مصاب الأمة ومواقف العلماء
مدة
قراءة المادة :
10 دقائق
.
الأمة الإسلامية فيما تمر به من ظروف أليمة بحاجة ماسة لمن يقودها نفسياً من داخلها، وبحاجة إلى من يجدد فيها روحها ويثبت فيها قيمها، ويعلي فيها من شأن مبادئها وثوابتها، وأن يكون ذلك بشكل واقعي عملي واضح، كما تحتاج إلى من يحفظ لها هويتها ويرفع في عيون أبنائها قدر ثقافتها، ويهيئ مواطنيها لتحمل مسئولياتهم والقيام بدورهم كمسلمين صالحين ومؤمنين عابدين، كما تحتاج تلك الأمة إلى من يعيد لها ثقتها في نفسها، ويربطها بربها، ويحيى فيها روح الإيمان ، ويجدد فيها أمر دينها.
كل ذلك وغيره يجتمع ويصير مرهونا بدور علمائها ودعاتها، فهم المرشحون للقيام بذاك الدور الأعظم في تلك الفترة العصيبة، بما عرفوه من علم وفهموه من دراية عن منهاج دينهم وقيمة أمتهم والمسئولية أمام ربهم.
وبرغم الأحداث العاصفات التي تحدث للأمة فإنه لا يزال حتى الآن هناك البعض من العلماء والدعاة يرتضون لأنفسهم بالقعود والخمول في أفنية مجالسهم المنغلقة على أنفسهم رافضين تحمل مسئولياتهم ومواجهة مشكلات أمتهم بشجاعة ووضوح، لايزال هناك من العلماء والدعاة من هم بمعزل بعيد عن أفراد هذه الأمة وأبنائها ولا يزالون بعيدين عن حمل هم المسلمين في بقاع الأرض إضافة إلى كونهم في منأى عن خلطة الناس ومشكلاتهم وآلامهم سوى في درس علم أو حلقة تعليم منغلقة.
كما لايخفى أن هناك الكثير من أولئك العلماء لا يتحدثون إلى الناس بلسان الناس ولكن يخاطبونهم خطاباً إما أن يكون انعزالياً بحتاً أو أصولياً محضاً، حتى غدا المتابع لأحوال أمتنا يلاحظ مدى بعد الشارع المسلم عن علمائه كما يلاحظ تراجع دورهم المنوط بهم وهامشية هذا الدور في قطاعات بالغة الأهمية في حياة الأمة من قضايا الناس، وما يتعلق بالمرافق الثقافية والتنموية، وحيث لا ترى مشاركة العلماء والدعاة في كثير من الأعمال ويندر أن يستشاروا في قرارات داخلية أو خارجية هامة فقد تأكد ذلك المعنى من تحييد دورهم الذي نرى بعضهم وللأسف قد رضو به!
إن كل ذلك قد يؤدي إلى فصل الدين عن واقع حياة الناس وعزله عن التأثير في أمر معاشهم وما قد يترتب على ذلك من أثر خطير يزلزل المعاني التي تربط الناس في معاشهم بدينهم.
وقد نجد الكثير من المعاذير لقطاع واسع من العلماء والدعاة إلا أننا يصعب أن نجد معاذير لمن قد أتيحت لهم الحرية في التواصل مع الناس وترسيخ معاني الشريعة في قلوبهم، وبذل النصح ليل نهار لجميع أفراد أمتهم، والسعي الدؤوب في سبيل توصيل كلمة الإسلام للبيوت والمؤسسات ومحاولة تبوء مكانة ذات أثر في كل ما يحيط بنا من مقامات تأثيرية.
إن شأن العمل الإسلامي يختلف مع غيره من الأعمال الحزبية والفئوية، ومن أهم تلك الاختلافات أن الداعية إلى الله أو العالم لا يصح أن يكون عنصرا تائهاً أو إضافياً أو زيادة عدد فحسب، كما لا يصح أن يكون خافت الأثر أو باهت اللون.
