إغراق وإشراق


الحلقة مفرغة

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين، الحمد لله على جزيل نعمه، ووافر عطائه وعظيم كرمه ومنه سبحانه وتعالى، نحمده جل وعلا كما يليق بجلاله وعظيم سلطانه، والصلاة والسلام على المبعوث رحمة للعالمين، سيد الأولين والآخرين، نبينا محمد الصادق الوعد الأمين، وعلى آله الطيبين الطاهرين، وعلى صحابته الغر الميامين، وعلى من اقتفى أثرهم وسار على نهجهم إلى يوم الدين، ونحن معهم بعفوك وكرمك يا أرحم الراحمين.

أما بعد:

فإن موضوع (إغراق وإشراق) تفصيله إغراق المادية وإشراق الروحانية.

والحقيقة أن هذا الموضوع متعدد الجوانب، وفيه كثير من المتاعب، وكذلك فيه دقة وتأكيد على صواب ينبغي أن يخلص من خطأ لا يطغى على الصواب، فهو لذلك كنوع من استخلاص شيء مشتبك بأشياء أخرى كثيرة، ومن هنا لابد من أن يكون التعبير والنقل والبيان واضحاً وجلياً؛ لئلا يكون هناك التباس في فهم أو خلط بين قول وقول.

وتقدمة لهذا الموضوع فإننا نعلم جميعاً أن هذا الإنسان مخلوق من قبضة طين ونفخة روح: وَإِذْ قَالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خَالِقٌ بَشَرًا مِنْ صَلْصَالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ * فَإِذَا سَوَّيْتُهُ وَنَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ سَاجِدِينَ [الحجر:28- 29].

فأصل الإنسان من هذين الشقين، وبالنظر إليهما نجد أن أحدهما شق مادي أرضي، والآخر شق روحاني علوي، ومن هنا كان لكل شق ما يناسبه من غذائه وما يهذبه من أحكامه، فغذاء البدن من جنس الأرض والطين الذي خلق منه من الزروع والثمار والحيوانات والطعام والشراب مما سخر الله سبحانه وتعالى ويسر في هذه الأرض.

وكذلك الأحكام تناسب هذا البدن، فنجد قول الله سبحانه وتعالى: لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا [البقرة:286]، ونجد الأحكام التفصيلية تراعي مثل هذا: (صل قائماً، فإن لم تستطع فجالساً، فإن لم تستطع فعلى جنب).

وإذا نظرنا إلى الشق الثاني فإننا نجد أيضاً أن غذاء الروح هو أيضاً من جنس خلقتها؛ لأنها كما قال الله سبحانه وتعالى: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، فلما كانت هي من أمر الله ومن سر الله سبحانه وتعالى في هذا الخلق وهذا الوجود فكذلك غذاؤها لا يكون إلا من جنس أصل خلقتها، فهو غذاء رباني من وحي الله سبحانه وتعالى ومن كتاب سبحانه وتعالى، ومن التعلق بالله سبحانه وتعالى، ومن المحبة لله سبحانه وتعالى، إلى آخر ما هو معلوم في هذا الباب مما سيرد ذكر بعض منه بعون الله تعالى.

وكذلك أحكامها إن تأملنا فسنجد أنها تناسب هذا الأمر وتتوافق معه، فليست فيها تلك الأحكام المادية البحته، فإن أمر الرؤى والأحلام، وإن أمر الكشف والإلهام، وإن أموراً مما يلحق بهذا لها حكم يتناسب معها ليس آخذاً صفة المادية البحتة، بل هو مواكب وموافق للروحانية.

ومن هذا المنطلق عندنا جانبان:

الجانب المادي، والجانب الروحي.

فالإغراق في المادية يطفئ أنوار الروحانية، والغلو في الروحانية يغلق الناحية البدنية، وكلا طرفي قصد الأمور ذميم.

والتوسط هو الهدي المستقيم، وهو الشرع الحكيم الذي جاء به رسولنا صلى الله عليه وسلم.

وهذا كلام مجمل يوضح المعنى الإجمالي لهذا الموضوع الذي نتحدث عنه، ولذلك قال العلماء من أمثال ابن القيم وابن تيمية كلاماً في مثل هذا الشأن يوضح هذه المقدمة ويبينها.

فـابن القيم على سبيل المثال يقول: اللذات ثلاث: لذة جسمانية، ولذة خيالة وهمية، ولذة عقلية روحانية.

فأما اللذة الجسمانية فهي لذة الأكل والشراب والجماع، ويشترك فيها الإنسان والحيوان، وتحصيل هذه اللذة لا يؤدي إلى كمال الإنسان؛ لأن أنقص الحيوانات يحصلها.

فلو كان كمال الإنسان بكثرة الطعام والشراب والمبالغة أو المسابقة في هذا الشأن لكان كلما ازداد في هذا الشأن كلما اتصف بالحيوانية، بل بأدنى مراتب الحيوانية؛ لأن من الحيوانات الوضيعة ما يكون في هذا الجانب مبرزاً أو سابقاً.

وأما اللذة الوهمية الخيالية فلذة الرئاسة والتعاظم على الخلق. ويقصد بها ما يتعلق بالنفس من الأمراض من عجب أو تكبر، ففيها لذة في حقيقة الأمر، وفيها نوع من الفرح والسرور، وفيها نوع من حصول طمأنينة النفس المتوهمة، أو استقرار يظنه صاحبه كذلك، ولكنه على الحقيقة ليس كذلك، وقد فقه أهل الإيمان ذلك، ومن ذلك مثال يذكره ابن القيم عن ابن مسعود رضي الله عنه (أنه مشى مرة فمشى خلفه بعض الناس، فقال: هل لكم من سؤال تسألونه أو حاجة تطلبونها؟ قالوا: لا. ولكنا أحببنا أن نسير معك -موكب وحفاوة ونوع مما نسميه نحن البهرج والاتباع والالتفاف- فقال: لا تفعلوا؛ فإنه ذلة للتابع وفتنة للمتبوع).

ذلة للتابع لا تتناسب مع كرامة الإنسان، وفتنة للمتبوع يستعلي بها على الخلق، ويظن أنه قد ارتقى مرتقىً لا يبلغه أحد، وهذا من سفه العقل ومن حمق الإنسان، حينما يظن أنه من الممكن أن يفارق البشر ويرتفع عنهم بشيء مما يتعلق بهذه التوهمات والتخرصات.

ولذلك كان عتب أهل العلم والإيمان ونقدهم في هذا الباب جميل وقوي، فهذا أحدهم يقول حينما رأى أحد الأمراء وهو يزدهي ويفتخر فقال: علام هذا؟ ما أنت في أولك إلا نطفة مذرة، وفي آخرك جيفة قذرة، وأنت فيما بينهما تحمل العذرة.

أي: الفضلات. أكرمك الله.

فلا موجب للتكبر، والقرآن بين هذا بياناً شافياً، فقال سبحانه وتعالى في شأن المتكبر: إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الأَرْضَ وَلَنْ تَبْلُغَ الْجِبَالَ طُولًا [الإسراء:37].

مهما مشى المتكبر فله مشيتان: إما أن يدك الأرض دكاً، وإما أن يترفع فيمشي كالطاووس منتشياً على أطراف أقدامه.

والقرآن بين أنك مهما بالغت في هذه المشية فإنك لن تخرق الأرض، ومهما بالغت تطاولاً فإنك لن تبلغ الجبال طولاً، فلتعرف قدرك.

ولذلك قال أبو العلاء المعري :

خفف الوطأ ما أظن أديم الـ أرض إلا من هذه الأجساد

يعني: على مهلك عندما تمشي؛ فإن هذه الأرض غداً ستكون أنت من ترابها الذي يوطأ.

فإذاً هذه لذة قال عنها ابن القيم رحمة الله عليه: وطلاب هذه اللذة أشرف نفوساً من طلاب الأولى، ولو أنهم ليسوا على الكمال المطلوب، لكن آلامها أعظم من التذاذ النفس بها؛ لأن صاحبها قد نصب نفسه لمعاداة كل من تعاظم عليهم، فهذا يغتابه، وهذا يحسده، وهذا يتربص به، وهو في ذلك على خوف على نفسه ونحو ذلك مما لا يحقق لذة من اللذة التي يطلبها العبد.

وأما اللذة العقلية الروحانية فهي لذة المعرفة والعلم والاتصاف بصفات الكمال، من كرم وجود وعفة وشجاعة وصبر وحلم ومروءه ومعرفة الله ومحبته.

قال بعض العارفين: مساكين أهل الدنيا خرجوا من الدنيا ولم يذوقوا طيب نعيمها. فقيل له: وما هو؟ قال: محبة الله والإنس به والشوق إلى لقائه ومعرفة أسمائه وصفاته.

فهذه اللذة هي التي يسعى الإنسان إلى الكمال فيها ويسعى إلى تحصيلها، وهي التي بها يقع التوازن ويقع العلو والشرف للإنسان، وسيتضح هذا حينما نفصل الآن المدرستين أو الجانبين، سنتحدث عن إغراق المادية وصورها، ثم عن إشراق الروحانية وصورها، وفي كل يقع خلل بين غلو وتفريط وبين إجحاف وإفراط، لأن هذا هو حال ما يقع فيه الالتباس حينما لا يكون الإنسان ملتزماً بنهج كتاب الله وسنة رسوله صلى الله عليه وسلم.

المادية متعلقة بالجسم، ومتعلقة كذلك بقوة بدنية تتمثل في الطعام والشراب وقوة الجنس ونحو ذلك، وقوة عقلية تتمثل في الفكر والتأمل وحل المعضلات ونحو ذلك، وقوة هي نوع من التعامل مع المواد والحوادث والوقائع التي تخرج عن دائرة ذات الإنسان.

فهناك نتج عن الإغراق في المادية ثلاث مدارس نحتاج أن نمر على بعضها مروراً سريعاً لوضوحها، وبعضها يحتاج إلى شيء من التفصيل.

فنشأت المدرسة الإباحية، والمدرسة المادية، والمدرسة العقلية.

المدرسة الإباحية حقيقتها وآثارها السلبية على الفرد والمجتمع

المدرسة الإباحية أصحابها هم الذين جعلوا همهم في اللذة الأولى، لذة كمال الجسم المادي بالطعام والشراب وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وهذا الجانب عند التأمل نجد أنه حينما يسير الإنسان وراءه مندفعاً بشهواته غير منضبط بشرع ولا بحكمة ولا بعقل ولا بتوسط واعتدال فإنه ينشأ عنه صورة مرذولة قبيحة، لها من الأضرار شيء كثير، ومن ذلك أننا نستطيع أن نضرب الأمثلة من واقع الحال، فنجد أن الإباحية المطلقة التي نادى بها وطبقها الغرب كم أنتجت من صور تقشعر لها الأبدان، وتجفل منها القلوب، وتشمئز منها الفطر السليمة.

فإذا نحن نرى شيوع الفاحشة من الزنا بأمر لا يخطر على العقل كثرة، ولا يخطر على العقل مما يقع معه مصاحباً للجريمة أو الاعتداء أو نحو ذلك، مما يهدد حياة الناس كما يتضح من سلسلة الآثار.

وكذلك تجاوز هذا الأمر إلى عدم الاكتفاء بالصورة التي يعرف أن النفس البشرية أصلاً مفطورة مجبولة عليها، فتعدى الأمر الفواحش إلى الشذوذ، وصار هناك -أيضاً- باب واسع من هذه الأبواب في الشذوذ المعروف، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الانطلاق في ممارسة الفواحش مع المحارم والأبناء والبنات والأخوات والأمهات، وتجاوز الأمر كل ذلك -رغم هذه الإباحية- إلى حصول الأمر بنوع من الاعتداء والاغتصاب والجريمة، وصاحب كل ذلك نوع من الأمور التي لها آثار سيئة جداً من انتشار المسكرات والمخدرات، وانتشار الجريمة بكل صورها إلى القتل في أعظم صوره.

كل هذا صورة ظاهرة لهذه المدرسة الإباحية، وتجد الإحصاءات والأرقام شيئاً عجيباً جداً.

فعلى سبيل المثال: من الإحصاءات -وليست جديدة- في أوائل الثمانينات في أمريكا ما بين اثني عشر إلى خمسة عشر مليوناً يمارسون الجنس مع المحارم، وهناك نحو سبعة عشر من المائة من المواطنين الأمريكيين يمارسون الشذوذ.

