أرشيف المقالات

حديث: ألا تأمنوني؟ وأنا أمين من في السماء

مدة قراءة المادة : 16 دقائق .
حديث: أَلاَ تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ
 
عن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قال: بَعَثَ عَلِيُّ بْنُ أَبِي طَالِبٍ إِلَى رَسُولُ اللّهِ، مِنَ الْيَمَنِ، بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا، قَالَ: فَقَسَمَهَا بَيْنَ أَرْبَعَةِ نَفَرٍ: بَيْنَ عُييْنَةَ بْنِ حِصْنٍ، وَالأَقْرَعِ بْنِ حَابِسٍ، وَزَيْدِ الْخَيْلِ، وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ وأَمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ.
فَقَالَ رَجُلٌ مِنْ أَصْحَابِهِ: كُنَّا نَحْنُ أَحَقَّ بِهَذَا مِنْ هَؤُلاءِ، قَالَ: فَبَلَغَ ذَلِكَ النَّبِيَّ فَقَالَ «أَلاَ تَأْمَنُونِي؟ وَأَنَا أَمِينُ مَنْ فِي السَّمَاءِ، يَأْتِينِي خَبَرُ السَّمَاءِ صَبَاحاً وَمَسَاءً» قَالَ: فَقَامَ رَجُلٌ غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ، مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ، نَاشِزُ الْجَبْهَةِ، كَثُّ اللِّحْيَةِ، مَحْلُوقُ الرَّأْسِ، مُشَمَّرُ الإِزَارِ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اتَّقِ اللّهِ، فَقَالَ: «وَيْلَكَ أَوَ لَسْتُ أَحَقَّ أَهْلِ الأَرْضِ أَنْ يَتَّقِيَ اللّهَ»، قَالَ: ثُمَّ وَلَّى الرَّجُلُ.
فَقَالَ خَالِدُ بْنُ الْوَلِيدِ يَا رَسُولَ اللّهِ أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَهُ؟ فَقَالَ: «لاَ، لَعَلَّهُ أَنْ يَكُونَ يُصَلِّي»، قَالَ خَالِدٌ: وَكَمْ مِنْ مُصَلٍّ يَقُولُ بِلِسَانِهِ مَا لَيْسَ فِي قَلْبِهِ، فَقَالَ رَسُولُ اللّهِ: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ.
وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»
قَالَ: ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَفَ، فَقَالَ: «إِنَّهُ يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِىءِ هذَا قَوْمٌ يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ، رَطْبًا لاَ يُجَاوزُ حَنَاجِرَهُمْ.
يَمْرُقُونَ مِنَ الدِّينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ»
، وفي رواية: « يَقْتُلُونَ أَهْلَ الإِسْلاَمِ.
وَيَدَعُونَ أَهْلَ الأَوْثَانِ.
يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ.
لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ»
, وفي رواية: « قَتْلَ ثَمُودَ».
 
80- وعن أبي سَعِيدٍ الْخُدْرِيّ قال: بَيْنَا نَحْنُ عِنْدَ رَسُولِ اللّهِ وَهُوَ يَقْسِمُ قَسْمًا، أَتَاهُ ذُو الخُوَيْصِرَةِ، وَهُوَ رَجُلٌ مِنْ بَنِي تَمِيمٍ، فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللّهِ اعْدِلْ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ: «وَيْلَكَ وَمَنْ يَعْدِلُ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ؟ قَدْ خِبْتَ وَخَسِرْتَ إِنْ لَمْ أَعْدِلْ»، فَقَالَ عُمَرَ بْن الْخَطَّابِ رَضي اللّهِ عَنْهُ قال: يَا رَسُولَ اللّهِ إِئْذَنْ لِي فيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ، قَالَ رَسُولُ اللّهِ: «دَعْهُ، فَإِنَّ لَهُ أَصْحَابًا يَحْقِرُ أَحَدُكُمْ صَلاَتَهُ مَعَ صَلاَتِهِمْ، وَصِيَامَهُ مَعَ صِيَامِهِمْ، يَقْرَؤونَ الْقُرْآنَ، لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ.
يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْقِدْحُ ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ، آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ، أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ، يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ»
، قَالَ أَبُو سَعِيدٍ: فَأَشْهَدُ أَنِّي سَمِعْتُ هذَا مِنْ رَسُولِ اللّهِ، وَأَشْهَدُ أَنَّ عَلِيَّ بْنَ أَبِي طَالِبٍ رَضِيَ اللّهُ عَنْهُ قَاتَلَهُمْ وَأَنَا مَعَهُ.
فَأَمَرَ بِذَلِكَ الرَّجُلِ فَالْتُمِسَ، فَوُجِدَ فَأُتِيَ بِهِ، حَتَّى نَظَرْتُ إِلَيْهِ عَلَى نَعْتِ رَسُولِ اللّهِ الَّذِي نَعَتَ، وفي رواية للبخاري: فنزلَتْ فيه: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 58].
 
