القابضون على الجمر


الحلقة مفرغة

الزكاة هي الركن الثالث من أركان الإسلام، وهي واجبة على من ملك نصاباً وحال عليه الحول، وتجب في النقدين: الذهب والفضة وما يقوم بهما من عروض التجارة، وما يلحق بهما من المعادن والركاز، والأوراق المالية، وفي الأنعام: الإبل والبقر والغنم، وفي الثمار: التمر والزيتون والزبيب والحبوب، وهي كل ما يدخر ويقتات، وما عدا ذلك فلا تجب فيه الزكاة.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله، أما بعد:

فنحيي الإخوة الكرام في هذا اللقاء في هذا المكان المبارك، وأي مكان أطهر وأقدس من هذه البقعة التي اختارها الله تبارك وتعالى -وهو يخلق ما يشاء ويختار- واصطفاها تبارك وتعالى فخصها ببيته الذي يؤمه الناس من كل فجٍ عميق، في هذه الليلة ليلة الثلاثاء السادس والعشرين من شهر ربيع الأول عام ستة عشر وأربع مائة وألف للهجرة النبوية على صاحبها أفضل الصلاة وأتم التسليم.

وأشكر الإخوة في المركز الصيفي في مركز الخدمة الاجتماعية بمكة على إتاحة هذه الفرصة وهذا اللقاء الطيب المبارك، الذي نسأل الله سبحانه وتعالى أن يجعلنا وإياكم فيه من المخلصين في العمل ابتغاء وجهه إنه سميع مجيب، وأن يجنبنا وإياكم الزلل في القول والعمل إنه تبارك وتعالى قريب مجيب.

عنوان حديثنا هذه الليلة: (القابضون على الجمر)، وهو كما تعلمون حديث عن النبي صلى الله عليه وسلم، فقد أخبر صلى الله عليه وسلم: (أنه يأتي على الناس زمان القابض فيه على دينه كالقابض على الجمر)، وهو ليس حديثاً عن القابضين على الجمر بأصنافهم وأحوالهم وأمورهم، إنما هو حديث عن طائفة نحسبهم والله حسيبهم ممن يصدق عليهم هذا الوصف النبوي.

لقد مرت الأمة بجهود للتغريب، وجهود لسلخها عن دينها، وإخراجها من عقيدتها، ولقد تضافرت جهود أعداء الأمة لصد الشباب وفتنتهم عن دين الله تبارك وتعالى، ورأينا في عالمنا الإسلامي صوراً تدمي وتحزن وتحرك أشجان من كان له قلب، ومن يملك غيرةً وعاطفةً على هذه الأمة المباركة، من بعد الشباب المسلمين عن دين الله تبارك وتعالى، ومن سير هؤلاء وراء قذارة هذه الحضارة المعاصرة، وسيرهم وراء أعداء الله، وفي وسط هذا الواقع المظلم البائس، وفي وسط هذا الانحراف والبعد.

رأينا نماذج فذة، ورأينا صوراً إيجابية، رأينا صوراً لامعة من ذلكم الشباب المتدين، الشباب الصالح المحافظ الذي أصبحنا نراه يتوافد على المساجد، يتوافد على ما يدله على دين الله تبارك وتعالى، من مجالس العلم ومجالس الخير والصحبة الصالحة، ورأيناه يأخذ طريقاً غير طريق أقرانه وأترابه، وهاهم هؤلاء الشباب أمام مرأى المسلمين وجمعهم، هاهم يلتزمون بأمر الله تبارك وتعالى، ويستقيمون على طاعة الله عز وجل في هذا العصر المائج المضطرب.

تثبيت السائرين على طريق الهدى

فحديثنا هذه الليلة عن بعض الجوانب المشرقة من واقع هؤلاء القابضين على الجمر؛ ولعل سائلاً يتساءل: ولماذا الحديث عن الجوانب المشرقة؟ ولماذا الحديث عن الإيجابيات؟

فأقول: الحديث عن هذا الموضوع له دوافع عدة أولها: أنه تثبيت لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، والذين قد يواجهون ما يواجهون، فهم حين يشار لهم بما ميزهم الله وخصهم به، وحين ترفع أمامهم هذه اللافتات فإن هذا يزيدهم ثباتا، ويزيدهم إصراراً في المضي على الطريق، ويزيدهم عزيمة لأن يحتملوا ما يصيبهم في هذا الطريق من اللأواء والنصب والنكد.