وهناك أعداد كبيرة لا حصر لها تمارس الفاحشة والزنا والحرام؛ لأنه ليس عندهم بمحرم، إضافة إلى ذلك تجد مثلاً بلداً مثل السويد -وهو من أعظم الدول إباحية- تصل فيه النسب إلى شيء مهول، نتج عن ذلك آثار كثيرة جداً يهمنا منها بعض الآثار المهمة، وهي إطفاء نور القلب، وطمس معالم الفطرة السوية، فهؤلاء القوم ليس عندهم فرق بين عيب، ولا عندهم في قاموسهم العيب ولا الحياء، فضلاً عن الكراهة أو الحرمة، كل ذلك زال، والنفس البشرية من فطرتها ما ذكره الله سبحانه وتعال: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121]، فطرة الإنسان أن يستر عورته فضلاً عن أن ينطلق في هذه الميادين البهيمية.

هذا كله كان متجرداً في هذه المجتمعات، فحصل هذا الأثر الأول، وهو انطماس الفطرة السليمة، وانعدام كل معالم القيم التي تقرها الفطر والعقول فضلاً عن الديانات أو الأنظمة التي وضعها حتى البشر من ذات أنفسهم.

وهذا جانب واضح آثاره المادية كثيرة جداً، ومنها انهيار شديد جداً في البناء الأسري، وعزوف كبير جداً عن الزواج، وملايين من الأطفال من اللقطاء.

ومن الآثار المادية التي تترتب على هذا أن اللقطاء -مثلاً- يحتاجون إلى أموال ومؤسسات ودور وجوانب أخرى كالأمن وغير ذلك.

أضف إلى ذلك الآثار الصحية المعروفة، من انتشار الأمراض المهلكة والأوجاع التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها لم تكن في أسلافهم، وهذا كله شاهده آية واحدة في القرآن، تبين لنا بياناً شافياً كل الآثار التي يقع فيها الناس عندما يتنكبون طريق الله سبحانه وتعال، وهي قوله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، وهذا التعبير القرآني قوي وأصيل وبليغ، معيشة ضنك، والضنك هو ضيق في النفس، وضيق في المال، وضيق في الصحة، أمر لا يفارق الإنسان، يصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته.

ولو تصور الناس ما يدعو به بعض الناس في مجتمعات المسلمين أن هذا هو الذي يحقق سعادة النفوس، ويحقق للناس انفتاحاً وانعتاقاً مما يسمونه كبتاً أو عوائق لكان أجدر الناس بأن يحصلوا على هذه اللذات المتوهمة وهذه الخيرات المفتعلة هم هؤلاء القوم، ولكنا نجد أنهم في شقاء نفسي معنوي ظاهر، يظهر في انتحارهم ويظهر في اعتدائهم، ويظهر في أقوالهم التي تبين حيرتهم المطلقة، رغم أن كل أسباب المادة من طعام وشراب وجنس ونحو ذلك ما تركوا منه شيئاً إلا وأخذوا بأوفى وأعلى حظ منه، ومع ذلك ما يزيدهم الأخذ في هذا الشأن إلا زيادة في ضنك العيش مرة بعد مرة، وهذا شاهده قول الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، لا يتخلف هذا الأمر وإن اختلفت صوره أو ألوانه.

هذا ما يتعلق بإيجاز بالنسبة للمدرسة الإباحية.

المدرسة المادية حقيقتها وآثارها السلبية وأصناف الناس فيها

المدرسة المادية هي التي تجعل حساب المادة حساباً وحيداً، فإذا جاءت في قاموس المواجهة والنصر والهزيمة حسبت عدتها من العتاد والسلاح والعدة وغيرها ثم قالت: لا يمكن.

وإذا جاءت في مسائل معتادة للناس أخذت بالأسباب، وجعلت هذه الأسباب المادية هي وحدها الحكم، ونسيت ما وراء ذلك من قدر الله سبحانه وتعالى، من نصر الله سبحانه وتعالى، من دفع الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك أدلته في القرآن واضحة.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [محمد:7]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].

فالماديون -للأسف- تغلغلت أفكارهم حتى في مجتمعاتنا، أصبح الناس الآن إذا قيل: قوى عظمى خافوا، وإذا قيل: لا نستطيع مسألة من المسائل قالوا: هذا لا يمكن. وكذلك المريض أخذ الطب وسيلة وحيدة لا يوجد غيرها، لم يكن عنده نوع توكل على الله، ولا نوع اتجاه إلى الله، ولا نوع سؤال لله سبحانه وتعالى.

وكل هذه المثالب أو هذه المشكلات يجمعها مثلب واحد ونقيصة مهمة، وهي أن هذا النوع من الانطلاق يلغي شيئاً مهماً في حياة البشرية كلها، وهو وصف العبودية للخلق، ووصف الألوهية والربوبية لله سبحانه وتعالى.

وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن كل نقص في الإنسان يقابله كمال عند الله سبحانه وتعالى، ليبقى العبد دائم الافتقار لله جل وعلا، فقد ركبت أيها العبد من العجز لتنظر إلى كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى كمال غنى الله سبحانه وتعالى.

فإذا أخذ الإنسان بأسباب المادة وقع في هذا، ومثال ذلك من القرآن قصة قارون : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

أي: ليس هناك فتح ولا تيسير ولا توفيق ولا رعاية ولا عناية من الله سبحانه وتعالى. فكانت النتيجة فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]، فكل من أخذ بأسباب المادة وحدها وقطع أسباب الله سبحانه وتعالى فإنه يكون مصوراً لصورة قبيحة، وهي انفصال العبودية عن الإلهية، أو أن هذا الإنسان أصبح مستقلاً بذاته غير مفتقرٍ -عياذاً بالله- إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى.

ولذلك المؤمنون حينما كان يخالطهم بعض اعتماد -ربما كان فيه زيادة عن الحد المطلوب- بقوتهم كان العقاب يأتيهم والتربية تأتيهم من الله سبحانه وتعالى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25] فقط كلمات قالوها، قالوا: (لن نغلب اليوم من قلة).

هذه الكلمة فقط، لكن لأنهم كانوا على الإيمان والكمال فكان كل يسير من التقصير يعاقبهم الله سبحانه وتعالى عليه، ويربيهم بما يقدرون عليه من البلاء، حتى يعلم أثر هذه الأمور في حياة الناس، ومشكلة الناس اليوم أنهم يرتبطون بأسباب المادة وينسون أسباب السماء في كثير من الأحوال والوقائع.

فنجد هنا هذا المعنى حينما ينقطع الإنسان عن هذه الأسباب الإلهية، يلغي هذا الجانب من العبودية الذي هو حياة الكون كله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهذا الإنسان هو الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فغاية هذا الكون كله هي عبوديته بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فإذا اعتمد على المادة ونسي أسباب السماء فكأن هذا نوع الغاء للعبودية، ونوع اجتراء على إلاهية الله سبحانه وتعالى، وكون كل أسباب الدنيا والآخرة بيده جل وعلا، ولذلك قال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25]، فمباشرة جاء العقاب من الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر.

والله جل وعلا قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، الربط بالسبب الذي هو نوع من التعلق بالله سبحانه وتعالى، إما موافقة لأمره أو تخلفاً عن أمره، فلما كان تخلفهم عن أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أُحد بشيء يسير أو بأمر واحد جاءت العقوبة من الله سبحانه وتعالى.

وهذا لا يكون إلا عندما يكون العبد في درجة من الإيمان والكمال، ينزل الله سبحانه وتعالى له من البلاء ما يذكره بخطئه وما يمحو عنه ذنبه، أما غير هؤلاء من الناس فإن قدر الله قد يجري باستدراجهم، فيملي لهم سبحانه وتعالى، ولكنه يمهل ولا يهمل جل وعلا وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

فإذاً هذا المعنى عند أهل الإيمان يربطون به السبب المادي، فكان أحدهم يقول: إني إذا أذنبت الذنب أجد ذلك في خلق زوجتي ودابتي.

فكلما حصل سبب مادي ربطه بسبب معنوي يصله بالله سبحانه وتعالى.

أما اليوم فهذه النظرة المادية قد طغت على الناس، فإذا جاءت الزلازل فسروها تفسيراً مادياً، قالوا: ضعف القشرة الأرضية وغير ذلك. ونسوا أن يقولوا: إن ذلك قدر من الله، وإن له فيه حكمة، وإنه قد يكون مرتبطاً بعقوبة من الله سبحانه وتعالى. كما بين الله جل وعلا أنه ما من شيء يقع إلا بما كسبت أيدي الناس ويعفو سبحانه وتعالى عن كثير.

فهذه المدرسة المادية التي أهملت أسباب السماء طغت على كثير من مجتمعات المسلمين، وصاروا لا يلتفتون إلى هذه المعاني، وهي لب وجوهر من جواهر العبودية له سبحانه.

وحقيقة الإيمان من توكل وتعلق وربط كل شيء في هذا الكون بموافقة أمر الله ورضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، أو بمخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وسخط الله سبحانه وتعالى وبلائهم في تقديره.

وهذا الأمر حينما غاب عن الناس حصل لهم من البلاء شيء كثير، ولكن كثيراً من الناس لا يفكرون ولا يتأملون، وكم نرى من أحوال الناس في مجتمعنا ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالى مادة ومالاً لكن محقت منهم البركة، أو ابتلوا بأنواع الأسقام، أو ابتلوا بعقوق الأبناء، أو ابتلوا بصورة من الأبناء المتخلفين أو القاصرين في عقولهم، فتجد هذا الغني الثري يأتي لابنه بكل المدرسين ثم يرسب هذا الابن، فإذا ما نفعه مدرس أتى بمدرس آخر بدرجة أعلى في العلم، أو يأتي باثنين أو بثلاثة، ما فكر أن المسألة قد يكون مرجعها في الحقيقة إلى نوع تفريط في اكتسابه للمال من حرام أو نحو ذلك.

وهذا أيضاً إيجاز شديد مختصر للمدرسة المادية التي تركت أسباب السماء وتعلقت بأسباب الأرض تعلقاً كاملاً، فكانت كأنما تلغي مقام العبودية والذلة لله سبحانه وتعالى، وكل هذه المدارس التي فيها إغراق مادي هي نوع من الإجحاف بإشراق الروحانية.

المدرسة العقلية حقيقتها والآثار المترتبة عليها

المدرسة الثالثة -وهي التي يطول الحديث فيها- المدرسة العقلانية التي بالغت في حد العقل ومكانته حتى بلغت به أن يكون في منزلة الإله، أو بلغت به أن يكون هو الذي يحكم كل شيء ويوجه كل شيء، حتى جعلت العقل حاكماً على الشرع، وهذا من أعظم الفساد وأكثر المزالق التي ضلت فيها فرق كثيرة، والتي حينما ابتليت بها الأمة وقع فيها من الخلل ومن الزيع -بل ومن الكفر والخروج من الملة- ما هو مشهود له في وقائع كثيرة.

وهذا الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل؛ لأن الأمرين السابقين أحسب أن صورتهما واضحة سواء من الإباحية أو من المادية التي ذكرناهما، ذلك كله ظاهر، لكن مسألة العقلانية تطوف بالعقول أكثر، والتلبيس فيها أكثر.

فإذاً هذه الصورة هي المهمة نقف عندها ونسرد أولاً أقوالاً تبين لنا ما قال هؤلاء العقلانيون إن صح التعبير نسبة إلى العقل الذي بالغوا في تقديره، وإن كانوا في حقيقة الأمر خالفوا مقتضى تفكير العقل؛ لأن العقل من حسن تفكيره وتدبيره أن يعرف حدوده، وأن يعرف مدخله ومخرجه، فالإنسان إذا كان له تخصص معين ثم يدخل في كل تخصص ويريد أن يبدع في كل تخصص فإنه يخلط، أو يأتي بحق وصواب، أو يوفق إلى بعض الصواب ويخطئ في كثير، فلا يقال عن مثل هذا: إنه مصيب. بل يقال: إنه أخطأ؛ لأنه تجاوز الحد.

فهؤلاء عقلانيون باعتبار أنهم تكلموا في مسألة العقل، لا باعتبار أن عقولهم هي الراجحة أو الكبيرة، وإن كانت كذلك في ذات الأمر، لكنها في آخر الأمر انقلبت على ذاتها.

فنذكر أقوالاً تبين صورة موجزة لهذا الأمر، فمن هذا قول الزمخشري صاحب الكشاف في مسألة العقل، يقول: امش في دينك تحت راية السلطان -ويقصد به سلطان العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه.

هذا القول يعني: سر في دينك تحت سلطان العقل، واترك الرواية عن فلان وفلان، لا تقنع بها بل حاكمها إلى العقل، فإن اقتنع بها عقلك وإلا فالتمس لها مخرجاً أو تأويلاً.