وفي رواية لمسلم: يَخْرُجُونَ فِي فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ سِيمَاهُمُ التَّحَالُقُ، قَالَ: «هُمْ شَرُّ الْخَلْقِ أَوْ مِنْ أَشَرِّ الْخَلْقِ يَقْتُلُهُمْ أَدْنَى الطَّائِفَتَيْنِ إِلَى الْحَقِّ»، وفي رواية له: «تكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ، يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاَهُمَا بِالْحَقِّ»، وفي رواية للبخاري: قيل: ما سِيماهم؟ قال: « سيماهُم التَّحليق أو قال ـ التَّسبِيدُ»، وبنحو حديث أبي سعيد جاء في الصحيحين من حديث جابر مختصرًا.
 
شرح ألفاظ الحديثين:
((بِذَهَبَةٍ فِي أَدِيمٍ)): بذهبة بفتح الذال والهاء، هكذا هي في جميع روايات مسلم، وفي رواية عند البخاري بالتصغير (بذُهيبة)، والذهبة: تأنيث الذهب.
 
((فِي أَدِيمٍ مَقْرُوظٍ)): الأديم: الجلد، والمقرظ: المدبوغ بالقَرَظ والقَرَظ شجر يُدبغ به.
 
((لَمْ تُحَصَّلْ مِنْ تُرَابِهَا)): أي ولم تميز من تراب المعدن.
 
((زيد الخيل)): هو ابن مهلهل الطائي - رضي الله عنه - وقيل له زيد الخيل لعنايته بالخيل التي كانت له وهي من كرائم الخيل، ثم أسلم وسماه النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - (زيد الخير) بالراء بعد اللام وأثنى عليه وهو ممن أسلم وحسن إسلامه.
 
((وَالرَّابِعُ إِمَّا عَلْقَمَةُ بْنُ عُلاَثَةَ وإمَّا عَامِرُ بْنُ الطُّفَيْلِ)): قال النووي - رحمه الله -: "قال العلماء - رحمهم الله -: ذكر عامر- رضي الله عنه - هنا غلط ظاهر لأنه توفي قبل هذا بسنين، والصواب الجزم بأنه علقمة بن علاثة كما هو مجزوم باقي الروايات"، وكذا قال القرطبي - رحمه الله - أيضًا؛ [ انظر شرح النووي لمسلم حديث (1064) وانظر المفهم حديث (931) باب يجب الرضا بما قسم رسول الله صلى الله عليه وسلم - وبما أعطى].
 
((غَائِرُ الْعَيْنَيْنِ)): أي أن عينيه داخلتان في محاجرهما.
 
((مُشْرِفُ الْوَجْنَتَيْنِ)): مشرف أي بارز، والوجنتان هما العظمان البارزان على الخدين، وفي وصف الرجل بهذا دلالة على أن بروزهما كان ملحوظًا.
 
((نَاشِزُ الْجَبْهَةِ)): أي مرتفع الجبهة.
 
((إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ)): أي إنما أمرت أن آخذ بظواهر أمورهم والله يتولى السرائر.
 
((ثُمَّ نَظَرَ إِلَيْهِ وَهُوَ مُقَف)): أي وهو مولي قد أعطانا قفاه.
 