دعوة التائهين لسلوك الطريق القويم

ثانياً: هذا الحديث دعوة لأولئك الذين لما يزالوا على بنيات الطريق، دعوة لأولئك الذين لم يسلكوا هذا الطريق، أولئك الذين لا زالوا يسيرون في ركاب الغفلة والبعد عن الله تبارك وتعالى، فنقول لهم: هاهو الطريق، وهاهم هؤلاء قد سبقوكم فبادروا، فالميدان رحب واسع فسيح لا زال يتسع لكم ولأمثالكم، وأنتم طالما سمعتم الدعوة من خلال الترهيب من هذا المسلك السيئ الذي تسلكونه، ومن خلال التحذير من مغبة هذا الطريق المعوج الذي تسيرون عليه، لكن ربما كان ذكر بعض الجوانب المشرقة من الطريق الآخر الذي ندعوكم إليه، الطريق الذي سلكه أقرانكم، الذي سلكه أترابكم، ووفقهم الله تبارك وتعالى، بل أكرمهم عز وجل بسلوكه؛ إنكم حين تعرفون مزايا هذا الطريق، وحين تعرفون الجوانب المشرقة، وحين تعرفون تلك المنزلة التي يصلها أولئك الذين جانبوا الشهوات واللذات، الذين هجروا اللهو واللعب، وساروا في طريق الصالحين، ربما كان هذا دافعاً لكم أن تسيروا وأن تلحقوا بالقافلة.

كما أن الخطر يتهددكم حين تمضون على هذا الطريق المظلم، حين تمضون على طريق الضلال، كما أن الخطر يتهددكم حين تسيرون على هذا الطريق، فإن الطريق الآخر أمامكم، مفروش بالأضواء، الطريق أمامكم يدعوكم ويقول: هلموا فإن الطريق لا يزال يتسع لكم ولغيركم.

كثرة النقد الموجه لجيل الصحوة وأخطائهم

ثالثاً: لا نزال نسمع الحديث الكثير عن النقد لبعض المظاهر السلبية في واقع الشباب المتدينين، والحديث عن بعض الأخطاء التي يقعون فيها، وهو حديث لا شك أن الكثير منه يصدر بلغة النصح، ومنطق الإشفاق على هؤلاء، والهدف والرائد له الإصلاح والتغيير، وأشعر أنني ممن يشارك أيضاً في الحديث في هذا الأمر، فقد تحدثت كثيرا عن بعض الجوانب، وعن بعض الأخطاء والسلبيات التي ربما وقع فيها هؤلاء الشباب الأخيار.

لا شك أن الكثير من هذا الحديث يصدر بمنطق النصح وتدفعه الغيرة والإشفاق على واقع هؤلاء الشباب؛ لكننا نخشى أنه حينما يكثر الحديث عن هذه الجوانب السلبية، وحينما يكثر الحديث عن الأخطاء، وهو وإن كان بمنطق النصح والإشفاق نخشى أن يحول الصورة لدينا إلى صورة سلبية، وإلى صورة بائسة، وأن نتصور أن الالتزام والاستقامة التي عليها هؤلاء الشباب لا تعدو أن تكون سراباً ووهما، وأنها قضية خادعة، وأن هؤلاء الشباب يقعون في أخطاء في عبادتهم لله تبارك وتعالى ويقصرون، ويقعون في المعاصي، ويرتكبون طائفة منها، ويقعون في أخطاء في دعوتهم إلى الله تبارك وتعالى، ويقصرون وحقوق إخوانهم في حقوق أهلهم في هذا الجانب وذاك، حتى لا تكاد ترى جانباً من الجوانب إلا وترى الحديث عن الأخطاء حوله!

ولا شك أن الحديث عن الأخطاء حين يكون رائده النصيحة، ودافعه الغيرة، والهدف من ورائه الإصلاح، لا شك أنه أمر مطلوب، ولا يسوغ أن نلغي الحديث عن هذا الجانب، لكننا نخشى حين تطول هذه اللغة وحين يرتفع هذا الصوت أن تتحول القضية إلى قضية سلبية، وأن نشكك في أصل استقامة هؤلاء الشباب، وفي حقيقة تدينهم والتزامهم؛ لذا كان لا بد من الحديث عن الجانب الآخر، حتى لا نغلو في هذا الجانب وهذا الميدان.

