الاختبارات والمسارعة إلى الخيرات


الحلقة مفرغة

الحمد لله الذي وسعت كل شيء رحمته، ونفذت في كل شيء مشيئته، وأحاط بكل شيء علمه.

له الحمد سبحانه وتعالى كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، هو أهل الحمد والثناء، لا نحصي ثناءً عليه، هو كما أثنى على نفسه، فله الحمد على كل حال، وفي كل آن، وله الحمد ملء السماوات والأرض، وملء ما بينهما، وملء ما شاء من شيء بعد.

وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، له الملك وله الحمد، يحيي ويميت، وهو على كل شيء قدير، وأشهد أن نبينا وقائدنا وقدوتنا وسيدنا محمداً عبد الله ورسوله، وصفيه من خلقه وخليله، هدى به من الضلالة، وأرشد به من الغواية، وأسمع به آذاناً صماً، وفتح به قلوباً غلفاً، وأشهد أنه عليه الصلاة والسلام قد بلغ الرسالة، وأدى الأمانة، ونصح الأمة، وكشف الله به الغمة، وجاهد في الله حق جهاده، وتركنا على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها، لا يزيغ عنها إلا هالك، فجزاه الله خير ما جازى نبياً عن أمته، ووفقنا وإياكم لاتباع سنته، وحشرنا يوم القيامة في زمرته، وجعلنا من أهل شفاعته، وصلى الله وسلم وبارك عليه وعلى آله وصحابته أجمعين، وعلى من تبعهم واقتفى أثرهم ونهج نهجهم إلى يوم الدين، وعلينا وعلى عباد الله الصالحين.

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [آل عمران:102]

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا [النساء:1].

يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا * يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا [الأحزاب:70-71].

أما بعد:

أيها الإخوة المؤمنون!

موسم الاختبارات لكل منا به تعلق، وله ارتباط، ولو أنا تأملنا في مثل هذا الموسم، وما يكون من حالنا جميعاً فيه، وحال الطلاب على وجه الخصوص، لخرجنا بكثير من الفوائد، ونريد في هذا المقام أن نخرج بقضية واحدة، أحسب أنها من القضايا المهمة التي ينبغي أن تحظى بعناية تامة ورعاية كاملة في واقع حياتنا.

لننظر إلى هذه الاختبارات: مبدؤها وأساسها الذي يحرك الطاقات، والتي نبذل فيها الهم والاهتمام، ولو أن طالباً لا يشعر بأهمية الاختبار، ولا يعرف قدره، ولا يحسب حساباً للنتائج المترتبة عليه، فإن شيئاً لن يدفعه إلى الجد والاجتهاد، فأول مبعث كل عمل: همّ القلب، وفكر العقل، وشعور النفس، ومن بعده جدّ واجتهاد، فكم نرى من بذل الطاقات، وشحذ الأذهان، وتقوية الذاكرة، ودوام المطالعة، وكثرة المراجعة، مما يدل على طاقة كبيرة، وبذل عظيم، ثم تفرغ واهتمام، والوقت يفرغ من كل الشواغل والعوارض، بل تؤجل كثير من الأمور المعتادة، ويقلّص وقتها، فيكاد يختفي وقت الترفيه، ويقل وقت الراحة، ويتقلص وقت الطعام والشراب؛ توفيراً للوقت لما هو أعظم أهمية، وأولى بالرعاية والاهتمام.

ونجد كذلك التركيز والتقديم، فإن أموراً كثيرة لا تحظى بالاهتمام في هذه الأوقات، حتى الآباء والأمهات لا يعتنون كثيراً في هذه الأيام إلا بهذه القضية المهمة، فيعطونها الأولوية على سائر المهمات والواجبات المتصلة بدورهم تجاه أبنائهم، ويرافق ذلك الحث والتشجيع، والوعد بالجوائز عند النجاح، وبالعظائم من المنح عند التفوق، وإذكاء روح الحماس، وبث الثقة في النفس؛ ليكون الاجتياز لهذه الاختبارات على أتم وأكمل وجه.

