شرح بلوغ المرام - كتاب الطهارة - باب المسح على الخفين - حديث 63-65


الحلقة مفرغة

قول المصنف رحمه الله: (باب المسح على الخفين).

الخفان: تثنية خف، والخف: هو نعل يصنع من أدم، يعني: من جلد يستر القدم حتى الكعبين، وكان أكثر الخفاف في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم تصنع من الأدم من الجلود.

وأما الجوربان: فهما تثنية جورب، وهو لفافة يستر بها القدم أيضاً، وهي كلمة فارسية معربة، وأصلها: كورب بالكاف، ثم عربت فقيل: جورب.

والمسح على الخفين هو من الأحكام الشرعية الثابتة بالكتاب والسنة والإجماع، ولذلك قبل أن أدخل في شرح حديث المغيرة، أو حديثي المغيرة رضي الله عنه، أشير إلى ثبوت المسح على الخفين وما ورد فيه؛ وذلك لأن من أهل البدع من خالف في هذا الحكم.

فأقول: المسح على الخفين ثابت بالكتاب والسنة والإجماع.

قوله تعالى: (.. وامسحوا برءوسكم وأرجلكم إلى الكعبين) والقراءات الواردة فيها

فأما في الكتاب ففي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، الآية.

ففي هذه الآية في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فيها ثلاث قراءات:

القراءة الأولى: شاذة، وهي قراءة الحسن بالرفع: (وأرجلُكم إلى الكعبين)، وهذه القراءة شاذة، يعني: لا يجوز القراءة بها؛ لعدم تواترها، ولا تعتبر قرآناً.

القراءة الثانية: هي قراءة الخفض: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم)، بخفض أرجل: (وأرجلِكم)، وهذه قراءة ابن كثير المكي وحمزة وأبي عمرو وغيرهم، وهي قراءة متواترة ثابتة: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين).

والقراءة الثالثة: وهي قراءة الباقين بنصب (أرجلَ): (وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين).

فأما على قراءة النصب: (وأرجلَكم) فقد سبق الكلام عن هذه القراءة، وأنها معطوفة على (فاغسلوا وجوهكم)، يعني: واغسلوا أرجلَكم، فيكون دليلاً على غسل الرجلين، وهو من أدلة من قالوا بوجوب الترتيب في الوضوء؛ لأنهم قالوا: أدخل الممسوح وهو الرأس بين المغسولات، فدل على مراعاة الترتيب في الوضوء، ولا دلالة في هذه القراءة، قراءة (وأرجلَكم).

لكن القراءة الثانية: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم). حينئذٍ ماذا يكون إعراب (وأرجلِكم)؟

يكون إعرابها أنها معطوفة على قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ )، فعلى هذه القراءة -قراءة الخفض- يكون الظاهر من الآية أن حكم القدم المسح وليس الغسل، لكن حين ننظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان للقرآن الكريم، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أنه جاءهم وهم يتوضئون وأعقابهم تلوح لم تغسل، فقال: ويل للأعقاب من النار )، ورواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة، ورواه مسلم عن عائشة، وقد ورد هذا المعنى: ( ويل للأعقاب من النار ) عن جمع من الصحابة كـعبد الله بن الحارث بن جزء وأبي أمامة ومعيقيب وجابر وغيرهم.

فكون الرسول صلى الله عليه وسلم توعد من لم يغسل قدميه وعقبيه بالنار دليل على أن الواجب في القدمين هو الغسل.

هناك دليل آخر، وهو أيضاً دليل متواتر أن جميع الذين حكوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا غسل القدمين، وقد سبق معنا أحاديث كثيرة في صفة الوضوء، منها: حديث عثمان وحديث المقداد بن معدي كرب وحديث علي وحديث عبد الله بن زيد جاره.

وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، يعني: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

ومن الأحاديث التي مرت أيضاً حديث الربيع، وحديث ابن عباس، وغيرها كثير.

جميع هذه الأحاديث التي ذكرت صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حديث منها لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح القدم، يعني: وهي مكشوفة أبداً، فدل على أن الثابت أن حكم القدم هو الغسل.