الدعوة لمناصرة شباب الصحوة ومعرفة مكانتهم

والدافع الرابع للحديث حول هذا الموضوع هو: الدعوة لسائر المسلمين أن يدركوا موقع هؤلاء، الشباب الذين أكرمهم الله تبارك وتعالى بهذه الهداية والسير على هذا الطريق، وأن يدركوا عظم منزلتهم ومكانتهم، وأن يدركوا قيمة هذا الإنجاز الذي حققوه، فيتعاطف معهم في وقت هم أحوج ما يكونون فيه إلى التعاطف مع قضيتهم.

إن هؤلاء الشباب الأخيار مع ما من الله عز وجل عليهم من الهداية والاستقامة على طاعة الله يواجهون أخطاراً تهددهم، إنهم يواجهون الخطر الأكبر الذي يؤرق ليلهم وهو أن يُختلجوا من هذا الطريق، وأن يسلكوا بنيات الطريق فينحرفوا، وهاهم يرون أنهم يعيشون في واقع يعج بالفتن والمغريات، واقع يدعوهم صباح مساء إلى أن يعرضوا عما هم عليه، واقع يدعوهم إلى أن يسيروا مع طريق الضلالة والغواية، ولا عجب فها نحن نرى فئاماً من الشباب ممن كتب له الاستقامة والصلاح في أول عمره ربما تنكب الطريق وزاغ وضل.

إنها قضية تؤرقهم، قضية تستدعي أن يتعاطف الجميع معهم، في هذه القضية التي يرونها قضية القضايا عندهم.. أن يتعاطف الآباء.. أن يتعاطف المصلحون.. أن يتعاطف الغيورون في مجتمعات المسلمين، وأن يدركوا أن هذا الجيل المبارك يستحق أن نحميه، ويستحق أن نثبته، ويستحق أن نعينه.

ولا شك أن من أعظم ما نعينه عليه ويكون بإذن الله طريقاً إلى تثبيته أن نسعى إلى إغلاق أبواب الفساد، وأن نسعى إلى سد طرق الفتنة.

إنه يواجه كيداً وتآمراً من أعداء الإسلام، والذين شعروا أن قضية الإسلام هي القضية التي تهددهم، وأن هذه الصحوة المباركة هي التي سوف تقضي على مكتسباتهم، سنة الله في التاريخ الصراع بين الحق والباطل، والصراع بين أهل الغواية والهداية، وما لبث أولئك وقد شعروا أن هؤلاء قد قطفوا الثمار دونهم، قد شعروا أن هؤلاء عادوا ليهدموا ما بناه أولئك من إفساد في صرح هذه الأمة، وهم يسرهم أن تعلن الأمة ردتها عن دين الله، وأن تتخلى عن دين الله.

لاشك أن هؤلاء الأعداء يغيظهم أن يروا هذا الواقع وأن يروا هؤلاء الشباب، ومن ثم فإنهم لا بد أن يتآمروا على فتنتهم وصدهم عن دين الله بكل الوسائل.

إن هؤلاء الشباب يعيشون -أيها الإخوة- في هذا العصر مأزقاً بحاجة إلى أن يتعاطف معهم الجميع، إن فتن الشبهات والشهوات قد بدأت تحاصر المسلمين الآن، ولا شك أن للشباب من ذلك نصيباً وافراً، بل لهم نصيب الأسد من ذلك.

ومن ثم فنحن نتحدث عن قضية هؤلاء، ونتحدث عن ما أنجزه وحققه هذا النشء المبارك، وهذا الجيل الطيب الذي نسأل الله عز وجل أن يثبته، وأن يعصمه من مضلات الفتن، وأن يكتب له الامتداد وأن يكتب له تبارك وتعالى الخير والتمكين.

لا شك أن هذا الجيل يواجه سيلاً جارفاً وبحاجة إلى يتعاطف المسلمون جميعاً مع قضيتهم ، وحين يدركوا انجازهم فإن هذا يدعوهم إلى يتعاطفوا مع قضيتهم، لهذا وغيره رأيت أن أتحدث عن بعض هذه الجوانب والتي ربما أهملت، وهي لا تعدو أن تكون استثارة لصور نراها من واقع هذا النشء؛ لكنها دعوة للتذكير بهذه الصور التي قد ننساها.

وأنت قد تتهمني بأنها أخذتني العاطفة وأني أنطلق من منطلق عاطفة، وأنا لا أبرئ نفسي ومعاذ الله أن أسعى إلى أن أتخلى عن هذه العاطفة؛ كيف لا وأنا أدين الله تبارك وتعالى وأعبده بحب هذا الجيل المبارك وهذا النشء المبارك، لقد أخبر صلى الله عليه وسلم فيما رواه طائفة من أصحابه، في الصحيحين وغيرها (أن المرء يوم القيامة يحشر مع من أحب).

