خطب ومحاضرات
/home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 55
/audio/239"> الشيخ الدكتور علي بن عمر بادحدح . /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
Warning: Trying to access array offset on value of type null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 58
/audio/239?sub=62913"> خطب ومحاضرات عامة
Warning: Undefined array key "Rowslist" in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
Warning: Attempt to read property "value" on null in /home/islamarchivecc/public_html/templates_c/f800c4caaf1f6345c5d1b344c3f9ad5482181c14_0.file.audio_show.tpl.php on line 70
جعفر بن أبي طالب - الشهيد الطيار
الحلقة مفرغة
بسم الله الرحمن الرحيم
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على خاتم الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.
أما بعد:
فباسم الله نبدأ، وعليه نتوكل، ونسأله سبحانه وتعالى التوفيق في كل ما نأتي وما نذر، ونسأله الإخلاص في القول والعمل، وأن يجنبنا الفتنة والزلل، ونسأله أن يجمعنا في مستقر رحمته ودار كرامته في مقعد صدق عند مليك مقتدر إخواناً على سرر متقابلين.
أخي الكريم! حديثنا عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه الشهيد الطيار.
وجعفر رضي الله عنه واحدٌ من خريجي مدرسة النبوة المباركة، المدرسة التي خرجَّت لنا معالم القمة والقدوة في سائر جوانب الحياة، في العقيدة صفاءً وعمقاً وثباتاً، وفي العبادة كثرةً وإخلاصاً وخشوعاً، وفي الفكر إدراكاً ونضجاً ووعياً، وفي المعاملات المالية ورعاً وبذلاً وزهداً، وفي سائر جوانب الحياة المختلفة.
ووقفاتنا مع الصحابي الجليل جعلتها في خمس محطات:
الأولى: في الحب والقرب.
والثانية: في التضحية والهجرة.
والثالثة: في الفطنة والدعوة.
والرابعة: في الجود والكرم.
والخامسة: في الشجاعة والإقدام.
ولقد نال جعفر رضي الله عنه في كل هذه الجوانب قصباً من السبق عظيماً، وقدراً وافراً كريماً، ولعل هذه الوقفات الموضوعية تعيننا على الانتفاع من سيرة جعفر رضي الله عنه، وهي كذلك لا تخلو أو لا تقطع سير وسرد الحياة التي كانت له في صورة قصص وأحداث.
ونبدأ بمحطتنا الأولى محطة القرب والحب، فـجعفر قريب إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم وحبيب.
وأما قربه فمن وجوهٍ كثيرة، فهو ابن عم رسول الله عليه الصلاة والسلام؛ إذ هو جعفر بن أبي طالب، واسم أبي طالب : عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم، وهو الأخ الشقيق لـعلي وعقيل ابني أبي طالب رضي الله عنهم أجمعين، وأمهم جميعاً فاطمة بنت أسد بن هاشم بن عبد مناف بن قصي، فالنسب موصولٌ برسول الله صلى الله عليه وسلم من جهة الأب ومن جهة الأم.
وقد أسلم جعفر بن أبي طالب -كما ذكر ابن عبد البر في الاستيعاب- بعد علي رضي الله عنه بقليل.
وروى ابن إسحاق -كما نقل عنه ابن عبد البر وكذلك ابن حجر في الإصابة- أنه أسلم بعد واحد وثلاثين رجلاً، وكان هو الثاني والثلاثين.
وفي روايةٍ أخرى أنه كان الخامس والعشرين، فهو من السابقين الأوائل إلى الإسلام.
وورد في بعض الروايات أن الذي دعاه هو أبو بكر الصديق رضي الله عنه.
وفي روايات أخرى -وإن كانت الروايتان السابقتان أشهر وأظهر- أنه كان في أوائل من أسلم بعد خديجة بنت خويلد رضي الله عنها وعلي بن أبي طالب وزيد وبلال والمقربين القريبين من رسول الله عليه الصلاة والسلام.
وبالجملة فإن الذين سبقوا إلى الإسلام كانت لهم مزايا ومحاسن هي التي جاءت بهم إلى الإسلام دون غيرهم ممن أعرضوا وصدوا وممن قاوموا وآذوا رسول الله صلى الله عليه وسلم، فالذين أسلموا وأقبلوا على الإسلام كان لهم زكاء نفس، ورجاحة عقل، وطهر قلب، ثم أراد الله عز وجل قبل ذلك بهم الخير، فأقبل بقلوبهم على الإسلام ومتابعة رسول الله صلى الله عليه وسلم.
بعض القصص التي تبين حب النبي صلى الله عليه وسلم لجعفر بن أبي طالب رضي الله عنه
وروى البخاري من حديث البراء بن عازب قصةً تنبئنا عن هذا القرب والحب، قال رضي الله عنه: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم)... إلى آخر ما هو مذكور في قصة الحديبية، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بما أخذ به من شأن الصلح، ثم مضى الأجل، فلما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم –أي: مكة- في عام القضاء ومضى الأجل. أتوا علياً –أي: كفار مكة- فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا عم، يا عم. فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لـفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: دونكِ ابنة عمكِ. فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي : أنا أحق بها، وهي ابنة عمي -أي: ليرعاها ويربيها؛ لأنها ابنة حمزة رضي الله عنه-. وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي –أي: خالتها زوجتي- وقال زيد : ابنة أخي. فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى هذا القضاء العظيم وإلى هذا العقل الراجح، وإلى التربية النفسية الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌ يفضي إلى ابنة حمزة بنسب أو سبب، فكيف يكون القضاء؟ ولابد من أن يقضي لواحدٍ، فكيف يكون لغيره الرضا؟
فقضى بها النبي عليه الصلاة والسلام لخالتها، وهي زوجة جعفر رضي الله عنه، وقال: (الخالة بمنزلة الأم) ثم قال لـعلي : (أنت مني وأنا منك) وقال لـجعفر : (أشبهت خلقي وخُلقي) وقال لـزيد : (أنت أخونا ومولانا) فأثنى على كل واحد منهم بما طيَّب نفسه وخاطره، وقضى عليه الصلاة والسلام بما هو الأصلح والأكمل.
وشاهدنا هنا قوله لـجعفر : (أشبهت خلقي وخُلقي) وقد كان أشبه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم برسول الله من حيث الخلقة، وأضاف النبي بنص حديثه الخُلقُ، وذلك دليل موافقةٍ وحبٍ.
وذكر الذهبي في السير رواية هذا الحديث من طريق ابن إسحاق عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـجعفر : (أشبه خَلْقك خَلْقي، وأشبه خُلقك خُلقي، فأنت مني ومن شجرتي) رجاله ثقات، وأخرجه أحمد في المسند.
ومثل ذلك رواه ابن سعد في الطبقات، وهذا دليل قربٍ وحبٍ واضح فيما كان لـجعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواية أخرى لهذا الحديث عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشبهت خَلقي وخُلقي).
