العاطفة بين الإهمال والإغراق


الحلقة مفرغة

كفارة من جامع امرأته في نهار رمضان عتق رقبة، فإن لم يستطع صام شهرين متتابعين، فإن لم يستطع أطعم ستين مسكيناً، حتى لا يتلاعب المرء بأحكام الله وشرائعه ودينه، ويستحب في رمضان أداء العمرة، وهي سنة مؤكدة، وفائدتها تطهير النفس من آثار الذنوب والمعاصي لتصبح أهلاً لكرامة الله تعالى في الدار الآخرة، كما أن الحج والعمرة يشترط لهما شروط منها: الإسلام، والعقل، والبلوغ، والاستطاعة.

الحمد لله، نحمده ونستعينه ونستغفره ونتوب إليه، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا، ومن سيئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضل له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمداً صلى الله عليه وسلم عبده ورسوله.

أما بعد:

فهي فرصة طيبة كريمة أن نلتقي بكم -معشر الإخوة الكرام- في هذا المكان الطيب المبارك، وفي هذا الجامع، وفي هذه الليلة المباركة.

وفي الواقع أني مدين لكم كثيراًمعشر الإخوة، مدين لكم بالحب والوفاء والتقدير، الذي هو عروة وثقى، وصلة وشيجة بين المسلمين جميعاً، والسالكين على طريق محمد صلى الله عليه وسلم، ومدين لكم أنتم أهل هجر، وأشكر لكم صبركم على جفائي، وعلى مطلي، ومطل الغني ظلم.

وقد كانت الدعوة من الإخوة سابقة، وأخرتهم إلى هذا الحين، أسأل الله عز وجل أن يثيبهم، وأن يجزيهم الأجر والمثوبة على ما تسببوا به من إحياء هذا اللقاء الطيب المبارك، وأسأل الله سبحانه وتعالى أن يرزقنا وإياكم جميعاً العلم النافع، والعمل الصالح.

وإن كنت أشعر أني حين أتحدث إليكم كجالب التمر إلى هجر، لكن الناس ألفوا أن يسمعوا الصوت الغريب، وأن يكون له وقع ليس كوقع الصوت القريب، هذا فقط هو ما أشعر أنه يؤهلني للحديث أمامكم؛ ولهذا فقد لا آتيكم بجديد حول مثل هذا الموضوع: (العاطفة بين الإهمال والإغراق)، وهو موضوع حديثنا هذه الليلة، وهو حديث ذو شقين: حديث حول الإهمال، وحديث حول الإغراق.

وقبل أن ندخل في موضوعنا لابد أن نقف وقفة سريعة عجلى حول ما قاله بعض أئمة اللغة حول معنى العاطفة.

يقول ابن فارس : العين والطاء والفاء أصل صحيح يدل على انثناء وعياج، يقال: عطفت الشيء: إذا أملته، وانعطف الشيء إذا انعاج ... وتعطف بالرحمة تعطفاً ... والرجل يعطف الوسادة: يثنيها ... ويقال للجانبين: العطفان.

وقال في اللسان: وتعطف عليه أي: وصله وبره، وتعطف على رحمه: رق لها، والعاطفة: الرحم، صفة غالبة، ورجل عاطف وعطوف: عائد بفضله حسن الخلق، قال الليث : العطاف: الرجل الحسن الخلق، العطوف على الناس بفضله ...، وعطفت عليه: أشفقت.

وهكذا نرى أن المعنى اللغوي لا يبتعد كثيراً عما يطلق عليه في المصطلح المعاصر: العاطفة، وإن كانت أخذت مداً أبعد من ذلك، فحين تطلق العاطفة فإنها تطلق على تلك المشاعر المتدفقة السيالة، التي تدعو الإنسان لاتخاذ مواقف من القبول والرفض أو الحب أو الكره، تطلق على تلك الحماسة التي تتوقد في نفس صاحبها؛ لقبول هذا العمل أو رفضه.