فإنني أملك عاطفة تجاه هذا الجيل لأنه أطاع الله تبارك وتعالى، بل أنني أتعبد الله عز وجل بحب هذا الجيل وبالولاء له والتعاطف معه، وأشعر أن قضية الإيمان وأن قضية حب الله تبارك وتعالى تستلزم منا أن نحب من يحب الله ويحبه الله تبارك وتعالى.

أليس النبي صلى الله عليه وسلم قال: (ثلاث من كن فيه وجد حلاوة الإيمان أن يكون الله ورسوله أحب إليه مما سواهما، وأن يحب المرء لا يحبه إلا لله).

أليس صلى الله عليه وسلم أخبر: (أن ممن يظلهم الله في ظله يوم لا ظل إلا ظله: رجلان تحابا في الله اجتمعا عليه وتفرقا عليه).

إنني حين أسعى إلي دفع تهمة العاطفة حول حديثي هذا فإنني أسعى إلى أن أتخلى عن واجب شرعي وحق شرعي في أن أحب من يطيع الله تبارك وتعالى ويحبه الله، بل إننا جميعاً نتعبد الله بحب الصالحين، ونشعر أن مما يكرم الله عز وجل به من أحب الصالحين أن يبلغه منازلهم ولو لم يلحق بهم.

لقد سئل صلى الله عليه وسلم عن المرء يحب القوم ولما يلحق بهم، فقال صلى الله عليه وسلم: (المرء مع من أحب).

ولهذا قال الشافعي رحمه الله:

أحب الصالحين ولست منهم لعلي أن أنال بهم شفاعه

وأكره من تجارته المعاصي وإن كنا سواء في البضاعه

فإن كان الشافعي رحمه الله يقول هذه المقولة تواضعاً منه وإلا فهو -نحسبه والله حسيبه ولا نزكي على الله أحداً- من الصالحين المصلحين، فنحن نقول هذا حقاً وصدقاً، فنحن نتعبد الله عز وجل بمحبة الصالحين.

قد تقول لي: إن هؤلاء يقعون في أخطاء وعيوب!

فأقول: نعم، إننا لسنا في مقام التقويم ولسنا في مقام المقاضاة ولسنا في مقام الموازنة بين الأخطاء والمحاسن حتى تحدثني عن هذه الأخطاء، بل أعلم وتعلمون أني تحدثت عن كثير من هذه الأخطاء في أكثر من مناسبة، وأن حديثي عن هذه الأخطاء أكثر من حديثي عن هذه الجوانب، وأنا حين أتحدث عن هذه الجوانب المشرقة لست أدعي العصمة، ولست أدعي السلامة من الأخطاء، ومن ذا الذي لا يذنب، ومن ذا الذي لا يقع في الخطأ، ولكني أشعر وأجزم أن هذه الأخطاء مهما كثرت وعظمت لا يمكن أن تقارن بجوانب الإحسان، وجوانب الخير، خاصة أن الكثير منها ليس مصدره الهوى وتعمد العصيان وركوب طريق الغواية.

فحديثنا هذه الليلة عن بعض الجوانب المشرقة من واقع هؤلاء القابضين على الجمر؛ ولعل سائلاً يتساءل: ولماذا الحديث عن الجوانب المشرقة؟ ولماذا الحديث عن الإيجابيات؟

فأقول: الحديث عن هذا الموضوع له دوافع عدة أولها: أنه تثبيت لهؤلاء السائرين على هذا الطريق، والذين قد يواجهون ما يواجهون، فهم حين يشار لهم بما ميزهم الله وخصهم به، وحين ترفع أمامهم هذه اللافتات فإن هذا يزيدهم ثباتا، ويزيدهم إصراراً في المضي على الطريق، ويزيدهم عزيمة لأن يحتملوا ما يصيبهم في هذا الطريق من اللأواء والنصب والنكد.


استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2589 استماع
الشباب والاهتمامات 2464 استماع
وقف لله 2325 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2257 استماع
يا أهل القرآن 2190 استماع
كلانا على الخير 2189 استماع
يا فتاة 2183 استماع
الطاقة المعطلة 2120 استماع
علم لا ينفع 2087 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2084 استماع