والغزالي القديم أيضاً يقول في تعليق على قول الله سبحانه وتعالى في خطابه للسماوات والأرض: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] يقول الغزالي : فالبليد في فهمه هو الذي يقدر لهما حياة -يعني: للسماوات والأرض- يخلقها الله للسماء والأرض، وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، هذا البليد والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال، وأنه أنبأه عن كونهما مسخرتين بالضرورة.

أقول: هذا الفهم الذي هو ظاهر النص والقرآن وجاء باللغة العربية، كما قال تعالى: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28] كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت:44].

كل هذه الدلالات تدل على أن ظاهر لفظ القرآن يحمل على الحقيقة، إلا أن توجد القرينة القوية المستدل بها من النصوص الأخرى على أن المعنى مفسر بقول آخر.

فهو يقول: البليد الذي يظن أن هذا المعنى الظاهر هو المراد، والبصير هو الذي يفهم أن هذا أمر معنوي وليس حسياً.

وسنبين الخلاصة بعد سرد بعض هذه الأقوال أيضاً، وستجد -أيضاً- من المتأخرين من يرى مثل هذا.

فـمحمد عبده يقول: الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي وغيره يأتي بعده.

ويقول: تقرر بين المسلمين كافة -إلا من لا ثقة بعقله ودينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله سبحانه وتعالى.

وهذا طبعاً خلاف الصحيح.

ثم أقوال أخرى دخلوا فيها مدخلاً صحيحاً وخرجوا مخرجاً خاطئاً، دخلوا من مدخل تكريم الإسلام للعقل، ودعوة للتأمل في القرآن والتدبر والتفكر وإعمال العقل، دخلوا من هذا المدخل، ثم خرجوا منه إلى أن العقل هو الحاكم، ولذلك أولوا كثيراً من النصوص، مثل إمداد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالملائكة، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فيقول الواحد منهم في تفسير له: إن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب، وليس هناك ملائكة نزلت ولا غير ذلك.

انظر إلى النظرية العقلية المادية البحتة!

ثم يقول: المسلمون في بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والكافرون كانوا قريباً من ألف، فلو نزلت الملائكة وكان كما ورد في الروايات أن أحدهم يقول: إني كنت أرفع سيفي فإذا بالكافر أو المشرك يقطع رأسه ويموت قبل ذلك، فإذا كانت الملائكة نزلت بكثرة فمعنى هذا الكلام أن الانتصار أصبح فيه نوع من التكافؤ، وهذا لا يكون، بل الانتصار كان بقوة الروح.

ومن هذا التوهم يأتي مثل هذا الكلام، وعلى هذا فقس.

كذلك حينما يأتي قول الله سبحانه وتعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13]، يقولون: هذا للتسخير ونحو ذلك.

إذاً فما ورد من تسبيح الطعام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وما ثبت أيضاً في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة وخرج مرة فما مر بشجر ولا حجر إلا وهو يسلم عليه إذا قلنا بهذا القول فإن معظم ما ورد سيكون غير واضح الدلالة، أو دلالته غير مرادة.

وهذا لا شك أنه إخراج للنصوص عن مرادها الظاهر والواضح.

هذه المدرسة مشكلتها أنها وصلت إلى حد خطير، وهو رد النصوص، فتجد من هؤلاء من ينكر كل نص وإن ثبت إذا كان يرى أنه مخالف لمقتضى العقل.

أقول: أولاً: أي عقل هذا الذي نريد أن نجعله حكماً؟! فعقلي غير عقلك وعقل الثاني غير عقل الثالث.

ثانياً: هذا الدين جاء لكل الناس، للعامي البسيط، وللعجوز الشمطاء التي لا تعرف ولا تبصر ولا تدرك من الأمور كثيراً، وللطفل الصغير، فلو قلنا: إن هذه المكانة للعقل بهذا التدبر والتفكر وهذا الإمرار للنصوص على العقل يحكم فيها فإننا سنجد أن هذا لا يتحقق إلا في فئة من الناس لا يتجاوزون نسبة ضئيلة، والآخرون كيف سيكون حالهم؟! هل سيكونون كلهم من البلداء؟! وهل سيكون مثل هذا الوصف يلحق بمن كانوا من أهل الإيمان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين، وهم من سيأتي ذكر كثير من قولهم في الشق الثاني من الموضوع؟!

الجواب: ينبغي أن يكون هناك تدبر وتأمل، ومن هنا اقتضى هذا الإسراف في هذا الجانب.

وعلماء أهل السنة ردوا على هذه القضية في ردود كثيرة، كان أوسعها وأعظمها وأدقها كلام الإمام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) هذا كتاب كامل في هذه المسائل، ربما نوجز بعض ما أشار إليه، ونذكر بعض القضايا اليسيرة قبل أن نذكر كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه.

إن الناس يسلمون بمحدودية الحواس الأخرى، ومن هذا المدخل تكون إحدى الحجج على العقلانية، فمثلاً: كل الناس مسلمون بأن البصر والنظر محدود، ونحن الآن في هذا الهواء والفراغ هناك كائنات وهناك ميكروبات وهناك فيروسات لا نراها، فهل عدم رؤيتنا لها يجيز لنا أن ننكر وجودها وأن نرفض وجودها؟! وهل عدم العلم هو إثبات للعدم؟! هل أنت إذا لم تعلم أن هناك -مثلاً- إنساناً خارج الغرفة التي أنت فيها هل ذلك دليل على عدم الوجود؟ الجواب: لا. فالآن أنت ببصرك هل ترى كل شيء؟ الجواب: لا.

حتى السمع معروف أن له ذبذبات معينة من كذا إلى كذا يسمعها الإنسان، إذا زادت عن هذا الحد لا يسمعها، وإذا نقصت عن هذا الحد لا يسمعها، ومن ذلك الحديث الذي في عذاب القبر أن المعذب يصرخ صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان الإنس والجان، ثم كذلك هناك أشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهذه المسميات أيضاً لا يراها الناس، هل أنكروا وجودها أم قالوا: نعم هي موجودة عرفناها يقيناً من جهة أخرى، وما لم نعرفه أيضاً نسلم بأن هناك ما هو أدق وما لم يزل بعد حتى بالأجهزة والإلكترونيات والمجاهر ما وصلنا إليه؟

إذاً أنتم جعلتم للبصر حداً محدوداً وللسمع حداً محدوداً، وقلتم: نوقن بهذه الحواس وبقوتها، لكننا نعلم أن لها حداً لا تستطيع أن نتجاوزه إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي مما يسر الله سبحانه وتعالى كالمكبرات وغير ذلك من الأمور، إذاً لماذا لم نقل ذلك في موضوع العقل، وأن له حداً إذا زاد عنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الحد إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي الوحي المبلغ للناس من الله سبحانه وتعالى؟! فكل ما هو في إطار الغيب خارج عن حدود العقل لا يمكن للعقل أن يدركه إلا بمساعد، وهو الوحي الذي يبين له إجمالاً وتفصيلاً ما ورد عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم به، وإلا فإنه يكون أيضاً منافقاً، كيف سلمت بحد الحواس كالبصر والسمع وتركت الأخرى، ولو قلنا: العقل يدرك كل شيء فكيف سنفهم كثيراً من الأمور؟ حتى الأشياء الممارسة في الحياة اليومية كثير منها نجد أن الناس يسلمون بها من غير تحكيم للعقل، فكيف يكون هذا فيما وراء ذلك من الأمور الشرعية؟!

إنك تتصور بعض الأمور الغيبية، مثل عذاب القبر، أو نعيم القبر كما ورد في الأحاديث الصحيحة: (فيفسح له في قبره حتى يكون مد بصره) إن أخذتها بالعقل فإذاً كيف سيصنع هذا القبر بجيرانه؟! وكذلك كما في الحديث أنه يجد من ريحها ونعيمها، وفي الحديث أنه يجد من حرها وعذابها، فلو تجاورا هل ينتقل نعيم هذا أو برد هذا إلى حر هذا؟ بالعقل ستتعب في هذا التفكير، كذلك لو فكرت بالعقل في كثير من القضايا الغيبية لا يمكن أن تصل فيها إلى جزم، وإلغاؤها نوع من تكذيب الشرع، أو نوع من الطعن في تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نوع من خفاء الوحي وخفاء الدين على كثير من الناس، والأصل أنه جاء تبياناً لكل شيء، وأنه واضح لكل إنسان، وأنه جاء للعالم والعامي وغيرهما، وهذا كله فيه نوع من التناقض الذي ينبغي أن يتنبه له، فأمر الغيب أصلاً لم يقع بميزان العقل، وليس هو داخلاً في إطار العقل، بل الغيب أمر آخر، والدليل على ذلك أن الإنسان في حياته الخاصة يسلم بأمور، فهو إذا رأى الرؤيا المنامية -على سبيل المثال- ويرى في تلك الرؤيا أمراً مفزعاً ومرعباً فيستيقظ وهو في خوف وهلع، هذه كيف يفسرها بالعقل؟! وكيف يريد أن يربطها بالمبدأ الحسي والمادي؟!

هو ماكث في مكانه، ما الذي أرعبه وهو نائم في مكان محصن وأمين؟! أو يرى أنه في منامه كان يركض أو يجري فيستيقظ وهو يلهث، من أين جاءه هذا اللهث وهو ماكث في مكانه ما تحرك؟! كل هذه الأمور في حياة الإنسان، بل حتى في الأمور السهلة، فمثلاً: الإنسان الذي يشرد ذهنه إذا ناداه إنسان آخر لا يجيب، بل أحياناً يضرب على يده فلا يلتفت، فهل ألغي سمعه في ذلك الوقت أو ألغي حسه؟ لا. ولكن تعلق بشيء استغرق همه وعقله فيه فلم يلتفت إلى غيره، فكثير من الأمور التي هي في خلقة الإنسان تدل على أن تحكيم العقل في الأمور الروحانية والغيبية مبدأ ومنهج خاطئ.

بل العقل في الأمور الغيبية واقف عند حد الشرع، والشرع هو المعين على فهم ما دلت عليه النصوص فحسب، وما وراء ذلك لا يمكن أن يكون.

واستشهد العلماء -ومنهم ابن تيمية - بمسألة مشهورة تسمى (مسألة الدال والمستفتي)، وهي أنه لو جئت تريد أن تسأل عن مسألة فقهية فوجدت شخصاً قلت له: هل تعرف أحداً يفتي؟ قال: نعم. عندك فلان بن فلان عالم وفقيه. فذهب يدلك عليه، ثم سألت وأجابك الشيخ بالجواب، فقال هذا الذي دلك على المفتي: لا. هذا الجواب ليس صحيحاً. لأنه لم يوافق عقله لأمر أو لآخر، فقلت له: جزاك الله خيراً، الشيخ أعلم. فيقول: لا. لكنني أنا الأصل الذي أرشدتك ودللتك على أن هذا هو المفتي، فينبغي أن ترجع إلي فتلغي هذا الأمر.

فهم يقولون: إن العقل هو الذي دل على صدق النبوة، وهو الذي دل على صدق الرسالة، وهو الذي دل على وجود الله في معتقدهم، فإذا جاء عن هذا الفرع -وهو الوحي أو الرسول عليه الصلاة والسلام- إذا جاء عنه ما يخالف العقل قال لك: العقل أصل في معرفتك بصدق الوحي وصدق الرسالة.

فإذاً لابد أن يكون العقل أيضاً هو الحاكم فيما يأتي في هذه المسألة.

وهذا بالعقل لا يقبل، إذا دلك شخص على العالم ثم بعد ذلك يقول: لا. هو لا ينفع. فهذا بالعقل فاسد، وكذلك هذا الأمر.

وللعقلانيين ردود، فمن هذه الردود قولهم: إن قدمنا النقل كان طعناً في أصله الذي هو العقل، والطعن في العقل الذي هو أساس النقل يعتبر طعناً في النقل. فتعقدت المسألة؛ لأن العقلانية هذه ثمراتها التي ينبغي أن يلتفت الإنسان إليها.

والحقيقة أن الردود التي ذكروها فيها نوع من الصعوبة، لكن في الجملة نقول: هل وحدة الأمر أفضل أم تشعبه؟

نقول: إذا رجعنا إلى النقل فعندنا نقل واحد هو القرآن الثابت المتواتر لا خلاف فيه، والسنة يعرف صحيحها من ضعيفها، أما إذا رجعنا إلى العقول فسنأخذ بعقل من ونترك عقل من؟ من الذي سيكون حاكماً؟ وأي عقل هذا الذي سيكون مرجع العقول؟ كل العقول يختلف بعضها عن بعض، بل العقول يضرب بعضها باحتجاج بعض، فعقلي يبين نظرتك العقلية أنها خاطئة، وعقلك يبين أن نظرة الثاني خاطئة.