ومن بعد ذلك نجد وعداً بالتعويض بالثمرة، فإن سهر هذه الليالي وقلة نومها وذهاب راحتها يهون وينسى عندما تخرج النتيجة بذلك النجاح والتفوق، فكلما تعب الطالب تلمّح عاقبة الامتحانات، فتجدد عزمه، ونشطت نفسه، وقويت همته من جديد.

وفي آخر الأمر يكون الترقب والانتظار بعد انتهاء المهمة، فكل يعد الدقائق والساعات حتى تظهر النتائج، فالطلاب ينتظرون عند أبواب الصحف أو على شاشات الحاسوب، لماذا؟! إنهم يريدون معرفة الثمرة.

هذه صور يسيرة مما نعرف أنه واقع في موسم الاختبارات، ولو أن أحداً أراد أن يوجد للطلاب وصفة للنجاح والتفوق، لقال باختصار شديد: المبادرة في المذاكرة والمراجعة! فلو أن طالباً كان مبادراً يدرس دروسه أولاً بأول، ويراجعها مرة بعد مرة، ويحل أسئلتها، ويفك معضلاتها دون تأخير ولا إبطاء؛ فإنه يكون مطمئن النفس، قرير العين، واثقاً من قدرته بإذن الله عز وجل على حصوله على مبتغاه ومراده، وأما المسوف المؤجل، والمتكاسل المتواني، والذي لا يستطيع أن يعطي للأمر حقه وقدره، وينهض بهمته وعزمه، فذاك الذي يكاد أن يجزم بأنه لن يحصل على النتائج العالية والتفوق.

الاعتبار بالاختبار للمسارعة إلى الخيرات

الذي نريد أن نخرج به مما سبق أن المسألة المهمة في نجاح كل أمر: هي المبادرة إلى إنجازه، والإتقان في أدائه، والحرص على تحصيله في وقته قبل فوات أوانه.

والمسارعة إلى الخيرات درس عملي نستفيده من موسم الاختبارات، ألسنا في هذا الموسم -كما قلنا- نقدم كل شيء يتعلق بهذه الاختبارات، ونعطيه الأولوية، ونصرف فيه الطاقة، ونفرغ له الوقت، ونهيء له الأسباب، ونقطع عنه الشواغل؟! لأنا نريد النتيجة الأفضل والأكمل، فأين نحن من هذا في واقع حياتنا؟! لأن الحياة والعمر كله موسم اختبارات، وختامه انتهاء الحياة، ونتيجته يوم تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.

فالمسارعة إلى الخيرات هي أعظم أسباب النجاح في الاختبارات .. المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها، والإقبال على أدائها دون إبطاء أو إرجاء، هل يؤجل اليوم أحد الطلاب مذاكرة اختبار الغد، ويقول: لا بأس أن أقرأ وأن أراجع في وقت لاحق؟! كلا؛ لأنه لا بد منه في هذا الوقت، وقد ضاق الزمن، وتحدد أن تكون هناك المبادرة.

ولئن كان موعد الاختبار محدداً بيوم وتاريخ، فإن موعد اختبار كل واحد منا ليس له ذلك التحديد، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون اليوم، ويمكن أن يكون بعد عام، أو بعد عامين! فمتى يأتي الأجل؟ ومتى يخرج الإنسان من دنياه ليستقبل أخراه، ويبدأها بالسؤال في قبره، ومن بعد ذلك بين يدي ربه؟

الحث على المسارعة إلى الخيرات في القرآن الكريم

المسارعة إلى الخيرات صفة جُعلت لأفضل خلق الله من الرسل والأنبياء، فبعد سياق ذكر قصص كثير منهم جاء قوله سبحانه وتعالى عنهم: إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ [الأنبياء:90] (أولئك) أي: الرسل والأنبياء، وجاء بصيغة المضارع المتجدد في معناه، أي: يسارعون دائماً وأبداً إلى الخيرات.

