أصداء الحوار مع شباب الصحوة


الحلقة مفرغة

الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده على آلائه ونعمه التي لا تعد ولا تحصى، حمداً كما يحب ربنا ويرضى.

والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم إلى يوم الدين، وعنا معهم بعفوك ورحمتك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا بعون الله تعالى هو الدرس السابع والعشرون من سلسلة الدروس العلمية العامة، وهو بعنوان:

أصداء الحوار مع شباب الصحوة.

وهذا العنوان ينبؤ بارتباط موضوع اليوم بالدرس الذي سلف بعنوان: حوار هادئ مع شباب الصحوة، فدرس اليوم رجع الصدى لذلك القول، وللمسائل التي ذكرناها فيما مضى، وقد جاءتني مشاركات عدة حاولت تلخيصها، وضم المتشابه منها بعضه مع بعض؛ حتى تنتظم في جملة قضايا ومسائل، يمكن عند معالجتها وذكرها أن نلم بما أشار إليه الإخوة، وما سألوا عنه، وما طلبوا من القول والتفصيل في المسائل التي عرضوا لها.

وقبل أن أذكر تفصيل القضايا، أحب أن أؤكد على أمور مهمة:

أولها: أن ما مضى من الموضوع الذي سبق، وهذا وغيره أيضاً إنما الباعث عليه بعون الله تعالى أن نصحو، والخلاصة والغرض هو تقويم المسيرة، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: (الدين النصيحة)، ونحن نحتاج بالفعل إلى أن يقوم بعضنا بعضاً، وأن ينصح بعضنا بعضاً، بل هو من واجب المسلم تجاه المسلم، ومن أخلاق المسلم أن يتقبل النصح من إخوانه، بل يسعى إلى طلب النصيحة، وقد كان سلف الأمة وأعلام الأئمة يقبلون النصح، بل يطلبونه من غيرهم.

الأمر الثاني: أن المسائل التي ذكرت إنما هي أمثلة للتوضيح، لم يكن المراد منها الحصر، ولا أنها تشمل كل القضايا المهمة التي يحتاج إليها الشباب أو تدور في أوساطهم.

الأمر الثالث: أن القضايا التي تم اختيارها أو ذكرها كان الاجتهاد فيها أنها من باب الأهم قبل المهم، وأنها من الأولويات والموضوعات الأكثر ذكراً ووروداً وأخذاً ورداً بين كثير من الشباب؛ ولذلك يعتبر هذا الموضوع تتمة، وقد قسمت ما جاء فيه إلى عناوين رئيسة، وتحتها بعض هذه المسائل:

أولها: قضايا جديدة:

أي: أن هناك مشاركات وكتابات من بعض الإخوة تعرضت إلى قضايا جديدة لم نذكرها فيما مضى، ومنها:

العمل الدعوي الجماعي، ووسائل ثبات الصحوة، وبين علم الشرع وعلم الواقع، وبين الوسائل والغايات.

والبند الثاني: تحت عنوان مخاطر ومخاوف، وفيه قضايا مهمة منها:

التكفير والتبديع.

التنازع والاختلاف.

الإسقاط والمصادرة.

الحيرة والاضطراب.

التعصب والحسد.

التزكية والعصمة.

البند الثالث: مطالبات وتوجيهات، ينتظم أيضاً جملة مسائل:

التعامل والدعوة مع العامة.

الدعوة والاهتمام بالأهل.

التفاعل والبذل في سبيل الدعوة.

وأخيراً: تساؤلات ومقترحات: أي وردت بعض التساؤلات عن قضايا محددة فيما مضى من الدرس الثالث، وبعض المقترحات نذكرها ونختم بها إن شاء الله.

وفي الحقيقة هذه المسائل لها أهميتها، وفيها كثير من القول، وسأذكر بعض المشاركات بنصها عند الحاجة إلى ذلك أو خلاصة ما كان من مشاركة الإخوة جزاهم الله خيراً.

أول بند: قضايا جديدة:

العمل الدعوي الجماعي

أولها: العمل الدعوي الجماعي:

فقد كانت كثير من المشاركات تتحدث عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في إطار الجمعيات الإسلامية، وفي ظل التعاون على البر والتقوى، ومحاولة الاستفادة من الجهود، وضم بعضها إلى بعض، والحرص على الانتفاع بتجربة الآخرين، وإعانة الأخ لأخيه، وتقويته له من هذا السبيل، وكانت كثير من المشاركات تذكر إما مدحاً وثناءً على هذا الجانب، أو قدحاً وذماً له، وكأن غاية الأمر إرادة معرفة قول أهل العلم في مثل هذا، ولذا اجتهدت في جمع بعض فتاوى علمائنا ومشايخنا وأهل العلم؛ لنسلط الضوء على مثل هذا الأمر، لعل في ذلك ما يكشف جلية الأمر، ويزيل بعض الحيرة والاضطراب، وكذلك أتممه بنوع من الفوائد اللاحقة بذلك، فهنا جملة فتاوى أذكر بعضها قراءة ونصاً، وأشير إلى بعضها في مراجعها، وهذه بعض الفتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد، وبعضها متفرقة في أزمنة مختلفة نذكرها بأرقامها وتواريخها أيضاً.

فهذه الفتوى برقم (7831) في (3/12/1404هـ)، هذا نصها:

السؤال: هل الأحزاب السياسية مباح تأسيسها، وعضويتها، أم مندوب إليها، أم مستحب تأييدها أم حرام تأسيسها ومناصرتها؟

أشارت الفتوى إلى فتوى سابقة نصها: الإسلام يدعو إلى الوحدة، وأن يكون المسلمون على قلب رجل واحد يعتصمون بحبل الله، ويهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فإن ذلك أقوى لهم، وأنكى لعدوهم، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

لكن الاختلاف ظاهرة كونية، ذلك بأن عقول الناس وأفكارهم قد تباينت، وأن عواطفهم وميولهم قد اختلفت، وأن الأهواء المرذولة والعصبيات الممقوتة قد تسلطت عليهم وتمكنت من نفوسهم، فمزقتهم شر ممزق، فكان اختلافهم سنة كونية لا مناص منها، إلا بحول من الله، فمن كان اختلافهم عن اجتهاد سائغ، وتأويل مقبول، ولم يمنعهم من التفاهم والتآخي بينهم، فأولئك هم أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً، ومن كان اختلافهم عن هوى مضل أو عصبية جاهلية فأولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً.

ويجب على المسلم أن يتعاون مع كل الجماعات الإسلامية فيما لديها من حق وصواب، وأن يجتنبها فيما وقعت فيه من خطأ وانحراف، وأن يجتهد في إرشادها، وبيان الحق لها بالحكمة والموعظة الحسنة، عسى الله أن يهديها على يديه سواء السبيل.

ومن أراد أن يلتزم جماعة معينة منها، فليلتزم أسعدها بالحق وأتبعها لكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين، مع مخالفتهم فيما علم أنه مخالف للحق، والنصح لهم في ذلك، وبالله التوفيق.

هذا القول سنجد أن مضمونه متكرر في هذه الفتاوى التي سأذكر مزيداً منها، إذ القول يرجع الحكم في مثل هذا إلى ما هو مجتمع عليه، فإن كان الاجتماع على الحق والخير والتعاون على البر والتقوى، فإن ذلك محمود لا لذاته، بل لكونه محموداً في أصل الشرع لأمر الله سبحانه وتعالى ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرء إنما يتعبده الله سبحانه وتعالى بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا بقول أحد كائناً من كان، ولا بفرقة كائنة من كانت، وإنما ما كان مبنياً على اجتهاد سائغ مقبول في أمر من أمور الخير، وبذل في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يسعى ويحرص إلى متابعة الأوسط للحق، والأقرب إلى الصواب، والأسعد باتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تمنعنه الموافقة والمتابعة في هذا الخير الكثير من أن يخالفهم إذا وجد منهم مخالفة لأصل شرعي، وأن يكون همه وحرصه أن ينصح وأن يبذل النصح لمن وافقهم في أصل الخير، حتى يكون في هذا التناصح إكليل للخير وحيازة له.

وهذا سؤال واستفتاء لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وهذا نصه:

يقول: في بلد غير هذه في الجامعة هناك جماعتان هما: اتحاد طلبة المسلمين، وجماعة التبليغ، فأيتهما الجماعة التي يريدها الإسلام، هذا مع العلم بأني أرى أن بعضهم أنشط في الدعوة وأسبق فيها؟

فقال فضيلته جزاه الله خيراً: العصمة من الخطأ ومن الانحراف عن الصواب، إنما هي لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، ولإجماع الأمة، أما كل فرد من أفراد الأمة، وكل جماعة على حدتها من جماعات الأمة كجماعة التبليغ، أو جماعة اتحاد طلبة المسلمين، أو جماعة الإخوان المسلمين، أو جماعة أنصار السنة المحمدية، أو الجمعية الشرعية لإحياء الكتاب والسنة المحمدية، إلى آخر ذلك؛ فكل منها ليست معصومة، بل تخطئ وتصيب، ولها محاسن ومساوئ في الأحكام التي تدعو إليها أو تنشرها، وفي طريقة دعوتها إلى ما تعتقده وتعمل به، وتتبنى إرشاد الناس إليه، وحملهم عليه، وعلى كل جماعة من الجماعات الإسلامية أن تتعاون مع الأخرى فيما اتفقوا عليه من الحق، وأن تتفاهم معها فيما اختلفوا على ضوء الكتاب والسنة، عملاً بقوله عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، عسى الله أن يهدي الجميع إلى سواء السبيل، وعلى كل طائفة من هذه الجماعات أن تنصح للأخرى، وتثني عليها بما فيها من خير، وترشدها إلى ما فيها من خطأ في الأحكام أو انحراف في العقيدة والأخلاق، أو تقصير في العلم والبلاغ بالتي هي أحسن، قصداً للإصلاح، وطلباً لاستدراك ما فات، لا ذماً لها وتعييراً، عسى أن تستجيب لما دعيت إليه، فتستكمل نقصها، وتصلح شأنها، وتجتمع القلوب على الحق، وتنهض بنصرته. اهـ.