فإذاً الأصل هذا هو مَنْ نقل الناس من وحدة معصومة ثابتة لا تتغير إلى فرق متغيرة متشعبة؛ لأن عقل الإنسان نفسه يتغير، فأنا اليوم عقلي محدود، وسأفكر وأقول: هذه لا تقبل؛ لأنها لا توافق العقل.

ولو جئنا إلى شخص وقلنا له: هناك ميكروبات فإنه لا يصدق، فإذا جئنا له بالمجهر قال: نعم. الآن أصدق.

إذاً هل ننتظر عقلك حتى يتصور كل مرة ويتفتح، فتعطينا من فتوحات عقلك ما نسترشد به في هذه الدنيا؟! هذا كلام لا يقول به صاحب العقل، وهذا أيضاً بإيجاز شديد لهذا التصوير اليسير أو البسيط.

هذه ملامح للإغراق في المادية، مدرسة إباحية ألّهت المتعة والجسد، ومدرسة مادية ألّهت العلم والسبب، ومدرسة عقلية ألّهت العقل والفكر، وكلها -بصورة أو بأخرى- نوع من الاعتداء على الوحي، أو النقص في اتباعه، أو الرد له، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، وفيها كلها نوع إجحاف بالروح، وظلمة في القلب، وفساد في الفطرة، وتيه وتشتت، هذا الشق الأول.

المدرسة الإباحية أصحابها هم الذين جعلوا همهم في اللذة الأولى، لذة كمال الجسم المادي بالطعام والشراب وإطلاق العنان للغرائز والشهوات، وهذا الجانب عند التأمل نجد أنه حينما يسير الإنسان وراءه مندفعاً بشهواته غير منضبط بشرع ولا بحكمة ولا بعقل ولا بتوسط واعتدال فإنه ينشأ عنه صورة مرذولة قبيحة، لها من الأضرار شيء كثير، ومن ذلك أننا نستطيع أن نضرب الأمثلة من واقع الحال، فنجد أن الإباحية المطلقة التي نادى بها وطبقها الغرب كم أنتجت من صور تقشعر لها الأبدان، وتجفل منها القلوب، وتشمئز منها الفطر السليمة.

فإذا نحن نرى شيوع الفاحشة من الزنا بأمر لا يخطر على العقل كثرة، ولا يخطر على العقل مما يقع معه مصاحباً للجريمة أو الاعتداء أو نحو ذلك، مما يهدد حياة الناس كما يتضح من سلسلة الآثار.

وكذلك تجاوز هذا الأمر إلى عدم الاكتفاء بالصورة التي يعرف أن النفس البشرية أصلاً مفطورة مجبولة عليها، فتعدى الأمر الفواحش إلى الشذوذ، وصار هناك -أيضاً- باب واسع من هذه الأبواب في الشذوذ المعروف، بل تجاوز الأمر ذلك إلى الانطلاق في ممارسة الفواحش مع المحارم والأبناء والبنات والأخوات والأمهات، وتجاوز الأمر كل ذلك -رغم هذه الإباحية- إلى حصول الأمر بنوع من الاعتداء والاغتصاب والجريمة، وصاحب كل ذلك نوع من الأمور التي لها آثار سيئة جداً من انتشار المسكرات والمخدرات، وانتشار الجريمة بكل صورها إلى القتل في أعظم صوره.

كل هذا صورة ظاهرة لهذه المدرسة الإباحية، وتجد الإحصاءات والأرقام شيئاً عجيباً جداً.

فعلى سبيل المثال: من الإحصاءات -وليست جديدة- في أوائل الثمانينات في أمريكا ما بين اثني عشر إلى خمسة عشر مليوناً يمارسون الجنس مع المحارم، وهناك نحو سبعة عشر من المائة من المواطنين الأمريكيين يمارسون الشذوذ.

وهناك أعداد كبيرة لا حصر لها تمارس الفاحشة والزنا والحرام؛ لأنه ليس عندهم بمحرم، إضافة إلى ذلك تجد مثلاً بلداً مثل السويد -وهو من أعظم الدول إباحية- تصل فيه النسب إلى شيء مهول، نتج عن ذلك آثار كثيرة جداً يهمنا منها بعض الآثار المهمة، وهي إطفاء نور القلب، وطمس معالم الفطرة السوية، فهؤلاء القوم ليس عندهم فرق بين عيب، ولا عندهم في قاموسهم العيب ولا الحياء، فضلاً عن الكراهة أو الحرمة، كل ذلك زال، والنفس البشرية من فطرتها ما ذكره الله سبحانه وتعال: وَطَفِقَا يَخْصِفَانِ عَلَيْهِمَا مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ [طه:121]، فطرة الإنسان أن يستر عورته فضلاً عن أن ينطلق في هذه الميادين البهيمية.

هذا كله كان متجرداً في هذه المجتمعات، فحصل هذا الأثر الأول، وهو انطماس الفطرة السليمة، وانعدام كل معالم القيم التي تقرها الفطر والعقول فضلاً عن الديانات أو الأنظمة التي وضعها حتى البشر من ذات أنفسهم.

وهذا جانب واضح آثاره المادية كثيرة جداً، ومنها انهيار شديد جداً في البناء الأسري، وعزوف كبير جداً عن الزواج، وملايين من الأطفال من اللقطاء.

ومن الآثار المادية التي تترتب على هذا أن اللقطاء -مثلاً- يحتاجون إلى أموال ومؤسسات ودور وجوانب أخرى كالأمن وغير ذلك.

أضف إلى ذلك الآثار الصحية المعروفة، من انتشار الأمراض المهلكة والأوجاع التي أخبر النبي عليه الصلاة والسلام أنها لم تكن في أسلافهم، وهذا كله شاهده آية واحدة في القرآن، تبين لنا بياناً شافياً كل الآثار التي يقع فيها الناس عندما يتنكبون طريق الله سبحانه وتعال، وهي قوله عز وجل: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، وهذا التعبير القرآني قوي وأصيل وبليغ، معيشة ضنك، والضنك هو ضيق في النفس، وضيق في المال، وضيق في الصحة، أمر لا يفارق الإنسان، يصاحبه في كل لحظة من لحظات حياته.

ولو تصور الناس ما يدعو به بعض الناس في مجتمعات المسلمين أن هذا هو الذي يحقق سعادة النفوس، ويحقق للناس انفتاحاً وانعتاقاً مما يسمونه كبتاً أو عوائق لكان أجدر الناس بأن يحصلوا على هذه اللذات المتوهمة وهذه الخيرات المفتعلة هم هؤلاء القوم، ولكنا نجد أنهم في شقاء نفسي معنوي ظاهر، يظهر في انتحارهم ويظهر في اعتدائهم، ويظهر في أقوالهم التي تبين حيرتهم المطلقة، رغم أن كل أسباب المادة من طعام وشراب وجنس ونحو ذلك ما تركوا منه شيئاً إلا وأخذوا بأوفى وأعلى حظ منه، ومع ذلك ما يزيدهم الأخذ في هذا الشأن إلا زيادة في ضنك العيش مرة بعد مرة، وهذا شاهده قول الله سبحانه وتعالى: وَمَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنكًا [طه:124]، لا يتخلف هذا الأمر وإن اختلفت صوره أو ألوانه.

هذا ما يتعلق بإيجاز بالنسبة للمدرسة الإباحية.

المدرسة المادية هي التي تجعل حساب المادة حساباً وحيداً، فإذا جاءت في قاموس المواجهة والنصر والهزيمة حسبت عدتها من العتاد والسلاح والعدة وغيرها ثم قالت: لا يمكن.

وإذا جاءت في مسائل معتادة للناس أخذت بالأسباب، وجعلت هذه الأسباب المادية هي وحدها الحكم، ونسيت ما وراء ذلك من قدر الله سبحانه وتعالى، من نصر الله سبحانه وتعالى، من دفع الله سبحانه وتعالى، وكل ذلك أدلته في القرآن واضحة.

قال تعالى: إِنَّ اللَّهَ يُدَافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا [الحج:38]، إِنْ تَنصُرُوا اللَّهَ يَنصُرْكُم [محمد:7]، كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ [البقرة:249].

فالماديون -للأسف- تغلغلت أفكارهم حتى في مجتمعاتنا، أصبح الناس الآن إذا قيل: قوى عظمى خافوا، وإذا قيل: لا نستطيع مسألة من المسائل قالوا: هذا لا يمكن. وكذلك المريض أخذ الطب وسيلة وحيدة لا يوجد غيرها، لم يكن عنده نوع توكل على الله، ولا نوع اتجاه إلى الله، ولا نوع سؤال لله سبحانه وتعالى.

وكل هذه المثالب أو هذه المشكلات يجمعها مثلب واحد ونقيصة مهمة، وهي أن هذا النوع من الانطلاق يلغي شيئاً مهماً في حياة البشرية كلها، وهو وصف العبودية للخلق، ووصف الألوهية والربوبية لله سبحانه وتعالى.

وقد ذكر ابن القيم رحمة الله عليه في فوائده أن كل نقص في الإنسان يقابله كمال عند الله سبحانه وتعالى، ليبقى العبد دائم الافتقار لله جل وعلا، فقد ركبت أيها العبد من العجز لتنظر إلى كمال قدرة الله سبحانه وتعالى، وركبت من الفقر لتنظر إلى كمال غنى الله سبحانه وتعالى.

فإذا أخذ الإنسان بأسباب المادة وقع في هذا، ومثال ذلك من القرآن قصة قارون : قَالَ إِنَّمَا أُوتِيتُهُ عَلَى عِلْمٍ عِندِي [القصص:78].

أي: ليس هناك فتح ولا تيسير ولا توفيق ولا رعاية ولا عناية من الله سبحانه وتعالى. فكانت النتيجة فَخَسَفْنَا بِهِ وَبِدَارِهِ الأَرْضَ [القصص:81]، فكل من أخذ بأسباب المادة وحدها وقطع أسباب الله سبحانه وتعالى فإنه يكون مصوراً لصورة قبيحة، وهي انفصال العبودية عن الإلهية، أو أن هذا الإنسان أصبح مستقلاً بذاته غير مفتقرٍ -عياذاً بالله- إلى ربه ومولاه سبحانه وتعالى.

ولذلك المؤمنون حينما كان يخالطهم بعض اعتماد -ربما كان فيه زيادة عن الحد المطلوب- بقوتهم كان العقاب يأتيهم والتربية تأتيهم من الله سبحانه وتعالى وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25] فقط كلمات قالوها، قالوا: (لن نغلب اليوم من قلة).

هذه الكلمة فقط، لكن لأنهم كانوا على الإيمان والكمال فكان كل يسير من التقصير يعاقبهم الله سبحانه وتعالى عليه، ويربيهم بما يقدرون عليه من البلاء، حتى يعلم أثر هذه الأمور في حياة الناس، ومشكلة الناس اليوم أنهم يرتبطون بأسباب المادة وينسون أسباب السماء في كثير من الأحوال والوقائع.

فنجد هنا هذا المعنى حينما ينقطع الإنسان عن هذه الأسباب الإلهية، يلغي هذا الجانب من العبودية الذي هو حياة الكون كله وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإِنسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ [الذاريات:56]، وهذا الإنسان هو الذي خلقه الله سبحانه وتعالى وسخر له ما في السماوات وما في الأرض جميعاً منه، فغاية هذا الكون كله هي عبوديته بتوحيد الله سبحانه وتعالى، فإذا اعتمد على المادة ونسي أسباب السماء فكأن هذا نوع الغاء للعبودية، ونوع اجتراء على إلاهية الله سبحانه وتعالى، وكون كل أسباب الدنيا والآخرة بيده جل وعلا، ولذلك قال: وَيَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ [التوبة:25]، فمباشرة جاء العقاب من الله سبحانه وتعالى لهذا الأمر.

والله جل وعلا قال: أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ [آل عمران:165]، الربط بالسبب الذي هو نوع من التعلق بالله سبحانه وتعالى، إما موافقة لأمره أو تخلفاً عن أمره، فلما كان تخلفهم عن أمر رسول الله عليه الصلاة والسلام في أُحد بشيء يسير أو بأمر واحد جاءت العقوبة من الله سبحانه وتعالى.

وهذا لا يكون إلا عندما يكون العبد في درجة من الإيمان والكمال، ينزل الله سبحانه وتعالى له من البلاء ما يذكره بخطئه وما يمحو عنه ذنبه، أما غير هؤلاء من الناس فإن قدر الله قد يجري باستدراجهم، فيملي لهم سبحانه وتعالى، ولكنه يمهل ولا يهمل جل وعلا وَكَذَلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذَا أَخَذَ الْقُرَى وَهِيَ ظَالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ [هود:102].

