خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/239"> الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/239?sub=62913"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
موسم الأجر في الأيام العشر
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله حمداً كثيراً طيباً مباركاً فيه، نحمده سبحانه وتعالى على نعمة الأمن والإيمان، والسلامة والإسلام، والهداية والاستقامة، ونسأل الله جل وعلا المزيد من فضله، والعظيم الجليل من نعمه، ونصلي ونسلم على خير خلق الله، وخاتم رسل الله، نبينا محمد بن عبد الله، وعلى آله وصحابته ومن اتبع هداه، وعلى من سار واقتفى واهتدى بهداه عليه الصلاة والسلام.
أما بعد:
أيها الإخوة الكرام! سلام الله عليكم ورحمته وبركاته، هذا لقاؤنا المتجدد معكم في يوم الجمعة الموافق التاسع والعشرين من شهر ذي القعدة عام (1418هـ) مع الدرس الثاني والستين بعد المائة الأولى، وعنوان درس هذا اليوم: عشر ذي الحجة مسائل وفضائل.
ونحن نقارب توديع هذا الشهر شهر ذي القعدة، ونستقبل خلال يوم أو يومين شهر ذي الحجة، نقف مع هذه الأيام الفاضلة لنرى بعض فضائلها والأعمال الواردة فيها، وبعض المسائل التي ذكرها أهل العلم بشأنها.
وأول ما نبدأ به مسألة مهمة: لا تخصيص إلا بتنصيص: فجعل خصوصية لزمان بعينه أو لمكان بعينه أو لقول بلفظه أو لعمل بخصوصه، ليس له سبيل ولا مدخل إلا عن الله عز وجل وبتبليغ رسوله صلى الله عليه وسلم، فليس لأحد أن يخص من الأزمنة زماناً ويدعي له فضلاً أو ينسب له مزايا، فإن هذا ليس لأحد من الخلق، قال الحق جل وعلا: وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاءُ وَيَخْتَارُ [القصص:68] فالاختيار والتخصيص حق لله سبحانه وتعالى، به فرق الله عز وجل بين بعض بقاع الأرض وإن استوت في طبيعتها، فكلها واحدة وطبيعتها واحدة، لكن الله جل وعلا فضل بعضها على بعض، وجعل لمكة وللمدينة من الفضيلة والأجر والثواب ما ليس لغيرهما، وفضل من الشهور رمضان، وفضل من الأيام أياماً سيأتي ذكر بعضها كيوم النحر ويوم عرفة وغير ذلك، وفضل في الأزمان أزماناً بعينها، فجعل وقت السحر والثلث الأخير من الليل فاضلاً على غيره من سائر أوقات اليوم: (وجعل في يوم الجمعة ساعة لا يوافقها عبد مؤمن فيسأل الله شيئاً من أمر الدنيا والآخرة إلا آتاه الله إياه) كما ورد في الحديث الصحيح عن رسول الله صلى الله عليه وسلم.
والذي يدل أيضاً على هذا التخصيص أنه لا يكون إلا بتنصيص، أنه قد تكاثرت النصوص بتبليغ النبي صلى الله عليه وسلم لفضائل معينة، فجاءت فضائل كثيرة في فضل يوم الجمعة، ووردت أيضاً خصائص لبعض الأيام كهذه الأيام التي نحن بصدد الحديث عنها، وورد أيضاً عن النبي صلى الله عليه وسلم تفضيل أقوال بعينها كما في حديث أم المؤمنين جويرية رضي الله عنها التي كانت تذكر الله عز وجل، فخرج النبي عليه الصلاة والسلام من عندها ثم رجع وهي ما زالت في مجلس ذكرها فقال: (أما زلت على ما كنت عليه حين فارقتك؟! قالت: نعم، فقال: لقد قلت آنفاً كلمات تعدل ذلك كله: سبحان الله وبحمده: عدد خلقه، ورضا نفسه، وزنة عرشه، ومداد كلماته) فجعل النبي عليه الصلاة والسلام لهذه الأقوال فضيلة بعينها.
وقد ورد عنه عليه الصلاة والسلام تخصيص أذكار بعينها، لأدواء بعينها، فذكر للأرق، وذكر عند الهم والغم ونحو ذلك، فكل هذا التخصيص كله جاء بتنصيص يدلنا على هذا. وقد ورد إبطال تخصيص سابق أو تخصيص منفرد جاء النبي عليه الصلاة والسلام فأبطله وغيره، مما يدل على أنه ليس لأحد مدخل في ذلك إلا بتبليغ الشارع الحكيم، فقد جاء النبي عليه الصلاة والسلام إلى المدينة ولهم عيدان فأبطل ذلك وقال: (لنا أهل الإسلام عيدان) فخص ذلك وأبطل ما سواه.
وكذلك كان لهم في بعض الأيام أعمال، كما ورد أنه عليه الصلاة والسلام قدم المدينة وهم يصومون عاشوراء مع اليهود فقال: (نحن أحق بموسى منهم، فصامه وأمر بصيامه) فهذا كله يدل على أنه لا تخصيص إلا بتنصيص.
وقد وقع الناس في الخلل عندما لم تفهم هذه المسألة، ولم يلتزم بعض المسلمين بها، فصار بعضهم يأتينا بقول من عنده، فقائل بفضيلة معينة في ليلة الإسراء والمعراج، وقائل بفضيلة بصيام في أول رجب أو في أثناء رجب، وقائل بفضيلة لمكان معين أو مزار معين أو قبر معين أو غير ذلك، ولي في ذلك كله آية من كتاب الله ولا سنة من رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم يتنادون له ويجتمعون عليه، فتعظم بذلك الفتنة، وتنتشر البدعة، وتضعف السنة.
