تحقيق المناط في الاجتهاد
مدة
قراءة المادة :
15 دقائق
.
تحقيق المناط في الاجتهاد جعَل الشَّاطبي ثبوت الدليل الشرعي مبنيًّا على مقدمتين، الأولى: شرعية، وهي ترجع إلى نفس الحكم الشرعي، والثانية: نظرية؛ أي: ليست نقلية، سواء كانت ضرورية أم ثابتة بالفكر والتدبر، وهو الغالب، وهي راجعة إلى تحقيق مناط الحكم، بل لم يكتفِ الشَّاطبي بذلك، فتراه جعل ذلك ظاهرًا في الشرعيات، وموجودًا في اللغويات والعقليات، فلا بد من تحقيق المناط؛ حتى يظهر الاستدلال بالدليل.
ويمثِّل لذلك بما لو قلنا: ضرب زيد عمرًا، وأردنا أن نعرف ما الذي يُرفَع من الاسمين وما الذي يُنصَب، فلا بد من معرفة الفاعل من المفعول، فإذا أردنا معرفة الفاعل والمفعول، فلا بد من تحقيق مناط كل منها، فنحن نعلم أن الفاعل مرفوع، والمفعول به منصوب، فنرى ما الذي انطبق عليه وصف الفاعل، وما الذي انطبق عليه وصف المفعول، وحينئذ نكون قد حققنا المناط في المسألة.
وإذا أردنا تصغير عقرب، حققنا كونه رباعيًّا، ثم صغَّرناه على عُقَيرب؛ لأن كل رباعي على هذه الشاكلة فتصغيره على وزن فُعَيْعل[1].
وفي العقليات إذا نظرنا إلى العالم هل هو حادث أو لا؟ فلا بد من تحقيق مناط الحكم، وهو العالم، فنرى هل هو متغير؟ فإذا وجدناه متغيرًا، ونحن نعلم أن كل متغير حادث، كنا قد حققنا مناطه، وألحقناه بالمقدمة الأخرى المسلَّمة، وهي: كل متغيِّر حادث[2].
وهذا ينبئ عن أهمية تحقيق المناط، وأنه لا يقتصر على العلة فحسب، بل قد يكون أشملَ من العلة؛ إذ يندرج في كل دليل، سواء أكان شرعيًّا أم ليس بشرعي.
وبما أن الحديث هنا عن تحقيق المناط في الأدلة الشرعية، فإني أقصر الكلام عليه، وأتطرق إلى تعريفه في اللغة، ثم في الاصطلاح.
أما في اللغة: فتحقيق المناط لفظ مركب من كلمتين، ولتعريفه لا بد من تعريف كل كلمة بمفردها، والكلمة الأولى: تحقيق: أصلها حق، وهو أصل يدل على إحكام الشيء وصحته، يقال: تحققت الخبر إذا كشفت عن صحته، وحققت الأمر إذا تيقنته[3].
والمَناط - بفتح الميم -: أصل يدل على تعليق شيء بشيء، يقال: نطته به؛ أي: علقته به، والنوط: ما يتعلق به، وجمعه: أنواط[4].
والمَناط في الاصطلاح: فسره بعضهم بالعلة[5].
وهو تعريف للمناط ببعض أنواعه[6]، وهذا التعبير - كما ذكر ابن دقيق العيد - من باب المجاز اللغوي؛ لأن الحكم لَمَّا عُلِّق بالعلة كان كالشيء المحسوس الذي تعلق بغيره، فهو مجاز من باب تشبيه المعقول بالمحسوس، وصار ذلك في اصطلاح الفقهاء، بحيث لا يُفهَم عند الإطلاق غيره[7].
والأَولى تعريف المناط بمتعلق الحكم[8]، سواء كان علة، أو غير ذلك.
وأما تعريفه باعتباره مركبًا، فتحقيق المناط في الاصطلاح: عرفه الشَّاطبي: بأن يثبت الحكم بمدركه الشرعي، لكن يبقى النظر في تعيين محله[9].
وقوله: "بمدرك" مراده بالمدرك هنا الدليل الشرعي للحكم[10].