الجمع بين دلالة الآية على مسح القدمين وبين الأدلة القطعية من السنة على وجوب غسل القدمين

وبناءً على ذلك قد يظهر بادي الرأي نوع من الإشكال بين ظاهر الآية في قراءة: (وأرجلِكم)، الدالة على أن حكم القدم المسح، وبين ما ثبت في السنة ثبوتاً قطعياً من وجوب غسل القدم، وأمام هذا الإشكال الظاهري قال بعض أهل العلم: إن قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم أرجلِكم) على قراءة الخفض مجرور بالمجاورة. وهذا عند العرب يقولون: أحياناً إذا كانت كلمة بجوار كلمة قد تعطى حكمها من حيث الشكل والإعراب الظاهر، وإن كانت تختلف عنها، وقد أولع النحويون بذكر مثال للجر بالمجاورة وهو قولهم: جحر ضب خرب، فـ(خرب): هذه صفة للضب أو صفة للجحر؟ صفة للجحر، وحقها أن تكون مرفوعة: (خربٌ)، لكن لأنها جاورت كلمة (ضب) جحر ضب جرت مثلها فقيل: جحر ضب خرب، هذا يسمونه جر بالمجاورة، وقد أثبته جمع من أهل اللغة كـالأخفش وأبي البقاء العكبري، ونصره الإمام الشنقيطي في كتاب أضواء البيان، واستشهد له بعدد من الآيات القرآنية على ثبوت الجر بالمجاورة في لغة العرب، واستشهد له أيضاً بكثير من الأبيات الشعرية. هذا هو الوجه الأول، أن يكون قوله: (وأرجلِكم) مجرور بالمجاورة؛ لأنه جاور كلمة: (وامسحوا برءوسِكم).

الوجه الثاني: أن يقال: إن المقصود بالمسح في قوله: (وأرجلِكم) أن يكون المقصود غسل الرجل، وعبر عنه بالمسح وإن كان المقصود الغسل.

الوجه الثالث: وهو ما ذهب إليه الطبري في تفسيره أنه قال: يجمع بين القراءتين، بين قراءة النصب وقراءة الخفض بأن المطلوب في الرجل الغسل مع المسح، بمعنى: أنه لا يكفي صب الماء عليها بل لابد من دلكها باليد، وذلك مبالغة في تنظيفها وتنقيتها؛ لأنها تتعرض لكثير من الأوساخ، بخلاف بقية الأعضاء.

الوجه الرابع: وهو المهم عندنا الآن أن يكون قوله: (وأرجلِكم) معطوف فعلاً على: (رءوسكم)، ويكون بياناً لجواز المسح على القدم إذا كانت مستورة بالخف أو الجورب أو نحوهما.

قال الإمام الصنعاني في سبل السلام : وهذا الوجه أقوى ما حملت عليه قراءة الخفض، يعني: أن يكون المقصود الإشارة إلى المسح على الخفين، وهذا وجه قوي، وبناءً عليه نقول: إن هذه الآية وهي قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم)، والقراءة الأخرى: (وأرجلَكم)، هذه القراءة دلت على وجوب غسل القدمين إذا كانتا مكشوفتين، وجواز المسح على الخفين بشروطه المعروفة، فهذا هو الدليل الأول من أدلة ثبوت المسح على الخفين، وهو قراءة الخفض في آية المائدة.

الأحاديث النبوية الواردة في المسح على الخفين

الدليل الثاني: هو السنة النبوية، وقد ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أحاديث كثيرة في المسح على الخفين قولاً وفعلاً، حتى قال الإمام أحمد : وردت أحاديث المسح على الخفين عن أربعين من الصحابة مرفوعة وموقوفة .

و قال الإمام ابن عبد البر في كتاب الاستذكار : ثبتت أحاديث المسح على الخفين عن نحو أربعين من الصحابة أيضاً .

وقال الحسن البصري : سمعت أحاديث المسح على الخفين عن سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم، روى ذلك عن الحسن البصري ابن أبي شيبة وابن المنذر، رويا أن الحسن البصري قال: سمعت أحاديث المسح على الخفين عن سبعين من أصحاب النبي صلى الله عليه سلم.

و جمع الحافظ أبو القاسم بن منده في التذكرة أحاديث المسح على الخفين، فبلغت عنده ثمانين حديثاً، يعني: عن ثمانين صحابياً، ومن هؤلاء الصحابة العشرة المبشرون بالجنة ؛ ولهذا صرح عدد من الحفاظ بأن أحاديث المسح على الخفين متواترة .

الإمام أحمد قال: إنها أربعون، وكذلك ابن عبد البر، الحسن البصري رواها عن سبعين، ابن منده ذكرها عن ثمانين منهم العشرة المبشرون بالجنة؛ ولهذا صرح عدد من الحفاظ بتواترها، ولا شك أن أحاديث المسح على الخفين متواترة.