وقد كان السلف رضوان الله عليهم يشددون النكير في هذا، ويحذرون منه أشد التحذير؛ لأنه يتناقض مع إكمال الدين وإتمام النعمة والرضا بالإسلام، والزيادة -أيها الإخوة الأحبة- كالنقص؛ لأن ادعاء الزيادة في دين الله عز وجل اتهام -والعياذ بالله- بنقص الدين، جاء هذا فزاد عليه أو استدرك وكأن النبي صلى الله عليه وسلم لم يبلغ ما آتاه الله إياه، وهذه مسائل خطيرة يتهاون بها بعض الناس، ويظنونها أمراً هيناً، وهذه قصة للإمام مالك رحمه الله لما جاءه السائل وهو في مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم يسأله عن ميقات أهل المدينة فأخبره، فقال الرجل وهو منصرف: لأحرمن من مسجد رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال الإمام مالك : إنها والله الفتنة، فعاد الرجل وقال: وأي فتنة يا أبا عبد الله؟! إنما هي أميال أزيدها، أحرم من المدينة فتزداد مسافتي وأنا محرم فأنال الأجر، قال: الفتنة أن تظن أنك تعمل عملاً تفضل فيه رسول الله صلى لله عليه وسلم، ونحن نعلم أنه قد بلغنا كل شيء عليه الصلاة والسلام، ودلنا على الفضيلة في كل عمل وفي كل وقت وفي كل مكان، فالزيادة في مثل هذا طعن في بلاغه عليه الصلاة والسلام وجحد أو إنقاص لنبوته صلى لله عليه وسلم.
فلينتبه لهذا خاصة وأنه قد انتشر في بعض البيئات والبلاد والمجتمعات الإسلامية.
ننتقل إلى فضيلة عامة تتعلق بالأشهر الحرم، وبعد ذلك ننتقل إلى ما سواها من فضائل، الله عز وجل قال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنَا عَشَرَ شَهْرًا فِي كِتَابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ مِنْهَا أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ [التوبة:36] هذه الحرم الأربعة هي الثلاثة المتتابعة: ذو القعدة، وذو الحجة، ومحرم، ورجب الفرد؛ يسمونه الفرد لأنه منفرد عن هذه الثلاثة في تتابعها، وقد جعلت هذه الأشهر حرماً، وكل الأشهر يحرم فيها ما حرمه الله ويعظم فيها ما عظمه الله، ولكن كانت هذه عند الجاهلية معظمة لا يمسون فيها أعداءهم، ويمسكون فيها عن الاعتداء أو عن الحرب فيها ونحو ذلك، فجعلها الإسلام كذلك أشهراً معظمة محرمة في جملتها، ولا يضاف إلى ذلك شيء لم يكن داخلاً في عموم التشريع من الإسلام، وقد ورد عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه سأله سائل عما يصومه بعد رمضان فقال: (صم من شهر الله المحرم).
وردت روايات كثيرة في عموم تفضيل أيام العشر من ذي الحجة التي نحن بصدد استقبالها، وقد ورد تفضيلها وتعظيمها في قول الله عز وجل وَالْفَجْرِ * وَلَيَالٍ عَشْرٍ * وَالشَّفْعِ وَالْوَتْرِ [الفجر:1-3] إلى آخر الآيات.
قال ابن كثير في تفسيره: (والليالي العشر المراد بها عشر ذي الحجة) كما قال ابن عباس ، وابن الزبير ، ومجاهد ، وغير واحد من السلف والخلف.
وقد ثبت في الصحيح عن ابن عباس مرفوعاً: (ما من أيام العمل الصالح أحب إلى الله فيهن من هذه الأيام) يعني: عشر ذي الحجة.
وروى البخاري عن ابن عباس تعليقاً: (أن المراد بالعشر عشر ذي الحجة) وقد ذُكرت أقوال أخرى منها: أن المراد بالعشر هي العشر الأول من محرم ذكره ابن جرير كما قال ابن كثير ولم ينسبه لأحد، ومنهم من قال: هي العشر الأول من شهر رمضان، والصحيح هو القول الأول الذي عليه الدلالات، وقد ورد في مسند الإمام أحمد من حديث أبي الزبير عن جابر عن النبي صلى الله عليه وسلم قال: (إن العشر عشر الأضحى) قال المحقق: وهذا إسناد رجاله لا بأس بهم عندي، والمتن في رفعه نكارة، لكن عموم ما ورد عن بعض الصحابة يؤيده، والقول الراجح والشائع عند جمهور العلم في شأن هذه العشر أنها عشر ذي الحجة.
وأما وجه التفضيل لها فهو أنها دخلت في القسم الرباني، والله عز وجل له أن يقسم بما شاء من مخلوقاته، وما يقسم به الله عز وجل فهو عظيم شريف، فقسمه سبحانه وتعالى بما يقسم به إشارة إلى التعظيم والتشريف.
فضل الأعمال الصالحة في هذه العشر
هذا الحديث هو أجل وأظهر وأعظم حديث في فضيلة العشر، وهو حديث في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة المشهورة، ووجه عظمته؛ لما ورد فيه من الإطلاق الذي لم تستثن منه إلا صورة محددة بعينها، نادرة في وقوعها، قليلة في حدوثها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: ما من يوم من الأيام في كل العام أو في سائر العام العمل الصالح يكون فيه أفضل من هذه العشر، فهو تفضيل فيه معنى الإطلاق، وفيه معنى الشمول.
وأما كونه عظيماً فلكونه فضل على الجهاد، وهو عمل كلنا نعلم فضيلته، وقد عده بعض أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام؛ لأن به تحفظ الأركان الخمسة ويسعى لنشرها، ويذاد عنها، قال بعض الشراح: إذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيها وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ومعنى ذلك: أن العمل المفضول الذي رتبته أقل يمكن أن يصبح هو الأفضل عندما يؤدى في هذه الأيام؛ لعموم فضيلتها، وعظمة فضيلتها كما أشرنا، وتأكيد هذا التفضيل بالمقارنة بالجهاد.