وصار الحديث كثيراً حول العاطفة حديث الرفض وحديث الانتقاد، مع أننا أيضاً نعاني من إغراق في العاطفة، والأولى أن توضع في موضعها الصحيح، وحيث إننا نعاني ونشتكي من الإغراق، فإن هذا لا يعني أن نلقي العاطفة في قفص الاتهام، وأن تصبح من مصطلحات الجرح لدينا، فصار يكفي أن تجرح فلاناً من الناس أن تصفه بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه صاحب حماس، أو -كما يقال- متحمس، صارت كلمة جرح مطلقاً، وهذا يعني أن فاقد العاطفة، وفاقد الحماس هو الرجل الأولى بالتعديل.

إننا ومع شعورنا بالإغراق، بل ومزيد من الإغراق في العاطفة، ومع شعورنا بأن ثمة مواقف تدفع إليها العواطف كثيراً، وأننا لابد من أن نحجمها ونحد منها، إننا مع ذلك ينبغي ألا نهمل دور العاطفة، وألا نقع في خطيئة الإهمال لها.

وهنا سنبدأ في الحديث حول إهمال العاطفة.

فقد العواطف شذوذ

إن الدعوة إلى إهمال العاطفة -كما قلنا- دعوة بحاجة إلى مراجعة، وإلى إعادة النظر، إن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره والقبول والرفض والحماس، فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها تعني بكل بساطة أن هذه العاطفة لم يكن لها حكمة في خلق الإنسان، وأنها خلقت عبثاً، وحاشا لله عز وجل أن يكون في خلقه سبحانه وتعالى عبث، فالله سبحانه وتعالى ما ركب هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها.

ثانياً: على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل شاذ:

إن الرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرق قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين، أو مشاعر الرفض تجاه من يرفض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقد في قلبه حماسة أياً كان الموقف، لا شك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف.

بل إن الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولا يتذوق الجمال في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه يقبل صغيراً، قال: تقبلون صغاركم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!).

إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل -كما قال صلى الله عليه وسلم- قد نزعت من قلبه الرحمة، فصار تصرفه، وصار سلوكه سلوكاً غير مرضي، وسلوكاً مرفوضاً يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم، يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه ألا يملك في قلبه الرحمة للصبية الصغار، فصار لا يقبل أحداً منهم.

وفي العاطفة النبوية هدي

حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد مواقف شتى تدور حول هذا المعنى، وسواء سميناها عاطفة، أو لم نسمها كذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألقاب، سمها ما شئت فإنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإن هذا لا يعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً، ولفظ جرح يتردد المرء في أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم.

وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا، فأنت وما تريد، لكنا نحن نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح، وحول هذا الموضوع.

النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور، يملك صلى الله عليه وسلم هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت، ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة، وأذهب بحج؟! ثم تلح عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً إذا هوت أمراً تابعها هي، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصب أو الأبطح، ثم تذهب مع أخيها، فتعتمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أفرغتم؟ فتقول: نعم، فيؤذن أصحابه بالرحيل).

وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة، ففقدت عقداً لها رضي الله عنها، وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها، فيقول: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت: فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ويقيمون البعير فتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم، فيقول أسيد رضي الله عنه: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش هنا كله، ويبقيه ينتظر هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، تلك المشاعر المرهفة عند مثل هذه المرأة، التي تقيم لهذا العقد وزناً، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي عنه غاضباً إلى عائشة : كيف حبست الناس؟! ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.

وتأتي رضي الله عنها تنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها، وهي جارية لا تمل اللعب، حتى تمل وتنصرف بعد ذلك، فينصرف صلى الله عليه وسلم.

ونرى أيضاً هذا الخلق وتلك الرقة عنده صلى الله عليه وسلم مع الأولاد، فيأتي إليه الصبي فيقبله صلى الله عليه وسلم، فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: تقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) وفي الحديث الآخر أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم).

ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصبي يحتضر، وروحه تقعقع، فيحمله صلى الله عليه وسلم، ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم، ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يرق؟! كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي؟! فيقال: ما هذا؟ فيقول: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده).

ويموت ولده إبراهيم ، ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).

في حين يأتي أحد المتصوفة، ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشعر أنه قد أمر بالصبر على فقد الأولاد، والرضا ، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ منزلة من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عالية، بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ.

ويأتي الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام، فيسأله أصحابه، فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).

ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم، فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره، ثم يحمله، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من طوائف المسلمين).

وتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وعطفه بني الإنسان إلى البهيمة والحيوان، فيروي عبد الله بن جعفر عنه صلى الله عليه وسلم: (كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، فيدخل صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذفراه، فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكى إلي إنك تجيعه وتدئبه)، والحديث رواه أبو داود .

وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).

أرأيتم ذلك القلب الكبير، ذلك القلب العظيم، الذي لم تقف رحمته عند حدود زوجته، أو عند حدود رعيته، أو حتى عند الأطفال، لتتجاوز إلى الحيوان، فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بشأن جمل له يجيعه ويدئبه، وكأن هذا الجمل يشعر ويرى الرحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم، فتذرف عيناه، مرسلة رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى صاحب الرحمة صلى الله عليه وسلم، المرسل رحمة للعالمين، بكل ما تحمله هذه الكلمة، فهو رحمة للناس من عذاب جهنم، ومن فيح جهنم، وهو رحمة للناس في أمور دينهم، وهو -صلى الله عليه وسلم- رحمة حتى لهذه البهائم.

ولهذا يصفه الله عز وجل فيقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

ويصفه حسان رضي الله عنه بأوصاف يعجز عنها البلغاء:

وأجمل منك لم تر قط عيني وأحسن منك لم تلد النساء

خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

ويقول:

عطوف عليهم لا يثني جناحه إلى كنف يحنو عليهم ويمهد

رءوف بهم صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا غرو أن يقولوا حين دفنوه صلى الله عليه وسلم: ما إن نفضنا التراب عن أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا.

قال حسان رضي الله عنه:

لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد

وراجوا بحزن ليس فيهم نبيهم وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

لقد غيبوا النبي صلى الله عليه وسلم في الثرى، فغيبوا العلم والحلم كما قال حسان رضي الله عنه، ولهذا أنكروا قلوبهم بعده صلى الله عليه وسلم.

وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا خطبت فللمنابر هزة وإذا وعظت فللقلوب بكاء

وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء

هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، صاحب القلب الكبير، القلب الرحيم العطوف، مع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة، وهم حمل هذه الديانة والشريعة إلى البشرية كلها أجمع، مع ذلك كله يجد الغلام في قلبه صلى الله عليه وسلم مكاناً له، والحيوان يجد مكاناً له؛ لرأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم.

أفبعد ذلك كله نطالب الناس أن يتجردوا عن عواطفهم، أن يتجردوا عن مشاعرهم، وعما جبلهم الله عز وجل عليه؟!

الصياغة العاطفية في الأدب دليل أهميتها

رابعاً: يحفل الأدب بأساليب تعبر لك عن معاناة يتيم، أو معاناة أرملة، أو معاناة من فقد فقيداً له، وتقرأ هذه الأبيات فلا تملك إلا أن تتجاوب معها، وتعيش وكأنك ترى حال صاحبها، وكأن النعي ما يقوله الشاعر في وصف تلك الأرملة:

لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها

أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه في الخد عيناها

بكت من الفقر فاحمرت مدامعها واصفر كالورس من جوع محياها

إنك حين تسمع هذه الأبيات لا تملك إلا أن تتفاعل مع مثل هذا الموقف، ويرق قلبك وفؤادك لمثل هذه الأرملة المسكينة، التي يصفها الشاعر، وربما لم يكن رآها قط، ربما كانت قضية من نسج الخيال، لكن النفس مفطورة على تذوق الرواية التي تصور لك مأساة هذا الرجل الفقير أو المسكين، أو ذاك المظلوم.

الحاجة إلى العاطفة الحماسية في الجهاد

خامساً: ونرى أثر العاطفة في إذكاء الحماسة، بل نرى ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، نرى أن المسلمين يحتاجون إلى من يشعل حماسهم، لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم، وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون، أيطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم ماذا يصنعون؟

فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبونها الشهادة، والله إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتل الناس بهذا الدين، قالوا: فحمس عبد الله الناس، فمضوا إلى أمرهم.