والمؤمنون الخاشعون تلك هي صفتهم كذلك، بل هي قمة الصفات وخاتمتها، كما قال الحق جل وعلا: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِآيَاتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ * وَالَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ * وَالَّذِينَ يُؤْتُونَ مَا آتَوا وَقُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلَى رَبِّهِمْ رَاجِعُونَ * أُوْلَئِكَ يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَهُمْ لَهَا سَابِقُونَ [المؤمنون:57-61]، إن الذي بلغ بهم تلك الخشية وذلك الخشوع والصفاء ونقاء التوحيد، إنهم مبادرون لأمر الله، لا يتوانون عنه، ولا يتأخرون فيه، ولا يقصرون في أدائه، وذلكم هو وصف العباد الصالحين، كما قال سبحانه وتعالى: لَيْسُوا سَوَاءً مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ أُمَّةٌ قَائِمَةٌ يَتْلُونَ آيَاتِ اللَّهِ آنَاءَ اللَّيْلِ وَهُمْ يَسْجُدُونَ [آل عمران:113] ثم جاء الوصف في تفصيله: يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَالْيَوْمِ الآخِرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَيُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَأُوْلَئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ [آل عمران:114]، فكل نتيجة من النتائج العظمى، ومنزلة من المنازل الكبرى، لا تنال إلا بالمبادرة والمسارعة إلى الخيرات، وذلك ما بيّنه أهل العلم وفصلوا القول فيه.

قال السعدي رحمه الله في نداء الحق جل وعلا: فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148] أي: سارعوا في الخيرات، (يسارعون في الخيرات) أي: يبادرون إليها، فينتهزون الفرصة فيها ويفعلونها في أول وقت إمكانها؛ وذلك من شدة رغبتهم في الخير، ومعرفتهم بفوائده وحسن عوائده.

وقال ابن عطية رحمه الله: هذا وصف بأنهم متى دعوا إلى خير من نصر مظلوم، أو إغاثة مكروب، وجبر مهيض، وعبادة لله؛ أجابوا، فيكون أحدهم متى أراد أن يصنع خيراً بادر إليه، ولم يسوف نفسه بالأمل.

فهل نحن كذلك؟! وهل نحن في المواسم العصيبة في طريقنا إلى الدار الآخرة كذلك؟! وعندما تمر بنا مواسم الاختبارات، من الابتلاءت المتنوعة التي لا يكاد يمر يوم دون أن تعرج علينا أو أن نمر بها، هل نحن على هذا الوصف أم أن التسويف والتأجيل وطول الأمل يكاد يقتل الهمم، ويفتر العزائم، ولا ينهض بأحد إلى مكرمة ولا طاعة؟

نحن نرى في السياق القرآني ما يبعث في النفس القوة على الأخذ بالطاعات، والرغبة في المسارعة إليها، فنداء القرآن كان دائماً وأبداً على هذا النحو: وَسَارِعُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّمَوَاتُ وَالأَرْضُ [آل عمران:133]، سَابِقُوا إِلَى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَجَنَّةٍ عَرْضُهَا كَعَرْضِ السَّمَاءِ وَالأَرْضِ [الحديد:21]، فَاسْتَبِقُوا الْخَيْرَاتِ [البقرة:148]، وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26].

الحث على المسارعة إلى الخيرات في السنة النبوية

يقول المصطفى صلى الله عليه وسلم: (بادروا بالأعمال سبعاً: هل تنتظرون إلا فقراً منسياً، أو غنى مطغياً، أو مرضاً مفسداً، أو هرماً مفنداً، أو الدجال فشر غائب ينتظر، أو الساعة والساعة أدهى وأمر)، رواه أبو هريرة وهو عند الترمذي في سننه بسند حسن.

بادروا فإن الأمور أعظم من أن تؤجل، وإن الأجل أعظم من أن يؤخر.

وعن سعد بن أبي وقاص أنه عليه الصلاة والسلام قال: (التؤدة في كل أمر إلا عمل الآخرة)، رواه أبو داود في سننه، والحاكم في مستدركه، وصححه ووافقه الذهبي . فيمكن أن تكون متأنياً مؤجلاً مؤخراً، إلا إذا كان العمل عمل آخرة.

وتأمل في القدوة العظمى سيدنا محمد صلى الله عليه وسلم، كيف كان السابق المبادر إلى كل خير، قال أنس رضي الله عنه في وصفه للنبي عليه الصلاة والسلام: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم أشجع الناس، وأحسن الناس، وأجود الناس، استيقظ أهل المدينة على صوت صارخ، فسبق إليه، ورجع وهو يقول: لن تراعوا لن تراعوا!).