والمتأمل في هذا القول يرى عليه نورانية الوحي، ويرى فيه فقه الدعوة، ويرى فيه أيضاً العلم بمقاصد الشرع من ضرورة الائتلاف، والحرص على وحدة الأمة، مع النصح لله ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم، ومع الحرص على أنه لا اتباع ولا انقياد بلا تردد وبلا سؤال، وبلا أية مراجعة، إلا لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الأمة المنعقد والثابت.

إذاً: باتباع مثل هذه الفتوى وغيرها من فتاوى أهل العلم، يظهر أن الأمر مداره على اتباع الشرع وعلى تحصيل الخير، وعلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وعلى أن الكمال المطلق لا يوجد ولا يتصور وجوده أصلاً إلا في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً فيه تعليم وتربية على أهم مقاصد هذا الدين، وهو ألفة القلوب، ووجوب تضافر الجهود، والمودة والمحبة، وأخوة الإيمان في قوله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، والله سبحانه وتعالى قد سمى الفئة الباغية إخواناً لبقية المسلمين وإن كانوا قد بغوا عليهم، وذلك كما في قوله جل وعلا: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فسمى تلك الطائفتين: مؤمنتين، وإنما إحداهما خالفت وبغت، أو اجتهدت وأخطأت، أو تنكبت سواء الصراط؛ ولذا من رأى أن وجود الخطأ كاف للمقاطعة بل والمنازعة بل والمحاربة، فإنه ما فقه أصل هذا الدين في عصمة دم المسلم وعرضه وماله، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب الاعتصام والتآلف والأخوة، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب التناصح والتكامل، وأن المسلم للمسلم كاليدين في حاجة إحداهما للأخرى، وأن المسلم للمسلم كالمرآة ينظر إلى أخيه فيرى فيه عيب نفسه، ويبصر خطأه من تقويم أخيه، وهذا كثير فيما سيأتي أيضاً من الفتاوى والأسئلة.

وهذا سؤال وجه أيضاً لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أذكره لوجازته ووضوحه في هذا الباب، وهذا نصه: السؤال: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية باحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟

قال سماحته: وجود هذه الجماعات خير، لكن عليها أن تجتهد في إفصاح الحق مع دليله، وألا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينهما، ولا مانع أن تكون هناك جماعات؛ لأنها كلها إن شاء الله تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال السائل: وبم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟

قال سماحته: أن يترسموا طريق الحق، ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، بل بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون الصالحون قدوتهم، والحق دليلهم.

وهذا كما أشرت فيه ما فيه من الفطنة والفقه بهذا الدين.

وهنا أيضاً سؤال لفضيلة الشيخ صالح الفوزان ، ونص السؤال يقول:

ما رأي الشرع في بعض مسميات مثل: السلفيين ، وجماعة التكفير والهجرة، وأنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية والجهاد؟

فقال فضيلته: قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13].

وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

ثم قال: هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت في معناها، كلها تحث على اجتماع الكلمة، وأن يكون المسلمون أمة واحدة، وجماعة واحدة، وفي مسمىً واحد وهو أهل السنة والجماعة، أو مسمى المسلمين والمؤمنين، ولا يتحقق هذا إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن يسير المسلمون في دعوتهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سار عليه وعلمه لأمته.

فالواجب على المسلمين أن ينهجوا نهجه، وأن يسيروا على خطواته، وأن يعتصموا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وعند ذلك لا يحصل اختلاف، ولا توجد مسميات متعددة، فإن هذا مما فرق وحدة المسلمين، وشتت شملهم، وأضعف جهدهم، وأوقع بينهم التخاذل والتناحر، والأسماء ليس لها دخل، إنما العبرة بالحقائق، ولو تسمت جماعة بالسلفيين أو بأي مسمىً من هذه المسميات التي ذكرتها، فالعبرة بالحقائق والمنهج الذي تسير عليه، إن كان مخالفاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم ليسوا سلفيين، وليسوا إخواناً مسلمين، وليسوا جماعة شرعية، أما إذا كانت الحقائق صحيحة، والمنهج مستقيماً، فالاسم أمره سهل. اهـ.

وهذا فيه فطنة في أن التقويم إنما هو في حكم الشرع، فالإنسان عندنا في الحكم عليه أمور ثلاثة: الأقوال، والأفعال، والنيات، فالنية التي محلها القلب علمها عند الله سبحانه وتعالى، ليس لأحد أن يجترئ فيقول: إن فلاناً نيته كذا وكذا، وإن قصده كذا وكذا، ويجرمه أو يؤثمه بما لم يظهر قطعاً ويقيناً أن هذا مقصده.

وبقي عندنا الأقوال والأفعال، والأقوال والأفعال لها في حكم الله سبحانه وتعالى وشرعه تفصيل كامل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، فكل إنسان قال بقول أو عمل عملاً نرجعه إلى حكم الشرع، فإن وافق حكم الشرع صح فعله وعمله، ولا ضير إن كان هذا العمل قد أخذ له اسماً معيناً أو ربما صورة معينة، بل العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وهذا الأمر مهم جداً؛ لأن كثيراً من الأشياء التي تجد في حياة الناس قد تكون لها أسماء معينة، لكن ينبغي التفطن إلى حقيقتها، وأن التصويب في ميزان الشرع عائد إلى الأقوال وإلى الأفعال.

أنتقل إلى الكتاب المدون عن حياة الشيخ الألباني، وفيه سؤال عن هذا الأمر:

يقول السائل: يقال: إن فضيلتكم يرفض أن يتعاون مع الجماعات الإسلامية كلها، إلا إذا انصاعت لمعتقداته الكلامية والفقهية، فما مدى صحة هذا القول؟

يقول فضيلة الشيخ: أبداً، إن هذا الكلام زور وبهتان، فقد سبق أن سجلنا ثلاثة أشرطة وضحت فيها هذا الأمر بصراحة، وكان مما قلته: إنني أؤيد قيام الجماعات الإسلامية، وأؤيد تخصيص كل جماعة منها بدور اختصاصي سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً أو نحو ذلك، ولكن اشترطت أن تكون دائرة الإسلام هي التي تجمع هذه الجماعات كلها ، وذكرت أننا نحن معشر السلفيين لا نعمل إلا في سبيل أهم ما نزل به كتاب الله عز وجل، وبعث من أجله رسله ألا وهو التوحيد.

قال: أعود ثانياً فأدعو المسلمين جميعاً إلى أن يرجعوا إلى دينهم الصحيح، والاعتماد في ذلك على كتاب الله أولاً، وعلى السنة الصحيحة ثانياً، وأصر على هذه الدعوة.

ويقول: ولن نتراجع عنها مهما كانت الادعاءات والافتراءات، أقول هذا وأنا أتذكر السنوات الطوال التي عشتها، وكان يحضر دروسي خلالها أعضاء من الإخوان ومن حزب التحرير والتبليغ والمذهبيين، وفي هؤلاء من يصرح بتتلمذه عليّ، ويقر بالفضل. اهـ.

فكيف نتهمه بعد ذلك بمحاربة الجماعات الإسلامية؟!

ويقول: كل ما نخالف به تلك الجماعات، إنما هو الخروج على الكتاب والسنة في تربية أعضاء تلك الجماعات.

فإذاً: التقويم هو أن ننظر في الأفعال والأقوال، ومدى انطباقها مع موافقة شرع الله سبحانه وتعالى.

وللشيخ عبد الرحمن عبد الخالق باع واسع في هذا، وله اطلاع، أذكر منها نقولاً مستجادة في هذا الباب لعلها من أحسن ما قيل؛ باعتبار أنه أصاب وأطنب في هذا الجانب حتى إنه جمع ما كتبه في بعض الكتب، مثل (مشروعية العمل الجماعي)، و(الإمام ابن تيمية والعمل الجماعي).

فيقول في مسألة عدم التصور الصحيح لمثل هذه الجماعات، أو الجمعيات الداعية إلى الإسلام، والباذلة جهداً في سبيل نصرة هذا الدين، ودعوة أبنائه إليه، يقول: ولأن كثيراً من الناس تختلف في أذهانه الأمور، فيجعلون الحكم واحداً في الفرق والأحزاب والجماعات والهيئات، ولا يميزون بين تجمع مشروع، وتجمع مبتدع، وتجمع ضال منحرف، ولا يميزون كذلك بين الظروف والملابسات وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان.

ومن أجل ذلك لخص فقال: إننا يمكن أن نقسم الجماعات إلى ثلاثة أقسام:

أولها: جماعة ضالة اجتمعت على بدعة مكفرة، وشذت عن إجماع المسلمين، وعن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه أمرها واضح بين.