أرأيت كيف يصنع الحماس؟ أرأيت كيف توقظ هذه الحماسة أصحابها، فتدفعهم إلى الجهاد، تدفعهم إلى أن يلغوا ذاك الخيار الذي اجتمعوا من أجله، وحين سار رضي الله عنه وودعهم أهل المدينة، قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردني الله إليكم.

وسار ومعه غلام في حجره وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه، سار وصار يتغنى ويخاطب راحلته:

إذا أدنيتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك أنعم وخلاك ذم

ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء

وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء

فبكى زيد رضي الله عنه، فوخزه وقال: لا عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل؛ لأنه قد يكون أبقى له مكاناً.

وكأنك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد عقد العزيمة على ألا يعود، ويسأل الله عز وجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام، وحين قتل صاحباه، وتقدم تردد وتلكع، فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة

فيخاطب نفسه بهذه الأبيات، ثم يدفعها دفعاً إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه.

وهكذا حين تقرأ في السير، قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه، فيخاطبهم، ويحمسهم، ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله، ويبين لهم فضل الشهادة، وفضل الجهاد في سبيل الله؛ حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.

وما ترى معركة أو غزوة قادها المسلمون إلا وترى الشعراء والخطباء قد أوقدوا حماسة الناس لهذا الجهاد، أيسوغ بعد ذلك أن ندعو إلى إلغاء الحماس والعاطفة؟!

العاطفة حاجة مهمة في التربية

سادساً: العاطفة حاجة مهمة في التربية، وحين يفقد المتربي العاطفة، فإنه ينشأ شاذاً، وهي صورة نراها فيمن مات أبوه، أو ماتت أمه، وتربى عند زوجة أبيه، أو عند غيرها من النساء التي لا تشعر تجاهه بشعور الأم الحنون، كيف ينشأ هذا الشاب؟ إن الغالب من هؤلاء ينشأ شاباً شاذاً، ينشأ شاباً يعاني من الفراغ العاطفي، وكثيراً ما نرى المشكلات تتمثل عند هؤلاء، ذلك أن ثمة حاجة ملحة هم بحاجة إلى أن يعطوا إياها، ألا وهي الحنين والعاطفة، ولهذا يتربى هذا الشاب بعقل أبيه، وحجر أبيه، ويتربى أيضاً بعاطفة أمه.

ولحكمة بليغة يخلق الله عز وجل العاطفة في الأم، عاطفة تذوب عندها المواقف، عاطفة تلتقي في نقطة اتزان مع عقل الأب وحصافته، فيعيش الشاب ويعيش الطفل بين هذين الخطين المتوازيين، فيعيش حينئذٍ متوازياً ومستقراً، وحين يشد أحد الخيطين أكثر من صاحبه، أو حين يفقد أحدهما؛ فإنه يعيش عيشة غير مستقرة.

ومن ثم فلا غنى للصغير عمن يحوطه بالعاطفة، وعمن يحن عليه، ويشفق عليه، وحين ينشأ على خلاف ذلك، فإن الغالب فيه أن ينشأ فاقداً لهذا الإحساس، وفاقداً لهذا الشعور.

إنكار على داعية إلغاء العواطف

مع ذلك كله نسمع من يدعو إلى إلغاء العاطفة، بل من يدرج العاطفة ضمن مراتب الجرح، فيصف فلاناً بأنه صاحب عاطفة، أو بأنه متحمس، وكم نرى العتب واللوم على ذاك الذي أغاضه انتهاك لحرمة من حرمات الله عز وجل، فدارت حمالق عينه، وغضب غضبة لله عز وجل، حينئذٍ يوصف بأنه متحمس طائش، بأنه لا يحسب عواقب الأمور.

أما ذاك الذي لا تثيره حرمات الله عز وجل، لا تحرك لديه ساكناً، الذي يرى المنكرات، ويرى مصائب المسلمين، ويرى جسد المسلمين يقطع إرباً إربا، ومع ذلك لا تهتز مشاعره، ولا تتحرك عواطفه، ذاك يوصف بأنه رجل حكيم حصيف لبيب، يضع الأمور في مواضعها.

