خطب ومحاضرات
الكنز المفقود
الحلقة مفرغة
الحمد لله جعل الإيمان أماناً ونوراً للقلوب، وجعل الإسلام سلامةً وشرحاً للصدور، وجعل الهداية سعادةً ونعيماً للنفوس، ووعد أهل التقوى بسعادة الدنيا وبنعيم الجنان، أحمده سبحانه وتعالى على توالي نعمه، وتعاظم فضله، نحمده جل وعلا هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه هو كما أثنى على نفسه، تبارك اسمه، وجل قدره، وعم نواله، وكثرت أفضاله سبحانه وبحمده، فله الحمد في الأولى والآخرة، وله الحمد على كل حال وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد، وله الحمد حتى يرضى، وله الحمد إذا رضي، وله الحمد بعد الرضا، حمداً كثيراًطيباً مباركاً فيه كما يحب ربنا ويرضى، حمداً نلقى به أجراً، ويمحو الله به عنا وزراً، ويجعله لنا عنده ذخراً.
وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد يحيي ويميت وهو على كل شيءٍ قدير، وأشهد أن محمداً عبده ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، ختم به الأنبياء والمرسلين، وجعله سيد الأولين والآخرين، وأرسله كافة للناس أجمعين، وبعثه رحمةً للعالمين، فهدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وبصر به من العمى، وكثرنا بدعوته من بعد قلة، وأعزنا من بعد ذلة، وهدانا من بعد ضلالة.
وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، ما من خيرٍ إلا وأرشدنا إليه، وما من شرٍ إلا وحذرنا منه، وتركنا على المحجة البيضاء ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم، ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]، يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].
يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71] أما بعد:
أيها الإخوة المؤمنون!
يتعب كثيرٌ من الناس نفسه ليله ونهاره، ويشقى صبحه ومساءه، ليجمع من عرض الدنيا ما يكثر به ماله، وما يعظم به رصيده؛ طلباً للسعادة والهناء في الدنيا، ويذل كثيرٌ من الناس نفسه، ويحكم كيده، ويدبر أمره لينال المنصب والجاه، أو ليحوز النفوذ والسلطان؛ طلباً لسعادةٍ وعزةٍ وعظمةٍ في هذه الحياة، وكثيرون آخرون يتفننون ويبتكرون، ويقبلون ويدبرون من أجل أن يفوزوا بقلب فتاة حسناء؛ طلباً للذة من لذات هذه الحياة.
ويضرب الناس شرقاً وغرباً، ويذهبون يميناً وشمالاً، كلهم في هذه الحياة يبغى السعادة والهناء، يبحث عما ترغب فيه نفسه، ويطرب له قلبه وتسكن إليه جوانحه، وتطمح له آماله، وكثيرٌ من هؤلاء قد يحوزون من الأموال الشيء الكثير، وقد ينالون من الجاه أعظمه وأكثره، وقد يفوزون من لذائذ الدنيا بأحلاها وأجملها، ومع ذلك ترى في صدورهم حرجاً، وترى في نفوسهم غماً وهماً، وترى على قلوبهم قتراً وظلماً وظلاماً، لا يجدون طعماً للراحة، ولا يجدون لذةً للحياة إذا كانوا بعيداً عن الإيمان بالله عز وجل، وعن لذة الطاعات، بعيداً عن سعادة العبودية لله سبحانه وتعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى * وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:123-124] آيات قلائل من كتاب الله عز وجل تفسر سر هذا البحث الدءوب عن هذا الكنز الثمين في هذه الحياة العريضة من أولئك البشر الذين لا يحصي عددهم إلا الله سبحانه وتعالى: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] فتش في شرق الأرض وغربها، اذهب إلى أي بقعة من بقاع الأرض، ابحث في أي جنسٍ من الأجناس ستجد القاعدة القرآنية الربانية: فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى [طه:123] والتعبير القرآني بصيغة المضارع الذي يتجدد دائماً، والحكم القرآني مطرد لا يتخلف، والوعد الرباني ثابتٌ لا يتغير: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا وَنَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ أَعْمَى [طه:124] والتنكير مع التنوين للتعميم، أي: معيشة في كل جانبٍ من جوانب الحياة، معيشة اقتصاد، معيشة اجتماعٍ، معيشة سياحة، كلها ستكون ضنكاً في كل صور الضنك التي يراها الناس أو لا يرونها، يلمسونها ويشعرون بها أو لا يلمسونها.