الثانية: جماعة من أهل الإسلام اجتمعت على شيخ أو إمام أو عمل من الأعمال الصالحة، ولكنهم في اجتماعهم هذا أخذوا من الإسلام وتركوا، وقدموا اجتهاد إمامهم وشيخهم على اجتهاد غيره، كأتباع المذاهب المعروفة، أو كان لهم نوع تعصب لرأيهم ومنهجهم، أو بعض أمور مبتدعة لا تخرج من الدين، أو خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فلا شك أن جماعتهم مشروعة، وفيها من الحق بحسب ما التزموه، ومن الباطل بحسب ما أخذوه، ولا شك أن مثل هذه الجماعة مشروعة؛ لأن أصلها تعاون على البر والتقوى والدين، والله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

وذكر أن الخطأ الواقع يرد بموجب حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: جماعة مهتدية قائمة بالحق على هدي الكتاب والسنة وإجماع الأمة ونهج السلف، لا يتحركون إلا وفق أحكام الدين، ولا يجاهدون إلا على بصيرة، كما كان شأن الجماعات الإسلامية العاملة على مدار تاريخ الإسلام، وذكر أمثلة من جهود شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.

ثم قال: والخلاصة أن أي جماعة تجتمع على مقتضى الكتاب والسنة والالتزام بإجماع الأمة، الذي فيه العصمة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، هي جماعة مهتدية راشدة، ما دام أن اجتماعهم وفق هذه الأصول، ووفق قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

ثم ذكر مثالاً جيداً فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى للأنصار اسمهم، وللمهاجرين اسمهم، بل ميز بعض الصحابة بما كان لهم من عمل سابق، فسمي أهل بدر: البدريون، وسمي أهل الفتح: مسلمة الفتح.

وقال: إن هذا لم يكن فيه تفكك أو تحزب، وإن كان فيه معنى الاجتماع على الخير، فالأنصار كانوا يتنافسون مع المهاجرين في الخير، وكان لهم تجمعهم الذي يستجيبون فيه لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر أنه قد وقع بسبب ذلك بعض من الخطأ حينما تعصب بعضهم.

ثم ذكر تنافسهم في الخير وذلك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الخزرج أن يقتلوا كعب بن الأشرف ، فأراد الأوس أيضاً أن يكون لهم منقبةً أخرى، وعهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقتل علم آخر من أعلام اليهود وهو سلام بن أبي الحقيق .

ثم ذكر قصة عائشة رضي الله عنها وحادثة الإفك لما كان المتكلم من الخزرج، ورد الأوس وكان في ردهم نوع من الشدة، حتى قام سعد بن عبادة وكان رجلاً صالحاً، ولكن أخذته الحمية- فقال للأوسي: (كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله)، وذلك عندما قال الأوسي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت يا رسول الله قتلناه) ، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن المخالفة الشرعية، وأبقى أصل ما فيه الخير.

قال هنا: والشاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن هذه التجمعات التي يمكن أن تؤدي فيها العصبية إلى مثل هذا، بل بقي للأوس اجتماعهم ورئاستهم، وللخزرج كذلك، وكانوا متعاونين في أكثر أمورهم على البر والتقوى، متنافسين في خدمة الدين، وأحياناً يقع منهم التعصب والإخلال في أصل الموالاة، ومع ذلك لم يكن هذا ليلغي اجتماعهم وجماعتهم.

فإن قضية الخطأ في الأصل المشروع لا ينفي مشروعية الأصل، بل يثبت خطأ الفعل، وهذه مسألة مهمة جداً وقع الخلط بسببها عند كثير من الناس، فتجد أن مجرد وقوع خطأ معين في عمل معين يجعل بعض الناس يفتي بعدم مشروعية العمل كله، وهذا لا شك أنها نظرة غير صحيحة، فالأصل في الحكم الدليل من الكتاب والسنة، فإذا ثبتت المشروعية فإن ما يلحق بهذا الأمر المشروع من أخطاء في التطبيق، أو من خطأ يقع من فرد أو من مفت أو من مجتهد لا يمنع أصل ثبوت المشروعية لذلك العمل، بل نقول: هذا الأصل مشروع، وهذا الفعل خطأ لا يصح أن يكتسب المشروعية بانتسابه إلى ذلك الأصل.

فإن قلنا: إن العمل بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فإذا جاء الذي يأمر وينهى فأخطأ في الأسلوب فما نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح محذوراً أو أصبح محرماً، لا، بل نقول: إن المشروعية باقية على أصلها، وهذا الفعل خطأ، وهو غير مشروع، ولو كان يقول: إنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ ولذلك الآن قد يحتج بعض الناس فيطالب بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخطأ قد يخطئه فرد من أفراد الهيئة مثلاً، فهذا بغي واعتساف في الحكم لا يصح مطلقاً؛ ولذلك ما يقال من وجود الخطأ أو الخلط أو بعض السلبيات في مثل هذه الأعمال الدعوية، التي تهدف أصلاً إلى التعاون على البر والتقوى وتقصد الخير، فإنها قد يقترن بها كما يقترن بأي عمل الخطأ، ويقترن بها بعض المضار، لكن على الإنسان أن ينظر إلى العموم، أي أمر غلب خيره على شره، وكانت المصلحة الناتجة عنه أكثر من المفسدة المترتبة عليه، فإنه يوهب قليل خطئه لكثير صوابه.

وكذلك نقول لمثل هذا القائل: أليس أيضاً هذه الأخطاء والأخطار موجودة، وإن لم توجد هذه الأعمال والجمعيات، هل الحل لإزالة الفرقة أو التعصب أو وجود التنافر هو توجيه ونصح هذه الجمعيات والقائمين عليها وأفرادها، بحيث يلغون هذه السلبيات، ويبقون على الإيجابيات أم الحل أن ينفرط العقد؟!

وإذا انفرط عقد الناس أليست هذه الأمور موجودة في المسلمين بانفرادهم؟ أليس المسلمون وهم منفردون يقع منهم التعصب، ويقع منهم التحزب، ويقع منهم الحسد، ويقع منهم البغي، ويقع منهم أحياناً المعاداة، وتقع منهم الأخطاء الشرعية؟! فليست وجود هذه الجمعيات هي الأصل في وجود هذه الأخطاء، فالأخطاء موجودة، وليس وجودها عن هذا التجمع أو عن هذا العمل، ولكن ينبغي لنا أن ننقي العمل من الشوائب، وأن نكمل فيه الإيجابيات التي ينبغي الحرص عليها وتكثيرها، أما أن ينسب كل خطأ وكل معضلة وكل مشكلة وكل سلبية في الأمة إلى هذا العمل الدعوي، وكأن كل السلبيات تنزه منها المسلمون وهم أفراد، وتنزهوا منها وهم يتبعون أحياناً مذاهب فكرية منحلة، أو وهم متلبسون بالمعاصي، أو وهم متقاعسون عن أمر الله سبحانه وتعالى، فبعض الناس ربما غلبت نظرته لهذه الأخطاء أو لهذه الآثار السلبية، فجعلت الصورة عنده سوداء لا بياض فيها مطلقاً، بل جعل كل ما في الأمة من بلاء عبر هذه القرون الطويلة، إنما هو ناشئ عن هذه الجمعيات الداعية إلى الله سبحانه وتعالى!

وهذا لا شك أنه أمر غير متصور حتى بالعقل، كيف يكون الذين يلتزمون بالإسلام، ويرتادون المساجد، ويطلبون العلم في حلق العلم، ويسعون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبذلون من أموالهم، ويسعون في هذا الخير أن يكونوا هم سبب كل بلاء، وكل علة في هذه الأمة؟!

فأحدهم أنقل نصه من كتابه يقول: أين تجد جذوة الخلاف؟ أين تجد أمراض النفوس؟ أين تجد المنافسة المقيتة؟ أين تجد النظرات الحديدية؟ أين تجد الفرقة الظاهرة؟ أين تجد البسمات الصفراوية؟ أين تجد التبرير والتغرير؟ أين تجد التحذير والتنفير؟ أين تجد القيل والقال؟ أين تجد التعسف والتأويل؟ أين تجد الإشاعات الباطلة؟ أين تجد الدعايات الفاشلة؟

ثم يقول: إنك تجد هذا في الجمعيات والجماعات الدعوية!

لا شك أن هذا شطط من القول، واعتساف في الرأي، ولا شك أيضاً أن هذا بعد عن القصد، ما الفائدة من مثل هذا؟ هل الحل كما أشرت هو أن يزول فصل الداء بالمنهج الشرعي؟

هذه الأخطاء إنما هي ناشئة من الأفراد، وناشئة ربما من عدم الفهم الصحيح لهذا الدين، فليس الحل هو إصلاح الجوانب العارضة؛ ولذلك ذكرت هذه الجملة من الفتاوى، وغيرها أيضاً كثير.

أختم بفتاوى اللجنة الدائمة للدعوة والإفتاء والإرشاد؛ لأن بعضاً منها موجز.

يقول السائل: في هذا الزمان عديد من الجماعات وكل منها يدعي الانضواء تحت الفرقة الناجية، ولا ندري أيهما على الحق فنتبعه؟

الجواب: كل من هذه الجماعات تدخل في الفرقة الناجية، إلا من أتى منها بمكفر يخرج عن أصل الإيمان، لكنهم تتفاوت درجاتهم قوة وضعفاً بقدر إصابتهم للحق وعملهم به، فاعرف منهم وجهة نظرهم، وكن مع اتباعهم للحق، ولا تبخس الآخرين أخوتهم في الإسلام فترد عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتبع الحق حيثما كان، ولو ظهر على من يخالفك فالحق رائد المؤمن.

الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى تطويل، لكن هذا ربما يغني بعض الإخوة الذين سألوا، وكان في بعض أسئلتهم حيرة واضطراب؛ ولذا حرصت على أن أجمع مثل هذه الأسئلة وإجابات أهل العلم عليها.

وأذكر بعض المشاركات أو الأسئلة حتى نختم هذه النقطة.