فإذاً هذا المعنى عند أهل الإيمان يربطون به السبب المادي، فكان أحدهم يقول: إني إذا أذنبت الذنب أجد ذلك في خلق زوجتي ودابتي.

فكلما حصل سبب مادي ربطه بسبب معنوي يصله بالله سبحانه وتعالى.

أما اليوم فهذه النظرة المادية قد طغت على الناس، فإذا جاءت الزلازل فسروها تفسيراً مادياً، قالوا: ضعف القشرة الأرضية وغير ذلك. ونسوا أن يقولوا: إن ذلك قدر من الله، وإن له فيه حكمة، وإنه قد يكون مرتبطاً بعقوبة من الله سبحانه وتعالى. كما بين الله جل وعلا أنه ما من شيء يقع إلا بما كسبت أيدي الناس ويعفو سبحانه وتعالى عن كثير.

فهذه المدرسة المادية التي أهملت أسباب السماء طغت على كثير من مجتمعات المسلمين، وصاروا لا يلتفتون إلى هذه المعاني، وهي لب وجوهر من جواهر العبودية له سبحانه.

وحقيقة الإيمان من توكل وتعلق وربط كل شيء في هذا الكون بموافقة أمر الله ورضا الله سبحانه وتعالى وتوفيقه، أو بمخالفة أمر الله سبحانه وتعالى وسخط الله سبحانه وتعالى وبلائهم في تقديره.

وهذا الأمر حينما غاب عن الناس حصل لهم من البلاء شيء كثير، ولكن كثيراً من الناس لا يفكرون ولا يتأملون، وكم نرى من أحوال الناس في مجتمعنا ممن أعطاهم الله سبحانه وتعالى مادة ومالاً لكن محقت منهم البركة، أو ابتلوا بأنواع الأسقام، أو ابتلوا بعقوق الأبناء، أو ابتلوا بصورة من الأبناء المتخلفين أو القاصرين في عقولهم، فتجد هذا الغني الثري يأتي لابنه بكل المدرسين ثم يرسب هذا الابن، فإذا ما نفعه مدرس أتى بمدرس آخر بدرجة أعلى في العلم، أو يأتي باثنين أو بثلاثة، ما فكر أن المسألة قد يكون مرجعها في الحقيقة إلى نوع تفريط في اكتسابه للمال من حرام أو نحو ذلك.

وهذا أيضاً إيجاز شديد مختصر للمدرسة المادية التي تركت أسباب السماء وتعلقت بأسباب الأرض تعلقاً كاملاً، فكانت كأنما تلغي مقام العبودية والذلة لله سبحانه وتعالى، وكل هذه المدارس التي فيها إغراق مادي هي نوع من الإجحاف بإشراق الروحانية.

المدرسة الثالثة -وهي التي يطول الحديث فيها- المدرسة العقلانية التي بالغت في حد العقل ومكانته حتى بلغت به أن يكون في منزلة الإله، أو بلغت به أن يكون هو الذي يحكم كل شيء ويوجه كل شيء، حتى جعلت العقل حاكماً على الشرع، وهذا من أعظم الفساد وأكثر المزالق التي ضلت فيها فرق كثيرة، والتي حينما ابتليت بها الأمة وقع فيها من الخلل ومن الزيع -بل ومن الكفر والخروج من الملة- ما هو مشهود له في وقائع كثيرة.

وهذا الأمر يحتاج إلى بعض التفصيل؛ لأن الأمرين السابقين أحسب أن صورتهما واضحة سواء من الإباحية أو من المادية التي ذكرناهما، ذلك كله ظاهر، لكن مسألة العقلانية تطوف بالعقول أكثر، والتلبيس فيها أكثر.

فإذاً هذه الصورة هي المهمة نقف عندها ونسرد أولاً أقوالاً تبين لنا ما قال هؤلاء العقلانيون إن صح التعبير نسبة إلى العقل الذي بالغوا في تقديره، وإن كانوا في حقيقة الأمر خالفوا مقتضى تفكير العقل؛ لأن العقل من حسن تفكيره وتدبيره أن يعرف حدوده، وأن يعرف مدخله ومخرجه، فالإنسان إذا كان له تخصص معين ثم يدخل في كل تخصص ويريد أن يبدع في كل تخصص فإنه يخلط، أو يأتي بحق وصواب، أو يوفق إلى بعض الصواب ويخطئ في كثير، فلا يقال عن مثل هذا: إنه مصيب. بل يقال: إنه أخطأ؛ لأنه تجاوز الحد.

فهؤلاء عقلانيون باعتبار أنهم تكلموا في مسألة العقل، لا باعتبار أن عقولهم هي الراجحة أو الكبيرة، وإن كانت كذلك في ذات الأمر، لكنها في آخر الأمر انقلبت على ذاتها.

فنذكر أقوالاً تبين صورة موجزة لهذا الأمر، فمن هذا قول الزمخشري صاحب الكشاف في مسألة العقل، يقول: امش في دينك تحت راية السلطان -ويقصد به سلطان العقل- ولا تقنع بالرواية عن فلان وفلان، فما الأسد المحتجب في عرينه أعز من الرجل المحتج على قرينه.

هذا القول يعني: سر في دينك تحت سلطان العقل، واترك الرواية عن فلان وفلان، لا تقنع بها بل حاكمها إلى العقل، فإن اقتنع بها عقلك وإلا فالتمس لها مخرجاً أو تأويلاً.

والغزالي القديم أيضاً يقول في تعليق على قول الله سبحانه وتعالى في خطابه للسماوات والأرض: قَالَتَا أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11] يقول الغزالي : فالبليد في فهمه هو الذي يقدر لهما حياة -يعني: للسماوات والأرض- يخلقها الله للسماء والأرض، وعقلاً وفهماً للخطاب، وخطاباً هو صوت وحرف تسمعه السماء والأرض فتجيبان بحرف وصوت وتقولان: أَتَيْنَا طَائِعِينَ [فصلت:11]، هذا البليد والبصير يعلم أن ذلك لسان الحال، وأنه أنبأه عن كونهما مسخرتين بالضرورة.

أقول: هذا الفهم الذي هو ظاهر النص والقرآن وجاء باللغة العربية، كما قال تعالى: قُرآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ [الزمر:28] كِتَابٌ أُحْكِمَتْ آيَاتُهُ [هود:1] وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ [فصلت:44].

كل هذه الدلالات تدل على أن ظاهر لفظ القرآن يحمل على الحقيقة، إلا أن توجد القرينة القوية المستدل بها من النصوص الأخرى على أن المعنى مفسر بقول آخر.

فهو يقول: البليد الذي يظن أن هذا المعنى الظاهر هو المراد، والبصير هو الذي يفهم أن هذا أمر معنوي وليس حسياً.

وسنبين الخلاصة بعد سرد بعض هذه الأقوال أيضاً، وستجد -أيضاً- من المتأخرين من يرى مثل هذا.

فـمحمد عبده يقول: الأصل الأول للإسلام النظر العقلي لتحصيل العلم، فأول أساس وضع عليه الإسلام هو النظر العقلي وغيره يأتي بعده.

ويقول: تقرر بين المسلمين كافة -إلا من لا ثقة بعقله ودينه- أن من قضايا الدين ما لا يمكن الاعتقاد به إلا من طريق العقل، كالعلم بوجود الله سبحانه وتعالى.

وهذا طبعاً خلاف الصحيح.

ثم أقوال أخرى دخلوا فيها مدخلاً صحيحاً وخرجوا مخرجاً خاطئاً، دخلوا من مدخل تكريم الإسلام للعقل، ودعوة للتأمل في القرآن والتدبر والتفكر وإعمال العقل، دخلوا من هذا المدخل، ثم خرجوا منه إلى أن العقل هو الحاكم، ولذلك أولوا كثيراً من النصوص، مثل إمداد الله سبحانه وتعالى لعباده المؤمنين بالملائكة، وهو ثابت بنص القرآن، قال تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجَابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ [الأنفال:9]، فيقول الواحد منهم في تفسير له: إن هذا الإمداد أمر روحاني يؤثر في القلوب، وليس هناك ملائكة نزلت ولا غير ذلك.

انظر إلى النظرية العقلية المادية البحتة!

ثم يقول: المسلمون في بدر كانوا ثلاثمائة وأربعة عشر رجلاً، والكافرون كانوا قريباً من ألف، فلو نزلت الملائكة وكان كما ورد في الروايات أن أحدهم يقول: إني كنت أرفع سيفي فإذا بالكافر أو المشرك يقطع رأسه ويموت قبل ذلك، فإذا كانت الملائكة نزلت بكثرة فمعنى هذا الكلام أن الانتصار أصبح فيه نوع من التكافؤ، وهذا لا يكون، بل الانتصار كان بقوة الروح.

ومن هذا التوهم يأتي مثل هذا الكلام، وعلى هذا فقس.

كذلك حينما يأتي قول الله سبحانه وتعالى: وَيُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَالْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ [الرعد:13]، يقولون: هذا للتسخير ونحو ذلك.

إذاً فما ورد من تسبيح الطعام بين يدي النبي عليه الصلاة والسلام، وما ثبت أيضاً في الصحيح من أن النبي صلى الله عليه وسلم كان في مكة وخرج مرة فما مر بشجر ولا حجر إلا وهو يسلم عليه إذا قلنا بهذا القول فإن معظم ما ورد سيكون غير واضح الدلالة، أو دلالته غير مرادة.

وهذا لا شك أنه إخراج للنصوص عن مرادها الظاهر والواضح.

هذه المدرسة مشكلتها أنها وصلت إلى حد خطير، وهو رد النصوص، فتجد من هؤلاء من ينكر كل نص وإن ثبت إذا كان يرى أنه مخالف لمقتضى العقل.

أقول: أولاً: أي عقل هذا الذي نريد أن نجعله حكماً؟! فعقلي غير عقلك وعقل الثاني غير عقل الثالث.

ثانياً: هذا الدين جاء لكل الناس، للعامي البسيط، وللعجوز الشمطاء التي لا تعرف ولا تبصر ولا تدرك من الأمور كثيراً، وللطفل الصغير، فلو قلنا: إن هذه المكانة للعقل بهذا التدبر والتفكر وهذا الإمرار للنصوص على العقل يحكم فيها فإننا سنجد أن هذا لا يتحقق إلا في فئة من الناس لا يتجاوزون نسبة ضئيلة، والآخرون كيف سيكون حالهم؟! هل سيكونون كلهم من البلداء؟! وهل سيكون مثل هذا الوصف يلحق بمن كانوا من أهل الإيمان من أصحاب النبي عليه الصلاة والسلام والتابعين، وهم من سيأتي ذكر كثير من قولهم في الشق الثاني من الموضوع؟!

الجواب: ينبغي أن يكون هناك تدبر وتأمل، ومن هنا اقتضى هذا الإسراف في هذا الجانب.

وعلماء أهل السنة ردوا على هذه القضية في ردود كثيرة، كان أوسعها وأعظمها وأدقها كلام الإمام ابن تيمية في (درء تعارض العقل والنقل) هذا كتاب كامل في هذه المسائل، ربما نوجز بعض ما أشار إليه، ونذكر بعض القضايا اليسيرة قبل أن نذكر كلام شيخ الإسلام رحمة الله عليه.

إن الناس يسلمون بمحدودية الحواس الأخرى، ومن هذا المدخل تكون إحدى الحجج على العقلانية، فمثلاً: كل الناس مسلمون بأن البصر والنظر محدود، ونحن الآن في هذا الهواء والفراغ هناك كائنات وهناك ميكروبات وهناك فيروسات لا نراها، فهل عدم رؤيتنا لها يجيز لنا أن ننكر وجودها وأن نرفض وجودها؟! وهل عدم العلم هو إثبات للعدم؟! هل أنت إذا لم تعلم أن هناك -مثلاً- إنساناً خارج الغرفة التي أنت فيها هل ذلك دليل على عدم الوجود؟ الجواب: لا. فالآن أنت ببصرك هل ترى كل شيء؟ الجواب: لا.