وهكذا يجد المؤمن أن عنده السر الذي يفقده الكثيرون، والضياء الذي يخبط لفقده الكثيرون، والنعمة التي قال عنها أسلافنا: لو علمها الملوك وأبناء الملوك لجالدونا عليها بالسيوف، نعمة الإيمان، ولذة الطاعة، وحلاة العبودية، نعمة الاستقامة أمرٌ عظيمٌ نغفل عنه، وربما لا نقدر قدره، والناس يتيهون بحثاً عنه وهو بين أيدينا، كتابٌ تتلى آياته من الله سبحانه وتعالى، فيه الهدى والنور: إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَيُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْرًا كَبِيرًا [الإسراء:9] وسنةٌ للمصطفى صلى الله عليه وسلم تشرق أنوارها في كل جانب من جوانب الحياة، وتضيء معالمها كل درب من دروب هذه الدنيا بهديٍ تام كامل، وسيرةٍ نقية عطرة للمصطفى صلى الله عليه وسلم: (تركت فيكم ما إن تمسكتم به لن تضلوا بعدي أبداً، كتاب الله وسنتي) هذا الذي بين أيدينا هي الكنوز والمفاتيح التي بها تشرق أنوار القلوب، وتنشرح الصدور، وتضاء النفوس وتطمئن، وتهدى العقول، وترشد البصائر، فما بال أمة الإسلام يعتريها ما يعتريها مما ألم بغيرها ممن أعرض عن ذكر الله عز وجل؟ إنه بقدر بعدها عن كتاب الله وسنة رسول الله صلى الله عليه وسلم، وبقدر تركها لمنهج السعادة الربانية الذي رسمه الله عز وجل وشرعه في هذا الإسلام، وفي رسالة محمد صلى الله عليه وسلم:
أملٌ هفت إليه قلوب الناس في الزمن التليد
أملٌ له غور القديم كما له سحر الجديد!
أملٌ إليه سعى الملوك كما إليه رنا العبيد!
وتزاحموا كالهيم يدفعها الصدى عند الورود
وتساءلوا عنه ولكن من يجيب ومن يفيد؟
فمشرقٌ ومغربٌ وكلاهما يرجو البعيد
عادوا وكل سؤالهم أين السعادة والسعيد؟
قالوا السعادة في الغنى فأخو الثراء هو السعيد
قالوا السعادة في النفوذ وسلطة الجاه العتيد
قالوا السعادة في الغرام الحلو في خصرٍ وجيد
قالوا السعادة في السكون وفي الخمول وفي الخمود!
قل للذي يبغي السعادة هل عملت من السعيد؟
إن السعادة أن تعيش لفكرة الحق التليد
هذي العقيدة للسعيد هي الأساس هي العمود
من عاش يحملها ويهتف باسمها فهو السعيد
من عاش في ظلال الإيمان، وفي طاعة الرحمن، وفي نصر ة الإيمان، فهو الذي يكون سعيداً بإذن الله عز وجل.
لنلتفت إلى كتاب ربنا وسنة نبينا، لنرى إشراقات الأنوار التي تدلنا على سعادة القلوب وسكينة النفوس، التي يبحث عنها الناس اليوم وقد رأيت أثر الهموم على وجوههم سواداً وظلاماً، وعلى أجسامهم كهولة وانحناء، وفي كلماتهم تضجراً وتبرماً، وفي أعمالهم نزقاً وطيشاً، ما وجدوا برد اليقين في قلوبهم، ما وجدوا لذة الحياة الإيمانية في نفوسهم.
فهذه آيات القرآن تشرق علينا حتى تبدد هذه الظلمات التي تكاثفت من أثر الشهوات والشبهات، ومن أثر البعد عن أنوار القرآن وسنة النبي العدنان صلى الله عليه وسلم: مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاةً طَيِّبَةً وَلَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ [النحل:97].
سعادة الحياة لا تكون إلا بالعمل الصالح، والإخلاص لله سبحانه وتعالى، والمؤمن يجد السعادة لأن له وجهة واحدة، وغاية واحدة، وعبودية واحدة لا تتفرق مشاعره، ولا تضطرب خفقات قلبه بمشاعر متباينة كغيره من الذين لا يخافون الله فيخافون من كل شيءٍ سوى الله، ولا يتعلقون بالرجاء لله فيرجون كل أحدٍ سواه، فيبقون في هذه الحياة في اضطراب.