يقول أحد الإخوة: التشتت على كل الأحوال مذموم، والتوحد ورص الصفوف هو المطلوب، فلماذا لا يتم هذا الحوار بين قادة الجماعات لإيجاد قيادة واحدة؟

وأحد الإخوة يقول منتقداً للمنتقدين: بعض الناس يلقي بالكلام جزافاً، ويتحدث عن الجماعات الإسلامية ومناهجها، وينقدها نقداً لاذعاً، ويذكر بعض الكتب.

وأيضاً يسأل الأخ: ما حكم وجود الجماعات الإسلامية في العهد الحديث، وخاصة بعد سقوط الخلافة، حيث إن لهذه الجماعات خيراً كثيراً من دعوة العامة، والرد على مفتريات العلمانيين والمستشرقين؟

فهذه وغيرها أجبنا عنها، ووضحنا القول فيها بمثل هذه النقول التي أظنها إن شاء الله فيها غنية وكفاية.

وأنهي هذه المسألة بنقاط ثلاث مهمة:

أولها: أنه ليس لجمعية إسلامية ولا جماعة دعوية أن تعتبر نفسها جماعة المسلمين؛ لأن كل هذه الجمعيات والجماعات من جماعة المسلمين، وهذا أمر مهم، وفيما أعلم أن أكثرها لا يرى ذلك لنفسه، بل كلهم يعلم أنه جزء من هذه الأمة، قائم ببعض الأمر وببعض الواجب.

ثانيها: أن يكون أصل الولاء والبراء لله ولرسوله، ووفق شرع الله عز وجل، لا يكون مبذولاً لأجل الموالاة والموافقة في الجمعية أو الجماعة أو نحو ذلك، فإن الأصل ينبغي أن يكون مرتبطاً بشرع الله عز وجل.

ثالثها: أن يكون التقديم والتأخير، والتفضيل والمدح والذم، إنما هو بمصطلح الشرع، لا بموجب رسوم وأنظمة تكون هي الأولى والمقدمة على ميزان الشرع، فلا مدح إلا لما مدحه الشارع، ولا ذم إلا لذلك.

وهذه الأمور وغيرها بمثابة الضوابط المهمة والأساسية التي تقي من بعض المشكلات والسلبيات، التي ربما يأتي ذكرها في البند الثاني.

وسائل ثبات الصحوة

بعض الإخوة أشار إلى أننا ذكرنا في المرة الماضية بعض وجوه النقد وبعض الأخطاء، ثم يقول: ما هي الوسائل التي يمكن أن تثبت شباب الصحوة على المنهج الصحيح حتى لا يحصل ما يقع الآن، فإن بعض الناس يمضي في الطريق قليلاً ثم ينتكس، أو يمضي في الطريق ثم يشذ إلى انحراف غير مشروع؟

فأذكر في ذلك نقاطاً في موجز لا يتسع المجال لتفصيله أقول: من هذه الوسائل وأهمها:

أولاً: صفاء المعتقد ووضوح التصور.

ثانياً: الارتباط بالقدوة من العلماء والدعاة، والرجوع إليهم.

ثالثاً: التحصن بالعلم ومعرفة الشبهات.

رابعاً: وجود المحضن التربوي الذي يزكي النفوس، ويطهر القلوب، ويعوّد على التزام الشرع، والخوف من الله سبحانه وتعالى، والتقوى له.

خامساً: العناية بفقه الأولويات والاهتمامات؛ فإن كثيراً مما ورد من الأخطاء إنما يقع من أن الإنسان يقدم ما حقه التأخير، أو يؤخر ما حقه التقديم.

سادساً: دراسة التاريخ، واستنباط العظات والعبر، والاستفادة من تجارب السابقين، وسير الأئمة والصالحين.

سابعاً: حسن التعامل مع الآخرين، بما هو في شرع الله سبحانه وتعالى.

ثامناً: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى لا يقع الخطأ والخلل في مثل هذا.

بين علم الشرع وعلم الواقع

ذكر بعض الإخوة أن هناك من يقول: إن القول في السياسة أو الاعتناء بمعرفة الأخبار أو نحو ذلك ليس من الدين، وأنه ينبغي لطالب العلم فقط أن يقرأ كتب العلم في العقيدة والفقه والحديث، ولا شأن له بما وراء ذلك، ويذكر هذا الأخ في سؤاله ويقول: أليس هذا هو عين قول العلمانيين الذين يريدون أن يكون المسلم منشغلاً أو مرتبطاً فقط بالأحكام الفقهية، ولا يرتبط بواقع الحياة؟

نقول: نعم، هذه هي تلك، لا فرق بين هذه وهذه، إلا أن هذا القول من مسلم، أو من طالب علم أو من موجه أخطر؛ لأن العلماني أو المستغرب لا يقبل منه الناس، لكنهم يقبلون من الخطيب أو الإمام أو الواعظ أو الداعية، فإن جاء مثل هذا القول من هؤلاء كان أشد خطورة في هذا الأمر.

وأحب أن أوجز القول في هذا: فإن علم الشرع مطلوب، ومعلوم أن هناك واجبات عينية على الإنسان المسلم أن يتعلمها من فرائض الله سبحانه وتعالى، بدءاً من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأركان الإيمان.

ثم بعد ذلك معرفة الفروض العينية مثل: الصلوات وأحكام الطهارة، ثم ما يلزمه في وقته كالحج لمن أراده، أو الزكاة لمن وجبت عليه، وكل ما عدا ذلك فرض كفاية من الزيادة في العلم لمن أراد أن يتصدر للتعليم أو الفتوى أو غير ذلك، لكن علم الواقع أمر مهم جداً، وفيه رعاية اختلاف ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان السائل يسأله نفس السؤال، وتتعدد إجاباته صلى الله عليه وسلم، وما اختلفت إلا باعتبار اختلاف حال السائل، فذاك يسأله فيقول: (أوصني، فيقول: لا تغضب)، ويسأله الآخر ويقول: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وفي مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر : (أن سائلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن القبلة في الصيام فأفتاه بمنعها، وجاء سائل آخر فسأله عن القبلة للصائم فأفتاه بجوازها، فلما سئل النبي عليه الصلاة والسلام قال: ذاك شاب لا يملك أربه، وذاك شيخ كبير ليس له في النساء مأرب)، فاختلف الجواب باختلاف حال السائل، وكذلك اختلاف حال الأمة وظروفها، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: (لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا، قال: لا، فإنا لم نؤمر بذلك)، حقاً إنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو مشرع، لكن على من جاء بعده أن يقتبس منه ويستنبط.

وكذلك عليه الصلاة والسلام كان يعرف أحوال القبائل وعاداتها وتقاليدها؛ ولذا كان يحرص على إسلام زعماء القبائل؛ لأنه كان يعلم أن الناس تبعاً لقادتهم، وكان يعرف ما عليه أهل كل قوم، وأهل كل قبيلة من بعض العادات ومن بعض الرسوم والأمور التي يحرصون عليها، فكان يعرف كل هذا ويراعيه.

بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر مقتبساً من غير المسلمين، فقد ورد عند الإمام مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن الغيلة، وإني رأيت فارس والروم يغيلون ولا يضرهم)، والغيلة: المقصود بها: الجماع في وقت الرضاع، فإنه قد يضر بالرضيع، لكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى واقع الناس، ورأى ظروف الحال، ورأى أن مثل هذا لا حرج فيه، فلم ينههم عنه عليه الصلاة والسلام.

وكذلك قال في شأن تأبير النخل: (أنتم أعلم بشئون دنياكم).

فتتبع أحوال المسلمين، والتعرف على أخبارهم، ومعرفة مكائد الأعداء، لا شك أنه من أكثر ما يدفع به الضرر عن المسلمين، وتجلب به المصالح لهم، والإعراض عن مثل هذا لا شك أنه شطط في القول، وأنه مغايرة ومنافرة في طبيعة الواقع، فإن الإنسان في طبيعة حياته المعتادة في تجارته .. في وظيفته .. في عمله يرتبط بالواقع، ويسأل عن الأحوال، ويسأل عن الأسعار، ويسأل عن الوظائف، ويسأل عن الترقيات، ويسأل عن النظم واللوائح؛ ليعرف ما يتجنبه، وليعرف ما يأخذ به لينتفع به، فكيف في حال الدين وفي حال حيازة مصلحة الإسلام والمسلمين؟ هل يبقى لا يفطن إلى هذا ولا ينظر إليه؟

لا شك أن هذا خطأ.

بين الوسائل والغايات

الناس يغيب عنهم أمر مهم وهو أن الوسيلة لا تراد لذاتها وإنما تراد لغيرها، أي للمطلب الذي تؤدي إليه، وأضرب مثالاً أبين فيه المقصود في هذا:

لو أن شخصين رأيا منكراً، واتفقا على أن هذا منكر، وهما متفقان أنه يجب تغييره، لكن اختلفا في الوسيلة، فهذا يرى التعجل في إنكار المنكر، وذاك يرى التأني، أو هذا يرى أنه يمكن أن يكون التغيير باليد، أما الآخر فيرى أنه يكفي الوعظ لما يعلم من حال هذا، فإذا اتفقا في الغاية وفي أصل الحكم الشرعي ينبغي ألا يكون اختلاف الوسيلة مثار النزاع، بل أحياناً مثار اتهام! فيقول: إن هذا يقر المنكر ويرضى به، وإن هذا يساعد على المنكر؛ لأنه لم ينكره بالطريقة التي يتصورها هو، أو التي يريدها هو، إن لم تفعل مثلما كان يتصور ومثلما يرى أنه الأصلح والأكمل فأنت إذاً لست بمنكر للمنكر، ولست بمريد للخير!

