أرشيف المقالات

القبول الذي ينافي الرد

مدة قراءة المادة : 11 دقائق .
سلسلة شرح أسماء الله الحسنى (6)
شروط "لا إله إلا الله" (3)
القبول الذي ينافي الرد
 
انتهينا من الحديث عن الشرط الثاني من شروط كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهو: اليقين بها يقيناً منافياً لكل شك.
فتبينَّا أن اليقين من أفضل الأعمال، بل هو الإيمان كله، وأن أهل اليقين هم من ينتفع بالآيات والنذر، وهم المخصوصون بالهداية والفلاح، وهم الآمنون من العذاب يوم القيامة، وهم مرضيو الجواب عن أسئلة القبر، وهم الذين إذا سألوا الله حاجتهم امتلأت قلوبهم بأنه تعالى يَسمعهم ويجيبهم، وأن مرتبة اليقين عند الله أعظم من مرتبة سؤال الله العافية.
 
وموعدنا - اليوم إن شاء الله تعالى - مع الشرط الثالث من شروط كلمة التوحيد (لا إله إلا الله)، وهو: القبول الذي ينفي الرد.
ومن معاني القبول اللغوية: أَخذ الشَّيْء عَن طيب خاطر، كقبولك للهدية، فأنت تأخذها باطمئنان وسلامة صدر، لما فيها من إدخال السرور، وقبولك للنصيحة، لما فيها من التوجيه للخير والنفع.
ومن هذه المعاني: الرضا، فأنت تقبل الشيء إذا رضيته.
ومن هذه المعاني: ميل النَّفس إِلَى الشَّيْء.
فالمقبول من الناس من مالت إليه النفوس واطمأنت إليه.
وَفِي الحَدِيث المتفق عليه: "ثُمَّ يوضع لَهُ الْقَبُول فِي الأَرْض".
 
والمقصود: قبول مقتضيات (لا إله إلا الله) بالقلب واللسان وسائر الجوارح قبولاً منافياً لرد شيء من هذه المقتضيات، ورد كل ما خالفها من المعتقدات، والمبادئ، والتصورات.
فقد ينطق الواحد منا ب (لا إله إلا الله)، ثم هو لا ينصاع لأوامر الشرع، بل يردها ويرغب عنها، إما تساهلاً، أو استكباراً، أو حسداً، أو استنقاصاً، أو اعتقاداً أن غير شرع الله خير من شرع الله، أو إمعانا في مخالفة عقيدة المسلمين، ورغبة في زرع الفتنة بينهم.
 
ومن الأدلة الشرعية على شرط القبول، قوله تعالى: ﴿ قُلْ إِنَّمَا أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحَى إِلَيَّ أَنَّمَا إِلَهُكُمْ إِلَهٌ وَاحِدٌ فَمَنْ كَانَ يَرْجُو لِقَاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صَالِحًا وَلَا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَدًا ﴾ [الكهف: 110].
وحديث سُفْيَانَ بْنِ عَبْدِ الله الثَّقَفِيِّ - رضي الله عنه - الذي سأل النبي - صلى الله عليه وسلم - فقال: يَا رَسُولَ الله، قُلْ لِي فِي الإِسْلامِ قَوْلاً لا أسْألُ عَنْهُ أحَدًا بَعْدَكَ.
قال: "قُلْ آمَنْتُ بِالله، ثمَّ استقِمْ" مسلم، أي: مدار الإسلام على الاستقامة على (لا إله إلا الله)، أي: قبول مقتضياتها، والعمل بالمراد منها.
 
وبين - عز وجل - جزاء من رد (لا إله إلا الله)، ولم يرتضها حكما ومنهجا، فقال تعالى: ﴿ احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَأَزْوَاجَهُمْ وَمَا كَانُوا يَعْبُدُونَ * مِنْ دُونِ اللَّهِ ﴾ [الصافات: 22، 23].
فكان هذا عقوبة لهم على تمردهم على التوحيد: ﴿ إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ * وَيَقُولُونَ أَئِنَّا لَتَارِكُو آلِهَتِنَا لِشَاعِرٍ مَجْنُونٍ ﴾ [الصافات: 35، 36]، تماما كالذين يقولون - اليوم -: أنترك حضارة الغرب ورونقها وبهجتها لتقاليد بالية، ونظم ماضية، وعادات خالية؟ استكباراً، واستنقاصاً، واستهزاءً، ورداً لشرع الله، على حساب الانتصار لشرع المخلوقين، ومحاكاة لقول أسلافهم: ﴿ أَنِ امْشُوا وَاصْبِرُوا عَلَى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هَذَا لَشَيْءٌ يُرَادُ * مَا سَمِعْنَا بِهَذَا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هَذَا إِلَّا اخْتِلَاقٌ ﴾ [ص: 6، 7].
 