إنني أحسب أن هذه قسمة ضيزى، أحسب أن هذا جور في الحكم، إننا ومع رفضنا للإغراق في العاطفة إلا أننا نرى الغضب والحمية لدين الله من واجبات المسلم، فقد كان النبي صلى الله عليه وسلم هيناً سهلاً ليناً، فإذا انتهكت محارم الله لم يقم لغضبه صلى الله عليه وسلم شيء.

ويوصف أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم بأنهم كانوا يتناشدون الشعر، فإذا أردت أحدهم على دينه دارت حمالق عينه، أليس هذا تعبيراً عن الغضب والغيرة لحرمات الله عز وجل؟! وكيف نصنع بتلك المواقف الفذة من سلف الأمة، التي وقفوا فيها غضباً وحمية لدين الله عز وجل، حمية مجلجلة، واضحة صريحة قالوها؟! ولا شك أن الذي دفعهم لذلك هو الحماس، نعم، والغضب، نعم، والعاطفة، نعم، لكنها عاطفة صادقة، وحماسة صادقة، فالمطالبة بإلغاء الحماسة والعاطفة مطالبة بتغيير خلق الله عز وجل، وتغيير سجية فطر الله سبحانه وتعالى عباده عليها.

وكما أننا ننكر على من يكون دافعه ووقوده الحماس والعاطفة وحدها، فإننا -أيضاً- ينبغي أن ننكر -وبنفس القدر- على ذاك المتبلد الحس، الذي يرى مصائب المسلمين، ويرى دماء المسلمين تجري، ويرى حرمات الله تنتهك، ويرى دين الله عز وجل ينقض عروة عروة، ومع ذلك لا يحرك فيه ذلك ساكناً، ولا يثير فيه حمية، ولا يغضب لله عز وجل، أيهما أولى أن يعاب؟ أيهما أولى بالذم والنقص والعيب؟

لست أحكم أيهما أكثر خطأً، لكننا حين نتحدث عن خطأ هذا، فينبغي أن نتحدث أيضاً عن خطأ ذاك، ولا يسوغ أن ننظر بعين الأعور، وأن ننظر إلى القضية بعين واحدة.

إن الدعوة إلى إهمال العاطفة -كما قلنا- دعوة بحاجة إلى مراجعة، وإلى إعادة النظر، إن العاطفة خلقها الله في الإنسان أصلاً، خلق الله الإنسان يحمل مشاعر وعواطف من الحب والكره والقبول والرفض والحماس، فالدعوة إلى إلغائها دعوة إلى تغيير خلق الله، والدعوة إلى إلغائها تعني بكل بساطة أن هذه العاطفة لم يكن لها حكمة في خلق الإنسان، وأنها خلقت عبثاً، وحاشا لله عز وجل أن يكون في خلقه سبحانه وتعالى عبث، فالله سبحانه وتعالى ما ركب هذه العاطفة في نفس الإنسان إلا لحكمة، ولمصلحة لابد أن تتحقق من ورائها.

ثانياً: على وصف فاقد العاطفة بأنه رجل شاذ:

إن الرجل الذي لا تتحرك مشاعره، فلا يرق قلبه لمشهد يثير الرقة والعطف، ولا يملك مشاعر الحب تجاه الآخرين، أو مشاعر الرفض تجاه من يرفض، الرجل الذي لا يمكن أن تتوقد في قلبه حماسة أياً كان الموقف، لا شك أنه رجل شاذ فاقد للإحساس والعواطف.

بل إن الناس يرون أن الرجل الذي لا يحس بالجمال، ولا يتذوق الجمال في هذه الدنيا، رجل شاذ، فهو وصف مخالف للفطرة السوية، ولهذا حين جاء رجل إلى النبي صلى الله عليه وسلم، ورآه يقبل صغيراً، قال: تقبلون صغاركم؟! إن لي عشرة من الولد ما قبلت واحداً منهم، قال صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!).

إنه رجل شاذ بعواطفه، إنه رجل -كما قال صلى الله عليه وسلم- قد نزعت من قلبه الرحمة، فصار تصرفه، وصار سلوكه سلوكاً غير مرضي، وسلوكاً مرفوضاً يستنكره النبي صلى الله عليه وسلم، يستنكر النبي صلى الله عليه وسلم على هذا الصحابي رضوان الله عليه ألا يملك في قلبه الرحمة للصبية الصغار، فصار لا يقبل أحداً منهم.