فهذا لا شك أنه خطأ، فإن بعض الناس يرى أموراً من الحكمة، ودقائق من مسائل العلم، ومعرفة بحال المنكر، أو بحال الواقع في المنكر، ويرى أنه يريد أن يأخذ أسلوباً آخر، فلماذا يكون هذا الشطط والإباء، مع أن الاتفاق في الغاية حاصل؟! كثير من المشكلات تقع بسبب هذا لا بسبب غيره.

فهذه جملة من القضايا التي لم نتعرض لها فيما مضى، وذُكرت في بعض هذه المشاركات.

أولها: العمل الدعوي الجماعي:

فقد كانت كثير من المشاركات تتحدث عن الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى في إطار الجمعيات الإسلامية، وفي ظل التعاون على البر والتقوى، ومحاولة الاستفادة من الجهود، وضم بعضها إلى بعض، والحرص على الانتفاع بتجربة الآخرين، وإعانة الأخ لأخيه، وتقويته له من هذا السبيل، وكانت كثير من المشاركات تذكر إما مدحاً وثناءً على هذا الجانب، أو قدحاً وذماً له، وكأن غاية الأمر إرادة معرفة قول أهل العلم في مثل هذا، ولذا اجتهدت في جمع بعض فتاوى علمائنا ومشايخنا وأهل العلم؛ لنسلط الضوء على مثل هذا الأمر، لعل في ذلك ما يكشف جلية الأمر، ويزيل بعض الحيرة والاضطراب، وكذلك أتممه بنوع من الفوائد اللاحقة بذلك، فهنا جملة فتاوى أذكر بعضها قراءة ونصاً، وأشير إلى بعضها في مراجعها، وهذه بعض الفتاوى من اللجنة الدائمة للإفتاء والدعوة والإرشاد، وبعضها متفرقة في أزمنة مختلفة نذكرها بأرقامها وتواريخها أيضاً.

فهذه الفتوى برقم (7831) في (3/12/1404هـ)، هذا نصها:

السؤال: هل الأحزاب السياسية مباح تأسيسها، وعضويتها، أم مندوب إليها، أم مستحب تأييدها أم حرام تأسيسها ومناصرتها؟

أشارت الفتوى إلى فتوى سابقة نصها: الإسلام يدعو إلى الوحدة، وأن يكون المسلمون على قلب رجل واحد يعتصمون بحبل الله، ويهتدون بهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم قولاً وعملاً، فإن ذلك أقوى لهم، وأنكى لعدوهم، قال الله تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103]، وقال تعالى: وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَاخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ مَا جَاءَهُمُ الْبَيِّنَاتُ وَأُوْلَئِكَ لَهُمْ عَذَابٌ عَظِيمٌ [آل عمران:105]، وقال تعالى: وَأَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَاصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ [الأنفال:46].

لكن الاختلاف ظاهرة كونية، ذلك بأن عقول الناس وأفكارهم قد تباينت، وأن عواطفهم وميولهم قد اختلفت، وأن الأهواء المرذولة والعصبيات الممقوتة قد تسلطت عليهم وتمكنت من نفوسهم، فمزقتهم شر ممزق، فكان اختلافهم سنة كونية لا مناص منها، إلا بحول من الله، فمن كان اختلافهم عن اجتهاد سائغ، وتأويل مقبول، ولم يمنعهم من التفاهم والتآخي بينهم، فأولئك هم أهدى سبيلاً وأقوم قيلاً، ومن كان اختلافهم عن هوى مضل أو عصبية جاهلية فأولئك شر مكاناً وأضل سبيلاً.

ويجب على المسلم أن يتعاون مع كل الجماعات الإسلامية فيما لديها من حق وصواب، وأن يجتنبها فيما وقعت فيه من خطأ وانحراف، وأن يجتهد في إرشادها، وبيان الحق لها بالحكمة والموعظة الحسنة، عسى الله أن يهديها على يديه سواء السبيل.

ومن أراد أن يلتزم جماعة معينة منها، فليلتزم أسعدها بالحق وأتبعها لكتاب الله وهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم، وأئمة السلف الصالح من الصحابة والتابعين وتابعيهم رضي الله عنهم أجمعين، مع مخالفتهم فيما علم أنه مخالف للحق، والنصح لهم في ذلك، وبالله التوفيق.

هذا القول سنجد أن مضمونه متكرر في هذه الفتاوى التي سأذكر مزيداً منها، إذ القول يرجع الحكم في مثل هذا إلى ما هو مجتمع عليه، فإن كان الاجتماع على الحق والخير والتعاون على البر والتقوى، فإن ذلك محمود لا لذاته، بل لكونه محموداً في أصل الشرع لأمر الله سبحانه وتعالى ولهدي رسوله صلى الله عليه وسلم، ثم إن المرء إنما يتعبده الله سبحانه وتعالى بكتابه وبسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، لا بقول أحد كائناً من كان، ولا بفرقة كائنة من كانت، وإنما ما كان مبنياً على اجتهاد سائغ مقبول في أمر من أمور الخير، وبذل في سبيل الدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، فإن الإنسان يسعى ويحرص إلى متابعة الأوسط للحق، والأقرب إلى الصواب، والأسعد باتباع كتاب الله وسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولا تمنعنه الموافقة والمتابعة في هذا الخير الكثير من أن يخالفهم إذا وجد منهم مخالفة لأصل شرعي، وأن يكون همه وحرصه أن ينصح وأن يبذل النصح لمن وافقهم في أصل الخير، حتى يكون في هذا التناصح إكليل للخير وحيازة له.

وهذا سؤال واستفتاء لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز وهذا نصه:

يقول: في بلد غير هذه في الجامعة هناك جماعتان هما: اتحاد طلبة المسلمين، وجماعة التبليغ، فأيتهما الجماعة التي يريدها الإسلام، هذا مع العلم بأني أرى أن بعضهم أنشط في الدعوة وأسبق فيها؟

فقال فضيلته جزاه الله خيراً: العصمة من الخطأ ومن الانحراف عن الصواب، إنما هي لكتاب الله ولسنة رسوله صلى الله عليه وسلم الثابتة عنه، ولإجماع الأمة، أما كل فرد من أفراد الأمة، وكل جماعة على حدتها من جماعات الأمة كجماعة التبليغ، أو جماعة اتحاد طلبة المسلمين، أو جماعة الإخوان المسلمين، أو جماعة أنصار السنة المحمدية، أو الجمعية الشرعية لإحياء الكتاب والسنة المحمدية، إلى آخر ذلك؛ فكل منها ليست معصومة، بل تخطئ وتصيب، ولها محاسن ومساوئ في الأحكام التي تدعو إليها أو تنشرها، وفي طريقة دعوتها إلى ما تعتقده وتعمل به، وتتبنى إرشاد الناس إليه، وحملهم عليه، وعلى كل جماعة من الجماعات الإسلامية أن تتعاون مع الأخرى فيما اتفقوا عليه من الحق، وأن تتفاهم معها فيما اختلفوا على ضوء الكتاب والسنة، عملاً بقوله عز وجل: فَإِنْ تَنَازَعْتُمْ فِي شَيْءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَالرَّسُولِ [النساء:59]، عسى الله أن يهدي الجميع إلى سواء السبيل، وعلى كل طائفة من هذه الجماعات أن تنصح للأخرى، وتثني عليها بما فيها من خير، وترشدها إلى ما فيها من خطأ في الأحكام أو انحراف في العقيدة والأخلاق، أو تقصير في العلم والبلاغ بالتي هي أحسن، قصداً للإصلاح، وطلباً لاستدراك ما فات، لا ذماً لها وتعييراً، عسى أن تستجيب لما دعيت إليه، فتستكمل نقصها، وتصلح شأنها، وتجتمع القلوب على الحق، وتنهض بنصرته. اهـ.

والمتأمل في هذا القول يرى عليه نورانية الوحي، ويرى فيه فقه الدعوة، ويرى فيه أيضاً العلم بمقاصد الشرع من ضرورة الائتلاف، والحرص على وحدة الأمة، مع النصح لله ولرسوله، وللأئمة المسلمين وعامتهم، ومع الحرص على أنه لا اتباع ولا انقياد بلا تردد وبلا سؤال، وبلا أية مراجعة، إلا لكتاب الله ولسنة نبيه صلى الله عليه وسلم، ولإجماع الأمة المنعقد والثابت.

إذاً: باتباع مثل هذه الفتوى وغيرها من فتاوى أهل العلم، يظهر أن الأمر مداره على اتباع الشرع وعلى تحصيل الخير، وعلى جلب المصالح ودرء المفاسد، وعلى أن الكمال المطلق لا يوجد ولا يتصور وجوده أصلاً إلا في كتاب الله وسنة النبي صلى الله عليه وسلم.

وأيضاً فيه تعليم وتربية على أهم مقاصد هذا الدين، وهو ألفة القلوب، ووجوب تضافر الجهود، والمودة والمحبة، وأخوة الإيمان في قوله جل وعلا: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ [الحجرات:10]، والله سبحانه وتعالى قد سمى الفئة الباغية إخواناً لبقية المسلمين وإن كانوا قد بغوا عليهم، وذلك كما في قوله جل وعلا: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا [الحجرات:9]، فسمى تلك الطائفتين: مؤمنتين، وإنما إحداهما خالفت وبغت، أو اجتهدت وأخطأت، أو تنكبت سواء الصراط؛ ولذا من رأى أن وجود الخطأ كاف للمقاطعة بل والمنازعة بل والمحاربة، فإنه ما فقه أصل هذا الدين في عصمة دم المسلم وعرضه وماله، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب الاعتصام والتآلف والأخوة، وما فقه أصل هذا الدين في وجوب التناصح والتكامل، وأن المسلم للمسلم كاليدين في حاجة إحداهما للأخرى، وأن المسلم للمسلم كالمرآة ينظر إلى أخيه فيرى فيه عيب نفسه، ويبصر خطأه من تقويم أخيه، وهذا كثير فيما سيأتي أيضاً من الفتاوى والأسئلة.