وقد ذكر أسماء طائفة من هؤلاء الصحابة الذين رووا هذه الأحاديث الإمام الترمذي في سننه، وذكر طائفة أخرى الإمام البيهقي في سننه أيضاً، ومنهم أيضاً غير العشرة المغيرة بن شعبة، وأنس بن مالك، وأبو هريرة، وعمرو بن أميه الضمري، وبلال، وابن مسعود، وأبو مسعود الأنصاري، وأبو زيد الأنصاري، وأسامة بن شريك، وأسامة بن زيد، وغيرهم ممن يطول ذكرهم وتعدادهم.

فهذه الأحاديث كلها مصرحة بمشروعية وجواز المسح على الخفين بشروطها المعروفة، ولذلك فهو ثابت في السنة ثبوتاً ظاهراً، ولهذا قال الإمام النووي : إنه رواه عن النبي صلى الله عليه وسلم خلق لا يحصون كثرة.

وقال الشوكاني : إنه ثابت ثبوت الشمس في الضحى، ولا شك أن من اطلع على هذه الأحاديث يعرف أن المسح على الخفين ثابت ثبوتاً قطعياً عن النبي صلى الله عليه وسلم، وفعله أصحابه في حياته ومن بعده، وأفتوا به، فهذا دليل آخر على جواز المسح على الخفين والرخصة فيه.

دلالة الإجماع على مشروعية المسح على الخفين

الدليل الثالث: هو الإجماع، ولا شك أن أعظم إجماع هو إجماع الصحابة رضي الله تعالى عنهم، وقد ذكر ابن المنذر عن عبد الله بن المبارك رحمه الله أنه قال: ليس في المسح على الخفين عن الصحابة اختلاف؛ لأن جميع من روي عنهم إنكاره -يعني: من الصحابة- قد روي عنهم إثباته . وقال ابن عبد البر : لا يعرف عن أحد من فقهاء السلف أنه أنكر المسح على الخفين إلا ما نقل عن الإمام مالك، قال: -يعني: ابن عبد البر - مع أن الروايات الصحيحة عنه مصرحة بإثباته . يعني: أن الإمام مالك نقل عنه روايات عديدة في المسح على الخفين، ذكر النووي في المجموع : أنها ست روايات، ولكن أصح هذه الروايات أنه رحمه الله يقول: بإثبات المسح على الخفين.

وقال الشيخ الشنقيطي رحمه الله في أضواء البيان في تفسير آية المائدة: الصحيح عن مالك وجل أصحابه القول بجواز المسح على الخفين حضراً وسفراً.

وما نقل عن مالك في هذا إن صح فهو محمول على أنه لا يستعمله في خاصة نفسه، وإلا فهو يفتي بجوازه، وبهذا قال الأئمة كلهم.

ما نقل من إنكار بعض الصحابة للمسح على الخفين والإجابة على ذلك

أما الصحابة رضي الله عنهم فإن الذين نقل عنهم إنكار المسح على الخفين أربعة: عائشة رضي الله عنها، وعلي، وأبو هريرة، وابن عباس . قال ابن عبد البر في هذه النقول عن الصحابة فيما نقل عنهم من إنكار المسح على الخفين قال: لا يثبت. وقال النووي في المجموع أيضاً: إنه لا يصح عنهم. وقال عبد الله بن المبارك كما سلف: إن جميع من نقل عنهم إنكار المسح على الخفين نقل عنهم إثباته، ولهذا فإن ما نقل عن هؤلاء الصحابة من إنكار المسح على الخفين يجاب عنه بعدة أجوبة:

الجواب الأول: أن جميع ما نقل عنهم في ذلك ضعيف ولا يثبت، فمثلاً ما روي عن أبي هريرة يقول فيه الإمام أحمد : إنه باطل لا يصح، وما نقل عن علي بن أبي طالب رضي الله عنه فهو خبر منقطع. وما نقل عن عائشة ففيه راوٍ يقول عنه ابن حبان : كان يضع الحديث وهو محمد بن المهاجر .

فالجواب الأول عما نقل عن الصحابة: هو أن يقال: إن ما نقل عن الصحابة لا يثبت عنهم، هذا هو الجواب الأول.

الجواب الثاني: أن يقال: إنه إن صح عن أحد منهم فقد ثبت عنه أنه رجع عنه، كما ذكر ذلك البيهقي عن ابن عباس، وكما في صحيح مسلم عن علي وسيأتي، وكذلك عن عائشة رضي الله عنها.

