهذا مثل من البيئة ظاهر يجلي الحقيقة ويجعل أي إنسان عنده عقل يحذر من فعل هؤلاء الثلاثة، إن كان كافراً وتصدق لا يقبل منه، إن كان مؤمناً وتصدق لكن راءى بعمله لا يقبل منه، إن كان مؤمناً وتصدق ثم منَّ فلا يقبل منه.




استمع المزيد من الشيخ عبد الرحمن عبد الخالق - عنوان الحلقة اسٌتمع
من سنن الله تأخر النصر 3419 استماع
منهج أهل السنة والجماعة في الدعوة إلى الله 3367 استماع
هل الأشاعرة من أهل السنة والجماعة 3144 استماع
آثر القرآن في نفس المؤمن 3142 استماع
لا تلازم بين العلم المادي وبين علم الدين والأخلاق 2996 استماع
منهج النبي صلى الله عليه وسلم مع المؤمن والكافر 2912 استماع
الإسلام لا يموت 2801 استماع
تكريم الرسول لا يكون بالاحتفال 2741 استماع
كيف تؤدي الصحوة الإسلامية ثمارها 2649 استماع
مؤامرة جديدة على الإسلام 2600 استماع