ومن صور المحبة الفياضة لـجعفر في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما عُلم بعد ذلك مما سيأتي في سيرة جعفر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من الحبشة إلى المدينة المنورة، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد غزوة خيبر، وفتح الله عز وجل لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أدري لأيهما أُسر: بقدوم
قال الذهبي رحمه الله في السير: وقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقدوم جعفر، وحزن والله لوفاته. ذكر ذلك في مقدمة ترجمته في السير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب بعد جعفر أبناء جعفر ، ويضمهم إليه، ويشمهم ويردفهم ويقربهم؛ لما كان لـجعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحب والمنزلة الأثيرة.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ تُلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفرٍ فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني
وقد ورد كذلك في شأن قدوم جعفر ما يكشف عن مزج تلك المحبة بالإجلال والتقدير لـجعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في سياق هذه الرواية: أنه لما قدم جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه المصطفى عليه الصلاة والسلام واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال: (ما أدري لأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة -أيضاً- أن في المسند عند الإمام أحمد من حديث علي رفعه قال: (أعطيت رفقاء نجباء...) وعد منهم سبعةً. منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وسياق الحديث على أن هذه الكوكبة من أقرب وأحب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليه، ولذلك بلغ الحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يوم استشهد جعفر بن أبي طالب .
روت عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاءت وفاة
ووردت روايات أخرى تحكي لنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، كقوله عليه الصلاة والسلام فيما وردت به بعض الروايات: (على مثل
وكان عليه الصلاة والسلام يحب جعفر ويقربه، وتلك بعض مواقف الحب والقرب في محطتنا الأولى.
ومن وجوه الحب قصص كثيرة مع هذا القرب الذي كان للنسب، والذي كان تبعاً لذلك بالمعاشرة والمعايشة؛ فإن رسول الله صلى الله عليه وسلم كان في فترة من الزمان في ظل رعاية وكنف أبي طالب والد جعفر رضي الله عنه، وعلي بن أبي طالب تربى ونشأ في حجر رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجعفر شقيقه، وهو أسن من علي بعشر سنين، فكان قريباً ومخالطاً لرسول الله عليه الصلاة والسلام.
وروى البخاري من حديث البراء بن عازب قصةً تنبئنا عن هذا القرب والحب، قال رضي الله عنه: (اعتمر النبي صلى الله عليه وسلم في ذي القعدة، فأبى أهل مكة أن يدعوه يدخل مكة، حتى قاضاهم على أن يقيم بها ثلاثة أيام، فلما كتبوا الكتاب كتبوا: هذا ما قاضى عليه محمد صلى الله عليه وسلم)... إلى آخر ما هو مذكور في قصة الحديبية، ثم أخذ النبي صلى الله عليه وسلم بما أخذ به من شأن الصلح، ثم مضى الأجل، فلما دخلها النبي صلى الله عليه وسلم –أي: مكة- في عام القضاء ومضى الأجل. أتوا علياً –أي: كفار مكة- فقالوا: قل لصاحبك: اخرج عنا فقد مضى الأجل، فخرج النبي صلى الله عليه وسلم فتبعتهم ابنة حمزة بن عبد المطلب رضي الله عنه عم النبي صلى الله عليه وسلم وهي تقول: يا عم، يا عم. فتناولها علي بن أبي طالب رضي الله عنه فأخذ بيدها، وقال لـفاطمة بنت رسول الله صلى الله عليه وسلم: دونكِ ابنة عمكِ. فحملتها، فاختصم فيها علي وزيد وجعفر، فقال علي : أنا أحق بها، وهي ابنة عمي -أي: ليرعاها ويربيها؛ لأنها ابنة حمزة رضي الله عنه-. وقال جعفر : ابنة عمي وخالتها تحتي –أي: خالتها زوجتي- وقال زيد : ابنة أخي. فقضى بينهم النبي صلى الله عليه وسلم، وانظر إلى هذا القضاء العظيم وإلى هذا العقل الراجح، وإلى التربية النفسية الفريدة لرسول الله صلى الله عليه وسلم، كلٌ يفضي إلى ابنة حمزة بنسب أو سبب، فكيف يكون القضاء؟ ولابد من أن يقضي لواحدٍ، فكيف يكون لغيره الرضا؟
فقضى بها النبي عليه الصلاة والسلام لخالتها، وهي زوجة جعفر رضي الله عنه، وقال: (الخالة بمنزلة الأم) ثم قال لـعلي : (أنت مني وأنا منك) وقال لـجعفر : (أشبهت خلقي وخُلقي) وقال لـزيد : (أنت أخونا ومولانا) فأثنى على كل واحد منهم بما طيَّب نفسه وخاطره، وقضى عليه الصلاة والسلام بما هو الأصلح والأكمل.
وشاهدنا هنا قوله لـجعفر : (أشبهت خلقي وخُلقي) وقد كان أشبه صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم برسول الله من حيث الخلقة، وأضاف النبي بنص حديثه الخُلقُ، وذلك دليل موافقةٍ وحبٍ.
وذكر الذهبي في السير رواية هذا الحديث من طريق ابن إسحاق عن أسامة بن زيد عن أبيه زيد أنه سمع النبي صلى الله عليه وسلم يقول لـجعفر : (أشبه خَلْقك خَلْقي، وأشبه خُلقك خُلقي، فأنت مني ومن شجرتي) رجاله ثقات، وأخرجه أحمد في المسند.
ومثل ذلك رواه ابن سعد في الطبقات، وهذا دليل قربٍ وحبٍ واضح فيما كان لـجعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورواية أخرى لهذا الحديث عن هانئ بن هانئ عن علي رضي الله عنه: (أن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: أشبهت خَلقي وخُلقي).
ومن صور المحبة الفياضة لـجعفر في قلب المصطفى صلى الله عليه وسلم ما عُلم بعد ذلك مما سيأتي في سيرة جعفر يوم قدم على رسول الله صلى الله عليه وسلم راجعاً من الحبشة إلى المدينة المنورة، فوافى النبي صلى الله عليه وسلم والمسلمين بعد غزوة خيبر، وفتح الله عز وجل لهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (لا أدري لأيهما أُسر: بقدوم
قال الذهبي رحمه الله في السير: وقد سُر رسول الله صلى الله عليه وسلم لقدوم جعفر، وحزن والله لوفاته. ذكر ذلك في مقدمة ترجمته في السير.
وكان النبي صلى الله عليه وسلم يحب بعد جعفر أبناء جعفر ، ويضمهم إليه، ويشمهم ويردفهم ويقربهم؛ لما كان لـجعفر رضي الله عنه وأرضاه من الحب والمنزلة الأثيرة.
روى مسلم في صحيحه عن عبد الله بن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه قال: (كان رسول الله صلى الله عليه وسلم إذا قدم من سفرٍ تُلقي بصبيان أهل بيته، وإنه قدم من سفرٍ فسبق بي إليه، فحملني بين يديه، ثم جيء بأحد ابني
وقد ورد كذلك في شأن قدوم جعفر ما يكشف عن مزج تلك المحبة بالإجلال والتقدير لـجعفر عند رسول الله صلى الله عليه وسلم، فقد ذكر ابن عبد البر في سياق هذه الرواية: أنه لما قدم جعفر على رسول الله صلى الله عليه وسلم تلقاه المصطفى عليه الصلاة والسلام واعتنقه، وقبَّل بين عينيه، وقال: (ما أدري لأيهما أنا أشد فرحاً بقدوم
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة -أيضاً- أن في المسند عند الإمام أحمد من حديث علي رفعه قال: (أعطيت رفقاء نجباء...) وعد منهم سبعةً. منهم جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وسياق الحديث على أن هذه الكوكبة من أقرب وأحب أصحاب محمدٍ صلى الله عليه وسلم إليه، ولذلك بلغ الحزن برسول الله صلى الله عليه وسلم مبلغاً يوم استشهد جعفر بن أبي طالب .