((يَخْرُجُ مِنْ ضِئْضِىءِ هذَا)): بكسر الضادين أي من عقبه ونسله وأصله، ولا يلزم أن يكون الخوارج من نفس نسل هذا الرجل وإنما على شكله وصفته قولًا وعملًا وفكرًا.
 
((يَتْلُونَ كِتابَ اللّهِ.
رَطْبًا)
)
: قال القرطبي - رحمه الله -: "فيه ثلاثة أقوال:
أحدها: أنه الحذق بالتلاوة، والمعنى أنهم يأتون به على أحسن أحواله.
والثاني: يواظبون على تلاوته، فلا تزال ألسنتهم رطبة به.
والثالث: أن يكون من حسن الصوت بالقراءة"؛ [انظر المفهم حديث (932)].
 
((لاَ يُجَاوزُ حَنَاجِرَهُمْ)):لها تأويلان:
أحدهما: أي لا تفقهه قلوبهم ولا ينتفعون بما يتلون حظهم فقط الفم والحنجرة.
 
والثاني: أي أن تلاوتهم لا ترتفع وتصعد إلى الله فلا تقبل.
 
وفي الحديث الآخر: ((لاَ يُجَاوِزُ تَرَاقِيَهُمْ)) والتراقي جمع ترقوة بفتح أوله وسكون الراء وضم القاف وهي العظم الذي بين نقرة النحر والعاتق.
 
((يَمْرُقُونَ مِنَ الدَينِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ)): وفي الرواية الأخرى: ((يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ))، وفي هذه الرواية بيان المراد بالدين في الحديث، وأنه الإسلام كما قال تعالى: ﴿ إِنَّ الدِّينَ عِندَ اللّهِ الإِسْلاَمُ ﴾ (آل عمران: 19).
 
وفي هذا ردٌّ على من فسر المروق من الدين بالمروق من الطاعة للإمام، وهذه وإن كانت صفة الخوارج، فإن المراد به المروق من الإسلام، واحتج بهذه العبارة من يكفر الخوارج، وفي المسألة خلاف طويل.
 
و(يَمْرُقُونَ): أي يخرجون من الدين، وشبه خروجهم من الدين بخروج السهم من الرمية.
 
و(الرَّمِيَّةِ): هي الصيد المرمي، والمقصود أن خروجهم كان سريعًا كما يخرج السهم إذا دخل في الصيد، وخرج مرة أخرى سريعًا، ومن سرعته بين النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الرواية الثانية بأنه لم يعلق بهذا السهم شيء من الصيد لا رفث ولادم، وهذا من سرعة خروجه حتى يُنظر في أربعة أشياء في السهم، وهي (نَصْلِهِ ورِصَافِهِ ونَضِيِّهِ وقُذَذِهِ)، وكلها أوصاف في السهم.
 
(فالنَّصل) بفتح النون هي حديدة السهم.
(والرِّصاف) بكسر الراء هي مدخل السهم وأوله.
 
و(النَّضي) بفتح النون وحُكي ضمها، فُسِّر في الحديث بالقدح بكسر القاف وهو العود قبل أن ينصل ويوضع فيه الريش، وقيل هو ما بين النصل والريش.
 
و(القُذَذْ) بضم القاف جمع قذة، وهي ريش السهم يقال لكل واحدة قذة.
 
وهذه الأوصاف الأربع أيضًا ينظر إليها، فلا يوجد فيها شيء عالق من فرث أو دم بعد خروج السهم من الصيد، وهذا معنى قول النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - في الحديث الآخر: ((يَمْرُقُونَ مِنَ الإِسْلاَمِ كَمَا يَمْرُقُ السَّهْمُ مِنَ الرَّمِيَّةِ، يُنْظَرُ إِلَى نَصْلِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى رِصَافِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى نَضِيِّهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ وَهُوَ الْقِدْحُ، ثُمَّ يُنْظَرُ إِلَى قُذَذِهِ فَلاَ يُوجَدُ فِيهِ شَيْءٌ، سَبَقَ الْفَرْثَ وَالدَّمَ)).