وهذا سؤال وجه أيضاً لسماحة الوالد الشيخ عبد العزيز بن باز أذكره لوجازته ووضوحه في هذا الباب، وهذا نصه: السؤال: هل تعتبر قيام جماعات إسلامية في البلدان الإسلامية باحتضان الشباب وتربيتهم على الإسلام من إيجابيات هذا العصر؟

قال سماحته: وجود هذه الجماعات خير، لكن عليها أن تجتهد في إفصاح الحق مع دليله، وألا تتنافر مع بعضها، وأن تجتهد بالتعاون فيما بينها، وأن تحب إحداهما الأخرى، وتنصح لها، وتنشر محاسنها، وتحرص على ترك ما يشوش بينهما، ولا مانع أن تكون هناك جماعات؛ لأنها كلها إن شاء الله تدعو إلى كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

ثم قال السائل: وبم تنصح الشباب داخل هذه الجماعات؟

قال سماحته: أن يترسموا طريق الحق، ويطلبوه، وأن يسألوا أهل العلم فيما أشكل عليهم، وأن يتعاونوا مع الجماعات فيما ينفع المسلمين بالأدلة الشرعية، لا بالعنف ولا بالسخرية، بل بالكلمة الطيبة والأسلوب الحسن، وأن يكون الصالحون قدوتهم، والحق دليلهم.

وهذا كما أشرت فيه ما فيه من الفطنة والفقه بهذا الدين.

وهنا أيضاً سؤال لفضيلة الشيخ صالح الفوزان ، ونص السؤال يقول:

ما رأي الشرع في بعض مسميات مثل: السلفيين ، وجماعة التكفير والهجرة، وأنصار السنة المحمدية، والجمعية الشرعية والجهاد؟

فقال فضيلته: قال الله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا وَالَّذِي أَوْحَيْنَا إِلَيْكَ وَمَا وَصَّيْنَا بِهِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى وَعِيسَى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَلا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ مَا تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ [الشورى:13].

وقال تعالى: وَاعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعًا وَلا تَفَرَّقُوا [آل عمران:103].

ثم قال: هذه الآيات وغيرها كثير في القرآن الكريم، وأحاديث النبي صلى الله عليه وسلم التي جاءت في معناها، كلها تحث على اجتماع الكلمة، وأن يكون المسلمون أمة واحدة، وجماعة واحدة، وفي مسمىً واحد وهو أهل السنة والجماعة، أو مسمى المسلمين والمؤمنين، ولا يتحقق هذا إلا بالرجوع إلى كتاب الله وسنة رسوله، وأن يسير المسلمون في دعوتهم على منهج رسول الله صلى الله عليه وسلم الذي سار عليه وعلمه لأمته.

فالواجب على المسلمين أن ينهجوا نهجه، وأن يسيروا على خطواته، وأن يعتصموا بكتاب ربهم وسنة نبيهم، وعند ذلك لا يحصل اختلاف، ولا توجد مسميات متعددة، فإن هذا مما فرق وحدة المسلمين، وشتت شملهم، وأضعف جهدهم، وأوقع بينهم التخاذل والتناحر، والأسماء ليس لها دخل، إنما العبرة بالحقائق، ولو تسمت جماعة بالسلفيين أو بأي مسمىً من هذه المسميات التي ذكرتها، فالعبرة بالحقائق والمنهج الذي تسير عليه، إن كان مخالفاً لهدي رسول الله صلى الله عليه وسلم فإنهم ليسوا سلفيين، وليسوا إخواناً مسلمين، وليسوا جماعة شرعية، أما إذا كانت الحقائق صحيحة، والمنهج مستقيماً، فالاسم أمره سهل. اهـ.

وهذا فيه فطنة في أن التقويم إنما هو في حكم الشرع، فالإنسان عندنا في الحكم عليه أمور ثلاثة: الأقوال، والأفعال، والنيات، فالنية التي محلها القلب علمها عند الله سبحانه وتعالى، ليس لأحد أن يجترئ فيقول: إن فلاناً نيته كذا وكذا، وإن قصده كذا وكذا، ويجرمه أو يؤثمه بما لم يظهر قطعاً ويقيناً أن هذا مقصده.

وبقي عندنا الأقوال والأفعال، والأقوال والأفعال لها في حكم الله سبحانه وتعالى وشرعه تفصيل كامل: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام:38]، فكل إنسان قال بقول أو عمل عملاً نرجعه إلى حكم الشرع، فإن وافق حكم الشرع صح فعله وعمله، ولا ضير إن كان هذا العمل قد أخذ له اسماً معيناً أو ربما صورة معينة، بل العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وهذا الأمر مهم جداً؛ لأن كثيراً من الأشياء التي تجد في حياة الناس قد تكون لها أسماء معينة، لكن ينبغي التفطن إلى حقيقتها، وأن التصويب في ميزان الشرع عائد إلى الأقوال وإلى الأفعال.

أنتقل إلى الكتاب المدون عن حياة الشيخ الألباني، وفيه سؤال عن هذا الأمر:

يقول السائل: يقال: إن فضيلتكم يرفض أن يتعاون مع الجماعات الإسلامية كلها، إلا إذا انصاعت لمعتقداته الكلامية والفقهية، فما مدى صحة هذا القول؟

يقول فضيلة الشيخ: أبداً، إن هذا الكلام زور وبهتان، فقد سبق أن سجلنا ثلاثة أشرطة وضحت فيها هذا الأمر بصراحة، وكان مما قلته: إنني أؤيد قيام الجماعات الإسلامية، وأؤيد تخصيص كل جماعة منها بدور اختصاصي سواء أكان سياسياً أم اقتصادياً أم اجتماعياً أو نحو ذلك، ولكن اشترطت أن تكون دائرة الإسلام هي التي تجمع هذه الجماعات كلها ، وذكرت أننا نحن معشر السلفيين لا نعمل إلا في سبيل أهم ما نزل به كتاب الله عز وجل، وبعث من أجله رسله ألا وهو التوحيد.

قال: أعود ثانياً فأدعو المسلمين جميعاً إلى أن يرجعوا إلى دينهم الصحيح، والاعتماد في ذلك على كتاب الله أولاً، وعلى السنة الصحيحة ثانياً، وأصر على هذه الدعوة.

ويقول: ولن نتراجع عنها مهما كانت الادعاءات والافتراءات، أقول هذا وأنا أتذكر السنوات الطوال التي عشتها، وكان يحضر دروسي خلالها أعضاء من الإخوان ومن حزب التحرير والتبليغ والمذهبيين، وفي هؤلاء من يصرح بتتلمذه عليّ، ويقر بالفضل. اهـ.

فكيف نتهمه بعد ذلك بمحاربة الجماعات الإسلامية؟!

ويقول: كل ما نخالف به تلك الجماعات، إنما هو الخروج على الكتاب والسنة في تربية أعضاء تلك الجماعات.

فإذاً: التقويم هو أن ننظر في الأفعال والأقوال، ومدى انطباقها مع موافقة شرع الله سبحانه وتعالى.

وللشيخ عبد الرحمن عبد الخالق باع واسع في هذا، وله اطلاع، أذكر منها نقولاً مستجادة في هذا الباب لعلها من أحسن ما قيل؛ باعتبار أنه أصاب وأطنب في هذا الجانب حتى إنه جمع ما كتبه في بعض الكتب، مثل (مشروعية العمل الجماعي)، و(الإمام ابن تيمية والعمل الجماعي).

فيقول في مسألة عدم التصور الصحيح لمثل هذه الجماعات، أو الجمعيات الداعية إلى الإسلام، والباذلة جهداً في سبيل نصرة هذا الدين، ودعوة أبنائه إليه، يقول: ولأن كثيراً من الناس تختلف في أذهانه الأمور، فيجعلون الحكم واحداً في الفرق والأحزاب والجماعات والهيئات، ولا يميزون بين تجمع مشروع، وتجمع مبتدع، وتجمع ضال منحرف، ولا يميزون كذلك بين الظروف والملابسات وتغير الأحكام بتغير الزمان والمكان.

ومن أجل ذلك لخص فقال: إننا يمكن أن نقسم الجماعات إلى ثلاثة أقسام:

أولها: جماعة ضالة اجتمعت على بدعة مكفرة، وشذت عن إجماع المسلمين، وعن كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم، فهذه أمرها واضح بين.

الثانية: جماعة من أهل الإسلام اجتمعت على شيخ أو إمام أو عمل من الأعمال الصالحة، ولكنهم في اجتماعهم هذا أخذوا من الإسلام وتركوا، وقدموا اجتهاد إمامهم وشيخهم على اجتهاد غيره، كأتباع المذاهب المعروفة، أو كان لهم نوع تعصب لرأيهم ومنهجهم، أو بعض أمور مبتدعة لا تخرج من الدين، أو خلطوا عملاً صالحاً وآخر سيئاً، فلا شك أن جماعتهم مشروعة، وفيها من الحق بحسب ما التزموه، ومن الباطل بحسب ما أخذوه، ولا شك أن مثل هذه الجماعة مشروعة؛ لأن أصلها تعاون على البر والتقوى والدين، والله يقول: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

وذكر أن الخطأ الواقع يرد بموجب حكم الله وحكم رسوله صلى الله عليه وسلم.