روت عائشة رضي الله عنها قالت: (لما جاءت وفاة
ووردت روايات أخرى تحكي لنا حزن النبي صلى الله عليه وسلم على جعفر، كقوله عليه الصلاة والسلام فيما وردت به بعض الروايات: (على مثل
وكان عليه الصلاة والسلام يحب جعفر ويقربه، وتلك بعض مواقف الحب والقرب في محطتنا الأولى.
وأما المحطة الثانية: فالتضحية والهجرة، وهي السمة الغالبة على حياة جعفر رضي الله عنه، فقد هاجر ثلاث هجرات لم يهاجرها غيره من الصحابة إلا نفرٌ قليل.
قال ابن عبد البر في الاستيعاب: هاجر الهجرتين إلى الحبشة، وهاجر إلى المدينة المنورة، فحياته كلها كانت هجرةً لله ولرسوله صلى الله عليه وسلم، ولإقامة الدين والدعوة إليه، ولإقامة شعائره وشرائعه، فهو ممن هاجر إلى الحبشة في الهجرة الأولى، وهاجر إلى الحبشة مع زوجه أسماء بنت عميس رضي الله عنها الهجرة الثانية، وولد له أولاده الثلاثة في الحبشة، وعاش فيها ردحاً من الزمن.
وقال ابن حجر في الإصابة: وعلى يديه أسلم النجاشي ومن تبعه في الحبشة، وذكر روايةً عن ابن مسعود أن جعفر بن أبي طالب كان أمير المهاجرين في الحبشة، وروى ذلك ابن سعد في الطبقات.
وذلك كله يدلنا على أن جعفراً رضي الله عنه كان من أهل الإيمان الراسخ، واليقين العظيم، والتضحية الكبيرة، حيث ترك داره وأرضه وبلاده، وهاجر إلى الحبشة بعد أن أذن بذلك وأمر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لما قال: (إن بأرض الحبشة ملكاً عادلاً لا يظلم عنده أحد، فالحقوا بأرضه -أو ببلاده-)، فذهب جعفر رضي الله عنه في الفوج الأول الذي لم يكن يتعدى عددهم -كما في بعض روايات السيرة- اثني عشر أو ثمانية عشر ما بين رجل وامرأة، ثم كان كذلك في الفوج الثاني الذي زاد على ثمانين رجلاً وامرأة، وكانت له المواقف العظيمة هناك، وكانت هجرته على هذا النحو، ثم لحق بالنبي صلى الله عليه وسلم، فسجلت له هجرة إضافية أو هجرة ثالثة، فكان ممن كانت حياته كلها هجرةً وتضحيةً في سبيل الله، وفي سبيل إعلاء كلمة الله عز وجل.
ثم إن أبا موسى الأشعري روى لنا قصة المهاجرين من الحبشة، وكيف قدموا على رسول الله صلى الله عليه وسلم، فأخبر أبو موسى رضي الله عنه أنه خرج ومعه نفرٌ من قومه من بلاده من اليمن، قال: نريد رسول الله صلى الله عليه وسلم بالمدينة، فقذفت بنا السفينة إلى أرض الحبشة، فوافينا جعفراً وأصحابه، ثم خرجنا معهم جميعاً إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم، فوافينا المدينة في أعقاب خيبر.
وهنا وقعت قصةٌ كذلك تدلنا على مسألة الهجرة وأهميتها وفائدتها، ترويها لنا أسماء بنت عميس، وهي مذكورة في البخاري ومسلم وغيرهما من كتب السنة المشهورة، هذه الرواية فيها: أن عمر بن الخطاب رضي الله عنه قدم ودخل على بيته، وعند زوجته امرأةٌ فقال: من هذه؟ قالت: أسماء بنت عميس ، فقال عمر رضي الله عنه: ألحبشية -أي: هل هي الحبشية التي جاءت من الحبشة-؟ فقالت: نعم. فقال الفاروق عمر : سبقناكم بالهجرة، فنحن أحق برسول الله صلى الله عليه وسلم منكم.
وكان تفاخر القوم ليس بالأحساب والأنساب، وإنما بالبذل والتضحية في سبيل الله، وبالقرب وبالخدمة والذود والحماية لرسول الله صلى الله عليه وسلم. فغضبت أسماء رضي الله عنها من ذلك وحزنت -وكانوا أحرص شيءٍ على الخير والفضل في هذا الدين- فقالت: كلا. والله! كنتم مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، يطعم جائعكم، ويعلم جاهلكم، وكنا في دار البعداء والبغضاء في الحبشة، وذلك في الله وفي رسوله، والله لا أطعم طعاماً ولا أشرب شراباً حتى أذكر ما قلت لرسول الله صلى الله عليه وسلم، ونحن كنا نؤذى ونخاف.
فذهبت إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالت له ذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: (ليس بأحق بي منكم، له ولأصحابه هجرة واحدة، ولكم أنتم -يا أهل السفينة- هجرتان) فأثنى عليهم النبي صلى الله عليه وسلم لفضل الهجرة وترك الديار والأهل والعيش في الغربة حفاظاً على الدين وحرصاً على إقامته، فقال: (له ولأصحابه هجرةٌ، ولكم يا أهل السفينة! هجرتان)، فقالت أسماء رضي الله عنها: (فجعل أهل الحبشة يأتون إليَّ أرسالاً؛ يسألونني عن حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم)؛ لأنهم كانوا أفرح الناس بالخير.
وهذا يدلنا على فضل الهجرة عموماً، والهجرة إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم خصوصاً، وقد نال جعفر بن أبي طالب قصب السبق في كل هذه الهجرات التي كانت في سيرة النبي صلى الله عليه وسلم.
وفي سياق الهجرة ننتقل إلى المحطة الثالثة لنفرد بعض أحداث الهجرة في هذه المحطة المهمة، محطة الفطنة والدعوة، لقد كان جعفر رضي الله عنه ذكياً أريباً أديباً، حسن المنطق، راجح العقل، وافر الذكاء، يحسن القول في وقت القول، ويحسن ما يذكر في القول مما ينفع ولا يضر، وكان رضي الله عنه وأرضاه داعيةً حكيماً حصيفاً أريباً.
ولذلك كان مُقَدَّم القوم والصحابة في الحبشة، كما أشرنا أن ابن سعد في الطبقات روى عن ابن مسعود رضي الله عنه أنه كان أميراً للمؤمنين في الحبشة.
ونعلم جميعاً القصة الشهيرة التي نريد أن نذكر سياقها في قصة بعث قريش لـعبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص ليذهبا إلى النجاشي ويطلبا منه تسليم الصحابة رضوان الله عليهم الذين هاجروا إلى الحبشة، فإن قريشاً بجاهليتها الجهلاء وغطرستها العمياء ورغبتها في العدوان والإيذاء لم تترك المهاجرين وقد تركوا لها مكة كلها وذهبوا إلى الحبشة، فلحقت بهم، وأرادت أن تردهم لتشفي غيضها بعذابهم وإيذائهم، ولتمنع تسرب الدعوة من الجزيرة إلى خارجها، ولئلا يشوه المسلمون سمعتها وصورتها عند الآخرين من الأمم والأقوام، فبعثوا حينئذٍ عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة، وسياق الرواية نذكره من رواية أم سلمة رضي الله عنها، وكانت من المهاجرات إلى الحبشة، وهذا السياق عند الإمام أحمد في مسنده، وهو الذي ذكره ابن إسحاق وابن هشام في السيرة، وبنحوه ذكره ابن سعد في الطبقات، والبيهقي في دلائل النبوة، وهو سياقٌ فيه كلامٌ نفيس وعرض جميل يدل على الذكاء والفطنة، وعلى الدعوة كذلك.