و(الْفَرْثَ): هو ما يخرج من الكرش.

((لَئِنْ أَدْرَكْتُهُمْ لأَقْتُلَنَّهُمْ قَتْلَ عَادٍ)): أي لئن أدركتهم لأقتلنَّهم قتلًا عامًّا مستأصلًا؛ كما قال تعالى: ﴿ فَهَلْ تَرَى لَهُم مِّن بَاقِيَةٍ ﴾ [الحاقة:8].
 
وفي رواية: « قَتْلَ ثَمُودَ»: أيضًا يحمل نفس المعنى كونه قتلًا عامًّا لا يبقى أحدًا، والجمع بين الروايتين احتمال كون النبي – صلى الله عليه وسلم - قالهما، فنقل أحد الرواة واحدة ونقل غيره الأخرى، والمقصود واحد أن ينزل فيهم قتلًا عامًّا لا يبقي أحدًا، وقد أهلك الله عادًا بالريح العقيم وثمود بالصيحة.
 
((آيَتُهُمْ رَجُلٌ أَسْوَدُ)): آيتهم؛ أي علامتهم رجل أسود، فجعل النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - هذا الرجل علامة على أن هؤلاء القوم هم الخوارج، فإذا وجد بينهم فهم الذين تنطبق عليهم هذه الأوصاف، وهذا الرجل وصفه النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - بقوله: (رَجُلٌ أَسْوَدُ إِحْدَى عَضُدَيْهِ مِثْلَ ثَدْيِ الْمَرْأَةِ أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ)؛ أي أحد عضديه مثل ثدي المرأة "شبهها بثدي المرأة، فتكون إحدى يدي الرجل عضد لا ذراع فيها، وعلى رأس العضد مثل حلمة الثدي ليشابه ثدي المرأة، وشبه النبي - صلى الله عليه وسلم - العضد بتشبيه آخر، فقال: (أَوْ مِثْلُ الْبَضْعَةِ تَدَرْدَرُ).

(الْبَضْعَةِ): بفتح الباء هي القطعة من اللحم و (تَدَرْدَرُ) أي تضطرب وتتحرك، ولقد شهد أبوسعيد - رضي الله عنه - راوي الحديث في آخره أن عليًّا - رضي الله عنه - قاتلهم والتمسوا هذا الرجل الأسود فأتي به، فإذا هو على نعت رسول الله؛ أي وصفه - صلى الله عليه وسلم - ولما رأى علي- رضي الله عنه - ذلك الرجل فيهم سجد شكرًا لله تعالى كما جاء في مسند أحمد.
 
((يَخْرُجُونَ عَلَى حِينِ فُرْقَةٍ مِنَ النَّاسِ)): أي وقت افتراق بين المسلمين، وهو الافتراق الذي كان بين علي ومعاوية - رضي الله عنهما - وضبط بوجه آخر: (يَخْرُجُونَ عَلَى خير فرقة)، (خير) بدل (حين)، وكلاهما صحيح والأول أظهر وأشهر، والله أعلم، ويدل عليه الرواية الأخرى عند مسلم ((يخرجون في فرقة من الناس))، والذي قاتلهم علي - رضي الله عنه – والنبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - قال في الرواية الأخرى عند مسلم: ((تكُونُ فِي أُمَّتِي فِرْقَتَانِ فَيَخْرُجُ مِنْ بَيْنِهِمَا مَارِقَةٌ.
يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاَهُمَا بِالْحَقِّ)
)
، وأخذ بعض أهل العلم من هذا اللفظ أن الصواب في قتال علي ومعاوية - رضي الله عنهما – كان مع علي - رضي الله عنه – لأن النبي- صلَّى الله عليه وسلَّم - قال: ((يَلِي قَتْلَهُمْ أَوْلاَهُمَا بِالْحَقِّ))، والذي قاتلهم هو علي - رضي الله عنه - ومذهب أهل السنة والجماعة الإمساك عما شجر بين الصحابة - رضوان الله عليهم - فكلهم مجتهدون مؤجورون، المصيب له أجران والمخطئ له أجر واحد.
 