وتأمل قول علي بن أبي طالب رضي الله عنه في وصفه عليه الصلاة والسلام: (كنا إذا حمي الوطيس واحمرت الحدق -أي: في شدة القتال وضراوته- نتقي برسول الله صلى الله عليه وسلم) فيكون في مقدمة القوم، وأول الركب؛ لأنه المسارع المسابق، ولأنه المبادر إلى الطاعات، لم يضن بنفسه، ولم يمل مع هواها، وكان كذلك في حياته كلها عليه الصلاة والسلام، حتى سارع بأمله وطموحه فقال: (والله لقد وددت ألا أقعد خلف سرية تقاتل في سبيل الله)، ثم سارع بفعله كما رأينا في هذه السيرة العطرة من بعض هذه الومضات العظيمة.

(وصلى صلى الله عليه وسلم مرةً، فتجوز في صلاته، ثم مشى مسرعاً، ودخل إلى بعض بيوته، وغاب قليلاً وخرج، فرأى في عيون أصحابه السؤال والتعجب، فبادر قائلاً: ذكرت شيئاً من تبر -أي: ذهب- فخشيت أن يحبسني، ففرقته في سبيل الله).

تلك هي المبادرة؛ فإن الوقت يمضي، وإن الأجل يقطع، وقد قال صلى الله عليه وسلم في مثل هذا المعنى -كما روى ابن ماجة في سننه-: (حجوا قبل ألا تحجوا، فإنه يمرض المريض، وتعطب الدابة)، فهذا في الحث على المبادرة في الحج، فإنه قد يمرض الإنسان، وقد تعطب دابته، وقد يفوته هذا الأمر كما يفوته غيره من الأمور إن هو أخر، فلا يدري كيف سيكون حاله؟ وفي الحديث: (اغتنم خمساً قبل خمس: شبابك قبل هرمك، وحياتك قبل موتك، وصحتك قبل مرضك، وغناك قبل فقرك، وفراغك قبل شغلك).

كل ذلك قاله صلى الله عليه وسلم، وكل ذلك امتثله وحث عليه أصحابه، فالاختبار لا يمكن النجاح فيه بالتفوق إلا بمثل هذه المبادرة، وبمثل هذا الذي نصنعه في هذا الموسم من تفريغ الأوقات، وقطع الشواغل، وتركيز الاهتمامات، وإعادة ترتيب الأولويات، وجعل الأمور في نصابها، فقد دخلت هموم الدنيا وشواغلها، ودخلت الملهيات والمغريات وصوارفها التي جعلت القلوب معلقة بغير تلك المسارعة إلى الطاعات.

وتأمل هذه الكلمات التي تدلنا على معنى هذه المسارعة، وكيف تكون كما شبهنا ذلك وسنعيده بإيضاح أكثر في شأن الاختبارات.

قال السعدي رحمه الله: والأمر بالاستباق إلى الخيرات قدر زائد على الأمر بفعل الخيرات -إذ إنه ليس مجرد فعل، بل هو أكثر من ذلك- فإن الاستباق إلى الخيرات يتضمن فعلها وتكميلها، وإيقاعها على أكمل الأحوال، والمبادرة إليها، ومن سبق في الدنيا إلى الخيرات فهو السابق في الآخرة إلى الجنات! ولما كان أقوى ما يحث النفوس على المسارعة إلى الخير وينشطها ما رتب الله عليها من الثواب، قال جل وعلا: أَيْنَ مَا تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعًا [البقرة:148]، ويستدل بهذه الآية الشريفة على الإتيان بكل فضيلة يطلب فيها العمل على أفضل وجه، كالصلاة في أول وقتها، والمبادرة إلى إبراء الذمة في الصيام والحج والعمرة، وإخراج الزكاة، والإتيان بسنن العبادات، وغير ذلك مما فيه الكمال.

وكل هذا يدلنا على أننا إذا نظرنا إلى أحوالنا في مثل هذا الأمر وجدنا أنا مقصرون فيها.

وقال أبو حيان في تفسيره: المسارعة في الخيرات تكون من شدة وفرط الرغبة فيها. أي: عن رغبة في الأمر المبادر إليه والقيام به.