ومثال تحقيق المناط: أن الله قد أمر بإشهاد ذوي عدل؛ كما قال تعالى: ﴿ وَأَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ ﴾ [الطلاق: 2]، وقد ثبَت عندنا معنى العدالة، فحينئذ ثبت الحكم بدليله الشرعي، ولكن بقي تعيين محل الحكم، فمَن تتحصَّل فيه صفات العدالة فهو محله؛ وذلك لأن العدالة وصف عام، والناس فيه مختلفون؛ لأننا إذا تأملنا وصف العدالة، وجدنا لاتصاف العدول به طرفينِ وواسطة؛ فالطرف الأعلى لا إشكالَ فيه، والطرف الأدنى هو أول درجة في الخروج عن مقتضى الوصف، وبينهما مراتبُ لا تنحصر، وهذا الوسط غامض لا بد فيه من بذل الجهد، فمن رأينا بعد الاجتهاد أن هذه الصفة حلت عليه، أنزلنا عليه الأحكام المترتبة على الاتصاف بها، وهذا بعينه هو تحقيق مناط الحكم[11].
ومن المعلوم أن هذا التعريف تعريف عام لكل ما يطلق عليه تحقيق المناط، فيشمل أنواع تحقيق المناط، وعلى هذا فهو جارٍ على رأي الشَّاطبي في تعميم النظر في تحقيق المناط، وعدم تخصيصه بالعلة فحسب؛ إذ قد يكون تحقيق المناط مرتبطًا بقاعدة كلية منصوص عليها، أو مجمع عليها، أو مستقرأة من النصوص، ويلاحظ أن الشَّاطبي لم يخصص مدرك الحكم بالنص، أو الإجماع، بل عمَّمه، فيشمل مع ذلك الاستنباط.
وقد وافق الشَّاطبيَّ على تعميم تحقيق المناط ليشمل ما كان بعلة، أو بغيرها: العكبريُّ[12]، وابن قدامة[13]، والطوفي[14]، فهم قسموا تحقيق المناط إلى قسمين:
الأول: مرتبط بالقاعدة الكلية، والثاني: مرتبط بالعلة.
وخالَفه أكثر الأصوليين؛ حيث قصروا تحقيق المناط في تعريفهم له بكونه في العلة، فعرفوه بأنه: أن ينص أو يتفق على تعيين العلة ويطلب تحققها في محل النزاع[15]، أو هو النظر في معرفة وجود العلة في آحاد الصور بعد معرفتها بنفسها[16].
وقد دارت تعريفاتهم مع اختلاف في ألفاظها حول هذا المعنى[17].
وقد نوقش ذلك: بأنه تعريف بالأخص؛ لأن تحقيق المناط قد يكون بتطبيق قاعدة كلية منصوص عليها، أو مجمَع عليها في آحاد الصور، وقد يكون في معرفة وجود العلة في آحاد الصور[18].
ويبدو أن الخلاف إنما هو خلاف اصطلاحي؛ لأن مَن قصَره على العلة إنما أراد تحقيق المناط الخاص بالعالم المجتهد، ومن عمَّم فهو إنما أراد تحقيق المناط عمومًا، سواء كان خاصًّا بالمجتهد، أم يشاركه فيه غيره.
أما في شمولية التعريف لِما كان بالاستنباط، فقد وافقه عليه بعض الأصوليين في تعريفهم له؛ كالآمدي[19]، والتفتازاني[20]، وابن قاضي الجبل[21]، وابن النجار[22].
وبعضهم قيد بالاتفاق على العلة دون غيره[23]، ومفهوم هذا شمولية التعريف.
وخالَفه كثير من الأصوليين[24]، فقصَروا تحقيق المناط على ما كانت العلة ثابتة فيه عن طريق النص أو الإجماع.
حكم تحقيق المناط:
رأي الشَّاطبي:
يرى الشَّاطبي العمل بتحقيق المناط، بل إنه حكى الإجماع على قَبوله، فقال الشَّاطبي: "وهو لا خلاف بين الأمة في قَبوله"[25].
وقد وافق الشَّاطبيَّ في نقله الاتفاق عليه جماعةٌ من الأصوليين؛ كالغزالي[26]، وابن تيمية[27]، وابن السبكي[28]، والزركشي[29]، وابن الهُمَام[30].
وتعقَّب العبدريُّ الغزاليَّ في نقل الإجماع، وذكر أن الخلاف فيه ثابت بين مَن يُثبت القياس ويُنكره[31].