وسؤال الصحابة رضوان الله عليهم يدل على عظمة الجهاد وعظمة مثوبته: (فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد؟) فالجهاد عندهم من أعظم الأعمال أجراً، فاستعظموا أن تكون فضيلة هذه الأيام أعظم، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام (أي الجهاد أفضل؟ فقال: من عقر جواده، وأهريق دمه)، فصاحبه أفضل الناس درجة عند الله.
وكذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يدعو ويقول في دعائه: (اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال عليه الصلاة والسلام: إذن يعقر جوادك وتستشهد) فهذا هو العمل الذي استثني على وجه الخصوص.
وقد ورد في الحديث بعض روايات أخرى في بعضها مع صحتها مزيد من الفوائد، وفي بعضها مع ضعفها تنبيه على ما قد يمر بالإنسان من رواية غير مقبولة عند أهل العلم، من هذه الروايات ما ذكر في مسند الإمام أحمد من ذكر بعض الأعمال التي على الإنسان أن ينشغل به في هذه العشر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن عمر في مسند الإمام أحمد (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
وقد ورد أيضاً زيادة في رواية ابن عباس وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة) ولكن هذه الزيادة إسنادها ضعيف.
وقد روي من حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بقيام ليلة القدر) وهذا حديث ضعفه أهل العلم ولم يصححوه.
وقد رويت آثار عن الصحابة في فضل العشر منها عن ابن عمر أنه قال: (ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر -يعني: باستثناء العشر- فإن العمل فيها يعدل عمل سنة) وهذه رواية عن صحابي.
ننتقل إلى فضيلة أخرى في ذكر عموم هذا الفضل مع تخصيصه، عن ابن عمر عند الإمام أحمد مرفوعاً: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر)، وأيضاً في صحيح ابن حبان من رواية جابر : (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة) وأيضا رويت زيادة في هذه الرواية: (ولا ليالي أفضل من لياليهن، فقال بعضهم: أهي أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قال: هي أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله، إلا من عفر وجهه تعفيراً، وما من يوم أفضل من يوم عرفة) أخرجه أبو موسى المديني وغيره، وفي بعض الروايات في مسند البزار عن جابر (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) وهذه الروايات في مجملها تشير إلى عموم الفضيلة دون فضيلة العمل.
لاشك أن فضيلة العمل في أيام العشر دليل على فضيلتها، ولكن هذه النصوص التي أوردناها تدل على إطلاق الفضيلة في زمانها وأعمالها وكل ما يلحق بها، حتى يكون فيها شيء من الخير والبركة بإذن الله سبحانه وتعالى.
وقد روي عن كعب أنه قال: (اختار الله الزمان، وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله شهر ذي الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول). وقد روي هذا مرفوعاً ولا يصح رفعه.
الفضيلة المشهورة لهذه العشر ما ورد في الحديث الذي خرجه البخاري عن ابن عباس مرفوعاً: (ما من أيام العمل الصالح فيها أحب إلى الله من هذه الأيام- يعني: أيام العشر الأول من ذي الحجة - قالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد في سبيل الله؟ قال: ولا الجهاد في سبيل الله إلا رجلاً خرج بنفسه وماله ثم لم يرجع من ذلك بشيء) أي: خرج بنفسه وماله فذهب ماله وأزهقت روحه في سبيل الله عز وجل، كما جاء في الحديث الآخر: (من أعظم الناس أجراً رجل خرج بماله وفرسه، فذهب ماله، وعقر فرسه، وأزهقت روحه، كل ذلك في سبيل الله) فهذا استثني من ذلك، ولنا مسائل في هذا الاستثناء.
هذا الحديث هو أجل وأظهر وأعظم حديث في فضيلة العشر، وهو حديث في صحيح البخاري وغيره من كتب السنة المشهورة، ووجه عظمته؛ لما ورد فيه من الإطلاق الذي لم تستثن منه إلا صورة محددة بعينها، نادرة في وقوعها، قليلة في حدوثها، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام) والنكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: ما من يوم من الأيام في كل العام أو في سائر العام العمل الصالح يكون فيه أفضل من هذه العشر، فهو تفضيل فيه معنى الإطلاق، وفيه معنى الشمول.
وأما كونه عظيماً فلكونه فضل على الجهاد، وهو عمل كلنا نعلم فضيلته، وقد عده بعض أهل العلم ركناً سادساً من أركان الإسلام؛ لأن به تحفظ الأركان الخمسة ويسعى لنشرها، ويذاد عنها، قال بعض الشراح: إذا كان العمل في أيام العشر أفضل وأحب إلى الله من العمل في غيره من أيام السنة كلها، صار العمل فيها وإن كان مفضولاً أفضل من العمل في غيرها وإن كان فاضلاً، ومعنى ذلك: أن العمل المفضول الذي رتبته أقل يمكن أن يصبح هو الأفضل عندما يؤدى في هذه الأيام؛ لعموم فضيلتها، وعظمة فضيلتها كما أشرنا، وتأكيد هذا التفضيل بالمقارنة بالجهاد.
وسؤال الصحابة رضوان الله عليهم يدل على عظمة الجهاد وعظمة مثوبته: (فقالوا: يا رسول الله! ولا الجهاد؟) فالجهاد عندهم من أعظم الأعمال أجراً، فاستعظموا أن تكون فضيلة هذه الأيام أعظم، وقد سئل النبي عليه الصلاة والسلام (أي الجهاد أفضل؟ فقال: من عقر جواده، وأهريق دمه)، فصاحبه أفضل الناس درجة عند الله.