حال الصحابة في المسارعة إلى الخيرات

بعد سرد هذا التوجيه القرآني، وبعد هذه القدوة النبوية، نذكر كيف كان ذلك جلياً في حياة الصحب الكرام، كما هو معلوم في ذلك الحديث المشهور عند الترمذي في سننه من رواية عمر رضي الله عنه وأرضاه، أنه قال: (أمرنا رسول الله صلى الله عليه وسلم أن نتصدق، فوافق ذلك مالاً عندي، فقلت: اليوم أسبق أبا بكر إن سبقته يوماً قال: فجئت بنصف مالي! فقال عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ فقلت: مثله، ثم جاء أبو بكر بكل ما عنده، فقال له الرسول عليه الصلاة والسلام: ما أبقيت لأهلك؟ قال: أبقيت لهم الله ورسوله، فقال عمر رضي الله عنه: والله لا أسابقه إلى شيء أبداً).

وهناك رواية أخرى في شأن آخر بين الشيخين الجليلين في أمر يسير؛ ليدلنا ذلك على أن أمر المنافسة والمسارعة، والحرص على الأجر والمثوبة، والسبق إلى الخير والإحسان؛ كان أمراً في طبيعة نفوسهم.

فقد روى الإمام أحمد في مسنده بسند صحيح من حديث عمر أيضاً: (أنه كان مع رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبي بكر ، فمروا بـعبد الله بن مسعود وهو يقرأ القرآن، فأنصت له النبي صلى الله عليه وسلم، وكان حسن التلاوة عذب الصوت، فقال عليه الصلاة والسلام: من أراد أن يقرأ القرآن غضاً كما أنزل فليقرأه على قراءة ابن أم عبد، قال عمر رضي الله عنه: فأدلجت -أي: مشيت بالليل- إلى ابن مسعود لأبشّره، فلما ضربت الباب قال: ما أتى بك الساعة؟ قلت: جئت لأبشرك بما قال رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقال: سبقك أبو بكر) أي: بهذه البشارة.

فهذا أبو بكر وعمر الرجلان العظيمان المشغولان بجلائل الأمور، ومع ذلك في أمر خبر من الخير يستبقان، فقال عمر رضي الله عنه في مثل هذا: إن يفعل فإنه سباق في الخيرات، وما استبقنا إلى خير قط إلا سبقنا إليه أبو بكر.

وتأمل في هذه المسابقة التي أتت في صورة بديعة جملية، تدل على شيوع هذا في مجتمع المسلمين، يوم أمر النبي صلى الله عليه وسلم بمقاطعة النفر الثلاثة الذين تخلفوا عن غزوة تبوك، وكان أصغر القوم وأشبهم: كعب بن مالك رضي الله عنه، ومكث الثلاثة خمسين يوماً من القطيعة التامة، وكان القرآن قد أبلغ في وصف ما حصل فقال تعالى: وَضَاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنفُسُهُمْ [التوبة:118] فلما نزلت آيات التوبة، أراد الصحابة أن يسبقوا بالبشارة إلى كعب رضي الله عنه، ويروي القصة كعب فيقول: (فابتدر أحدهم على فرسه لكي يصل إلي، وعلا آخر على سلع ليرفع بالصوت) -كلٌ يسابق إلى هذا الخبر لينشره- قال: (فكان الذي على الخيل أسرع، فكسوته بردة والله ما كان لي أحسن منها).

هكذا كان شيوع المبادرة إلى الخيرات، لا يقول النبي صلى الله عليه وسلم شيئاً، ولا يأمر أمراً، ولا تنزل آية، إلا وبادروا إلى الاستجابة والفعل والتنافس في هذا الميدان، وكان هذا هو الشأن السائد عندهم.

ولذلك لما تنزلت آيات تحريم الخمر امتنعوا منها لفورهم، ولما تنزلت آيات الحجاب لبس نساء المؤمنين الحجاب من وقته، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم يحث ويحض فيستبقون.