إن دور العالم والداعية إلى الله ليظهر في التأثير الإيجابي للإصلاح، والدعوة للبناء دائماً، والعمل على تجفيف منابع الآلام التي تصيب المؤمنين.
روى مسلم عن أنس قال كان بالمدينة فزع فاستعار النبي صلى الله عليه وسلم فرساً لأبي طلحة يقال له مندوب فركبه فقال: «ما رأينا من فزع وإن وجدناه لبحراً» (صحيح البخاري ) ، فانظر إليه صلى الله عليه وسلم كيف سارع بالنفرة والهبوب السريع إلى موطن الفزع حيث فزع الناس وما إن كاد الناس يخرجون ليعرفوا الخبر حتى وجدوا رسول الله صلى الله عليه وسلم عائداً يطمئنهم قائلاً: «مارأينا من فزع» ثم يسليهم بمدحه للفرس الذي يركبه قائلاً: «وإن وجدناه لبحراً»، وقال علي رضي الله عنه لما حضر البأس يوم بدر التقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم وكان من أشد الناس ما كان، ولم يكن أحد أقرب إلى المشركين منه، وعنه من طريق ثان، قال: "رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أقربنا إلى العدو وكان من أشد الناس بأسًا" (رواه أحمد)، فالقائد هنا صلى الله عليه وسلم هو أقرب الناس للمواجهة وهو أحرص الناس على الشهادة وهو أشجع الناس عند اللقاء.
وعن البراء: أن رجلاً من قيس سأله: أفررتم عن رسول الله صلى الله عليه وسلم يوم حنين؟ فقال: "لكن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يفر، كان هوازن رماة، وإنا لما حملنا عليهم انكشفوا فأكببنا على الغنائم فاستقبلنا بالسهام، وفرت الأعراب ومن تعلم من الناس، ولقد رأيت النبي صلى الله عليه وسلم على بغلته البيضاء، وإن أبا سفيان بن الحارث آخذ بزمامها، والنبي صلى الله عليه وسلم يقول: «أنا ابن عبد المطلب أنا النبي لا كذب»"، وفي حديث: كنا إذا احمر البأس اتقينا برسول الله صلى الله عليه وسلم، وقال ابن عمر: "ما رأيت أشجع ولا أنجد من رسول الله صلى الله عليه وسلم".
إنه دور العالم والداعية إذن وقت الملمات والأزمات والمشكلات، أن يثبت الناس ويعيد الثقة إليهم، وأن تتمثل فيه معاني المنهج الذي يرعاه ويعلمه للناس.والأحاديث السابقة وإن كانت تبين موقف الرسول في الحروب والغزوات فإننا فقط ههنا نستأنس بها لنبين كيف كان يتحمل دوره صلى الله عليه وسلم بلا وجل أو خوف أو تردد، والمواقف الآن التي ندعو إليها العلماء ليست مواقف مواجهات أو تضحيات بالأنفس بقدر ماهي مواقف إصلاحية وتأثيرية وقيمية لتقوية الداخل في مجتمعنا المسلم والقضاء على آفاته وتصويب آدائه وتربية أبنائه وإعادة الوعي المفقود والفهم الإسلامي الصحيح الغائب لأفراده في مختلف الميادين.
إن رؤية بعض العامة لعالم أو داعية قد ارتضى بالعيش الهنيء الرغد والرفاهية وانكب على جمع المال والتكسب، وغفل عن آلام أمته ومصائبها ومشكلاتها ومعاناة إخوانه وأبناء عقيدته، فلم يعد يذكرها حتى في أحاديثه أو كتاباته أو خطاباته، ويكتفي بمجرد الحديث الوعظي ضعيف الأثر، ليترك أسوأ الآثار عليه وعلى غيره من الناس، إذ يجعله مناطاً للقياس على شأنه وشأن غيره، وإن استشرى ذلك القياس على تلك الحالة فقد نجد أنفسنا أمام ماهو أكثر من ضياع معنى المسئولية الشرعية والتاريخية لتلك الأمة، إن المأزق عندها سيصير خطيراً وعلى حافة الهاوية.