وكذلك سمع النبي عليه الصلاة والسلام رجلاً يدعو ويقول في دعائه: (اللهم أعطني أفضل ما تعطي عبادك الصالحين، فقال عليه الصلاة والسلام: إذن يعقر جوادك وتستشهد) فهذا هو العمل الذي استثني على وجه الخصوص.
وقد ورد في الحديث بعض روايات أخرى في بعضها مع صحتها مزيد من الفوائد، وفي بعضها مع ضعفها تنبيه على ما قد يمر بالإنسان من رواية غير مقبولة عند أهل العلم، من هذه الروايات ما ذكر في مسند الإمام أحمد من ذكر بعض الأعمال التي على الإنسان أن ينشغل به في هذه العشر، وهو قوله صلى الله عليه وسلم كما في رواية ابن عمر في مسند الإمام أحمد (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد).
وقد ورد أيضاً زيادة في رواية ابن عباس وهي قوله صلى الله عليه وسلم: (والعمل فيهن يضاعف بسبعمائة) ولكن هذه الزيادة إسنادها ضعيف.
وقد روي من حديث أبي هريرة عند الترمذي وابن ماجة عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: (ما من أيام أحب إلى الله أن يتعبد له فيها من عشر ذي الحجة، يعدل صيام كل يوم منها بسنة، وكل ليلة منها بقيام ليلة القدر) وهذا حديث ضعفه أهل العلم ولم يصححوه.
وقد رويت آثار عن الصحابة في فضل العشر منها عن ابن عمر أنه قال: (ليس يوم أعظم عند الله من يوم الجمعة، ليس العشر -يعني: باستثناء العشر- فإن العمل فيها يعدل عمل سنة) وهذه رواية عن صحابي.
ننتقل إلى فضيلة أخرى في ذكر عموم هذا الفضل مع تخصيصه، عن ابن عمر عند الإمام أحمد مرفوعاً: (ما من أيام أعظم عند الله ولا أحب إليه العمل فيهن من هذه الأيام العشر)، وأيضاً في صحيح ابن حبان من رواية جابر : (ما من أيام أفضل عند الله من أيام عشر ذي الحجة) وأيضا رويت زيادة في هذه الرواية: (ولا ليالي أفضل من لياليهن، فقال بعضهم: أهي أفضل من عدتهن جهاد في سبيل الله؟ قال: هي أفضل من عدتهن جهاداً في سبيل الله، إلا من عفر وجهه تعفيراً، وما من يوم أفضل من يوم عرفة) أخرجه أبو موسى المديني وغيره، وفي بعض الروايات في مسند البزار عن جابر (أفضل أيام الدنيا أيام العشر) وهذه الروايات في مجملها تشير إلى عموم الفضيلة دون فضيلة العمل.
لاشك أن فضيلة العمل في أيام العشر دليل على فضيلتها، ولكن هذه النصوص التي أوردناها تدل على إطلاق الفضيلة في زمانها وأعمالها وكل ما يلحق بها، حتى يكون فيها شيء من الخير والبركة بإذن الله سبحانه وتعالى.
وقد روي عن كعب أنه قال: (اختار الله الزمان، وأحب الزمان إلى الله الأشهر الحرم، وأحب الأشهر الحرم إلى الله شهر ذي الحجة، وأحب ذي الحجة إلى الله العشر الأول). وقد روي هذا مرفوعاً ولا يصح رفعه.
حكم صيام أيام العشر من ذي الحجة
ورد عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) وفي رواية: (في العشر قط)، وهذا الحديث أوجد بعض الإشكال، ولذلك نعتبره مسألة للتنبيه، ذكر أهل العلم: أن صيام العشر فضيلة ثابتة لا شك فيها، وقد ورد إثبات صيامه في مسند الإمام أحمد عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر)، وقد ورد هذا الحديث أيضاً في سنن أبي داود وعند النسائي.
وورد في رواية صريحة عن حفصة رضي الله عنها عند النسائي في السنن أنها قالت: (أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة).
فهذا يدلنا على ثبوت ذلك عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع بين حديث عائشة وبين حديث حفصة بما يلي:
أولاً: عائشة قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر)، فهل يدل ذلك على أنه لم يصم؟ هي أخبرت أنها لم تره عليه الصلاة والسلام، وأزواجه غيرها كـحفصة قد أثبتت ذلك، هذا وجه من الوجوه، وهو وجه حسن.
ونقل ابن رجب عن الإمام أحمد أنه أجاب بأجوبة مختلفة، فقال مرة: هذا قد روي خلافه من غير عائشة ، وذكر حديث حفصة ، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة ، فمعنى ذلك: أنه رجح حديث غير عائشة على حديثها.
ثانياً: المثبت مقدم على النافي، وهذا التوضيح مهم، قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً ومبيناً هذه المسألة: هذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل فيها أفضل منه في هذه الأيام) يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها: (لم يصم العشر) أنه لم يصمه على سبيل الالتزام الدائم، أو لم يصمه لعارض عرض له كالمرض أو نحو ذلك، وقد ذكر هذا النووي رحمه الله وأشار إليه ابن رجب في "لطائف المعارف" وغيرهما.
حكم قيام ليالي العشر من ذي الحجة
قال أهل العلم: إنه مستحب؛ لأنه من العمل الصالح ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؛ لأنه قد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة في جوف الليل، أو في دبر الليل الآخر) ونحن نعلم أن صلاة الليل فيها فضيلة وأجر عظيم، وأن وقتها فاضل لاسيما في الثلث الأخير من الليل، هذا على العموم، إضافة إلى أنه قد وردت رواية في هذا وهي وإن كانت ضعيفة؛ فإن بعضهم يتساهل في أحاديث فضائل الأعمال ما دامت تندرج تحت أصل من الأصول، بشرط ألا يكون الضعف فيها شديداً بمرة، ووردت بعض الأقوال عن العلماء كالشافعية في استحباب ذلك، وكان سعيد بن جبير وهو الراوي لحديث ابن عباس إذا دخلت العشر -يعني: الأول من ذي الحجة- اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. يعني: صلوا وقوموا فيها لله عز وجل، وكانت تعجبه العبادة فيها.