حتى السمع معروف أن له ذبذبات معينة من كذا إلى كذا يسمعها الإنسان، إذا زادت عن هذا الحد لا يسمعها، وإذا نقصت عن هذا الحد لا يسمعها، ومن ذلك الحديث الذي في عذاب القبر أن المعذب يصرخ صرخة يسمعها كل من في الأرض إلا الثقلان الإنس والجان، ثم كذلك هناك أشعة تحت الحمراء وفوق البنفسجية، وهذه المسميات أيضاً لا يراها الناس، هل أنكروا وجودها أم قالوا: نعم هي موجودة عرفناها يقيناً من جهة أخرى، وما لم نعرفه أيضاً نسلم بأن هناك ما هو أدق وما لم يزل بعد حتى بالأجهزة والإلكترونيات والمجاهر ما وصلنا إليه؟

إذاً أنتم جعلتم للبصر حداً محدوداً وللسمع حداً محدوداً، وقلتم: نوقن بهذه الحواس وبقوتها، لكننا نعلم أن لها حداً لا تستطيع أن نتجاوزه إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي مما يسر الله سبحانه وتعالى كالمكبرات وغير ذلك من الأمور، إذاً لماذا لم نقل ذلك في موضوع العقل، وأن له حداً إذا زاد عنه لا يستطيع أن يصل إلى هذا الحد إلا بمساعدة، وهذه المساعدة هي الوحي المبلغ للناس من الله سبحانه وتعالى؟! فكل ما هو في إطار الغيب خارج عن حدود العقل لا يمكن للعقل أن يدركه إلا بمساعد، وهو الوحي الذي يبين له إجمالاً وتفصيلاً ما ورد عن الله وعن رسول الله صلى الله عليه وسلم فيسلم به، وإلا فإنه يكون أيضاً منافقاً، كيف سلمت بحد الحواس كالبصر والسمع وتركت الأخرى، ولو قلنا: العقل يدرك كل شيء فكيف سنفهم كثيراً من الأمور؟ حتى الأشياء الممارسة في الحياة اليومية كثير منها نجد أن الناس يسلمون بها من غير تحكيم للعقل، فكيف يكون هذا فيما وراء ذلك من الأمور الشرعية؟!

إنك تتصور بعض الأمور الغيبية، مثل عذاب القبر، أو نعيم القبر كما ورد في الأحاديث الصحيحة: (فيفسح له في قبره حتى يكون مد بصره) إن أخذتها بالعقل فإذاً كيف سيصنع هذا القبر بجيرانه؟! وكذلك كما في الحديث أنه يجد من ريحها ونعيمها، وفي الحديث أنه يجد من حرها وعذابها، فلو تجاورا هل ينتقل نعيم هذا أو برد هذا إلى حر هذا؟ بالعقل ستتعب في هذا التفكير، كذلك لو فكرت بالعقل في كثير من القضايا الغيبية لا يمكن أن تصل فيها إلى جزم، وإلغاؤها نوع من تكذيب الشرع، أو نوع من الطعن في تبليغ رسول الله صلى الله عليه وسلم، أو نوع من خفاء الوحي وخفاء الدين على كثير من الناس، والأصل أنه جاء تبياناً لكل شيء، وأنه واضح لكل إنسان، وأنه جاء للعالم والعامي وغيرهما، وهذا كله فيه نوع من التناقض الذي ينبغي أن يتنبه له، فأمر الغيب أصلاً لم يقع بميزان العقل، وليس هو داخلاً في إطار العقل، بل الغيب أمر آخر، والدليل على ذلك أن الإنسان في حياته الخاصة يسلم بأمور، فهو إذا رأى الرؤيا المنامية -على سبيل المثال- ويرى في تلك الرؤيا أمراً مفزعاً ومرعباً فيستيقظ وهو في خوف وهلع، هذه كيف يفسرها بالعقل؟! وكيف يريد أن يربطها بالمبدأ الحسي والمادي؟!

هو ماكث في مكانه، ما الذي أرعبه وهو نائم في مكان محصن وأمين؟! أو يرى أنه في منامه كان يركض أو يجري فيستيقظ وهو يلهث، من أين جاءه هذا اللهث وهو ماكث في مكانه ما تحرك؟! كل هذه الأمور في حياة الإنسان، بل حتى في الأمور السهلة، فمثلاً: الإنسان الذي يشرد ذهنه إذا ناداه إنسان آخر لا يجيب، بل أحياناً يضرب على يده فلا يلتفت، فهل ألغي سمعه في ذلك الوقت أو ألغي حسه؟ لا. ولكن تعلق بشيء استغرق همه وعقله فيه فلم يلتفت إلى غيره، فكثير من الأمور التي هي في خلقة الإنسان تدل على أن تحكيم العقل في الأمور الروحانية والغيبية مبدأ ومنهج خاطئ.

بل العقل في الأمور الغيبية واقف عند حد الشرع، والشرع هو المعين على فهم ما دلت عليه النصوص فحسب، وما وراء ذلك لا يمكن أن يكون.

واستشهد العلماء -ومنهم ابن تيمية - بمسألة مشهورة تسمى (مسألة الدال والمستفتي)، وهي أنه لو جئت تريد أن تسأل عن مسألة فقهية فوجدت شخصاً قلت له: هل تعرف أحداً يفتي؟ قال: نعم. عندك فلان بن فلان عالم وفقيه. فذهب يدلك عليه، ثم سألت وأجابك الشيخ بالجواب، فقال هذا الذي دلك على المفتي: لا. هذا الجواب ليس صحيحاً. لأنه لم يوافق عقله لأمر أو لآخر، فقلت له: جزاك الله خيراً، الشيخ أعلم. فيقول: لا. لكنني أنا الأصل الذي أرشدتك ودللتك على أن هذا هو المفتي، فينبغي أن ترجع إلي فتلغي هذا الأمر.

فهم يقولون: إن العقل هو الذي دل على صدق النبوة، وهو الذي دل على صدق الرسالة، وهو الذي دل على وجود الله في معتقدهم، فإذا جاء عن هذا الفرع -وهو الوحي أو الرسول عليه الصلاة والسلام- إذا جاء عنه ما يخالف العقل قال لك: العقل أصل في معرفتك بصدق الوحي وصدق الرسالة.

فإذاً لابد أن يكون العقل أيضاً هو الحاكم فيما يأتي في هذه المسألة.

وهذا بالعقل لا يقبل، إذا دلك شخص على العالم ثم بعد ذلك يقول: لا. هو لا ينفع. فهذا بالعقل فاسد، وكذلك هذا الأمر.

وللعقلانيين ردود، فمن هذه الردود قولهم: إن قدمنا النقل كان طعناً في أصله الذي هو العقل، والطعن في العقل الذي هو أساس النقل يعتبر طعناً في النقل. فتعقدت المسألة؛ لأن العقلانية هذه ثمراتها التي ينبغي أن يلتفت الإنسان إليها.

والحقيقة أن الردود التي ذكروها فيها نوع من الصعوبة، لكن في الجملة نقول: هل وحدة الأمر أفضل أم تشعبه؟

نقول: إذا رجعنا إلى النقل فعندنا نقل واحد هو القرآن الثابت المتواتر لا خلاف فيه، والسنة يعرف صحيحها من ضعيفها، أما إذا رجعنا إلى العقول فسنأخذ بعقل من ونترك عقل من؟ من الذي سيكون حاكماً؟ وأي عقل هذا الذي سيكون مرجع العقول؟ كل العقول يختلف بعضها عن بعض، بل العقول يضرب بعضها باحتجاج بعض، فعقلي يبين نظرتك العقلية أنها خاطئة، وعقلك يبين أن نظرة الثاني خاطئة.

فإذاً الأصل هذا هو مَنْ نقل الناس من وحدة معصومة ثابتة لا تتغير إلى فرق متغيرة متشعبة؛ لأن عقل الإنسان نفسه يتغير، فأنا اليوم عقلي محدود، وسأفكر وأقول: هذه لا تقبل؛ لأنها لا توافق العقل.

ولو جئنا إلى شخص وقلنا له: هناك ميكروبات فإنه لا يصدق، فإذا جئنا له بالمجهر قال: نعم. الآن أصدق.

إذاً هل ننتظر عقلك حتى يتصور كل مرة ويتفتح، فتعطينا من فتوحات عقلك ما نسترشد به في هذه الدنيا؟! هذا كلام لا يقول به صاحب العقل، وهذا أيضاً بإيجاز شديد لهذا التصوير اليسير أو البسيط.

هذه ملامح للإغراق في المادية، مدرسة إباحية ألّهت المتعة والجسد، ومدرسة مادية ألّهت العلم والسبب، ومدرسة عقلية ألّهت العقل والفكر، وكلها -بصورة أو بأخرى- نوع من الاعتداء على الوحي، أو النقص في اتباعه، أو الرد له، نسأل الله سبحانه وتعالى السلامة، وفيها كلها نوع إجحاف بالروح، وظلمة في القلب، وفساد في الفطرة، وتيه وتشتت، هذا الشق الأول.

الشق الثاني: ما يتعلق بإشراق الروحانية، وهو أيضاً باب واسع فيه مداخل ومزالق خطيرة جداً، فمن غلا فيه خرج عن حد الاعتدال والمشروع، فاستوجب كرد فعل من غيره أن ينكر أمره بالكلية ما صح منه وما بطل، وهذه هي المشكلة عندنا، كما يقال: لكل فعل رد فعل مساوٍ له في القوة ومضاد له في الاتجاه.

إذا أخطأ شخص في جزء، كما لو أنه أخذ بستين في المائة من الصحيح وزاد عن الحد المشروع أربعين في المائة قلنا له: كل ما عندك خطأ بما فيه الصواب الثابت، وهذه هي النقطة الأساسية التي نحب أن نقف عندها.

لابد من مدخل لموضوع إشراق الروحانية في تصور القضية الأساسية في أمر الغيب، لابد من المعرفة أن الروح من أمر الله سبحانه وتعالى يخفى على البشر جملةً وتفصيلاً، ولذلك لما جاء سؤال اليهود للنبي عليه الصلاة والسلام عن الروح جاء الرد القرآني: وَيَسْأَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [الإسراء:85]، ليس هناك شيء مما يتعلق بالروح له صلة بالبشر أو بعلم بالبشر غير ما يرد عن الله سبحانه وتعالى مطلقاً.

فإذاً كل ما يتصل بالروح وصفاً أو غذاء أو مرضاً أو شفاء كله لابد أن يكون موقوفاً على المصدر الوحيد، عن الله سبحانه وتعالى وحياً قرآنياً وتبليغاً نبوياً من رسولنا صلى الله عليه وسلم.

الروح من جانب أنها سر ونفخة من الله سبحانه وتعالى، والله جل وعلا شرع في هذا الدين شرائع وعبادات تغذية وتهذيباً وعلاجاً لهذه الروح، لابد أن ندرك وأن نفهم هذا العطاء الرباني وهذا الغذاء الإيماني، وهذا الذي ينتج عنه الإشراق الروحاني.

هذه وقفات سريعة لكنها مهمة مع لذة العبادة والإقبال على الله سبحانه وتعالى، هذه المسألة المهمة تبين لنا سر أو بداية ما يتصل بالروح وإشراقها ونورانيتها، نجد أن النبي صلى الله عليه وسلم عبر بكلمات يسيرة، لكن في الحقيقة عند التأمل يجد الإنسان أنه محتاج إلى تفكير في دلالاتها، حينما يقول عليه الصلاة والسلام لـبلال في الصلاة: (أرحنا بها يا بلال)، فنقول: كلنا نقول: الصلاة راحة، لكننا نريد أن نبقيها حتى ننفذ معناها، وحينما يقول عليه الصلاة والسلام: (جعلت قرة عيني في الصلاة) فنقول كلنا: الصلاة لذة، لكن ما معنى الراحة واللذة في التطبيق الواقعي، الذي كان نموذجه وقدوته وأسوته الأولى رسولنا صلى الله عليه وسلم؟!

وهو الذي يقول عن نفسه: (أما إني أتقاكم لله وأخشاكم له)، والرسول عليه الصلاة والسلام كان يقوم من الليل حتى تتفطر قدماه.

ومعلومة قصة ابن مسعود في الصحيح لما وقف يقتدي بالنبي عليه الصلاة والسلام قال: (صليت مع النبي صلى الله عليه وسلم فلم يزل قائماً حتى هممت بأمر سوء. قيل: وما هممت يا ابن مسعود ؟ قال: هممت أن أقعد وأتركه).

ونأخذ مثلاً آخر من صحيح البخاري -أيضاً-، وهو أن الرسول عليه الصلاة والسلام لقي عبد الله بن عمرو بن العاص فقال له: (ألم أخبر أنك تصوم فلا تفطر، وتصلي فلا تنام، وتختم القرآن في كل ليلة؟ قال: نعم يا رسول الله) هذا ما بلغ النبي عنه.

والرسول عليه الصلاة والسلام بعد ذلك رده إلى حد الاعتدال بأن يصوم يوماً ويفطر يوماً، وأن ينام نصف الليل ويقوم ثلثه وينام سدسه، وأن يختم في خمس أو في سبع، كما في بعض الروايات.