أكثر ما يجب على الدعاة والعلماء أن يولونه اهتماماً في تلك الأيام أن يولوا اهتماماً بالعلاقة بربهم؛ إذ إنها الدافع الأكبر في التثبيت، وتسديد الأفعال، والمباركة في القوة والقدرة، وتوجيه الاختيار نحو الأصلح الذي قد يخفى على الناس.
وكأني أنظر إليه صلى الله عليه وسلم وهو يدعو ربه عشية بدر ويجأر إليه بالدعاء ويلح ويبكي حتى يشفق عليه أبو بكر في ذلك قائلا له: "يا رسول الله إن الله منجز وعدك"، ولازال عمر ابن الخطاب يخطب في جنده قبل اللقاءات قائلا لهم: "إننا لا ننتصر على عدونا بعدد ولا عدة وإنما هو التوكل على الله والثقة به فكونوا عندها ولا تترددوا".
وفي فتح مصر لما تأخر عليهم الفتح أرسل إليهم أن "انظروا إلى ما خلفتم من ذنب بغير توبة فإنه هو مانعكم، وانظروا إلى ما تركتم من سنة بغير عمل فإنما أنتم ممنوعون بركتها"، فعادوا إلى أنفسهم، فرأبوا الصدع فحل النصر عاجلا غير آجل.
كذلك يحتاج الداعية إلى تركيز فكره وإرادته نحو تحديد الإجابة عن سؤالين هامين هما:
ماذا نريد؟
وكيف نريده؟
فالأول سؤال حول الهدف من التصرف لكل عمل من أعماله، والثاني هو سؤال حول الوسيلة المستخدمة للوصول إلى ذلك الهدف، وقد يضيع في زحمة الآلام المتوالية لأمتنا الشكل المحدد لتحديد الهدف نتيجة الخوف أو التردد أو عدم التركيز أو عدم تصور المآلات التي ستصير إليها الحال، وواجب العالم والداعية هنا أن لا يجعل نفسه فريسة سهلة لتلك المعوقات وأن يستل نفسه خارجها ليستطيع تحديد هدفه بوضوح والتركيز على طريقة نيله، بل إن قدرة القدوة على الاحتفاظ بطريقة هادئة ومتزنة وعاقلة وحكيمة وواقعية في أثناء الأزمة هي مثمنة عند أصحاب الفكر الرشيد وهي الوصف الأهم من صفات العالم العامل المؤثر.
إن الظروف الحاصلة للأمة الإسلامية قد تؤدي لفقدان التوازن في لحظة من اللحظات، وإذا كان من الصعب بمكان منع المصائب والآلام من الحدوث فإنه ليس أقل من أن يعتبر علماؤنا ودعاتنا في برنامجهم العملي ما يمكننا أن نسميه (توقع الأزمة) وهي توقع لما يمكن أن يستحدث واقعيا لأمتهم في ظل الواقع المحيط والظروف المتوقعة.
كذلك ينبغي أن يسأل كل عالم وداعية نفسه عن مكانه ومقامه من التأثير في جمهور الناس، وماذا يمثل لهم، ومن أجل معرفة قيمته الحقيقية ينبغي عليه بكل تجرد أن يقيم آداء نفسه فيما مضى من عمره وماذا أنجز وكم استطاع هداية قوم أو تعليمهم وكم استطاع تغيير نفوس أو تربيتها وماهو الأثر الإيجابي الصائب الذي تركه في مجتمعه، وماهي أوجه التقصير والخلل في أدائه وماهي أسباب نفور الناس منه إن حصل ذلك وماهي طرق عودته للمضمار من جديد.
إن العالم التقيّ الموفق ليوفقه الله سبحانه وتعالى إلى السداد في الخطى والتوفيق في الرأي والحكمة في القرار والشمولية في التصرف والمرونة في الأداء والثبات في الأمر كله.
خالد روشه