أما المؤمن فأساس سعادته إيمانه بربٍ واحد، له يخشع، وله يخضع، وله يحب، ولأجله يبغض، وفيه يوالي، وفيه يعادي، فهو قد توحدت جهته قال تعالى: وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56] قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَنُسُكِي وَمَحْيَايَ وَمَمَاتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * لا شريك له وبذلك أمرت وأنا أول المسلمين [الأنعام:162-163].
لا شيء في هذه الحياة عند المؤمن إلا وهو لله، فالمال مالُ الله .. والولد والذرية من رزق الله .. وكل شيءٍ في هذه الحياة ينبغي أن يجعله طاعة وعبوديةً لله، فتنتظم الحياة كلها، ليس فيها دنيا وأخرى متباينتان مختلفتان، وإنما هما متوائمتان متلاقيتان إحداهما يعمل فيها ويحرث، والأخرى يجني فيها ويحصد بإذن الله عز وجل، فتكون نفسه مطمئنة، وقلبه قد توحد مع وجهته ولم شعثه، ولم يعد له في هذه الحياة من قصد وغاية إلا رضا الله سبحانه وتعالى.
تحقيق الأمن والطمأنينة
لأن صاحب المال والجاه إذا كان يعيش في خوف ورعب لا يسعد بماله ولا بجاهه، بل ربما يطلب سكينة ساعة وهدوء يوم ولو بذل في ذلك ماله كله، والمؤمن قد وعده الله عز وجل في دنياه وأخراه بالأمن والطمأنينة: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62-64].
وفي الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) حتى قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، يكون ربانياً يحظى بوعد الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] يحظى بتحقيق وعد الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ألم نر الصحابة رضوان الله عليهم وهم كوكبة نجوم حول القمر الساطع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقابلون المصاعب والشدائد وقلوبهم أثبت من الجبال الشوامخ، لا يهتزون ولا يخافون لأن الإيمان قد سكب في قلوبهم أمناً وطمأنينة، والله سبحانه وتعالى قد قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] ترى طمأنينة المؤمن، وسكينة نفسه، وهدوء باله من أثر إيمانه وتعلقه بربه سبحانه وتعالى.
ألم نر تلك المواقف العصيبة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم من مثل يوم الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] في ذلك الموقف العصيب يكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويبشر أصحابه، فتنزل بشرياته طمأنينة على القلوب، وأمناً وسكينة في النفوس، فلا تجد المؤمن جزعاً ولا هلعاً ولا خائفاً؛ لأن أمن الإيمان هو أعظم أمن يمكن أن يكون، لا يمكن أن يكون الأمن بالقوة ولا بالشرط، ولا بالأجهزة، ولا بالمتابعة، وإنما الأمن أمن الإيمان الذي يراقب فيه العبد ربه، ويخلص فيه لمولاه، ويسعى فيه لرضا الله سبحانه وتعالى، فتعود الحياة كما كانت في عهد أسلافنا رضوان الله عليهم حياة أمن وأمان، وسلامة وإسلام، ليس فيها هذا العدوان، ليس فيها هذا الإجرام، ليس فيها هذا الكيد والمكر السيئ الذي امتلأت به دنيا الناس اليوم، فلم يعد أحدٌ يطمئن إلى جار، ولا يأمن إلى صديق، فضلاً عن أن يركن إلى غريب أو بعيد، ولذلك تبقى الحياة شعلة من نار، وتبقى جمرة من شقاء عندما يفقد الناس الأمن، وعندما يفقدون الطمأنينة، ولا أمن إلا في ظلال الإسلام، وبتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
انشراح الصدر وسكينة النفس
هذه أيضاً ربما لا يشعر بها كثير من أهل الإيمان والإسلام لأنهم قد ألفوها، لكنهم لو رأوها في الذين اضطربت نفوسهم، وحرجت صدورهم، فضاقت الدنيا رغم سعتها في وجوههم، وأظلمت رغم أنوارها في أعينهم، فعاد الواحد منهم ينتحر كما نرى في دول الكفر، أو يقتل أبناءه، أو يقتل زوجته، أو ما نرى من صور الاضطراب والحيرة وضيق الصدر والتبرم؛ لأن هذا الذي قد بعد عن الإيمان وطاعة الرحمن فقد أساس سكينة نفسه، فلا يعود منتظماً في تصرفاته، ولا يعود منطقياً ولا فطرياً في أفعاله، ولذلك قد آتى الله عز وجل أهل الإيمان النور الذي يبعث الضياء في الصدر والقلب، فيكون حينئذ على بينة من ربه قال تعالى: أَوَمَنْ كَانَ مَيْتًا فَأَحْيَيْنَاهُ وَجَعَلْنَا لَهُ نُورًا يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُمَاتِ لَيْسَ بِخَارِجٍ مِنْهَا [الأنعام:122] الذي في الظلمات لا بد أن يخبط خبط عشواء، لا بد أن يقع في حفرة، لا بد أن يأتي ليضرب فتقع ضربته في غير موضعها، بل ربما ترتد إليه، وهكذا يقع حال المتخبط بعيداً عن الإيمان.