ولقد جعل النبي - صلى الله عليه وسلم - الناس في انتفاعهم بالحق وعدم انتفاعهم ثلاث طوائف، فقال - صلى الله عليه وسلم -: "مَثَلُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ مِنَ الْهُدَى وَالْعِلْمِ، كَمَثَلِ الْغَيْثِ الْكَثِيرِ أَصَابَ أَرْضًا، فَكَانَ مِنْهَا نَقِيَّةٌ قَبِلَتِ الْمَاءَ، فَأَنْبَتَتِ الْكَلأَ وَالْعُشْبَ الْكَثِيرَ.
وَكَانَتْ مِنْهَا أَجَادِبُ أَمْسَكَتِ الْمَاءَ، فَنَفَعَ اللَّهُ بِهَا النَّاسَ، فَشَرِبُوا وَسَقَوْا وَزَرَعُوا.
وَأَصَابَتْ مِنْهَا طَائِفَةً أُخْرَى، إِنَّمَا هِيَ قِيعَانٌ، لاَ تُمْسِكُ مَاءً، وَلاَ تُنْبِتُ كَلأً.
فَذَلِكَ مَثَلُ مَنْ فَقِهَ فِي دِينِ الله وَنَفَعَهُ مَا بَعَثَنِي اللَّهُ بِهِ ، فَعَلِمَ وَعَلَّمَ، وَمَثَلُ مَنْ لَمْ يَرْفَعْ بِذَلِكَ رَأْسًا، وَلَمْ يَقْبَلْ هُدَى الله الَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ" متفق عليه.
فالطائفة الأولى طائفة الخير، قبلت هدى الله، وفرحت به منهاجا وشرعة، ورضيت بأحكامه، فانتفعت ونفعت غيرها.
والطائفة الثانية أقل في المرتبة من الأولى، لأنها قبلت الهدى، واستفاد منه غيرها، وإن قصرت في العمل، وقلت استفادتها منه.
لكن الطائفة الثالثة شر كلها، لم تستفد من الهدى، ولم تنقله إلى غيرها ليستفيد منه، بل ردته ولم تقبله، فكان مآلها إلى الضلال والزيغ.
﴿ وَمَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَمَا لَهُ مِنْ هَادٍ ﴾ [الرعد: 33].
 
وكتاب الله زاخر بتباشير الخير لمن قبل شرع الله، وعمل بمقتضيات (لا إله إلا الله).
قال - تعالى -: ﴿ ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنَا وَالَّذِينَ آَمَنُوا كَذَلِكَ حَقًّا عَلَيْنَا نُنَجِّ الْمُؤْمِنِينَ ﴾ [يونس: 103].
وقال - تعالى -: ﴿ إِنَّمَا كَانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذَا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ ﴾ [النور: 51].
 
كما نهى - سبحانه وتعالى - عن رد كلمة التوحيد، والنكوص عن نصرة من جاء برسالة التوحيد - صلى الله عليه وسلم -، فقال: "وَلاَ تَكُونُواْ كَالَّذِينَ قَالُوا سَمِعْنَا وَهُمْ لاَ يَسْمَعُونَ".
وقال - تعالى -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَلَا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَأَنْتُمْ تَسْمَعُونَ ﴾ [الأنفال: 20].
 
هذا النكوص عن دعوة الحق، وهذا التمرد على عقيدة الحق، لا يجران إلا إلى أوخم العواقب، ولا يوصلان إلا إلى أبخس المراتب، والتي منها:
• الاختلاف والشقاق: ﴿ فَإِنْ آمَنُواْ بِمِثْلِ مَا آمَنتُم بِهِ فَقَدِ اهْتَدَواْ وَّإِن تَوَلَّوْاْ فَإِنَّمَا هُمْ فِي شِقَاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَهُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ ﴾ [البقرة: 137].
• الحرمان من محبة الله: ﴿ قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَالرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لَا يُحِبُّ الْكَافِرِينَ ﴾ [آل عمران: 32].
• الاستبدال بهم غيرهم: ﴿ وَإِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْمًا غَيْرَكُمْ ثُمَّ لَا يَكُونُوا أَمْثَالَكُمْ ﴾ [محمد: 38].
• وجوب البراءة منهم: ﴿ قُلْ يَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ ﴾ [آل عمران: 64].
 