وبعض الأصوليين، كالعكبري[32]، وابن قدامة[33]، والطوفي[34]، ذكروا أن تحقيق المناط على نوعين:
النوع الأول: تحقيق مناط القاعدة الكلية المنصوص عليها أو المجمع عليها، وهذا النوع مجمع عليه في كل الشرائع.
والنوع الثاني: تحقيق مناط العلة، وهذا من باب القياس الجلي الذي أقر به جماعةٌ ممن ينكر القياس.
وعلى هذا، فالأول محل إجماع دون الثاني، وهذا هو الظاهر، فيحمل كلام مَن نقل الإجماع على الأول، لا سيما وأنه هو المفهوم من كلامهم[35]، وهذا على القول باعتبار المخالف في القياس في حكاية الإجماع، أما على القول بعدم الاعتبار به، فكلا القسمين محل إجماع، ولا اعتبار بالمخالف.
[1] انظر: شرح ابن عقيل على ألفية ابن مالك (2/ 439).
[2] انظر: الموافقات (3/ 231 - 233، 5/ 414)، وانظر لذلك: المستصفى (2/ 230) الإبهاج (3/ 82).
[3] انظر: معجم مقاييس اللغة (2/ 15) القاموس المحيط (1129) كلاهما مادة: "حق".
[4] انظر: معجم مقاييس اللغة (5/ 370) المصباح المنير (630) القاموس المحيط (892) كلها مادة: "نوط".
[5] انظر: المستصفى (2/ 230) روضة الناظر (ت: النملة 3/ 800) الإحكام (3/ 302) شرح تنقيح الفصول (388) البحر المحيط (5/ 255).
[6]انظر: تعليق عفيفي على الإحكام (3/ 302).
[7]انظر: البحر المحيط (5/ 255).
[8] انظر: الإيضاح لقوانين الاصطلاح (34) شرح الكوكب المنير (4/ 200).
[9]الموافقات (5/ 12).
[10] انظر: المصباح المنير (192) مادة: "درك" القواعد الفقهية للباحسين (69).
[11] انظر: الموافقات (5/ 12 - 13).
[12] انظر: رسالة في أصول الفقه (82).
[13] انظر: روضة الناظر (ت: النملة 3/ 801).
[14] انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 233).
[15] انظر: نفائس الأصول (7/ 3088) الإبهاج (3/ 82) تقريب الوصول (372) البحر المحيط (5/ 256).
[16] انظر: الإحكام (3/ 302).
[17]انظر: شرح تنقيح الفصول (389) جمع الجوامع مع شرح المحلي وحاشية البناني (2/ 452) زوائد الأصول (380) نهاية السول (4/ 143) الإيضاح لقوانين الاصطلاح (35) شرح التلويح (2/ 162 - 163) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 192 - 193) شرح الكوكب المنير (4/ 200) تيسير التحرير (4/ 42) نشر البنود (2/ 201 - 202) نثر الورود (2/ 524).
[18]انظر: تعليق عفيفي على الإحكام (3/ 302).
[19]انظر: الإحكام (3/ 302).
[20]انظر: شرح التلويح (2/ 162 - 163).
[21]انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 201).
[22] انظر: شرح الكوكب المنير (4/ 203).
[23] انظر: شرح تنقيح الفصول (389) نفائس الأصول (7/ 3088) تقريب الوصول (372) نهاية السول (4/ 134) نشر البنود (2/ 201 - 202) نثر الورود (2/ 524).
[24] انظر: رسالة في أصول الفقه (82) المستصفى (2/ 231) روضة الناظر (ت: النملة 3/ 802) شرح مختصر الروضة (3/ 234) الإبهاج (3/ 82) البحر المحيط (5/ 256) التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 192 - 193).
[25] الموافقات (5/ 12).
[26]انظر: المستصفى (2/ 230).
[27] انظر: مجموع الفتاوى (13/ 111، 22/ 329).
[28]انظر: الإبهاج (3/ 83).
[29] انظر: البحر المحيط (5/ 256).
[30] انظر: التحرير مع التقرير والتحبير (3/ 193).
[31] انظر: البحر المحيط (5/ 256).
[32] انظر: رسالة في أصول الفقه (81 - 82).
[33] انظر: روضة الناظر (2/ 189 - 199).
[34] انظر: شرح مختصر الروضة (3/ 233).
[35] انظر مثلًا: المستصفى (2/ 230) مجموع الفتاوى (13/ 111).