حين نقرأ سيرة الرسول صلى الله عليه وسلم، نجد مواقف شتى تدور حول هذا المعنى، وسواء سميناها عاطفة، أو لم نسمها كذلك، فلا مشاحة في الاصطلاح، ولا يجوز أبداً أن نقيم جدلاً وحرباً حول المصطلحات والألقاب، سمها ما شئت فإنها تعني الذي نريد، وإن اصطلحنا نحن على تسميتها بالعاطفة، فإن هذا لا يعني أن وصف العاطفة لفظ تهمة أصلاً، ولفظ جرح يتردد المرء في أن يصف به محمداً صلى الله عليه وسلم.

وإن اخترت أن تبحث له عن لفظ غير هذا، فأنت وما تريد، لكنا نحن نريد المعنى، ولسنا نقيم جدلاً حول هذا المصطلح، وحول هذا الموضوع.

النبي صلى الله عليه وسلم كان يملك هذا الشعور، يملك صلى الله عليه وسلم هذا الشعور مع زوجاته، ففي حجة الوداع تأتي زوجه عائشة رضي الله عنها وقد حاضت، ولم يتيسر لها أن تأتي بعمرة قبل الحج، فتأتي إلى النبي صلى الله عليه وسلم، فتقول: يذهب الناس بحج وعمرة، وأذهب بحج؟! ثم تلح عليه صلى الله عليه وسلم، يقول جابر : وكان رسول الله صلى الله عليه وسلم سهلاً ليناً إذا هوت أمراً تابعها هي، ويواعدها صلى الله عليه وسلم المحصب أو الأبطح، ثم تذهب مع أخيها، فتعتمر، فتأتي إليه صلى الله عليه وسلم، فيقول: (أفرغتم؟ فتقول: نعم، فيؤذن أصحابه بالرحيل).

وفي موقف آخر أبعد من هذا كان النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه في غزاة، ففقدت عقداً لها رضي الله عنها، وحبس النبي صلى الله عليه وسلم الناس يبحثون عن هذا العقد، ويأتي أبو بكر الصديق رضي الله عنه إليها، والنبي صلى الله عليه وسلم نائم على حجرها، فيقول: حبست رسول الله صلى الله عليه وسلم والناس، وليسوا على ماء، وليس معهم ماء؟! قالت: فما يمنعني أن أتحرك إلا مقام رسول الله صلى الله عليه وسلم على فخذي، ويقيمون البعير فتدركهم الصلاة وليسوا على ماء، فتنزل آية التيمم، فيقول أسيد رضي الله عنه: ما هذه بأول بركتكم يا آل أبي بكر.

إن النبي صلى الله عليه وسلم يحبس الجيش هنا كله، ويبقيه ينتظر هذا العقد، والقضية ليست قضية رجل يتعلق بالدنيا حاشا وكلا، إنما هي مراعاة لمشاعر تلك المرأة، تلك المشاعر المرهفة عند مثل هذه المرأة، التي تقيم لهذا العقد وزناً، فيحبس النبي صلى الله عليه وسلم الجيش، ويحبس الناس، ويأتي أبو بكر الصديق رضي عنه غاضباً إلى عائشة : كيف حبست الناس؟! ويبقيهم صلى الله عليه وسلم حتى أدركتهم الصلاة وليسوا على ماء، وليس معهم ماء.

وتأتي رضي الله عنها تنظر إلى أهل الحبشة وهم يلعبون في المسجد، ويقف صلى الله عليه وسلم يسترها، وهي جارية لا تمل اللعب، حتى تمل وتنصرف بعد ذلك، فينصرف صلى الله عليه وسلم.

ونرى أيضاً هذا الخلق وتلك الرقة عنده صلى الله عليه وسلم مع الأولاد، فيأتي إليه الصبي فيقبله صلى الله عليه وسلم، فيعترض عليه رجل جالس عنده، فيقول: تقبلون الصبيان؟ إن لي عشرة من الولد ما قبلت أحداً منهم، فيقول له صلى الله عليه وسلم: (أو أملك أن نزع الله الرحمة من قلبك؟!) وفي الحديث الآخر أيضاً يقول النبي صلى الله عليه وسلم: (من لا يرحم لا يرحم).