الذكر في العشر من ذي الحجة
قالوا: أشهر ذلك الذكر، ودل عليه قول الله عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28] وقوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] قالوا في الأيام المعلومات والمعدودات: إما عموم العشر أو خصوص أيام التشريق، وكل ذلك يدخل في عموم أيام العشر وما يتبعها؛ لأنها ذات صلة بها، وقد وردت رواية عن ابن عمر عند الإمام أحمد أنه قال فيها عليه الصلاة والسلام: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) فينبغي حينئذ أن يكثر من ذلك، وقد توسع أهل العلم في هذا، وبينوا أن المقصود لغير الحاج على وجه الخصوص التكبير مطلقاً؛ لأن ذكر الله عام، وورد في الحديث تخصيص هذا الذكر بالتهليل والتكبير والتحميد، وورد عن الصحابة رضوان الله عليهم ما يشير إلى مزيد من تخصيص التكبير؛ لأن بعض الصحابة كانوا يخرجون إلى الأسواق فيكبرون فيها، حتى يكبر الناس بتكبيرهم، ومن هنا ذكر أهل العلم اختلافاً وقالوا: هل يشرع إظهار التكبير والجهر به في الأسواق في العشر، فأنكره طائفة، واستحبه الإمام أحمد والشافعي ، وخصه الشافعي برؤية بهيمة الأنعام إذا رآها، أي: بالأضحيات ونحو ذلك، والإمام أحمد يستحبه مطلقاً.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة (أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)، وأيضاً روي عن مجاهد أنه قال: (كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان الأسواق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك).
فهذا الذكر عموماً وهذا التكبير خصوصاً من الأمور التي ينبغي الانشغال بها والإكثار منها وإظهارها، والتكبير عموماً لغير الحاج آكد وأظهر، وأما للحاج فإنه مخصص ومقيد، فإنه إنما يأتي به في أعقاب التلبية، وإنما يشرع بعد الانصراف من عرفة ومزدلفة، وبعد رمي جمرة العقبة ينقطع من التلبية، ويبدأ ويشرع في الذكر وفي التكبير، وهو أيضاً للحاج خاص في أعقاب وأدبار الصلوات، أما غير الحجاج فالتكبير والذكر لهم مستحب مطلقاً في كل وقت بلا قيد بصلاة، وبلا قيد أيضاً بأيام بعينها، بل محله العشر كلها، وهذه أيضاً مسألة من المسائل.
مسألة التفضيل بين الحج والجهاد
وأما التطوع بالجهاد فيكون في عمومه أفضل من الحج في خصوصه.
وأيضاً قالوا: يمكن الجمع من وجهين:
الأول: أن حديث ابن عباس الذي معنا في فضيلة العشر صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع بنفسه وماله بشيء يفضل على العمل في العشر، فيمكن أن يقال: الحج أفضل من الجهاد عموماً إلا في هذا النوع من الجهاد، فيبقى كأن تقديم الجهاد على الحج مخصوص بنوع بعينه، وهو أعلى ذرا الجهاد، حيث يذهب بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك بشيء.
الثاني: وهو الأظهر كما أشار إليه ابن رجب يقول: إن العمل المفضول قد يقترن به ما يجعله أفضل من الفاضل في نفسه، فحينئذ الحج يقترن به ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل، فإن كان الحج مفروضاً فهو أفضل من التطوع بالجهاد؛ لأن الأعيان مقدمة على الكفايات عند جمهور العلماء، وقد روي هذا في الحج والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
فضل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر على غيرها
هذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الناس في الواقع المعاصر تأثروا ببعض الأمور غير الجيدة، لا أقول: هو تأثر كنسي، لكن فيه شبه، ومنها: افعل ما شئت ثم ائت في يوم معين واستغفر أو افعل كذا وانتهى الأمر، وكونه ثبت في الحديث الصحيح عن عمل أنه يكفر أو يغفر لا نشك فيه، وفضل الله عز وجل ورحمته أوسع، لكن الركون إلى ذلك أو الإسراف على النفس؛ ليس من شأن المؤمن، وهذا نوع من الكهنوت الذي عند النصارى، افعل ثم ائت واعترف أو خذ صك غفران كما يقولون! لكن ليس هذا في دين الله عز وجل.
المراد أن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها؛ حتى لا يلتبس علينا الأمر.
هذه العشر ينبغي أن تكثير فيها من الأعمال الصالحة باستمرار في جميعها لا في بعضها، وما دامت خصت بالفضيلة فإنه يقبح ترك الطاعة فيها، بل ويقبح فيها أعظم فعل المعصية.
المهم عملك في هذه العشر يفضل عملك في غيرها إن كان مماثلاً، أو كان في غيرها زائداً، فإن فضيلتها ترجح عن زيادة العمل في غيرها، لكنها ليست دليلاً على تفضيل ما فيها من العمل على تفضيل ما في كل الأيام بمجموعها، فهذا ينبغي أن يلتفت إليه، قال بعضهم: إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل مستغرقاً للأيام العشر كلها، فيفضل على الجهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر، وإن كان العمل مستغرقاً لبعض أيام العشر فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر، والمسألة عند الله عز وجل محسوبة، وينبغي ألا نكون متشعبين في هذا الأمر.
التفضيل بين عشر ذي الحجة والعشر الأواخر من رمضان
ذكر العلماء في ذلك أقوالاً، ومن ألطف ما قيل في هذا ما ذكره ابن تيمية رحمه الله واستحسنه واستجاده تلميذه ابن القيم، وهو: أيام العشر من ذي الحجة أفضل من أيام العشر الأواخر من رمضان، وليالي العشر الأواخر من رمضان أفضل من ليالي العشر من عشر ذي الحجة؛ لأن تلك الليالي فيها ليلة القدر، وهي مخصوصة بعظيم من الفضل والأجر، وهذه الأيام في عمومها فيها هذه الفضيلة.