((سِيمَاهُمُ التَّحَالُق ُ)): السيما العلامة، والتحالق، وعند البخاري التحليق أو التسبيد وكلها بمعنى واحد وهي حلق الرأس، فهذه كانت علامة لهم؛ لأنهم كانوا يحلقون رؤوسهم بخلاف السلف - رحمهم الله - فقد كان الغالب فيهم توفير الشعر، والخوارج كانوا يحلقون رؤوسهم يدعون بذلك رفضهم للدنيا وزينتها والترفه، وهذا جهل في الزهد عندهم، فهو خلاف ما عليه رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - من توفير الشعر، وكذلك الصحابة والسلف - رضوان الله عليهم - ولا يكره حلق الشعر بالكلية، وإن قال بعض أهل العلم كمالك وغيره- رحمهم الله - فقد كرهوا الحلق في غير إحرام أو حاجة وضرورة، والصواب أنه لا يكره لعدم الدليل، لكنه لا يتخذ تنسكًا كما يفعل الخوارج.
 
من فوائد الحديثين:
الفائدة الأولى: الحديثان فيهما دلالة على تقديم المؤلفة قلوبهم في العطاء، وتقدم بيان ذلك في الأحاديث السابقة لهذين الحديثين، ولذا أعطى النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أربعة نفر وقدمهم تأليفًا لقلوبهم، ولذا أورد مسلم هذين الحديثين في كتاب الزكاة.
 
الفائدة الثانية: الحديثان فيهما دلالة على أن من قدح في عدل النبي - صلَّى الله عليه وسلَّم - أنه يستحق القتل، ولذا قال في الحديث الأول خالد بن الوليد - رضي الله عنه -: ((أَلاَ أَضْرِبُ عُنُقَه))، وفي الثاني قال عمر - رضي الله عنه –: ((إِئْذَنْ لِي فيهِ أَضْرِبْ عُنُقَهُ))، فإن قيل أيهما الذي طلب قتل الرجل علمًا بأن القصة واحدة في الحديثين، فالجواب أن كلاهما طلب ذلك.
 
الفائدة الثالثة: في الحديثين حلم النبي – صلى الله عليه وسلم - وصبره مع ما يتلقاه من أذى ولم ينزل بهم عقوبة لمصلحة أخرى، مع لمزهم وقدحهم في قسمته للصدقة ولذا نزلت: ﴿ وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ ﴾ [التوبة: 58].

الفائدة الرابعة: حديث أبي سعيد - رضي الله عنه - فيه دلالة على أن الحكم على الناس وأعمالهم ومقاصدهم، إنما يكون على الظاهر، وأما الباطن فأمره إلى الله تعالى، وهكذا ينبغي للمعلم وطالب العلم من باب أولى ألا يقدح في الناس بناء على أمر باطن، فيسيء الظن بغيره، وليكن منهجه؛ كما قال الله تعالى: «إِنِّي لَمْ أُومَرْ أَنْ أَنْقُبَ عَنْ قُلُوبِ النَّاسِ.
وَلاَ أَشُقَّ بُطُونَهُمْ»
.

الفائدة الخامسة:الحديثان فيهما بيان لمعجزات من معجزات النبي - صلى الله عليه وسلم - فقد أخبر أنها ستكون فرقتان في الأمة تخرج فيهما طائفة مارقة، وكذلك أخبر أن هذه الطائفة تبالغ في الصلاة والصيام والقراءة، لكنهم يمرقون من الدين، وأنهم يقاتلون أهل الإسلام ويدعون أهل الأوثان، وأنهم أحداث الأسنان سفهاء الأحلام كما سيأتي في حديث علي - رضي الله عنه - وأن فيهم رجل أسود له صفة معينة تقدم بيانها وكل هذه الأخبار تحققت، والإخبار بها فيه بيان معجزة النبي - صلى الله عليه وسلم -.
 
الفائدة السادسة: الحديثان فيهما بيان أمر الخوارج وصفاتهم.
 
مستلة من إبهاج المسلم بشرح صحيح مسلم (كتاب الزكاة)

شارك الخبر

المرئيات-١