ويأتي النبي صلى الله عليه وسلم وصبي يحتضر، وروحه تقعقع، فيحمله صلى الله عليه وسلم، ثم تنزل قطرات من الدمع من عينيه صلى الله عليه وسلم، ويتساءل أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم: كيف يرق؟! كيف لهذا القلب الكبير أن يحمل هذه العاطفة لمثل هذا الصبي؟! فيقال: ما هذا؟ فيقول: (هذه رحمة يجعلها الله في قلوب من يشاء من عباده).

ويموت ولده إبراهيم ، ويبكي صلى الله عليه وسلم ويقول: (إن العين لتدمع، وإن القلب ليحزن، وإنا لفراقك يا إبراهيم لمحزونون).

في حين يأتي أحد المتصوفة، ويرى أنه سيبلغ هدياً أكمل من هدي النبي صلى الله عليه وسلم، وهو يشعر أنه قد أمر بالصبر على فقد الأولاد، والرضا ، فحين يموت ولده يقوم هذا الرجل يرقص على قبره فرحاً بهذه المصيبة، ويظن أنه قد بلغ منزلة من الرضا بقضاء الله عز وجل وقدره عالية، بينما هو قد فقد تلك المنزلة العالية التي سما إليها النبي صلى الله عليه وسلم حين يجمع بين الصبر والرضا بقضاء الله عز وجل، ويجمع بين الرحمة والرقة والعاطفة التي لا يفتقدها إلا إنسان شاذ.

ويأتي الحسن والنبي صلى الله عليه وسلم يصلي ساجداً، فيصعد على ظهر النبي صلى الله عليه وسلم، كما روى النسائي من حديث عبد الله بن شداد رضي الله عنه، فيطيل النبي صلى الله عليه وسلم السجود، حتى يقوم هذا الغلام، فيسأله أصحابه، فيقول: (إن ابني هذا ارتحلني فكرهت أن أقوم حتى يقضي حاجته).

ويدخل وهو يخطب صلى الله عليه وسلم، فينزل صلى الله عليه وسلم من على منبره، ثم يحمله، ويقول: (إن ابني هذا سيد، وسيصلح الله به بين طائفتين عظيمتين من طوائف المسلمين).

وتتجاوز رحمة النبي صلى الله عليه وسلم وعطفه بني الإنسان إلى البهيمة والحيوان، فيروي عبد الله بن جعفر عنه صلى الله عليه وسلم: (كان أحب ما استتر به رسول الله صلى الله عليه وسلم لحاجته هدفاً أو حائش نخل، فيدخل صلى الله عليه وسلم حائط رجل من الأنصار، فإذا فيه جمل، فلما رأى النبي صلى الله عليه وسلم حن، وذرفت عيناه، فأتاه رسول الله صلى الله عليه وسلم، فمسح ذفراه، فسكت، فقال صلى الله عليه وسلم: من رب هذا الجمل؟ لمن هذا الجمل؟ فجاء فتىً من الأنصار، فقال: لي يا رسول الله. فقال له: أفلا تتقي الله في هذه البهيمة التي ملكك الله إياها؟! فإنه شكى إلي إنك تجيعه وتدئبه)، والحديث رواه أبو داود .

وفي حديث آخر عند أبي داود من حديث عبد الرحمن بن عبد الله بن مسعود رضي الله عنهما عن أبيه قال: (كنا مع النبي صلى الله عليه وسلم في سفر، فانطلق لحاجته، فرأينا حمرة معها فرخان، فأخذنا فرخيها، فجاءت الحمرة فجعلت تعرش، فلما جاء رسول الله صلى الله عليه وسلم قال: من فجع هذه بولدها؟ ردوا ولدها إليها).

أرأيتم ذلك القلب الكبير، ذلك القلب العظيم، الذي لم تقف رحمته عند حدود زوجته، أو عند حدود رعيته، أو حتى عند الأطفال، لتتجاوز إلى الحيوان، فيكلم النبي صلى الله عليه وسلم أحد أصحابه بشأن جمل له يجيعه ويدئبه، وكأن هذا الجمل يشعر ويرى الرحمة في قلبه صلى الله عليه وسلم، فتذرف عيناه، مرسلة رسالة إلى النبي صلى الله عليه وسلم، إلى صاحب الرحمة صلى الله عليه وسلم، المرسل رحمة للعالمين، بكل ما تحمله هذه الكلمة، فهو رحمة للناس من عذاب جهنم، ومن فيح جهنم، وهو رحمة للناس في أمور دينهم، وهو -صلى الله عليه وسلم- رحمة حتى لهذه البهائم.