قالت أم سلمة رضي الله عنها: لما نزلنا أرض الحبشة جاورنا بها خير جار النجاشي، آمننا على ديننا، وعبدنا الله فلا نؤذى، فلما بلغ ذلك قريشاً ائتمروا أن يبعثوا إلى النجاشي فينا رجلين جلدين، وأن يهدوا إلى النجاشي هدايا مما يستطرف من متاع مكة، فجمعوا له أدماً -أي: جلداً- كثيراً، ولم يتركوا من بطارقته بطريقاً إلا أهدوا له.
وهذا ما يسمى اليوم بالضغط السياسي، حيث هيئوا له، وأهدوا للبطارقة الهدايا حتى يوافقوهم على قولهم.
ثم قالت: بعثوا بذلك -أي: بهذه الهدايا- عبد الله بن أبي ربيعة وعمرو بن العاص -وكانا على غير الإسلام- وقالوا لهما: ادفعا إلى كل بطريقٍ هديته قبل أن تكلموا النجاشي فيهم، ثم قدموا إلى النجاشي هداياه، ثم سلوه أن يسلمهم إليكم قبل أن يكلمهم -لا يريدون للنجاشي أن يسمع قولهم- فقدما على النجاشي فدفعا إلى كل بطريقٍ هديته، وقالا: إنه قد صبأ إلى بلدكم منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم، وجاءوا بدينٍ مبتدعٍ، وقد بعثنا إلى الملك فيهم أشراف قومهم ليردوهم إليهم، فإذا كلمنا الملك فيهم فأشيروا عليه بأن يسلمهم إلينا، ولا يكلمهم، فإن قومهم أعلى بهم عيناً. فقالوا: نعم.
وانظر إلى دهاء عمرو بن العاص ؛ حيث قال لهم: فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينكم. أي: فلا هم منا ولا هم منكم، فليست لكم بهم صلة، وليس عندكم شيءٌ لأجله تحفظونهم أو تراعونهم. ثم أشاروا إليهم أن يدفعوا النجاشي إلى أن يسلمهم دون أن يسمع لهم.
فجاءا إلى النجاشي وقربا إليه هدايا، ثم قال لهما: تكلما. فقالا له: أيها الملك! إنه قد صبأ إلى بلدك منا غلمان سفهاء، فارقوا دين قومهم، ولم يدخلوا في دينك، وجاءوا بدينٍ مبتدع لا نعرفه نحن ولا أنت، وقد بعثنا إليك فيهم أشراف قومهم من آبائهم وأعمامهم وعشائرهم لتردهم إليهم، فهم أعلى بهم عيناً وبما عابوا عليهم. فقالت بطارقته: صدقوا، فأسلمهم إليهما -تسليم مجرمين كما نقول اليوم، أو اتفاقيات تسليم لمجرمين أو لإرهابيين كما يزعمون اليوم-. فغضب النجاشي وقال: لاها الله إذاً: لا أسلمهم إليهما ولا يكاد قوم جاوروني ونزلوا بلادي واختاروني على من سواي حتى أدعوهم فأسألهم ماذا يقولون، فإن كانوا كما يقولان -أي: عبد الله وعمرو بن العاص - سلمتهم إليهما، وإن كانوا على غير ذلك منعتهم.
قالت: ثم أرسل إلى أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم فدعاهم، فلما أن جاءهم رسوله اجتمعوا، ثم قال بعضهم لبعض: ما تقولون للرجل إذا جئتموه؟ قالوا: نقول ما علمنا وما أمرنا به نبينا صلى الله عليه وسلم كائناً في ذلك ما هو كائن. فلما جاءوه وقد دعا النجاشي أساقفته فنشروا مصاحفهم حوله قال لهم: ما هذا الدين الذي فارقتم فيه قومكم ولم تدخلوا في ديني ولا في دين آخر من أديان هذه الأمم؟ قالت: وكان الذي كلمه جعفر بن أبي طالب.
-وفي بعض الروايات أن جعفراً قال: إذا جئنا فأمسكوا فإني أكون أنا الذي أكلمه. فماذا قال جعفر ؟
قال: أيها الملك! كنا قوماً أهل جاهلية؛ نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف، فكنا على ذلك حتى بعث الله عز وجل إلينا رسولاً نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه، فدعانا إلى الله عز وجل لنوحده ونعبده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من دونه من الحجارة والأوثان، وأمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف الأذى، والكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش، وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنات، وأمرنا أن نعبد الله ولا نشرك به شيئاً، وأمرنا بالصلاة والزكاة والصيام، فصدقناه، وآمنا به، فعبدنا الله عز وجل فلم نشرك به شيئاً، وحرمنا ما حرم علينا، وأحللنا ما أحل لنا، فعدى علينا قومنا فعذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل من الخبائث، فلما قهرونا وظلمونا وشقوا علينا وحالوا بيننا وبين ديننا خرجنا إلى بلدك، فاخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك، ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك.
وأعتقد لو أن مؤتمراً إسلامياً كاملاً يعقد حتى يصوغ مثل هذه الدعوة الجليلة الذكية لقصر عن ذلك.
وهنا مسائل كثيرة في هذه الحادثة يقصر مقامنا عن ذكرها، فالمسلمون كانوا أقليةً في بلدٍ غير إسلامي، وهم لحالهم ذلك كأنما يمثلون أوضاع الجاليات المسلمة في بلادٍ غير إسلامية كما هو حال كثيرٍ من المسلمين اليوم، فأول أمرٍ نلحظه هنا مشورة المسلمين فيما بينهم، ثم وحدة كلمتهم واجتماع أمرهم؛ إذ لم يتفرقوا ولم يختلفوا، بل أجمعوا أمرهم، ووحدوا كلمتهم، وانتدبوا المتحدث باسمهم، فليست هناك أقوالٌ ولا آراءٌ متعددة يظهرون بها لغير المسلمين.
ثم إن جعفراً رضي الله عنه أحسن المقالة، وأظن أن من يسمع قول جعفر لابد من أن يوافقه ويؤيده مباشرةً؛ فإنه بدأ بقوله: (أيها الملك) وهذا ليس فيه شيء من التعظيم لغير المسلم، بل فيه وصفٌ لحقيقته التي هو عليها، فهو ملك تلك البلاد، فليس في مثل هذا حرجٌ شرعيٌ، بل فيه تنزيل حسنٌ؛ لكي يكون هناك جسرٌ يمتد منه الحديث وتتحد به الأرضية لكي يقبل على ذلك القول ويسمع له ويصغي.