هل هذا الرجل عنده طاقة غير بشرية حتى يقوى على هذا الأمر؟ وهذا الصحابي الجليل عبد الله بن الزبير رضي الله عنه يصلي في البيت الحرام ومنجنيق الحجاج بن يوسف منصوب يقصف، وتسقط شرفة من شرفات البيت ويهيج الناس يميناً وشمالاً وعبد الله بن الزبير واقف في صلاته لم يدرك شيئاً.

إذاً ينبغي أن نفهم أن هناك سراً يتعلق بالروح في هذه الأمور حتى نفهم الأمور، إذا قلنا: إن الصلاة راحة وإن العبادة والزاد الروحاني راحة ولذة فهل نجد أحداً يتعب من الراحة أو يسأم من الراحة؟ ولو كان أحد في فترة راحته فالراحة لا يشعر معها الإنسان بتعب ولا يشعر معها بطول وقت، فأنت إذا عملت ساعة ستشعر بالتعب والعناء، وإذا نمت عشر ساعات كأنما نمت عشر ثوان؛ لأن الراحة هذه طبيعتها، تستسلم فيها النفس والجوارح وتخلد وتركن وتجتمع وتطمئن وتسكن.

أيضاً لو كان الإنسان -مثلاً- يحب طعاماً معيناً يشتهيه، وهو منذ زمن ما وجد هذا الطعام ثم جيء له بهذا الطعام فإنه لن يشعر بتعب؛ لأن الحواس كلها توجهت نحو اللذة في أثناء لذته، هل يمكن أن ينقطع؟ لكن لو قيل له: حصل حادث أو مشكلة فيمكن أن تتأجل؛ لأن الإنسان في وقت لذته يختلف.

ولو مثلنا بالمثل الذي يقع للناس دائماً وهو ممارسة الهوايات لوجدنا حقيقة ذلك، فالذي عنده هواية تجد أنه يعمل مثلاً في هوايته، فيقال له: الوقت انتهى. أو: المحاضرة انتهت ولا يستطيل الوقت، فلو قيل له: هل تعبت أو أرهقت؟ سيقول: نعم. لكن ما زلت راغباً في الاستمرار؛ لأن القضية تتعلق بقوة لابد من معرفتها، وهي القوة الروحية.

وحينما يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن في الصلاة راحة فكيف يخرج الإنسان من راحته؟! وكيف لا يطلبها؟! وإذا دخل فيها كيف يكون فيها متعجلاً؟! أو كيف لا يكون مستمتعاً بها متفرغاً لها مغموراً فيها منشغلاً بها عما سواها؟! لا يمكن ذلك إلا إذا تحققت هذه المعاني كما ذكرها النبي عليه الصلاة والسلام.

فـعبد الله بن عمرو بن العاص أو غيره هل كانت عنده قوة خارقة للعادة؟ لا. لكنه كان يجد في العبادة الغذاء الروحي الصحيح حينما أقبل الإقبال الشرعي الصحيح، فحينئذ لا يشعر مع أن التعب موجود، والنبي عليه الصلاة والسلام يقوم الليل حتى تتفطر قدماه، لكن هل أدرك هذا التعب؟!

ذكر في ترجمة عروة بن الزبير أنه في قطع رجله لما سرت إليها الآكلة قالوا: نسقيك خمراً؟ قال: لا. ولكن إذا كنت في الصلاة فافعلوا ما بدا لكم. فقطعوا رجله وهو في الصلاة ولم يشعر.

هل هذا عدم إحساس فيه؟ لا. ولكن القوة تزداد إذا زادت قوة الروح.

كذلك الذين يشردون إذا كانت قواهم مركزة في جانب معين انشغل عن غيره، وهذا يقع في الناس، فلماذا يسلمون به في الأمور المعتادة ولا يسلمون به في أمور العبادة؟ لذلك عبد الله بن الزبير لما سقطت شرفة من شرفات البيت إنما كان مقبلاً على الله سبحانه وتعالى بكليته، كان قلبه معلقاً به مستشعراً وقوفه بين يدي ربه، متلذذاً بتلاوة قرآنه، معظماً لربه بتسبيحه، متبتلاً إلى الله سبحانه وتعالى بدعائه، ولذلك تفطن لقول النبي صلى الله عليه وسلم: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد

ونحن نعلم أن السجود هو أكمل مقامات الصلاة الحسية، يكون الإنسان واقفاً منتصباً، ثم يركع وهو أقل خضوعاً من السجود، أما السجود فهو أكمل الصور في إظهار الذلة والعبودية لله سبحانه وتعالى.

فلو جاء أحد يحترم أحداً وانحنى له فلو كان مبالغاً لسجد له؛ لأنه ليس هناك بعد السجود شيء.

هذا الموضع الذي فيه كمال الذلة وكمال الانحناء وتمريغ الجبهة بالتراب وإلصاق الوجه بالأرض قال فيه: (أقرب ما يكون العبد من ربه وهو ساجد)؛ لأنه كلما تحقق بكمال العبودية وكمال الذلة وكمال التعلق والدعاء والتوسل بالله سبحانه وتعالى كلما كان هذا أدعى إلى قربه الروحي من الله سبحانه وتعالى.

فلذلك ألفاظ أحاديث النبي عليه الصلاة والسلام ليست التأملات فيها جانحة ولا شاطحة، بل كلام العلماء.

وسنأتي بما يتيسر ويدلنا على أن أهل العلم إنما نظروا في هذه النصوص بفقه متعلق بالتطبيق الواقعي لحياة النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه والصالحين، وهو متعلق بفقه القلوب وفقه السلوك الذي هو علم التصوف الذي فيه ما يذم وهو كثير وفيه ما يقر وهو كثير، وهو الأمر الذي سنرد إليه الآن.

فإذاً هذه المسألة لابد من معرفتها، وهي أن الناحية الروحية فيها شيء من عدم إمكان إدراكها بالحواس؛ لأن الروح كلها من أمر الله سبحانه وتعالى، فغذاؤها وما يقع لها لا يمكن أن يفهم إلا في ضوء ما جاء من عند الله سبحانه وتعالى.

وكما ذكرت فالروح نفسها لها تعلق بالبدن، فنحن في أجسادنا أرواح، وإذا نام النائم هل ما زال في جسده روح؟ الروح في النوم هي الروح في اليقظة، لكن ينقص من نسبتها، ولا نعرف مقدار هذا النقص.

نتنقل إلى مرحلة أخرى، فحينما يغمى على الإنسان تكون فيه روح، لكن تأثيرها في الحواس أقل، لكن لا نعلم مقدار النقص فيها.

كذلك عندما يموت الإنسان لا نستطيع أن نرد إليه روحه.

إذاً أمر الروح لا يمكن فيه إلا التسليم والمعرفة التطبيقية لفعل النبي عليه الصلاة والسلام وما علمه لأصحابه، ولا بد أن نعرف أن هذه أمور ليست خاضعة للحس المادي الواضح الذي يقع تحت الحواس، وإلا فلا يمكن أن نفهم هذه الأمور.

ثم يأتي لنا ذكر الكرامات والإلهام وتفاصيل أخرى ثبتت أصولها المشروعة عن الرسول عليه الصلاة والسلام، وبينها في واقع قوله وفعله، وتحققت في الأمة من بعده منذ عهده وإلى اليوم، وإلى أن يرث الأرض ومن عليها.

ألم يخبر النبي عليه الصلاة والسلام أن الرؤى جزء من النبوة؟ فكيف هي جزء من النبوة؟

لأن فيها ملامسة لأمر الروح والوحي الذي هو نوع اتصال غير محدود الكيفية ولا معلوم الكيفية، ولذلك الإنسان يرى رؤيا صالحة فتقع، هل نفسر هذا بالمادة؟ مستحيل أن تفسر شيئاً ليس له مقاييس ولا موازين ولا نسب ولا أي شيء من هذا القبيل، إنما هو محض الوارد عن الشرع، لابد أن نتقيد بالمشروع، حتى لا يكون هناك فتح لهذه الأبواب التي وقع منها نوع انفلات وشطح بعيد خرج ببعض الناس إلى أن وصل بهم الكفر إلى ما هو أكفر من كفر الكافرين.

فإذاً لابد أن نعرف أن زاد الروح إنما هو في المشروع عن الله سبحانه وتعالى، وأن ذلك الزاد في واقع الإنسان يعلو عن الأسباب المادية، فإذا هو يلقى التعب الذي لو حسبته بالمادة لا يمكن أن يثبت له، فكيف يثبت إنسان تقطع قدمه، أو يسقط شيء من حوله وهو غير مدرك، لا يمكن إلا أن نفهم أنه في راحة وأنه في قرة عين وأنه في لذة وأنه في انشغال تام بالعبادة وتعلق كامل لقلبه بالله، وانصراف كامل عن كل الخلق إلى الخالق سبحانه وتعالى، هذا هو الذي يفسر مثل هذا الأمر.

موضوع التصوف أو موضوع ما يسمى بفقه السلوك أو علم السلوك أو غذاء الروح، أو سمه ما شئت؛ فإن العبرة بالمسميات لا بالأسماء، وإن كانت الأسماء التي تثبت وتروج ينبغي معرفتها ومعرفة مضامينها، وهذا ما سيأتي في منهج العلماء، فحينما نقول: إن هذه العلوم أو هذه الأحوال منكرة بالكلية خطأ.

والذين أنكروا إنما أنكروا لما وقع من شطح من أخذ بهذه الأمور، فهناك طرف غال وهناك طرف جاف، والحق بينهما وسط، ولذلك تكلم العلماء والأئمة في هذه الأمور ووضحوا منها كثيراً، ولهم في ذلك قواعد، وأنا أذكر بإيجاز تعريف التصوف ومعناه.

وننقل في ذلك نصوصاً من كلام الأئمة المعتبرين من أمثال ابن القيم وابن تيمية والذهبي وغيرهم من علماء أهل السنة.

يقول ابن القيم : التصوف زاوية من زوايا السلوك الحقيقي وتزكية النفس وتهذيبها لتستعد لسيرها إلى صحبة الرفيق الأعلى ومحبة من تحبه، فإن المرء مع من أحب، كما قال سمنون : ذهب المحبون بشرف الدنيا والآخرة؛ فإن المرء مع من أحب.

وهذا المعنى الإجمالي.

إذاً التصوف هو متعلق بالسلوك الحقيقي المرتبط بتزكية النفس وتهذيبها لتسير إلى الله؛ لأن الغاية هي المنتهى أن يكون المرء مع من أحب.

ثم يقول أيضاً في موضع آخر: لما كان للقلب قوتان: قوة العلم والتمييز وقوة الإرادة والحب كان كماله وصلاحه باستعمال هاتين القوتين فيما ينفعه ويعود عليه بصلاحه وسعادته، فكماله استعمال قوة العلم في إدراك الحق ومعرفته والتمييز بينه وبين الباطل، هذا العلم والتمييز.

واستعمال قوة الإرادة والمحبة في طلب الحق ومحبته وإيثاره على الباطل.

إذاً من صدق في محبته لله سبحانه وتعالى توجه بكليته لمن يحب، وخرج ممن لا يحب خروجاً يبين فيه الأسباب من مسبب الأسباب، ويبين فيه أيضاً التعلق الكامل بالتعلق العارض.

ولذلك الإمام محمد بن عبد الوهاب له كلام جميل في الفهم الأساسي الذي يوازن بين الماديات والروحانيات، يقول:

لما كان صلاح القلب واستقامته في طريق سيره إلى الله سبحانه وتعالى متوقفاً على جمعيته على الله ولم شعثه بإقباله بالكلية على الله فإن شعث القلب -يعني تفرقه- لا يلمه إلا الإقبال على الله.

قال: وكانت فضول الشراب والطعام وفضول مخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام مما يزيده شعثاً.

نحن نريد القلب أن يتوجه إلى الله، فالطعام والشراب ومخالطة الأنام وفضول المنام وفضول الكلام كله مما يزيده شعثاً، إذاً ما الذي جاء في شرع الله ليبعد هذا الشعث ويلم القلب ويوحده في الاتجاه إلى الله سبحانه وتعالى؟

قال: ومن هنا اقتضت حكمة الله سبحانه وتعالى الرحيم بعباده أن شرع لهم من الصوم ما يذهب فضول الطعام والشراب، حتى يتوجه القلب بكليته لله سبحانه وتعالى، وشرع له من الاعتكاف ومقصوده وروحه عكوف القلب والخلوة لعبادة الله ليعالج مخالطة الأنام، أما الكلام فإنه شرع للأمة حبس اللسان عن كل ما لا ينفع في الآخرة، قال الرسول عليه الصلاة والسلام: (فليقل خيراً أو ليصمت).