حب العبادة وأداء الطاعة
وحسبنا في ذلك قول النبي صلى الله عليه وسلم الذي يبين لنا تلك اللذة العظيمة عندما يقول: (وجعلت قرة عيني في الصلاة) وعندما كان ينادي بلالاً: (أرحنا بها يا
فتح أبواب الرزق
أهل الإيمان لا ينظرون إلى هذا، ومع ذلك جاء الوعد الرباني الذي جعله الله عز وجل سنةً في هذه الحياة، إن فمورد الرزق وطريقه، وأبواب هذه الحياة الدنيا إنما تستفتح بطاعة الله عز وجل، إن مقاليد الرزق هي الطاعات والعبادات لله عز وجل، ألم نسمع حديث النبي صلى الله عليه وسلم الذي يقول فيه كما في صحيح البخاري: (من أراد أن يبسط له في رزقه وينسأ له في أثره، فليصل رحمه)، ربط هذا بهذا، وقال الله عز وجل كما في قصة نوح: فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كَانَ غَفَّارًا * يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا * وَيُمْدِدْكُمْ بِأَمْوَالٍ وَبَنِينَ وَيَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَيَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهَارًا [نوح:10-12].
إن الطاعة من أبواب الرزق العظيمة: وَلَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرَى آمَنُوا وَاتَّقَوْا لَفَتَحْنَا عَلَيْهِمْ بَرَكَاتٍ مِنَ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ وَلَكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْنَاهُمْ بِمَا كَانُوا يَكْسِبُونَ [الأعراف:96]، هكذا يبين لنا القرآن هذه القاعدة، والنبي عليه الصلاة والسلام قد قال: (لو أنكم تتوكلون على الله حق التوكل لرزقكم كما يرزق الطير، تغدو خماصاً وتروح بطاناً)، لو أن الناس تعلقوا بالله، وأخلصوا لله، وأيقنوا بوعد الله، وجعلوا وقتهم وجهدهم وطاقتهم في طاعة الله، ولم يرتكبوا ما حرم الله؛ لفتح لهم الله عز وجل من أبواب الرزق ما لا يحتسبون؛ لأن الله عز وجل قال: وَمَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجًا * وَيَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ [الطلاق:2-3].
ونعلم أيضاً أن أبواب الرزق ليست في كثرتها، وإنما في بركته، فكم من كثيرٍ ممحوق البركة لا ينفع ولا يفيد! وكم من قليلٍ يجعل الله عز وجل فيه البركة! ويرزق العبد المؤمن معه الرضا بما قسم الله له فيكون هناءةً على هناءته، وسعادة على سعادته.
فافهم أخي المؤمن وتنبه إلى ما وعد به الرسل أقوامهم عندما يوجهون إليهم دعوتهم، كما قال نوح ، وكما قال غيره في قوله عز وجل: وَأَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتَاعًا حَسَنًا إِلَى أَجَلٍ مُسَمًّى وَيُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ [هود:3]، وقال جل وعلا: وَيَا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّمَاءَ عَلَيْكُمْ مِدْرَارًا وَيَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلَى قُوَّتِكُمْ وَلا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ [هود:52].
هكذا أيضاً ينبغي أن ندرك أن حظ هذه الحياة الدنيا إنما يدرك بالطاعة والإيمان، فنسأل الله عز وجل أن يعطينا أعطيات الإيمان، وأن يفتح لنا أبواب العطاء من خلال الطاعة، ومن خلال العبودية والإخلاص لله سبحانه وتعالى.
اللهم إنا نسألك أن تفتح لنا أبواب الخير والرزق، وأن تجعل قلوبنا بالإيمان مطمئنة، وأن تجعل صدورنا بالإسلام منشرحة، وأن تجعل نفوسنا بما أعطيتنا راضية طامعة.
أقول هذا القول وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنبٍ، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.