وبعضهم خصه بمسألة الفرائض، أي: أن المراد ما فعل في العشر من ذي الحجة من فرض فهو أفضل مما فعل في العشر الأواخر من رمضان، وهذا أيضاً قول من أقوال أهل العلم.
فضل يوم عرفة
انظر إلى التنبيه على هذه الفضيلة من أنها نزلت في يوم عرفة يوم الجمعة والرسول صلى الله عليه وسلم قائم بين الناس، ففيها إشارة إلى هذا.
أيضاً وردت فضائل في شأن يوم عرفة عظيمة، منها: قوله عليه الصلاة والسلام: (الحج عرفة) فهذا فيه تفضيل وتعظيم، أي: أن ركن الحج الأعظم الذي لا يتم الحج إلا به هو وقوف عرفة.
أيضاً وردت فضيلة الصيام في يوم عرفة، فقد ورد من حديث أبي قتادة عن الرسول عليه الصلاة والسلام (أنه سئل عن صيام يوم عرفة؟ فقال: كفارة سنتين: سنة ماضية، وسنة متأخرة) وروي مثله عن سهل بن سعد في مسند عبد بن حميد ، ومثله أيضاً عن أبي سعيد الخدري في سنن ابن ماجة ، وروي عن أبي قتادة أنه قال: (يكفر السنة التي قبله) وهي رواية عن عائشة في المسند.
وفي حديث عند الإمام مسلم طويل عن أبي قتادة يبين مثل هذا، ويشير إلى بعض الدلائل الأخرى، في هذا الحديث: (أن رجلاً جاء إلى النبي صلى الله عليه وسلم فقال: كيف تصوم؟ فغضب -أي: الرسول عليه الصلاة والسلام- فقال
فهذا الحديث في فضل صوم يوم عرفة.
وورد في فضيلة يوم عرفة غفران ذنوب العباد من الله سبحانه وتعالى، ومباهاة الله عز وجل بأهل الموقف ملائكته، وهذه كلها من فضائل هذا اليوم الجليل العظيم، وهو يوم عرفة الأغر، الذي هو ركن الحج الأعظم.
فضل يوم النحر
وقال بعض أهل العلم: عيدان في العام، وعيد يتكرر في كل أسبوع وهو عيد الجمعة.
وقال بعض أهل العلم في سر الأعياد سواء في الجمعة أو غيرها: إنها تأتي في أعقاب الأركان، فالصلاة إذا أديت كاملة جاء الاحتفال بعيدها في يوم الجمعة بعد أن يكون المسلم قد أتم أسبوعاً وهو مصل قائم بالفرائض الخمس في أوقاتها في سائر الأيام، وعيد الفطر يأتي عقب ركن الصيام، وعيد الأضحى في أثناء ركن الحج، وأما الزكاة فلأنها غير محدودة بزمان، بل تجب بتمام الحول أو باكتمال النصاب أو بشروطها فلم يكن لها عيد بعدها، وأما الشهادتان والتوحيد فهو أصل الإيمان والعبادة والطاعة كلها مترتبة عليه.
فهذه من فضائل هذا اليوم.
وقد ذكر العلماء أن عيد النحر هو أكبر العيدين وأفضلهما، وقد بينوا لفضيلته أو تقديمه على فضيلة يوم الفطر وجوهاً:
أولها: دخوله في عموم العشر التي ذكرنا تفضيلها.
ثانيها: كونه يأتي في عقب يوم عرفة، وما أدراك ما يوم عرفة؟ يوم تكفير الذنوب والخطايا، يوم اجتماع الناس في صعيد واحد، يوم يباهي الله عز وجل بأهل الموقف الملائكة.
ثالثها: لوجود تفضيل وتنصيص على يوم النحر، فقد ورد في بعض أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام أنه قال: (أفضل الأيام يوم النحر).
رابعها: لكونه يجتمع فيه بعض العبادات المختلفة، مثل النحر والأضحية، فإن من أعظم القربات الذبح لله عز وجل.
خامسها: أن فيه إحساناً إلى الفقراء بهذه الأضحية، فيدخل السرور على فقراء الحرم على وجه الخصوص من الأضاحي، وعلى غيرهم في بلاد الإسلام كلها على وجه العموم.
فهذه وجوه تفضيل عيد الأضحى على عيد الفطر، وإن كان هذا عيداً وهذا عيداً.
وهنا إشارة لطيفة في قولهم: صوم العشر، المقصود بها التسع؛ لأن العاشر يوم عيد يحرم صومه، وإنما يقولون: صوم العشر تغليباً لشأن بيان الفضيلة التي أشرنا إليها في نزول هذه الآية.
هناك فضيلة عامة في الأشهر الحرم، وفضيلة لشهر ذي الحجة، وفضيلة للعشر، ولكن العشر هذه فيها يوم عرفة، وفيها يوم النحر، فهناك خصوصيات وفضائل متكاثرة من فضل الله عز وجل علينا، ونذكر هنا مسألة صيام الأيام العشر على اعتبار أن الصيام من أحب الأعمال إلى الله عز وجل وأخصها:
ورد عن عائشة رضي الله عنها في صحيح مسلم أنها قالت: (ما رأيت رسول الله صلى الله عليه وسلم صائماً العشر قط) وفي رواية: (في العشر قط)، وهذا الحديث أوجد بعض الإشكال، ولذلك نعتبره مسألة للتنبيه، ذكر أهل العلم: أن صيام العشر فضيلة ثابتة لا شك فيها، وقد ورد إثبات صيامه في مسند الإمام أحمد عن هنيدة بن خالد عن امرأته عن بعض أزواج النبي صلى الله عليه وسلم قالت: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم يصوم تسع ذي الحجة، ويوم عاشوراء، وثلاثة أيام من كل شهر)، وقد ورد هذا الحديث أيضاً في سنن أبي داود وعند النسائي.