أما فضول المنام فشرع للأمة قيام الليل، فعلم أن ما شرعه الله سبحانه وتعالى من العبادات والأمور إنما غايته لم شعث القلب وتوجهه بالكلية إلى الله سبحانه وتعالى، ولذلك قال: ومدار رياضات أرباب الرياضات والسلوك على هذه الأركان الأربعة، وأسعدهم بها من سلك فيها المنهاج المحمدي، فلم ينحرف انحراف الغالين ولا قصر تقصير المفرطين.

أي: انحراف الغالين الذين جنحوا والمفرطين الذين أنكروا كل شيء، فإذا قيل للواحد منهم: فلان قرأ قرآناً وبكى. أو: صلى وبكى. أو: كان في حالة من الخشوع قال: لا. هذه شطحات وهذه منكرات.

التصوف فيه نوع من الدقة والتفصيل، وهو يشمل معالم أساسية من أجل أننا نفرق بين الأسماء والمسميات، فهناك اسم له مائة فرع أو مائة نقطة، قد يتصف إنسان بخمس منها، أو بعشر منها، أو بعشرين، أو بمائة، فالتصوف اسم واسع دخل فيه من غير قصد -وبإنكار من بعض أصحابه- ما هو كفر أو كفر أعظم، مثل الحلول والاتحاد، وفيه ما هو صحيح وصدق، مثل العبادة والذكر والدعاء لله سبحانه وتعالى.

فلذلك قال ابن تيمية رحمة الله عليه في الفتاوى: ولأجل ما وقع في كثير منهم من الاجتهاد والتنازع فيه تنازع الناس في طريقه، فطائفة ذمت الصوفية والتصوف، وقالوا: إنهم مبتدعون مخالفون للسنة -أي: لا يقبل منهم شيء- وطائفة غلت فيهم غلواً بحيث صحح عنهم كل ما قالوه، والحق هو أن يقر من قولهم أو فعلهم ما وافق الكتاب والسنة، وأن يرد ما خالف الكتاب والسنة، وحالهم في هذا حال غيرهم من الفقهاء والعلماء؛ لأن صاحب الفقه هو أيضاً مجتهد، فقد يصيب الحق وقد يخالف الحق ويخطئ فيه، فهذا مثل هذا.

وبنحو هذا أيضاً قال الإمام محمد بن عبد الوهاب : ومعاملة الصالحين انقسم فيها الناس إلى ثلاثة أقسام:

الفئة الأولى: أهل الجفاء الذين يغمطون حقوقهم، ولا يقدمون من الحب والموالاة لهم والتوقير لهم كما ينبغي. ثم قال: فالواجب عليك حبهم واتباعهم والإقرار بكراماتهم، ولا يجحد بكرامات الأولياء إلا أهل البدع والضلال، ودين الله وسط بين طرفين، وهدى بين ضلالتين، وحق بين باطلين.

الفئة الثانية: هم أهل الغلو الذين يرفعونهم فوق منزلتهم التي أنزلهم الله إياها. وقد أوضحنا من ذلك ما يكفي ذكره.

الفئة الثالثة: هم أهل الحق الذين هم متوسطون، الذين يحبونهم ويوالونهم ويقومون بحقوقهم الحقيقية، ولكنهم يبرءون من الغلو فيهم وادعاء عصمتهم، والصالحون أيضاً يبرءون من أن يدعوا لأنفسهم حقاً من حقوق ربهم أو نحو ذلك.

ويقول ابن القيم في مدارج السالكين: وهذه الشطحات أوجبت فتنة على طائفتين من الناس: إحداهما: حجبت بها عن محاسن هذه الطائفة وصفاء نفوسهم وصدق معاملتهم فأهدروها لأجل هذه الشطحات، وأنكروها غاية الإنكار، وأساءوا الظن بهم مطلقاً، وهذا عدوان وإسراف، فلو كان كل من أخطأ أو غلط تُرِكَ جملة وأهدرت محاسنه لفسدت العلوم والصناعات والحكم وتعطلت معالمها.

الطائفة الثانية: حجبوا لما رأوه من محاسن القوم وصفاء قلوبهم وصحة عزائمهم وحسن معاملتهم، حجبوا عن رؤية عيوب شطحاتهم ونقصانهم، فسحبوا عليها ذيل المحاسن وأجروا عليها حكم القبول، وهؤلاء أيضاًمعتدون مفرطون.

الطائفة الثالثة: هم أهل العدل والإحسان والإنصاف الذين أعطوا كل ذي حق حقه، وأنزلوا كل ذي منزلة منزلته، فلم يحكموا للصحيح بحكم السقيم المعلول، ولا للمعلول السقيم بحكم الصحيح، بل قبلوا ما يقبل وردوا ما يرد، وهذا إجمال هذا الكلام.

إننا نجد أن بعض الأقوال مجرد ذكرها يكون موضع نقد، مع أنه لابد من معرفة حقيقتها، وأنا أورد بعض الأقوال اليسيرة حتى نعرف هذه الأقوال ونعرف قائلها، فهنا أذكر القول الأول ثم أذكر القائل، حتى يتنبه السامع إلى أن القول قد يسبق إلى ذهنه أنه لابد أن يكون منكراً أو غير مقبول؛ لأن فيه تقسيمات أو تفريعات.

يقول الإمام أحمد : الزهد على ثلاثة أوجه: الأول: ترك الحرام، وهو زهد العوام.

الثاني: ترك الفضول من الحلال، وهو زهد الخواص.

الثالث: ترك ما يشغل عن الله، وهو زهد العارفين.

ولو تأملنا في هذه الأقوال فسنجد أنها تذكر كثيراً من الألفاظ والأقسام والتعبيرات، لكن ليس فيها شيء مخالف للشرع، فليس هناك حرج في معرفتها، بل الحقيقة أن العلماء لما تكلموا في هذا تكلموا بمنازل وبتفصيلات أو بمراتب أو بأقسام ذكروا لها شواهد من القرآن والسنة، ومن أفعال النبي عليه الصلاة والسلام وأصحابه رضوان الله عليهم، وهذا ظاهر وكثير.

ومن ذلك قول آخر: الزهد ترك ما لا ينفع في الآخرة، والورع ترك ما تخاف ضرره في الآخرة.

وهذا كنوع من التقسيمات هو من مقالة ابن تيمية .

وقال ابن القيم تعليقاً عليه: وهذه العبارة من أحسن ما قيل في الزهد والورع وأجمعها.

وعلى هذا تجد أقوالاً كثيرة في هذا الشأن، لكن القاعدة الأساسية التي تعامل بها العلماء هو ضابط الاتباع، أي: اتباع الكتاب والسنة في كل أمر من هذه الأمور.

وإن كنا نقول: إن هذه الأمور فيها ليست لها قياسات مادية، لكن لها ضوابط شرعية، ولذلك كل هذه الأمور ضبطت بعامل الاتباع.

ومن ذلك قول ابن القيم في كلامه على علم السلوك، قال: وأصل هذا المذهب ملازمة الكتاب والسنة، وترك الأهواء والبدع، والتمسك بالأئمة والاقتداء بالسلف، وترك ما أحدثه الآخرون، والمقام على ما سلك الأولون.

ولذلك تجد هذه الأقوال متكررة.

ومن ذلك قول الإمام ابن تيمية في الاستقامة، يقول: أصل العمل علم القلب، وهو الحب والتعظيم والتفاني، والتعظيم المنافي للبغض والاستكبار.

ثم قال: لا يقبل عمل إلا بنية، وهذا ظاهر؛ فإن القول والعمل إن لم يكن خالصاً لله لم يقبله الله تعالى.

ثم قال: لا يقبل قول وعمل ونية إلا بموافقة السنة وهي الشريعة.

وهذا الكلام ضابط عام، ومما يبين تأكيدهم على هذا أنَّ المتقدمين من أهل التصوف كانوا يقولون بهذا؛ لأن ثناء العلماء عليهم دل على أنهم كانوا في الأصل قالوا بكلام جملته وأكثره صحيح، ومن ذلك ما نقل ابن القيم عن أبي يزيد البسطامي قال: لو نظرتم إلى رجل أعطي من الكرامات حتى يرتفع في الهواء فلا تغتروا به، حتى تنظروا كيف تجدونه عند الأمر والنهي وحفظ حدود الشريعة.

ليس هذا إنكاراً لذاك، لكنه أيضاً ليس إلغاء للشرع، لابد أن نعرف أن كل أمر من هذه الأمور له ضابط مهم في الشرع، ولذلك كان كلام العلماء على كل القضايا الأساسية التي ترد في هذه المسائل من الكرامات أو من الإلهام أو من غير ذلك إنما هو في هذا الضابط العام، فنجد -مثلاً- أنه حينما يكون الإنسان مستمعاً للقرآن أو في صلاته فيغلب عليه الخشوع فقد يبكي، أو قد يغشى عليه، فهل كل هذه الصور منكرة مردودة؟ وهل مثل هذه الصورة بالجملة يخشى أن يكون فيها نوع انحراف؟ لا.

ونذكر لك نصاً من كلام ابن تيمية في هذا الأمر، حتى يعلم الإنسان أن الأمور لابد لها من ضابط شرعي من الكتاب والسنة.

يقول رحمه الله في شأن هذا الأمر: إن ناساً أنكروه وإن ناساً أقروه بلا ضابط.

ثم قال: والذي عليه جمهور العلماء أن الواحد من هؤلاء إذا كان مغلوباً عليه لم ينكر عليه.

أي: إذا لم يكن في اختياره. وإن كان حال الذي يثبت أكمل من الذي لا يثبت؛ فإن الرسول عليه الصلاة والسلام وأصحابه قرءوا وصلوا وحصل لهم خشوع كامل أكمل، لكن ما وقع لهم مثل ذلك؛ لأن الثبات أكمل في الإيمان.

ويقول ابن تيمية : ولهذا سئل الإمام أحمد عن هذا فقال: قرئ القرآن على يحيى بن سعيد القطان فغشي عليه، ولو قدر أحد أن يدفع هذا عن نفسه لدفعه يحيى بن سعيد ، لما هو عليه من العلم والإمامة، وهو من أئمة أهل السنة والسلف، فما رأيت أعقل منه.

وقد نقل عن الشافعي أنه أصابه ذلك.

وعلي بن الفضيل بن عياض قصته مشهورة في ذلك.

هذا جملة قوله.

ثم قال أيضاً في موضع آخر: حال المؤمن التقي الذي فيه ضعف عن حمل ما يرد على قلبه -أي: من القرآن أو من الخشوع- فهذا الذي يصعق صعق الموت أو صعق الإغماء فإن ذلك إنما يكون لقوة الوارد عليه وضعف القلب عن حمله، وقد يوجد مثل هذا فيمن يفرح أو يخاف أو يحزن.

وانظر! فقد تجد إنساناً يفرح فرحة كبيرة فيغمى عليه؛ لأن الذي ورد عليه أكبر مما في قلبه من الاحتمال.

ثم قال: إذا كان لم يصدر منه تفريط ولا عدوان لم يكن فيه ذنب فيما أصابه فلا وجه للريبة، كمن سمع القرآن السماع الشرعي ولم يفرط بترك ما يوجب له ذلك.

وكذلك ما يرد على القلوب مما يسمونه السكر والفناء ونحو ذلك من الأمور التي تغيب العقل بغير اختيار صاحبها.

قال ابن تيمية في هذا الأمر -وهنا جملة تعتبر بمثابة القاعدة- قال: فإنه إذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً.

المهم أن لا يكون هناك عمل غير مشروع، أما إذا كان العمل مشروعاً فقد يغلب الإنسان أحياناً هذه الصور، ولذلك قال: فإذا لم يكن السبب محظوراً لم يكن السكران مذموماً بل معذوراً.

وفصل في هذا وقال: وما يحصل في ضمن ذلك من لذة قلبية أو روحية، ولو بأمور فيها نوع من الإيمان فهي مغمورة بما يحصل معها من زوال العقل.

يعني: لا يظن أن هذا هو أسمى مرتبة، فقد يقع للإنسان من لذة العبادة والروحانية والأنس بالتلاوة والأنس بالصلاة ما هو أعظم من مجرد هذه الصورة العادية.

وكذلك ابن القيم في المدارج له كلام قريب من هذا.

إذا جئنا إلى مسألة الكرامات فإن مذهب أهل السنة يقرها، وهي أمور فيها نوع خرق للعادة، وفيها نوع كشف للغيب، لكنه لا يقع بالمعجز الذي يقع للأنبياء، وليس فيه التحدي الذي هو من شروط المعجزة، وضابطها نصوص كثيرة.

فإذا كانت هذه الكرامة ناشئة عن سبب غير شرعي أو توصل بها إلى أمر غير شرعي فهي منكرة مردودة، فهي منضبطة بضابط الشرع.