ووردت روايات أخرى في غير هذا السياق أنهم كانوا إذا دخلوا على النجاشي يركعون له، وأن عبد الله وعمرو بن العاص فعلا ذلك، فلما جاء جعفر لم يصنع مثل هذا، فقال له: لِمَ لا تركع كغيرك؟ قال: إنا لا نركع ولا نسجد إلا لله عز وجل. فكان هذا الموقف أيضاً لفت نظرٍ إلى أن المساومة في أمرٍ شرعيٍ ثابتٍ أو عقديٍ أساسيٍ لا مجال فيه مطلقاً، لكن قوله: (أيها الملك) ليس فيه غضاضة ولا حرجٌ شرعيٌ بحال.
ثم بدأ يسرد له، فذكر له مساوئ الجاهلية، ذكرها بصيغةٍ موجزةٍ بليغة محكمة، وبينها وفصلها، فقال: (كنا نعبد الأصنام، ونأكل الميتة، ونأتي الفواحش، ونقطع الأرحام، ونسيء الجوار، ويأكل القوي منا الضعيف). فأي صورةٍ هذه؟ وأي مجتمعٍ هذا؟ وأي أخلاقٍ هذه؟
إنها تلك التي تنفر منها كل نفس سوية، ويأباها كل عقلٍ راشد، تلك هي صور الجاهلية على حقيقتها المؤلمة، والكفر على صورته البشعة وأخلاقه الرذيلة الذميمة وأحواله الاجتماعية الطبقية العنصرية الظالمة الباغية.
ثم قال: (فبعث الله إلينا رسولاً منا نعرف نسبه وصدقه وأمانته وعفافه).
وهذا هو سر اختيار الصحابة وإجماعهم على جعفر ؛ لأنه ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، فهو أعرف به وألصق به من غيره من بقية الصحابة، فقوله فيه يكون عن بصيرةٍ وعلمٍ وخبرةٍ وقربٍ أكثر من غيره، ولذلك قال هذه المقالة.
ثم بين دعوة الإسلام، فبدأ بالتوحيد فقال: (فدعانا إلى الله عز وجل لنعبده ونوحده، ونخلع ما كنا نعبد نحن وآباؤنا من الحجارة والأوثان).
ثم ذكر الجانب الأخلاقي الإنساني في الإسلام؛ لأن هذه الجوانب الإنسانية قاسمٌ مشترك بين الأمم وبين الناس جميعاً من أصحاب الفطر السوية، والمسلمون يحسن بهم أن يظهروا هذه الجوانب لغير المسلمين؛ لأنها الجوانب التي تلفت العقول والأنظار، وتسلب أو تجبي أو تستميل النفوس والقلوب إلى حقائق الإسلام، ولذلك عرضها فقال: (أمرنا بصدق الحديث، وأداء الأمانة، وصلة الرحم، وحسن الجوار، وكف عن المحارم والدماء، ونهانا عن الفواحش وقول الزور، وأكل مال اليتيم، وقذف المحصنة)، ثم ذكر بعد ذلك الأمر بالتوحيد والصلاة والزكاة، وهذا تلخيصٌ حسنٌ لجوامع الإسلام وأسسه وقواعده دون أن يخوض في التفصيل والتفريع؛ لأنه في مقام عرضٍ إجماليٍ يبين حقيقة هذا الدين في كلياته وأصوله وقواعده، ويظهر محاسنه ومنافعه وفوائده.
ثم ذكر بعد ذلك ما يكشف حقيقة الكفر والشرك والجاهلية في معارضتها للأخلاق الفاضلة، ومضادتها لحقوق الإنسان، ومنعها لحرية الرأي والتعبير والاعتقاد، فقال: (فلما رأى قومنا ذلك عذبونا وفتنونا عن ديننا ليردونا إلى عبادة الأوثان، وأن نستحل ما كنا نستحل) أي أنهم شقوا عليهم وعذبوهم وآذوهم، فظهر حينئذٍ أن هذا ظلم وبغي، وكل صاحب نفسٍ حرةٍ وفطرة سوية يكون مع هؤلاء المظلومين ضد المعتدين، بغض النظر عن الدين والمعتقد، وهذا نراه اليوم أيضاً لدى بعض الأفراد والجماعات والمجموعات والمنظمات من غير المسلمين، حيث قد يكون عندهم تشبثٌ حقيقي بحقوق الإنسان، ورغبةٌ في رد الظلم والعدوان من أي أحدٍ كان، ولذا نرى منهم مواقف عجيبة، ليست منطلقة من منطلقات الإسلام، لكنها منطلقة من منطلقات الإنسان، ولذلك نرى من يسمونهم نشطاء السلام يدافعون عن إخواننا في فلسطين، ويرفعون قضيتهم، وربما قتل بعضهم كما هو معلومٌ ومعروف، وهم في ذلك يرون أنهم يدافعون عن حقٍ وعدل، ويمنعون ظلماً وجوراً، وينصرون إنساناً مضطهداً دون أن ينظروا إلى دينه وعقيدته، فبعض المعاني الإنسانية المشتركة راعاها جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه في دعوته بذكاءٍ وفطنة، ثم ختمها بأحسن ختامٍ عندما أثنى على النجاشي وبلاده بما هو فيها من غير زيادة، والمسلم الحق من يذكر الحق والواقع بإنصافٍ وعدل، حتى وإن كان عند غير المسلم، فقال: لما حصل ذلك خرجنا إلى بلدك، واخترناك على من سواك، ورغبنا في جوارك. وهذا يستدعي من النجاشي حميته وقوته وعطفه، كيف يلتجئ إليَّ أناس فأخذلهم؟ وكيف يرغبون في جواري فأطردهم؟ وكيف ينشدون عدلي فأظلمهم؟
ولذلك أحسن جعفر رضي الله عنه هذا العرض إحساناً بالغاً فائقاً، وأثنى على النجاشي وبلاده في مجمل أوضاعها بما هو حقٌ، وليس في هذا حرجٌ شرعي، ليس من حرجٍ أن نقول عن نظام بعض تلك البلاد أو بعض قوانينها أو بعض أحوالها ما هو عدلٌ وحق وما فيه مصلحة ومنفعة، وإن لم يكن قائماً على أساسٍ عقدي صحيح، وإن لم يكن منطلقاً من الإسلام وعقائده ومبادئه، ولذلك قال له هذا القول.
ثم ختم بقوله: (ورجونا أن لا نظلم عندك أيها الملك) فلما قال هذه المقالة الجامعة الوافية الذكية، قال النجاشي : هل معك مما جاء به عن الله عز وجل شيء؟
وهنا جاهزية الداعية المسلم الذي لا يتلكأ، فقال جعفر : نعم، فقرأ عليه صدراً من سورة مريم، واختيار القراءة أيضاً موفق؛ فإن صدر سورة مريم فيه قصة زكريا ويحيى وعيسى عليهم السلام جميعاً، وفيه ذكر أمورٍ يعرف جعفر أن النجاشي يعرفها من كتابه ودينه، فقرأها فبكى -والله- النجاشي حتى أخضل لحيته، وبكت أساقفته حتى بلوا مصاحفهم. ثم قال النجاشي : إن هذا والذي جاء به موسى ليخرج من مشكاة واحدة. انطلقا، فوالله لا أسلمهم إليكما أبداً.