الثالثة: جماعة مهتدية قائمة بالحق على هدي الكتاب والسنة وإجماع الأمة ونهج السلف، لا يتحركون إلا وفق أحكام الدين، ولا يجاهدون إلا على بصيرة، كما كان شأن الجماعات الإسلامية العاملة على مدار تاريخ الإسلام، وذكر أمثلة من جهود شيخ الإسلام ابن تيمية ومحمد بن عبد الوهاب وغيرهم.

ثم قال: والخلاصة أن أي جماعة تجتمع على مقتضى الكتاب والسنة والالتزام بإجماع الأمة، الذي فيه العصمة، ولزوم جماعة المسلمين وإمامهم، هي جماعة مهتدية راشدة، ما دام أن اجتماعهم وفق هذه الأصول، ووفق قوله تعالى: وَتَعَاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَالتَّقْوَى وَلا تَعَاوَنُوا عَلَى الإِثْمِ وَالْعُدْوَانِ [المائدة:2].

ثم ذكر مثالاً جيداً فقال: إن النبي صلى الله عليه وسلم أبقى للأنصار اسمهم، وللمهاجرين اسمهم، بل ميز بعض الصحابة بما كان لهم من عمل سابق، فسمي أهل بدر: البدريون، وسمي أهل الفتح: مسلمة الفتح.

وقال: إن هذا لم يكن فيه تفكك أو تحزب، وإن كان فيه معنى الاجتماع على الخير، فالأنصار كانوا يتنافسون مع المهاجرين في الخير، وكان لهم تجمعهم الذي يستجيبون فيه لأمر الرسول صلى الله عليه وسلم.

ثم ذكر أنه قد وقع بسبب ذلك بعض من الخطأ حينما تعصب بعضهم.

ثم ذكر تنافسهم في الخير وذلك حين أمر النبي صلى الله عليه وسلم الخزرج أن يقتلوا كعب بن الأشرف ، فأراد الأوس أيضاً أن يكون لهم منقبةً أخرى، وعهد إليهم النبي صلى الله عليه وسلم بقتل علم آخر من أعلام اليهود وهو سلام بن أبي الحقيق .

ثم ذكر قصة عائشة رضي الله عنها وحادثة الإفك لما كان المتكلم من الخزرج، ورد الأوس وكان في ردهم نوع من الشدة، حتى قام سعد بن عبادة وكان رجلاً صالحاً، ولكن أخذته الحمية- فقال للأوسي: (كذبت لعمرو الله لا تقتله ولا تقدر على قتله)، وذلك عندما قال الأوسي للنبي صلى الله عليه وسلم: (إن شئت يا رسول الله قتلناه) ، فالنبي عليه الصلاة والسلام نهى عن المخالفة الشرعية، وأبقى أصل ما فيه الخير.

قال هنا: والشاهد أن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم ينه عن هذه التجمعات التي يمكن أن تؤدي فيها العصبية إلى مثل هذا، بل بقي للأوس اجتماعهم ورئاستهم، وللخزرج كذلك، وكانوا متعاونين في أكثر أمورهم على البر والتقوى، متنافسين في خدمة الدين، وأحياناً يقع منهم التعصب والإخلال في أصل الموالاة، ومع ذلك لم يكن هذا ليلغي اجتماعهم وجماعتهم.

فإن قضية الخطأ في الأصل المشروع لا ينفي مشروعية الأصل، بل يثبت خطأ الفعل، وهذه مسألة مهمة جداً وقع الخلط بسببها عند كثير من الناس، فتجد أن مجرد وقوع خطأ معين في عمل معين يجعل بعض الناس يفتي بعدم مشروعية العمل كله، وهذا لا شك أنها نظرة غير صحيحة، فالأصل في الحكم الدليل من الكتاب والسنة، فإذا ثبتت المشروعية فإن ما يلحق بهذا الأمر المشروع من أخطاء في التطبيق، أو من خطأ يقع من فرد أو من مفت أو من مجتهد لا يمنع أصل ثبوت المشروعية لذلك العمل، بل نقول: هذا الأصل مشروع، وهذا الفعل خطأ لا يصح أن يكتسب المشروعية بانتسابه إلى ذلك الأصل.

فإن قلنا: إن العمل بالدعوة إلى الله سبحانه وتعالى، والأمر بالمعروف والنهي عن المنكر واجب، فإذا جاء الذي يأمر وينهى فأخطأ في الأسلوب فما نقول: إن الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر أصبح محذوراً أو أصبح محرماً، لا، بل نقول: إن المشروعية باقية على أصلها، وهذا الفعل خطأ، وهو غير مشروع، ولو كان يقول: إنه يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر؛ ولذلك الآن قد يحتج بعض الناس فيطالب بإلغاء هيئة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر لخطأ قد يخطئه فرد من أفراد الهيئة مثلاً، فهذا بغي واعتساف في الحكم لا يصح مطلقاً؛ ولذلك ما يقال من وجود الخطأ أو الخلط أو بعض السلبيات في مثل هذه الأعمال الدعوية، التي تهدف أصلاً إلى التعاون على البر والتقوى وتقصد الخير، فإنها قد يقترن بها كما يقترن بأي عمل الخطأ، ويقترن بها بعض المضار، لكن على الإنسان أن ينظر إلى العموم، أي أمر غلب خيره على شره، وكانت المصلحة الناتجة عنه أكثر من المفسدة المترتبة عليه، فإنه يوهب قليل خطئه لكثير صوابه.

وكذلك نقول لمثل هذا القائل: أليس أيضاً هذه الأخطاء والأخطار موجودة، وإن لم توجد هذه الأعمال والجمعيات، هل الحل لإزالة الفرقة أو التعصب أو وجود التنافر هو توجيه ونصح هذه الجمعيات والقائمين عليها وأفرادها، بحيث يلغون هذه السلبيات، ويبقون على الإيجابيات أم الحل أن ينفرط العقد؟!

وإذا انفرط عقد الناس أليست هذه الأمور موجودة في المسلمين بانفرادهم؟ أليس المسلمون وهم منفردون يقع منهم التعصب، ويقع منهم التحزب، ويقع منهم الحسد، ويقع منهم البغي، ويقع منهم أحياناً المعاداة، وتقع منهم الأخطاء الشرعية؟! فليست وجود هذه الجمعيات هي الأصل في وجود هذه الأخطاء، فالأخطاء موجودة، وليس وجودها عن هذا التجمع أو عن هذا العمل، ولكن ينبغي لنا أن ننقي العمل من الشوائب، وأن نكمل فيه الإيجابيات التي ينبغي الحرص عليها وتكثيرها، أما أن ينسب كل خطأ وكل معضلة وكل مشكلة وكل سلبية في الأمة إلى هذا العمل الدعوي، وكأن كل السلبيات تنزه منها المسلمون وهم أفراد، وتنزهوا منها وهم يتبعون أحياناً مذاهب فكرية منحلة، أو وهم متلبسون بالمعاصي، أو وهم متقاعسون عن أمر الله سبحانه وتعالى، فبعض الناس ربما غلبت نظرته لهذه الأخطاء أو لهذه الآثار السلبية، فجعلت الصورة عنده سوداء لا بياض فيها مطلقاً، بل جعل كل ما في الأمة من بلاء عبر هذه القرون الطويلة، إنما هو ناشئ عن هذه الجمعيات الداعية إلى الله سبحانه وتعالى!

وهذا لا شك أنه أمر غير متصور حتى بالعقل، كيف يكون الذين يلتزمون بالإسلام، ويرتادون المساجد، ويطلبون العلم في حلق العلم، ويسعون إلى الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ويبذلون من أموالهم، ويسعون في هذا الخير أن يكونوا هم سبب كل بلاء، وكل علة في هذه الأمة؟!

فأحدهم أنقل نصه من كتابه يقول: أين تجد جذوة الخلاف؟ أين تجد أمراض النفوس؟ أين تجد المنافسة المقيتة؟ أين تجد النظرات الحديدية؟ أين تجد الفرقة الظاهرة؟ أين تجد البسمات الصفراوية؟ أين تجد التبرير والتغرير؟ أين تجد التحذير والتنفير؟ أين تجد القيل والقال؟ أين تجد التعسف والتأويل؟ أين تجد الإشاعات الباطلة؟ أين تجد الدعايات الفاشلة؟

ثم يقول: إنك تجد هذا في الجمعيات والجماعات الدعوية!

لا شك أن هذا شطط من القول، واعتساف في الرأي، ولا شك أيضاً أن هذا بعد عن القصد، ما الفائدة من مثل هذا؟ هل الحل كما أشرت هو أن يزول فصل الداء بالمنهج الشرعي؟

هذه الأخطاء إنما هي ناشئة من الأفراد، وناشئة ربما من عدم الفهم الصحيح لهذا الدين، فليس الحل هو إصلاح الجوانب العارضة؛ ولذلك ذكرت هذه الجملة من الفتاوى، وغيرها أيضاً كثير.

أختم بفتاوى اللجنة الدائمة للدعوة والإفتاء والإرشاد؛ لأن بعضاً منها موجز.

يقول السائل: في هذا الزمان عديد من الجماعات وكل منها يدعي الانضواء تحت الفرقة الناجية، ولا ندري أيهما على الحق فنتبعه؟

الجواب: كل من هذه الجماعات تدخل في الفرقة الناجية، إلا من أتى منها بمكفر يخرج عن أصل الإيمان، لكنهم تتفاوت درجاتهم قوة وضعفاً بقدر إصابتهم للحق وعملهم به، فاعرف منهم وجهة نظرهم، وكن مع اتباعهم للحق، ولا تبخس الآخرين أخوتهم في الإسلام فترد عليهم ما أصابوا فيه من الحق، بل اتبع الحق حيثما كان، ولو ظهر على من يخالفك فالحق رائد المؤمن.