وورد في رواية صريحة عن حفصة رضي الله عنها عند النسائي في السنن أنها قالت: (أربع لم يكن يدعهن رسول الله صلى الله عليه وسلم: صيام عاشوراء، والعشر، وثلاثة أيام من كل شهر، وركعتين قبل الغداة).
فهذا يدلنا على ثبوت ذلك عن أزواج النبي صلى الله عليه وسلم، والجمع بين حديث عائشة وبين حديث حفصة بما يلي:
أولاً: عائشة قالت: (ما رأيت النبي صلى الله عليه وسلم صام العشر)، فهل يدل ذلك على أنه لم يصم؟ هي أخبرت أنها لم تره عليه الصلاة والسلام، وأزواجه غيرها كـحفصة قد أثبتت ذلك، هذا وجه من الوجوه، وهو وجه حسن.
ونقل ابن رجب عن الإمام أحمد أنه أجاب بأجوبة مختلفة، فقال مرة: هذا قد روي خلافه من غير عائشة ، وذكر حديث حفصة ، وأشار إلى أنه اختلف في إسناد حديث عائشة ، فمعنى ذلك: أنه رجح حديث غير عائشة على حديثها.
ثانياً: المثبت مقدم على النافي، وهذا التوضيح مهم، قال الإمام النووي رحمه الله معلقاً ومبيناً هذه المسألة: هذا مما يتأول، فليس في صوم هذه التسعة كراهة، بل هي مستحبة استحباباً شديداً لا سيما التاسع منها وهو يوم عرفة، وقد سبقت الأحاديث في فضله، وثبت في صحيح البخاري أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (ما من أيام العمل فيها أفضل منه في هذه الأيام) يعني: العشر الأوائل من ذي الحجة، فيتأول قولها: (لم يصم العشر) أنه لم يصمه على سبيل الالتزام الدائم، أو لم يصمه لعارض عرض له كالمرض أو نحو ذلك، وقد ذكر هذا النووي رحمه الله وأشار إليه ابن رجب في "لطائف المعارف" وغيرهما.
مسألة أخرى: وهي مسألة قيام الليالي العشر من ذي الحجة، إذا قلنا صيام الأيام فتأتينا مسألة قيام الليالي في هذه العشر هل هو مستحب أو ورد فيه شيء؟
قال أهل العلم: إنه مستحب؛ لأنه من العمل الصالح ومن أحب الأعمال إلى الله عز وجل؛ لأنه قد ورد: (أن النبي صلى الله عليه وسلم عندما سئل عن أفضل الأعمال؟ قال: الصلاة في جوف الليل، أو في دبر الليل الآخر) ونحن نعلم أن صلاة الليل فيها فضيلة وأجر عظيم، وأن وقتها فاضل لاسيما في الثلث الأخير من الليل، هذا على العموم، إضافة إلى أنه قد وردت رواية في هذا وهي وإن كانت ضعيفة؛ فإن بعضهم يتساهل في أحاديث فضائل الأعمال ما دامت تندرج تحت أصل من الأصول، بشرط ألا يكون الضعف فيها شديداً بمرة، ووردت بعض الأقوال عن العلماء كالشافعية في استحباب ذلك، وكان سعيد بن جبير وهو الراوي لحديث ابن عباس إذا دخلت العشر -يعني: الأول من ذي الحجة- اجتهد اجتهاداً حتى ما يكاد يقدر عليه، وروي عنه أنه قال: لا تطفئوا سرجكم ليالي العشر. يعني: صلوا وقوموا فيها لله عز وجل، وكانت تعجبه العبادة فيها.
ما ينبغي أن يشغل الإنسان وقته في هذه الأيام الفاضلة من الأعمال؟
قالوا: أشهر ذلك الذكر، ودل عليه قول الله عز وجل: وَيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُومَاتٍ [الحج:28] وقوله سبحانه وتعالى: وَاذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُودَاتٍ [البقرة:203] قالوا في الأيام المعلومات والمعدودات: إما عموم العشر أو خصوص أيام التشريق، وكل ذلك يدخل في عموم أيام العشر وما يتبعها؛ لأنها ذات صلة بها، وقد وردت رواية عن ابن عمر عند الإمام أحمد أنه قال فيها عليه الصلاة والسلام: (فأكثروا فيهن من التهليل والتكبير والتحميد) فينبغي حينئذ أن يكثر من ذلك، وقد توسع أهل العلم في هذا، وبينوا أن المقصود لغير الحاج على وجه الخصوص التكبير مطلقاً؛ لأن ذكر الله عام، وورد في الحديث تخصيص هذا الذكر بالتهليل والتكبير والتحميد، وورد عن الصحابة رضوان الله عليهم ما يشير إلى مزيد من تخصيص التكبير؛ لأن بعض الصحابة كانوا يخرجون إلى الأسواق فيكبرون فيها، حتى يكبر الناس بتكبيرهم، ومن هنا ذكر أهل العلم اختلافاً وقالوا: هل يشرع إظهار التكبير والجهر به في الأسواق في العشر، فأنكره طائفة، واستحبه الإمام أحمد والشافعي ، وخصه الشافعي برؤية بهيمة الأنعام إذا رآها، أي: بالأضحيات ونحو ذلك، والإمام أحمد يستحبه مطلقاً.