فردهما، ولكن هل استسلم عمرو بن العاص ، وهو داهية العرب كما نعلم؟
فلما خرجا من عنده قال عمرو بن العاص : والله لأتينه غداً أعيبهم عنده بما استأصل به خضراءهم. أي: سوف آتي غداً في جولةٍ أخرى، وأذكر عن هؤلاء المسلمين قضيةً سوف تغير موقف النجاشي عليهم.
فأي شيءٍ سيذكر؟ سيذكر أمراً متعلقاً بالعقيدة والدين، لنعلم أن المحرك الأساسي والجوهري في اتخاذ المواقف إنما هو العقيدة والمبدأ قبل المصلحة والمنفعة.
فقال له عبد الله بن أبي ربيعة -وكان أكبر الرجلين كما تقول رواية أم سلمة -: لا تفعل؛ فإن لهم أرحاماً. فقال: والله لأخبرنه أنهم يزعمون في عيسى بن مريم أنه عبد!
وما لـعمرو بن العاص وهو وثني مشرك ولعيسى بن مريم وللمسيحية والنصرانية؟! إنما يريد الفتنة، وهذا هو الذي يستغله -أيضاً- أعداء الإسلام من اليهود وغيرهم، فإنهم لا يريدون حقاً وعدلاً، وإنما يريدون أن يطعنوا المسلمين ويسيئوا إليهم ويؤلبوا عليهم.
فغدا عليه من الغد، فقال: أيها الملك! إنهم يقولون في عيسى بن مريم قولاً عظيماً. ونلاحظ أنه لم يقل ما يقولون، إنما أراد أن يجعل القضية في حس النجاشي ضخمةً وعظيمة، حتى إذا سمع النجاشي القول كان غضبه في غاية العظمة والشدة، فأرسل إليهم ليسمع منهم، وهذا من عدل النجاشي ؛ فإنه لم يسمع من طرفٍ في كلتا الحالتين.
تقول أم سلمة ولم ينزل بنا مثلها. أن هذه معضلة، فالقوم في كتبهم تحريف، ونعرف أنهم يقولون: إن عيسى هو ابن الله. أو: عيسى هو الله. ونحن قطعاً ويقيناً في عقيدتنا وديننا أنه عبد الله ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم وروح منه.
قالت: فقال بعضهم: ما تقولون في عيسى إذا سألكم عنه؟ قالوا: نقول فيه ما قال الله عز وجل، وما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم، وكائن في ذلك ما كان. فلما دخلوا عليه قال: ما تقولون في عيسى؟ قال له جعفر رضي الله عنه: (نقول فيه الذي جاء به نبينا عليه الصلاة والسلام: هو عبد الله وروحه ورسوله، وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول).
وهذا الكلام مختصرٌ موجز، لكنه دقيق وحكيم؛ فإنه قال: نقول فيه ما جاء به نبينا صلى الله عليه وسلم. فليس القول من عندنا، وليس اجتهاداً، وإنما هو دينٌ ووحيٌ، ثم قال: (عبد الله)، وذلك ينفي أنه ابن الله، وينفي أنه الله عز وجل -تعالى الله عما يقولون علواً كبيراً-، لكنه أضاف المعنى المعجز الذي نؤمن به، وهو (وروحه) أي: التي قذفها في مريم عليها السلام، (ورسوله) فهو نبي مرسل كرسول الله صلى الله عليه وسلم.
ثم قال: (وكلمته ألقاها إلى مريم العذراء البتول) أيضاً ليبرئ مريم عليها السلام مما يقذفها به بعض اليهود والمحرفين منهم على وجه الخصوص، فهو جمع في ذلك محاسن عقيدة الإسلام في هذه المسألة المهمة، فلا هو ابن الله، ولا هو الله، ولا هو بشرٌ كسائر البشر، بل هو كلمةٌ وروح ألقاها الله إلى مريم، وليست مريم عليها السلام فيها شيء من شبهة أو من قذفٍ أو غير ذلك.
وهنا استطراد يسير نذكره لبعض علماء الإسلام، وهو أبو بكر الباقلاني، حيث جاءه بعض النصارى، وأرادوا أن يثيروا بعض الشبه، فقالوا له: إن زوجة نبيكم قد وقع لها ما وقع -يعنون بذلك حادثة الإفك، ويرمون بذلك عائشة ويغمزون في شرفها-، فقال بذكاء وفطنة وبديهة وسرعة: هما امرأتان اتهمتا في شرفهما، وبرأهما الله عز وجل، أما واحدة فلم يكن لها زوج وجاءت بولد، وأما الثانية فكان لها زوج ولم تأت بولد. يعني بالأولى مريم ، أي: إن كان ولابد من شبهة فتلك لا زوج لها وجاء منها ولد، وأما هذه فلها زوج ولم يأت لها ولد، فهي أبعد عن الشبهة. مع أنه قدم فقال: برأهما الله عز وجل.
إذاً لما قال جعفر هذا القول ضرب النجاشي بيده الأرض، ثم أخذ منها عوداً وقال: ما عدا عيسى بن مريم ما قلت هذا العود. يعني أنه كما قلت تماماً؛ لأنه كان يعرف التحريف.
وكان من أثر عرض جعفر بن أبي طالب أن النجاشي أسلم، وأكثر الروايات على أن النجاشي الذي أسلم والذي صلى عليه النبي صلى الله عليه وسلم هو هذا النجاشي الذي لقيه جعفر بن أبي طالب وتكلم بين يديه، ولذلك قال لهم: اذهبوا فأنتم سيوم بأرضي -أي: آمنون-، من سبكم غرم، من سبكم غرم، من سبكم غرم. ثم رد الهدايا التي أخذها من عمرو بن العاص وعبد الله بن أبي ربيعة .
وهنا نرى كيف كانت فطنة جعفر رضي الله عنه، والمقام أقصر من أن يحيط بكثير من جوانب العظمة والذكاء والفطنة وحسن العرض والدعوة مما كان من جعفر رضي الله عنه.
وأما المحطة الثالثة فمحطة الجود والكرم، ولقد نال منها جعفر مبلغاً ورتباً لم ينلها كثيرٌ غيره من أصحاب رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ففي صحيح البخاري من حديث أبي هريرة -وأبو هريرة كما نعلم كان من أهل الصفة، ومن فقراء المسلمين الذين كانوا ليس لهم مصدر عيش ولا قوت ولا طعام إلا ما يكون من الغنائم في الجهاد، وما يكون من إكرام المسلمين وهداياهم وصدقاتهم لهم- يقول أبو هريرة رضي الله عنه: (كان أخير الناس للمساكين جعفر بن أبي طالب، كان ينقلب بنا فيطعمنا في بيته، حتى إن كان ليخرج إلينا العكة التي ليس فيها شيء، فيشقها فنلعق ما فيها) أي أن العكة من العسل تكون ليس فيها شيء، فيشقها حتى يلعقوا بقاياها التي فيها من شدة كرمه.
وكان يعطي ما عنده، ولا يستبقي شيئاً قليلاً ولا كثيراً، ولذلك كثر مدح أبي هريرة على وجه الخصوص له؛ لأنه كان من الفقراء، ويعلم رضي الله عنه شدة الفقر والجوع.
وأبو هريرة كان متعلقاً بـجعفر لهذا الكرم؛ لأنه كان يتفقد أهل الصفة دائماً، ويعطيهم ويطعمهم، قال أبو هريرة : (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب ). أخرجه الترمذي والحاكم وصححه، وذكر ابن حجر رحمه الله أنه: يعني بذلك في مجال الكرم؛ لأن هذا هو تقييد الحديث.