إن الخوف من مغبة هذه العواقب الشنيئة، والمراتب الدنيئة، يجعل المؤمن يذعن لشرع الله، ويقبله كلا لا يتجزأ، ويرضاه أصلا مكينا لتدينه، ومصدرا وثيقا لشرعه، لا تزعزعه عنه الأهواء مهما هاجت وتلاطمت، ولا ترده عنه صيحات التغريب مهما تمكنت وتجبرت، ولا تُلينه المغريات مهما تعاظمت واستحكمت.
قال - تعالى -: ﴿ وَمَا كَانَ لِمُؤْمِنٍ وَلَا مُؤْمِنَةٍ إِذَا قَضَى اللَّهُ وَرَسُولُهُ أَمْرًا أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَمَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلَالًا مُبِينًا ﴾ [الأحزاب: 36].
 
وإن من مظاهر رد شرع الله في زماننا، ما تعلنه بعض الجمعيات التي تسمى بالحقوقية، وبعض التيارات التي تسمى بالتحررية، وبعض النوادي التي تسمى بالحداثية، من محاربة صريحة أو مبطنة لشرع الله، ومناددة صارخة أو متحايلة لـ (لا إله إلا الله).
من ذلك:
• طعنهم في قسمة الميراث التي تكفل بها الله - عز وجل - من فوق سبع سماوات، وردهم قوله - تعالى -: ﴿ يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلَادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ ﴾ [النساء: 11].
فلم يرضوا بقسمة الله، وقالوا: "بل للذكر مثل حظ الأنثى"، فأرادوها ثورة على شرع الله، بعد أن رموه بالتمييز، والعنصرية، والذكورية.
 
• إباحتهم للخمور، ورد قوله - تعالى -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَالْمَيْسِرُ وَالْأَنْصَابُ وَالْأَزْلَامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطَانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ ﴾ [المائدة: 90]، فقالوا: هذا تحجير على العقول، وتكبيل للحريات، ومنع للطيبات.
ومتى كانت الخمر من الطيبات ونسبة الإصابة بالصرع بلغت أزيد من 10% من مجموع متعاطي الخمور، مع تسجيل كون الخمر مسؤولة عن قرابة 15% من حالات الانتحار، وكون 22% من سكان إحدى الدول المتقدمة يذهبون إلى المصحات العقلية بسبب المبالغة في تناول المشروبات الكحولية .فأية حرية شخصية هذه التي بها يلهجون، وعنها ينافحون؟
 
• إفطارهم رمضان جهارا وفي الطرقات، إمعانا في تبخيس عقيدة المؤمنين، وقصدا لإغاظتهم واستفزاز مشاعرهم، وردا لقوله - تعالى -: ﴿ يَاأَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ كَمَا كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ ﴾ [البقرة: 183].
 
• استهزاؤهم بحجاب المرأة، واعتباره إهانة لها وتخلفا، وتكبيلا لحريتها في إبداء محاسنها، ردا لقوله - تعالى -: ﴿ وَلْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلَى جُيُوبِهِنَّ وَلَا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَّ...
[النور: 31]الآية.
 
• إباحتهم للخلوة بالأجنبية، وتسويغهم للعلاقات الشاذة بين الجنسين، واعتبارهم كل ذلك من الحرية الشخصية التي لا يجب أن لا تقيد بدين أو وصاية، ردا لقول الرسول - صلى الله عليه وسلم -: "لاَ يَخْلُوَنَّ رَجُلٌ بِامْرَأَةٍ إِلاَّ وَمَعَهَا ذُو مَحْرَمٍ" متفق عليه.






إذا الإيمان ضاع فلا أمان
ولا دنيا لمن لم يحي دينا


ومن رضي الحياة بغير دين
فقد جعل الفناء لها قرينا

شارك الخبر

فهرس موضوعات القرآن