كما استبقوا في الإنفاق يوم جاء القوم من مضر، فجاء رجل من الأنصار بصرّة من ذهب كادت كفه أن تعجز عنها، بل قد عجزت! فتتابع الناس حتى اجتمع كومان من ثياب وطعام، فتهلل وجه النبي صلى الله عليه وسلم كأنه مذهبة، وسرّه هذا السباق إلى الخيرات، فقال: (من سن في الإسلام سنة حسنة فله أجرها وأجر من عمل بها إلى يوم القيامة، لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً).

والسبق له مزية، والمبادرة لها ثمرة: وَالسَّابِقُونَ الأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ وَالَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسَانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَرَضُوا عَنْهُ وَأَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا أَبَدًا ذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ [التوبة:100]، فكل من سبق تميز، لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَقَاتَلَ [الحديد:10]، فمن سبق إلى أمر له شرف في المنزلة، وزيادة في الأجر، ورفعة في القدر، وادخار عند الله سبحانه وتعالى، فكيف تريد المعالي ولا تبذل لها مهرها؟! وكيف تريد أن تحقق التفوق ولا تعطي له جهده:

تبغي النجاة ولم تسلك مسالكها إن السفينة لا تجري على اليبس

قال الله عز وجل: خِتَامُهُ مِسْكٌ وَفِي ذَلِكَ فَلْيَتَنَافَسِ الْمُتَنَافِسُونَ [المطففين:26]، وإذا أردت دون ذلك فالناس مقامات، والجنة درجات، والنار -والعياذ بالله- دركات: ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتَابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنَا مِنْ عِبَادِنَا فَمِنْهُمْ ظَالِمٌ لِنَفْسِهِ وَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَمِنْهُمْ سَابِقٌ بِالْخَيْرَاتِ بِإِذْنِ اللَّهِ [فاطر:32]، تلك هي المراتب، فاختر لنفسك، وانظر هل أنت مدرك لهذا الموسم في الاختبارات أم أن الأمر على غير ذلك؟!

نسأل الله سبحانه وتعالى أن يعلق قلوبنا بطاعته ومرضاته، وأن يجعلنا من المسارعين إلى الخيرات، المبادرين إلى الطاعات، إنه ولي ذلك والقادر عليه.

أقول هذا القول، وأستغفر الله العظيم لي ولكم من كل ذنب، فاستغفروه إنه هو الغفور الرحيم.

الذي نريد أن نخرج به مما سبق أن المسألة المهمة في نجاح كل أمر: هي المبادرة إلى إنجازه، والإتقان في أدائه، والحرص على تحصيله في وقته قبل فوات أوانه.

والمسارعة إلى الخيرات درس عملي نستفيده من موسم الاختبارات، ألسنا في هذا الموسم -كما قلنا- نقدم كل شيء يتعلق بهذه الاختبارات، ونعطيه الأولوية، ونصرف فيه الطاقة، ونفرغ له الوقت، ونهيء له الأسباب، ونقطع عنه الشواغل؟! لأنا نريد النتيجة الأفضل والأكمل، فأين نحن من هذا في واقع حياتنا؟! لأن الحياة والعمر كله موسم اختبارات، وختامه انتهاء الحياة، ونتيجته يوم تتطاير الصحف، فآخذٌ كتابه بيمينه، وآخذ كتابه بشماله من وراء ظهره.

فالمسارعة إلى الخيرات هي أعظم أسباب النجاح في الاختبارات .. المسارعة إلى الخيرات هي المبادرة إلى الطاعات والسبق إليها، والإقبال على أدائها دون إبطاء أو إرجاء، هل يؤجل اليوم أحد الطلاب مذاكرة اختبار الغد، ويقول: لا بأس أن أقرأ وأن أراجع في وقت لاحق؟! كلا؛ لأنه لا بد منه في هذا الوقت، وقد ضاق الزمن، وتحدد أن تكون هناك المبادرة.

ولئن كان موعد الاختبار محدداً بيوم وتاريخ، فإن موعد اختبار كل واحد منا ليس له ذلك التحديد، فيمكن أن يكون غداً، ويمكن أن يكون اليوم، ويمكن أن يكون بعد عام، أو بعد عامين! فمتى يأتي الأجل؟ ومتى يخرج الإنسان من دنياه ليستقبل أخراه، ويبدأها بالسؤال في قبره، ومن بعد ذلك بين يدي ربه؟