وقد ذكر ابن حجر في الإصابة أن هذا الحديث ساقه أبو هريرة بقوله: (ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضل من جعفر بن أبي طالب ) ورواه الترمذي والنسائي، وإسناده صحيح كما قال ابن حجر رضي الله عنه.
وهذه رواية ساقها الترمذي فيها طرافةٌ، وفيها ذكر لهذه المنقبة العظيمة لـجعفر رضي الله عنه، روى الترمذي عن أبي هريرة رضي الله عنه قال: (إن كنت لأسأل الرجل من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن أنا أعلم بها منه -يسأله عن معاني بعض الآيات، وهو أعلم بها، ولا يريد السؤال ولا يريد الجواب، وإنما يريد حديثاً حتى يقول له: تفضل وادخل البيت، فينال شيئاً من طعام- يقول: كنت أسأل بعض أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم عن الآيات من القرآن وأنا أعلم بها منه، ما أشاء إلا ليطعمني شيئاً، فكنت إذا سألت جعفر بن أبي طالب لم يجبني حتى يذهب بي إلى منزله، فيقول لامرأته: يا أسماء ! أطعميني شيئاً، فإذا أطعمينا أجابني). أي أنه كان يعرف أن أبا هريرة إنما يريد الطعام أولاً.
ثم يقول أبو هريرة في تتمة الحديث: (وكان جعفر يحب المساكين، ويجلس إليهم، ويحدثهم ويحدثونه، فكان رسول الله صلى الله عليه وسلم يكنيه بأبي المساكين) وهذه كنيةٌ اشتهرت لـجعفر رضي الله عنه، فهو أبو المساكين.
وفي رواية أبي هريرة أيضاً عند الترمذي قال: (كنا عند جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه أبي المساكين، فكنا إذا أتيناه قرب إلينا ما حضر، فأتيناه يوماً فلم يجد عنده شيئاً -يعني: يقربه لهم- فلما لم يجد عنده شيئاً أخرج جرةً من عسل فكسرها، فجعلنا نلعق منها)، فمن شدة كرمه رضي الله عنه أنه كان يكسر جراراً للعسل حتى يلعقوا ما فيها.
ثم كذلك وردت الرواية عند البخاري في هذا المعنى الذي ذكرناه، وذلك من وجوه الكرم والجود التي كانت معروفة عن جعفر بن أبي طالب رضي الله عنه، وهذا يدل على بروز هذا الخلق عند جعفر رضي الله عنه؛ لأن جعفراً كان في الحبشة، وإسلام أبي هريرة إنما كان في العام السابع بعد خيبر، ونعلم أن جعفراً رضي الله عنه -كما سيأتي- شارك في مؤتة واستشهد فيها، أي أن عاماً واحداً هو الذي كان يجمع بين أبي هريرة وجعفر في المدينة، ومع ذلك كان كرم جعفر رضي الله عنه مشتهراً حتى لقب بأبي المساكين، حتى كان أبو هريرة -وهو من هو- يذكر أنه ما احتذى النعال، ولا ركب المطايا، ولا وطئ التراب بعد رسول الله صلى الله عليه وسلم خير أو أفضل من جعفر بن أبي طالب، لما كان لأثر كرمه وجوده على أبي هريرة ، وعلى غيره من فقراء الصحابة رضوان الله عليهم أجمعين.
وهذا يدلنا على هذه المنقبة العظيمة التي تدل على نفس سمحة سخية، وعلى رغبة في الأجر والمثوبة، وعلى رغبة في إدخال السرور إلى قلوب الضعفاء والمحتاجين.
وأما وقفتنا الأخيرة والأثيرة ومحطتنا الختامية فهي مع الشجاعة والإقدام، وهنا بيان لمعرفة النبي صلى الله عليه وسلم للصحابة، وإرادته إظهار المناقب والمراتب لبعضهم، فإن جعفراً رضي الله عنه كان في الحبشة وقتاً طويلاً، فلم يشهد غزوة بدرٍ ولا أحد ولا الخندق ولا الحديبية ولا خيبر، لكنه وافى مع الصحابة خيبر، فقسم له النبي عليه الصلاة والسلام من غنائم خيبر.
وأول معركة أو غزوة عظيمة كانت بعد ذلك جعل النبي صلى الله عليه وسلم جعفراً من قادتها، وهذه المعركة الشهيرة هي التي سميت غزوةً واشتهرت بأنها غزوة وإن كان النبي صلى الله عليه وسلم لم يشارك فيها، وهي غزوة مؤتة، وهي أول تحرك عسكري للمسلمين خارج الجزيرة العربية، وخارج المواجهة مع العرب وقبائل العرب لمقاتلة ومنازلة الروم، وهي الغزوة الوحيدة التي أمَّر فيها النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة أمراء، وهي الغزوة الوحيدة التي نص النبي صلى الله عليه وسلم على نتيجتها وخبرها وحياً وقت وقوعها قبل عودة الصحابة ورجوعهم رضوان الله عليهم أجمعين.
وقد أمَّر النبي صلى الله عليه وسلم عليهم زيد بن حارثة وقال: (فإن قتل فـ
فالمواجهة كانت عجيبة إذ كان عدة جيش المسلمين ثلاثة آلاف، وأقل عددٍ ذكر في الروايات لجيش الروم أنه كان ثلاثين ألفاً، أي: عشرة أضعاف، وفي بعض الروايات: مائة ألف، وفي بعضها: مائتا ألف. فما هي النتيجة المتوقعة لعشرة أضعافٍ من الجيش يقابلون عشرهم مع قلة الزاد والعتاد، وطول السفر والشقة؟
من المفترض أن لا يأخذوا إلا سويعة من الزمان فيفنوهم عن بكرة أبيهم.
ولست بصدد الحديث عن الغزوة، ولكني أقول: ما نتيجتها في آخر الأمر؟ وكم عدد الذين استشهدوا في غزوة مؤتة من هذا العدد الذي كان يبلغ ثلاثة آلاف؟
أظن أن أكثرنا لا يستحضر الرقم، وقد يتعجب منه كثيراً.
لقد كان شهداء غزوة مؤتة اثني عشر شهيداً، ربعهم قيادة الجيش، القواد الثلاثة رضوان الله عليهم أجمعين، حيث لم تكن القيادة بمعزل، بل كانت في مقدمة الصفوف، ثم كيف تسنى لهم أن يواجهوا الجيش حتى يفصل عنهم؟!
ثم ولوا خالد بن الوليد كما أخبر النبي عليه الصلاة والسلام، وكما وقع به الحال، ثم استطاعوا أن ينسحبوا انسحاباً عسكرياً قوياً، ولم يكن انسحاب هروب أو فرار، بل كانوا هم الكرار؛ إذ لو كان انسحاب هروبٍ لكان انسحاباً متعثراً مرتبكاً، ولكان مغرياً للأعداء أن يلحقوا بهم وأن يبيدوهم، لكن الأعداء قد رأوا الهول فاكتفوا بأن انسحب المسلمون من أمامهم، ورأوا أن هذه فرصة عظيمة لهم أن لا يواجهوا هؤلاء الناس الذين كانوا يحبون الموت أكثر من حب أولئك للحياة.