وثانية عظيمة من عظائم السعادة، وكبيرة من كبائر أسبابها وأسسها: الأمن والطمأنينة:
لأن صاحب المال والجاه إذا كان يعيش في خوف ورعب لا يسعد بماله ولا بجاهه، بل ربما يطلب سكينة ساعة وهدوء يوم ولو بذل في ذلك ماله كله، والمؤمن قد وعده الله عز وجل في دنياه وأخراه بالأمن والطمأنينة: أَلا إِنَّ أَوْلِيَاءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا وَكَانُوا يَتَّقُونَ * لَهُمُ الْبُشْرَى فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَفِي الآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِمَاتِ اللَّهِ ذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [يونس:62-64].
وفي الحديث القدسي: (من عادى لي ولياً فقد آذنته بالحرب) حتى قال: (ولا يزال عبدي يتقرب إليَّ بالنوافل حتى أحبه، فإذا أحببته كنت سمعه الذي يسمع به، وبصره الذي يبصر به، ورجله التي يمشي بها، ويده التي يبطش بها، ولئن سألني لأعطينه، ولئن استعاذني لأعيذنه)، يكون ربانياً يحظى بوعد الله عز وجل: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38] يحظى بتحقيق وعد الله عز وجل: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُمْ وَيُثَبِّتْ أَقْدَامَكُمْ [محمد:7] ألم نر الصحابة رضوان الله عليهم وهم كوكبة نجوم حول القمر الساطع نبينا محمد صلى الله عليه وسلم، يقابلون المصاعب والشدائد وقلوبهم أثبت من الجبال الشوامخ، لا يهتزون ولا يخافون لأن الإيمان قد سكب في قلوبهم أمناً وطمأنينة، والله سبحانه وتعالى قد قال: الَّذِينَ آمَنُوا وَلَمْ يَلْبِسُوا إِيمَانَهُمْ بِظُلْمٍ أُوْلَئِكَ لَهُمُ الأَمْنُ وَهُمْ مُهْتَدُونَ [الأنعام:82] ترى طمأنينة المؤمن، وسكينة نفسه، وهدوء باله من أثر إيمانه وتعلقه بربه سبحانه وتعالى.
ألم نر تلك المواقف العصيبة التي مرت بالنبي صلى الله عليه وسلم من مثل يوم الأحزاب: إِذْ جَاءُوكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَمِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَإِذْ زَاغَتِ الأَبْصَارُ وَبَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَنَاجِرَ وَتَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا [الأحزاب:10] في ذلك الموقف العصيب يكبر النبي صلى الله عليه وسلم، ويبشر أصحابه، فتنزل بشرياته طمأنينة على القلوب، وأمناً وسكينة في النفوس، فلا تجد المؤمن جزعاً ولا هلعاً ولا خائفاً؛ لأن أمن الإيمان هو أعظم أمن يمكن أن يكون، لا يمكن أن يكون الأمن بالقوة ولا بالشرط، ولا بالأجهزة، ولا بالمتابعة، وإنما الأمن أمن الإيمان الذي يراقب فيه العبد ربه، ويخلص فيه لمولاه، ويسعى فيه لرضا الله سبحانه وتعالى، فتعود الحياة كما كانت في عهد أسلافنا رضوان الله عليهم حياة أمن وأمان، وسلامة وإسلام، ليس فيها هذا العدوان، ليس فيها هذا الإجرام، ليس فيها هذا الكيد والمكر السيئ الذي امتلأت به دنيا الناس اليوم، فلم يعد أحدٌ يطمئن إلى جار، ولا يأمن إلى صديق، فضلاً عن أن يركن إلى غريب أو بعيد، ولذلك تبقى الحياة شعلة من نار، وتبقى جمرة من شقاء عندما يفقد الناس الأمن، وعندما يفقدون الطمأنينة، ولا أمن إلا في ظلال الإسلام، وبتحكيم شرع الله سبحانه وتعالى: فَمَنْ تَبِعَ هُدَايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَلا هُمْ يَحْزَنُونَ [البقرة:38].
استمع المزيد من الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح - عنوان الحلقة | اسٌتمع |
---|---|
رمضان ضيفنا المنتظر | 2909 استماع |
المرأة بين الحرية والعبودية | 2732 استماع |
فاطمة الزهراء | 2699 استماع |
الكلمة مسئوليتها وفاعليتها | 2630 استماع |
المرأة والدعوة [1] | 2543 استماع |
عظمة قدر النبي صلى الله عليه وسلم | 2534 استماع |
غزوة أحد مواقف وصور | 2534 استماع |
قراءة في دفاتر المذعورين | 2488 استماع |
خطبة عيد الفطر | 2469 استماع |
التوبة آثار وآفاق | 2453 استماع |