الموضوع في الحقيقة يحتاج إلى تطويل، لكن هذا ربما يغني بعض الإخوة الذين سألوا، وكان في بعض أسئلتهم حيرة واضطراب؛ ولذا حرصت على أن أجمع مثل هذه الأسئلة وإجابات أهل العلم عليها.

وأذكر بعض المشاركات أو الأسئلة حتى نختم هذه النقطة.

يقول أحد الإخوة: التشتت على كل الأحوال مذموم، والتوحد ورص الصفوف هو المطلوب، فلماذا لا يتم هذا الحوار بين قادة الجماعات لإيجاد قيادة واحدة؟

وأحد الإخوة يقول منتقداً للمنتقدين: بعض الناس يلقي بالكلام جزافاً، ويتحدث عن الجماعات الإسلامية ومناهجها، وينقدها نقداً لاذعاً، ويذكر بعض الكتب.

وأيضاً يسأل الأخ: ما حكم وجود الجماعات الإسلامية في العهد الحديث، وخاصة بعد سقوط الخلافة، حيث إن لهذه الجماعات خيراً كثيراً من دعوة العامة، والرد على مفتريات العلمانيين والمستشرقين؟

فهذه وغيرها أجبنا عنها، ووضحنا القول فيها بمثل هذه النقول التي أظنها إن شاء الله فيها غنية وكفاية.

وأنهي هذه المسألة بنقاط ثلاث مهمة:

أولها: أنه ليس لجمعية إسلامية ولا جماعة دعوية أن تعتبر نفسها جماعة المسلمين؛ لأن كل هذه الجمعيات والجماعات من جماعة المسلمين، وهذا أمر مهم، وفيما أعلم أن أكثرها لا يرى ذلك لنفسه، بل كلهم يعلم أنه جزء من هذه الأمة، قائم ببعض الأمر وببعض الواجب.

ثانيها: أن يكون أصل الولاء والبراء لله ولرسوله، ووفق شرع الله عز وجل، لا يكون مبذولاً لأجل الموالاة والموافقة في الجمعية أو الجماعة أو نحو ذلك، فإن الأصل ينبغي أن يكون مرتبطاً بشرع الله عز وجل.

ثالثها: أن يكون التقديم والتأخير، والتفضيل والمدح والذم، إنما هو بمصطلح الشرع، لا بموجب رسوم وأنظمة تكون هي الأولى والمقدمة على ميزان الشرع، فلا مدح إلا لما مدحه الشارع، ولا ذم إلا لذلك.

وهذه الأمور وغيرها بمثابة الضوابط المهمة والأساسية التي تقي من بعض المشكلات والسلبيات، التي ربما يأتي ذكرها في البند الثاني.

بعض الإخوة أشار إلى أننا ذكرنا في المرة الماضية بعض وجوه النقد وبعض الأخطاء، ثم يقول: ما هي الوسائل التي يمكن أن تثبت شباب الصحوة على المنهج الصحيح حتى لا يحصل ما يقع الآن، فإن بعض الناس يمضي في الطريق قليلاً ثم ينتكس، أو يمضي في الطريق ثم يشذ إلى انحراف غير مشروع؟

فأذكر في ذلك نقاطاً في موجز لا يتسع المجال لتفصيله أقول: من هذه الوسائل وأهمها:

أولاً: صفاء المعتقد ووضوح التصور.

ثانياً: الارتباط بالقدوة من العلماء والدعاة، والرجوع إليهم.

ثالثاً: التحصن بالعلم ومعرفة الشبهات.

رابعاً: وجود المحضن التربوي الذي يزكي النفوس، ويطهر القلوب، ويعوّد على التزام الشرع، والخوف من الله سبحانه وتعالى، والتقوى له.

خامساً: العناية بفقه الأولويات والاهتمامات؛ فإن كثيراً مما ورد من الأخطاء إنما يقع من أن الإنسان يقدم ما حقه التأخير، أو يؤخر ما حقه التقديم.

سادساً: دراسة التاريخ، واستنباط العظات والعبر، والاستفادة من تجارب السابقين، وسير الأئمة والصالحين.

سابعاً: حسن التعامل مع الآخرين، بما هو في شرع الله سبحانه وتعالى.

ثامناً: فقه الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر؛ حتى لا يقع الخطأ والخلل في مثل هذا.

ذكر بعض الإخوة أن هناك من يقول: إن القول في السياسة أو الاعتناء بمعرفة الأخبار أو نحو ذلك ليس من الدين، وأنه ينبغي لطالب العلم فقط أن يقرأ كتب العلم في العقيدة والفقه والحديث، ولا شأن له بما وراء ذلك، ويذكر هذا الأخ في سؤاله ويقول: أليس هذا هو عين قول العلمانيين الذين يريدون أن يكون المسلم منشغلاً أو مرتبطاً فقط بالأحكام الفقهية، ولا يرتبط بواقع الحياة؟

نقول: نعم، هذه هي تلك، لا فرق بين هذه وهذه، إلا أن هذا القول من مسلم، أو من طالب علم أو من موجه أخطر؛ لأن العلماني أو المستغرب لا يقبل منه الناس، لكنهم يقبلون من الخطيب أو الإمام أو الواعظ أو الداعية، فإن جاء مثل هذا القول من هؤلاء كان أشد خطورة في هذا الأمر.

وأحب أن أوجز القول في هذا: فإن علم الشرع مطلوب، ومعلوم أن هناك واجبات عينية على الإنسان المسلم أن يتعلمها من فرائض الله سبحانه وتعالى، بدءاً من المعرفة بالله سبحانه وتعالى، ومعرفة الرسول صلى الله عليه وسلم، وما يتعلق بأركان الإيمان.

ثم بعد ذلك معرفة الفروض العينية مثل: الصلوات وأحكام الطهارة، ثم ما يلزمه في وقته كالحج لمن أراده، أو الزكاة لمن وجبت عليه، وكل ما عدا ذلك فرض كفاية من الزيادة في العلم لمن أراد أن يتصدر للتعليم أو الفتوى أو غير ذلك، لكن علم الواقع أمر مهم جداً، وفيه رعاية اختلاف ظروف الزمان والمكان والأشخاص، وقد راعى النبي صلى الله عليه وسلم ذلك، فكان السائل يسأله نفس السؤال، وتتعدد إجاباته صلى الله عليه وسلم، وما اختلفت إلا باعتبار اختلاف حال السائل، فذاك يسأله فيقول: (أوصني، فيقول: لا تغضب)، ويسأله الآخر ويقول: (أوصني، فيقول: لا يزال لسانك رطباً بذكر الله)، وفي مسند الإمام أحمد وصححه الشيخ أحمد شاكر : (أن سائلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم يسأله عن القبلة في الصيام فأفتاه بمنعها، وجاء سائل آخر فسأله عن القبلة للصائم فأفتاه بجوازها، فلما سئل النبي عليه الصلاة والسلام قال: ذاك شاب لا يملك أربه، وذاك شيخ كبير ليس له في النساء مأرب)، فاختلف الجواب باختلاف حال السائل، وكذلك اختلاف حال الأمة وظروفها، أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم من الأنصار في بيعة العقبة قالوا للرسول عليه الصلاة والسلام: (لو شئت أن نميل على أهل الوادي ميلة واحدة لفعلنا، قال: لا، فإنا لم نؤمر بذلك)، حقاً إنه صلى الله عليه وسلم يوحى إليه وهو مشرع، لكن على من جاء بعده أن يقتبس منه ويستنبط.

وكذلك عليه الصلاة والسلام كان يعرف أحوال القبائل وعاداتها وتقاليدها؛ ولذا كان يحرص على إسلام زعماء القبائل؛ لأنه كان يعلم أن الناس تبعاً لقادتهم، وكان يعرف ما عليه أهل كل قوم، وأهل كل قبيلة من بعض العادات ومن بعض الرسوم والأمور التي يحرصون عليها، فكان يعرف كل هذا ويراعيه.

بل جعل النبي صلى الله عليه وسلم الأمر مقتبساً من غير المسلمين، فقد ورد عند الإمام مسلم وغيره أن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (كنت قد نهيتكم عن الغيلة، وإني رأيت فارس والروم يغيلون ولا يضرهم)، والغيلة: المقصود بها: الجماع في وقت الرضاع، فإنه قد يضر بالرضيع، لكن النبي عليه الصلاة والسلام رأى واقع الناس، ورأى ظروف الحال، ورأى أن مثل هذا لا حرج فيه، فلم ينههم عنه عليه الصلاة والسلام.

وكذلك قال في شأن تأبير النخل: (أنتم أعلم بشئون دنياكم).

فتتبع أحوال المسلمين، والتعرف على أخبارهم، ومعرفة مكائد الأعداء، لا شك أنه من أكثر ما يدفع به الضرر عن المسلمين، وتجلب به المصالح لهم، والإعراض عن مثل هذا لا شك أنه شطط في القول، وأنه مغايرة ومنافرة في طبيعة الواقع، فإن الإنسان في طبيعة حياته المعتادة في تجارته .. في وظيفته .. في عمله يرتبط بالواقع، ويسأل عن الأحوال، ويسأل عن الأسعار، ويسأل عن الوظائف، ويسأل عن الترقيات، ويسأل عن النظم واللوائح؛ ليعرف ما يتجنبه، وليعرف ما يأخذ به لينتفع به، فكيف في حال الدين وفي حال حيازة مصلحة الإسلام والمسلمين؟ هل يبقى لا يفطن إلى هذا ولا ينظر إليه؟

لا شك أن هذا خطأ.