الجواب الثالث: أن يقال: هب أنه ثبت عن هؤلاء الصحابة روايتان: رواية بالقول بالمسح على الخفين، وأخرى في إنكاره، فأي الروايتين أجدر بالقبول ولو كانتا صحيحتين، أيهما أجدر وأحق بالقبول؟

الرواية بالمسح؟ لماذا؟ لأنها مثبتة، وأيضاً لأنها هي الموافقة لرأي ورواية بقية الصحابة، وعلى كل حال فقد ورد عن هؤلاء الصحابة الذين نقل عنهم إنكار المسح على الخفين القول بالمسح، فقد رواه أبو هريرة كما سبق، وروايته في مسند الإمام أحمد، ورواه علي بن أبي طالب كما في صحيح مسلم عن شريح بن هانئ أنه قال: ( أتيت عائشة رضي الله عنها فسألتها عن المسح على الخفين. فقالت لي: اذهب إلى ابن أبي طالب فاسأله؛ فإنه كان مع النبي صلى الله عليه وسلم في أسفاره، فذهب شريح بن هانئ إلى علي رضي الله عنه فسأله. فقال علي : جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم للمسافر ثلاثة أيام بلياليهن، وللمقيم يوماً وليلة )، هذا في صحيح مسلم، وهو صريح في أن علياً رضي الله عنه كان يرى المسح على الخفين.

وهو يدل ضمناً على أن عائشة قد ترى قريباً من ذلك؛ لأنه لو كان عند عائشة علم بإنكار المسح على الخفين لما وسعها إلا أن تبينه لهذا السائل، فلما أحالته إلى علي رضي الله عنه دل على أنه ليس عندها إنكار لأصل المسألة التي سألها عنها، وهي مسألة المسح على الخفين.

وبهذا يعلم أنه وقع الإجماع -أو شبه الإجماع- من الصحابة رضي الله عنهم على جواز المسح على الخفين، وكذلك من فقهاء السلف، ولم يخالف في هذا من أهل السنة إلا أبو بكر بن داود الظاهري . فقد نقل عنه قول بمنع ذلك، والله أعلم بثبوته عنه، ولكن خالف في موضوع المسح على الخفين بعض أهل البدع كـالرافضة والهادوية والخوارج، ولا شك أنه لا عبرة بوفاق هؤلاء القوم أو خلافهم، خاصة ونحن أمام نصوص صحيحة ثابتة بل ومتواترة، وأمام إجماع الصحابة رضي الله عنهم على هذا الأمر.

وبذلك يظهر جلياً ثبوت المسح على الخفين بالكتاب والسنة والإجماع.

فأما في الكتاب ففي قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، الآية.

ففي هذه الآية في قوله تعالى: وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ [المائدة:6]، فيها ثلاث قراءات:

القراءة الأولى: شاذة، وهي قراءة الحسن بالرفع: (وأرجلُكم إلى الكعبين)، وهذه القراءة شاذة، يعني: لا يجوز القراءة بها؛ لعدم تواترها، ولا تعتبر قرآناً.

القراءة الثانية: هي قراءة الخفض: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم)، بخفض أرجل: (وأرجلِكم)، وهذه قراءة ابن كثير المكي وحمزة وأبي عمرو وغيرهم، وهي قراءة متواترة ثابتة: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم إلى الكعبين).

والقراءة الثالثة: وهي قراءة الباقين بنصب (أرجلَ): (وامسحوا برءوسكم وأرجلَكم إلى الكعبين).

فأما على قراءة النصب: (وأرجلَكم) فقد سبق الكلام عن هذه القراءة، وأنها معطوفة على (فاغسلوا وجوهكم)، يعني: واغسلوا أرجلَكم، فيكون دليلاً على غسل الرجلين، وهو من أدلة من قالوا بوجوب الترتيب في الوضوء؛ لأنهم قالوا: أدخل الممسوح وهو الرأس بين المغسولات، فدل على مراعاة الترتيب في الوضوء، ولا دلالة في هذه القراءة، قراءة (وأرجلَكم).

لكن القراءة الثانية: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم). حينئذٍ ماذا يكون إعراب (وأرجلِكم)؟

يكون إعرابها أنها معطوفة على قوله: (وَامْسَحُوا بِرُءُوسِكُمْ وَأَرْجُلِكُمْ )، فعلى هذه القراءة -قراءة الخفض- يكون الظاهر من الآية أن حكم القدم المسح وليس الغسل، لكن حين ننظر إلى هدي الرسول صلى الله عليه وسلم الذي هو بيان للقرآن الكريم، نجد أن الرسول صلى الله عليه وسلم قال في الحديث المتفق عليه عن عبد الله بن عمرو بن العاص : ( أنه جاءهم وهم يتوضئون وأعقابهم تلوح لم تغسل، فقال: ويل للأعقاب من النار )، ورواه الشيخان أيضاً عن أبي هريرة، ورواه مسلم عن عائشة، وقد ورد هذا المعنى: ( ويل للأعقاب من النار ) عن جمع من الصحابة كـعبد الله بن الحارث بن جزء وأبي أمامة ومعيقيب وجابر وغيرهم.