وقد ذكر البخاري في صحيحه عن ابن عمر وأبي هريرة (أنهما كانا يخرجان إلى السوق في العشر فيكبران ويكبر الناس بتكبيرهما)، وأيضاً روي عن مجاهد أنه قال: (كان أبو هريرة وابن عمر يأتيان الأسواق أيام العشر فيكبران ويكبر الناس معهما، ولا يأتيان لشيء إلا لذلك).
فهذا الذكر عموماً وهذا التكبير خصوصاً من الأمور التي ينبغي الانشغال بها والإكثار منها وإظهارها، والتكبير عموماً لغير الحاج آكد وأظهر، وأما للحاج فإنه مخصص ومقيد، فإنه إنما يأتي به في أعقاب التلبية، وإنما يشرع بعد الانصراف من عرفة ومزدلفة، وبعد رمي جمرة العقبة ينقطع من التلبية، ويبدأ ويشرع في الذكر وفي التكبير، وهو أيضاً للحاج خاص في أعقاب وأدبار الصلوات، أما غير الحجاج فالتكبير والذكر لهم مستحب مطلقاً في كل وقت بلا قيد بصلاة، وبلا قيد أيضاً بأيام بعينها، بل محله العشر كلها، وهذه أيضاً مسألة من المسائل.
مسألة: قد يقال: ينبغي أن يكون الحج أفضل من الجهاد، فإذا قلنا: إن العشر مفضلة على الجهاد إلا في حالة بعينها، فالحج أفضل من الجهاد؛ لأن موعد الحج في هذه العشر إحراماً وتمتعاً، ثم يوم الثامن والتاسع والعاشر، ويلحقها أيام التشريق، ولكن ورد في الصحيحين من حديث أبي هريرة رضي الله عنه: (أن رجلاً قال: يا رسول الله! أي الأعمال أفضل؟ قال: إيمان بالله ورسوله، قال: ثم ماذا؟ قال: جهاد في سبيل الله، قال: ثم ماذا؟ قال: حج مبرور) فكأن هاهنا تعارضاً يحتاج إلى توفيق، وليس في الأمر إشكال، قالوا: التطوع بالجهاد أفضل من التطوع بالحج، والفرض في الحج أفضل من الفرض في الجهاد؛ لأن الحج إذا أديته في هذه العشر فهو فرض عين، أما الجهاد فهو فرض كفاية.
وأما التطوع بالجهاد فيكون في عمومه أفضل من الحج في خصوصه.
وأيضاً قالوا: يمكن الجمع من وجهين:
الأول: أن حديث ابن عباس الذي معنا في فضيلة العشر صرح فيه بأن جهاد من لا يرجع بنفسه وماله بشيء يفضل على العمل في العشر، فيمكن أن يقال: الحج أفضل من الجهاد عموماً إلا في هذا النوع من الجهاد، فيبقى كأن تقديم الجهاد على الحج مخصوص بنوع بعينه، وهو أعلى ذرا الجهاد، حيث يذهب بماله ونفسه ولا يرجع من ذلك بشيء.
الثاني: وهو الأظهر كما أشار إليه ابن رجب يقول: إن العمل المفضول قد يقترن به ما يجعله أفضل من الفاضل في نفسه، فحينئذ الحج يقترن به ما يصير به أفضل من الجهاد، وقد يتجرد عن ذلك فيكون الجهاد أفضل، فإن كان الحج مفروضاً فهو أفضل من التطوع بالجهاد؛ لأن الأعيان مقدمة على الكفايات عند جمهور العلماء، وقد روي هذا في الحج والجهاد بخصوصهما عن عبد الله بن عمرو بن العاص.
مسألة: هل كل الأعمال الصالحة التي تقع في العشر أفضل من جميع ما يقع في غيرها وإن طالت مدته أم لا؟ بمعنى: عملك في العشر هل هو أفضل من عملك في ثلاثمائة وخمسة وخمسين يوماً بقية العام أم أن العمل في العشر أفضل من عمل مماثل له في عشر غيرها؟
هذه مسألة مهمة؛ لأن بعض الناس في الواقع المعاصر تأثروا ببعض الأمور غير الجيدة، لا أقول: هو تأثر كنسي، لكن فيه شبه، ومنها: افعل ما شئت ثم ائت في يوم معين واستغفر أو افعل كذا وانتهى الأمر، وكونه ثبت في الحديث الصحيح عن عمل أنه يكفر أو يغفر لا نشك فيه، وفضل الله عز وجل ورحمته أوسع، لكن الركون إلى ذلك أو الإسراف على النفس؛ ليس من شأن المؤمن، وهذا نوع من الكهنوت الذي عند النصارى، افعل ثم ائت واعترف أو خذ صك غفران كما يقولون! لكن ليس هذا في دين الله عز وجل.
المراد أن العمل الصالح في هذه الأيام العشر أفضل من العمل في أيام عشر غيرها؛ حتى لا يلتبس علينا الأمر.
هذه العشر ينبغي أن تكثير فيها من الأعمال الصالحة باستمرار في جميعها لا في بعضها، وما دامت خصت بالفضيلة فإنه يقبح ترك الطاعة فيها، بل ويقبح فيها أعظم فعل المعصية.
المهم عملك في هذه العشر يفضل عملك في غيرها إن كان مماثلاً، أو كان في غيرها زائداً، فإن فضيلتها ترجح عن زيادة العمل في غيرها، لكنها ليست دليلاً على تفضيل ما فيها من العمل على تفضيل ما في كل الأيام بمجموعها، فهذا ينبغي أن يلتفت إليه، قال بعضهم: إنما يفضل العمل فيها على الجهاد إذا كان العمل مستغرقاً للأيام العشر كلها، فيفضل على الجهاد في عدد تلك الأيام من غير العشر، وإن كان العمل مستغرقاً لبعض أيام العشر فهو أفضل من جهاد في نظير ذلك الزمان من غير العشر، والمسألة عند الله عز وجل محسوبة، وينبغي ألا نكون متشعبين في هذا الأمر.