وهنا وقفاتنا مع جعفر رضي الله عنه.
قاتل زيد حتى استشهد، فحمل الراية جعفر رضي الله عنه، وقاتل قتال الأبطال، كما قال بعض الصحابة: (والله لكأني أنظر إلى جعفر بن أبي طالب يوم مؤتة حين اقتحم عن فرسٍ له شقراء، فعقرها ثم تقدم حتى قتل رضي الله عنه).
ومن هنا ذكر أصحاب السير -وأولهم ابن إسحاق: أن أول من عقر في الإسلام هو جعفر بن أبي طالب .
أي أنه لما كانت المعركة بكثافة جيش العدو، وليس فيها مجال لركض الخيل، وكانت فرسه تعيقه عن ذلك نزل عنها فعقرها، ثم قاتل رضي الله عنه واقفاً على قدميه، وقطعت يده اليمنى فحمل الراية بيسراه، فقطعت يسراه، ثم خر شهيداً رضي الله عنه وأرضاه.
وإليك هذه الروايات التي ذكرنا فيها رواية عقر فرسه، وقد رواها أبو داود في السنن، وذكر ابن عبد البر في الاستيعاب أنه لما قاتل جعفر قطعت يداه، والراية معه لم يلقها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أبدله الله جناحين يطير بهما في الجنة)، ولذلك سمي بالطيار، وسمي بذي الجناحين.
وصح عند البخاري من حديث ابن عمر رضي الله عنه أنه كان إذا رأى عبد الله بن جعفر قال: (يا بن ذي الجناحين، يا بن ذي الجناحين) يعني ما ورد في حديث النبي صلى الله عليه وسلم.
وخذ هذه الرواية، وهي رواية قد كثرت في كتب السيرة وفي كتب السنة على اختلاف فيها، قال الراوي: ولما قتل وجد به بضع وسبعون جراحة، ما بين ضربة بسيف وطعنة برمح كلها فيما أقبل من بدنه. وقيل: بضع وخمسون. والأول أصح، كما قال ابن عبد البر: بضع وسبعون ما بين ضربةٍ وطعنة كانت في مقدمة جسمه. وذلك دليل شجاعة وإقدام وثبات وقوة إيمانٍ ويقينٍ وفروسية كانت لـجعفر رضي الله عنه وأرضاه.
وفي رواية ابن إسحاق: (قص النبي صلى الله عليه وسلم القصة في وقتها) أي: في وقت حدوثها. وهي رواية بألفاظ أخرى في الصحيح أيضاً، فلما أصيب القوم قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (أخذ الراية
ووردت الرواية عند ابن إسحاق -وهي مما سبقت إشارتنا إليها- أن أسماء بنت عميس قالت: لما أصيب جعفر وأصحابه دخل عليَّ رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد عجنت عجيني وغسلت بنيَّ ودهنتهم ونظفتهم، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم: (ائتيني ببني
وروي أيضاً أنه لما جاء ذلك قال: (على مثل
وفي شجاعته أيضاً ذكر الرواة ما ذكروا من هذا الأمر، ومن ذلك رواية عقره لفرسه، ذكرها -أيضاً- الذهبي في سيره، وهي مروية بإسناد رجاله ثقات.
وقد وردت أيضاً رواية أبي هريرة عند الترمذي في سننه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: (رأيت
وقد ذكر العلماء رواياتٍ عديدة في هذا الشأن، ساق منها ابن حجر رحمه الله قول ابن عمر لابن جعفر بن أبي طالب : (السلام عليك يا ابن ذي الجناحين) ثم قال شارحاً: كأنه يشير إلى حديث عبد الله بن جعفر قال: قال لي رسول الله صلى الله عليه وسلم: (هنيئاً أبوك يطير مع الملائكة في السماء) أخرجه الطبراني بإسناد حسن.
ثم ذكر ابن حجر طرقاً عن أبي هريرة وعلي وابن عباس، وقال في طريق ابن عباس : (إن
وهكذا ختمت هذه الحياة العطرة التي كانت في أولها هجرة وفي آخرها شهادة لـجعفر بن أبي طالب، وسطر حسان بن ثابت ذلك الموقف العظيم والشهادة المباركة لشهداء وقواد غزوة مؤتة، فكان مما قاله رضي الله عنه:
غداة مضى بالمؤمنين يقودهم إلى الموت ميمون النقيبة أزهر
أغر كضوء البدر من آل هاشم أبيٍّ إذا سيم الظلامة مجسر
فطاعن حتى مات غير موسدٍ بمعترك فيه القنا تتكسر
فصار مع المستشهدين ثوابه جنان وملتف الحدائق أخضر
وكنا نرى في جعفر من محمد وقاراً وأمراً حازماً حين يأمر
وما زال في الإسلام من آل هاشم دعائم عز لا ترام ومفخر
وبعد حسان بن ثابت جاء كعب بن مالك فأرسل شعره رثاءً، فقال:
وجداً على النفر الذين تتابعوا يوماً بمؤتة أسندوا لم ينقلوا
صلى الإله عليهم من فتية وسقى عظامهم الغمام المسبل
صبروا بمؤتة للإله نفوسهم حذر الردى ومخافة أن ينكلوا
إذ يهتدون بجعفر ولوائه قدام أولهم فنعم الأول
حتى تفرجت الصفوف وجعفر حيث التقى وعث الصفوف مجدل
فتغير القمر المنير لفقده والشمس قد كسفت وكادت تأفل
فذهب ومضى أبو المساكين رضي الله عنه، والمساكين يندبون فقده، وذهب فارس الفرسان، والشجعان يندبون فقده، ومما قاله العلماء والأئمة في ذكره ووصفه، ما جمع هذه الألقاب والمناقب كلها.
فقد صدَّر الذهبي رحمه الله ترجمته في السير بقوله: السيد الشهيد، الكبير الشأن، علم المجاهدين، أبو عبد الله ابن عم رسول الله صلى الله عليه وسلم، عبد مناف بن عبد المطلب بن هاشم بن عبد مناف بن قصي الهاشمي، أخو علي بن أبي طالب وهو أسن من علي بعشر سنين، هاجر الهجرتين، وهاجر من الحبشة إلى المدينة، فوافى المسلمين وهم على خيبر إثر أخذها، فأقام بالمدينة أشهراً، ثم أمَّره رسول الله صلى الله عليه وسلم على جيش غزوة مؤتة بناحية الكرك، فاستشهد، وقد سر رسول الله صلى الله عليه وسلم كثيراً بقدومه، وحزن -والله- لوفاته.
لقد أوجز الذهبي رحمه الله إسلامه وسبقه، وهجرته وفضله، ثم إمرته وجهاده واستشهاده رضي الله عنه بهذه الكلمات العظيمة الدالة على فضل جعفر رضي الله عنه.
الأجر والفضل بالعمل والكسب لا بالنسب والقرب
ارتباط الإسلام والإيمان بالحق لا بالأشخاص
الأمر الثالث: الحرص على السبق والفضل في مناقب الخير، والدعوة والبذل والنصرة لدين الله عز وجل، كما رأينا في قصة المفاضلة بين عمر وأسماء رضي الله عنهما، فقد كانوا أحرص على الخير، وكان أحب شيءٍ إليهم أن يبذلوا، وأن يسبقوا في طاعة الله ومرضاته ونصرة دينه وعون عباده.