فكون الرسول صلى الله عليه وسلم توعد من لم يغسل قدميه وعقبيه بالنار دليل على أن الواجب في القدمين هو الغسل.

هناك دليل آخر، وهو أيضاً دليل متواتر أن جميع الذين حكوا صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم ذكروا غسل القدمين، وقد سبق معنا أحاديث كثيرة في صفة الوضوء، منها: حديث عثمان وحديث المقداد بن معدي كرب وحديث علي وحديث عبد الله بن زيد جاره.

وحديث عمرو بن شعيب عن أبيه عن جده، يعني: حديث عبد الله بن عمرو بن العاص.

ومن الأحاديث التي مرت أيضاً حديث الربيع، وحديث ابن عباس، وغيرها كثير.

جميع هذه الأحاديث التي ذكرت صفة وضوء النبي صلى الله عليه وسلم لم يذكر في حديث منها لا صحيح، ولا حسن، ولا ضعيف؛ أن النبي صلى الله عليه وسلم اقتصر على مسح القدم، يعني: وهي مكشوفة أبداً، فدل على أن الثابت أن حكم القدم هو الغسل.

وبناءً على ذلك قد يظهر بادي الرأي نوع من الإشكال بين ظاهر الآية في قراءة: (وأرجلِكم)، الدالة على أن حكم القدم المسح، وبين ما ثبت في السنة ثبوتاً قطعياً من وجوب غسل القدم، وأمام هذا الإشكال الظاهري قال بعض أهل العلم: إن قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم أرجلِكم) على قراءة الخفض مجرور بالمجاورة. وهذا عند العرب يقولون: أحياناً إذا كانت كلمة بجوار كلمة قد تعطى حكمها من حيث الشكل والإعراب الظاهر، وإن كانت تختلف عنها، وقد أولع النحويون بذكر مثال للجر بالمجاورة وهو قولهم: جحر ضب خرب، فـ(خرب): هذه صفة للضب أو صفة للجحر؟ صفة للجحر، وحقها أن تكون مرفوعة: (خربٌ)، لكن لأنها جاورت كلمة (ضب) جحر ضب جرت مثلها فقيل: جحر ضب خرب، هذا يسمونه جر بالمجاورة، وقد أثبته جمع من أهل اللغة كـالأخفش وأبي البقاء العكبري، ونصره الإمام الشنقيطي في كتاب أضواء البيان، واستشهد له بعدد من الآيات القرآنية على ثبوت الجر بالمجاورة في لغة العرب، واستشهد له أيضاً بكثير من الأبيات الشعرية. هذا هو الوجه الأول، أن يكون قوله: (وأرجلِكم) مجرور بالمجاورة؛ لأنه جاور كلمة: (وامسحوا برءوسِكم).

الوجه الثاني: أن يقال: إن المقصود بالمسح في قوله: (وأرجلِكم) أن يكون المقصود غسل الرجل، وعبر عنه بالمسح وإن كان المقصود الغسل.

الوجه الثالث: وهو ما ذهب إليه الطبري في تفسيره أنه قال: يجمع بين القراءتين، بين قراءة النصب وقراءة الخفض بأن المطلوب في الرجل الغسل مع المسح، بمعنى: أنه لا يكفي صب الماء عليها بل لابد من دلكها باليد، وذلك مبالغة في تنظيفها وتنقيتها؛ لأنها تتعرض لكثير من الأوساخ، بخلاف بقية الأعضاء.

الوجه الرابع: وهو المهم عندنا الآن أن يكون قوله: (وأرجلِكم) معطوف فعلاً على: (رءوسكم)، ويكون بياناً لجواز المسح على القدم إذا كانت مستورة بالخف أو الجورب أو نحوهما.

قال الإمام الصنعاني في سبل السلام : وهذا الوجه أقوى ما حملت عليه قراءة الخفض، يعني: أن يكون المقصود الإشارة إلى المسح على الخفين، وهذا وجه قوي، وبناءً عليه نقول: إن هذه الآية وهي قوله تعالى: (وامسحوا برءوسكم وأرجلِكم)، والقراءة الأخرى: (وأرجلَكم)، هذه القراءة دلت على وجوب غسل القدمين إذا كانتا مكشوفتين، وجواز المسح على الخفين بشروطه المعروفة، فهذا هو الدليل الأول من أدلة ثبوت المسح على الخفين، وهو قراءة الخفض في آية المائدة.