ولهذا يصفه الله عز وجل فيقول: فَبِمَا رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَلَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ [آل عمران:159]، وقال تعالى: لَقَدْ جَاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ مَا عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ [التوبة:128].

ويصفه حسان رضي الله عنه بأوصاف يعجز عنها البلغاء:

وأجمل منك لم تر قط عيني وأحسن منك لم تلد النساء

خلقت مبرأً من كل عيب كأنك قد خلقت كما تشاء

ويقول:

عطوف عليهم لا يثني جناحه إلى كنف يحنو عليهم ويمهد

رءوف بهم صلى الله عليه وسلم، ولهذا لا غرو أن يقولوا حين دفنوه صلى الله عليه وسلم: ما إن نفضنا التراب عن أيدينا حتى أنكرنا قلوبنا.

قال حسان رضي الله عنه:

لقد غيبوا حلماً وعلماً ورحمة عشية واروه الثرى لا يوسد

وراجوا بحزن ليس فيهم نبيهم وقد وهنت منهم ظهور وأعضد

لقد غيبوا النبي صلى الله عليه وسلم في الثرى، فغيبوا العلم والحلم كما قال حسان رضي الله عنه، ولهذا أنكروا قلوبهم بعده صلى الله عليه وسلم.

وإذا رحمت فأنت أم أو أب هذان في الدنيا هما الرحماء

وإذا خطبت فللمنابر هزة وإذا وعظت فللقلوب بكاء

وإذا غضبت فإنما هي غضبة لله لا حقد ولا شحناء

هو النبي صلى الله عليه وسلم، وهذا هو هدي النبي صلى الله عليه وسلم، صاحب القلب الكبير، القلب الرحيم العطوف، مع ما يحمله صلى الله عليه وسلم من عبء الرسالة، وهم حمل هذه الديانة والشريعة إلى البشرية كلها أجمع، مع ذلك كله يجد الغلام في قلبه صلى الله عليه وسلم مكاناً له، والحيوان يجد مكاناً له؛ لرأفته ورحمته صلى الله عليه وسلم.

أفبعد ذلك كله نطالب الناس أن يتجردوا عن عواطفهم، أن يتجردوا عن مشاعرهم، وعما جبلهم الله عز وجل عليه؟!

رابعاً: يحفل الأدب بأساليب تعبر لك عن معاناة يتيم، أو معاناة أرملة، أو معاناة من فقد فقيداً له، وتقرأ هذه الأبيات فلا تملك إلا أن تتجاوب معها، وتعيش وكأنك ترى حال صاحبها، وكأن النعي ما يقوله الشاعر في وصف تلك الأرملة:

لقيتها ليتني ما كنت ألقاها تمشي وقد أثقل الإملاق ممشاها

أثوابها رثة والرجل حافية والدمع تذرفه في الخد عيناها

بكت من الفقر فاحمرت مدامعها واصفر كالورس من جوع محياها

إنك حين تسمع هذه الأبيات لا تملك إلا أن تتفاعل مع مثل هذا الموقف، ويرق قلبك وفؤادك لمثل هذه الأرملة المسكينة، التي يصفها الشاعر، وربما لم يكن رآها قط، ربما كانت قضية من نسج الخيال، لكن النفس مفطورة على تذوق الرواية التي تصور لك مأساة هذا الرجل الفقير أو المسكين، أو ذاك المظلوم.

خامساً: ونرى أثر العاطفة في إذكاء الحماسة، بل نرى ذروة سنام الإسلام الجهاد في سبيل الله، نرى أن المسلمين يحتاجون إلى من يشعل حماسهم، لقد وقف المسلمون في غزوة مؤتة حين بلغهم جمع الروم، وقفوا يتشاورون ماذا يصنعون، أيطلبون مدداً من النبي صلى الله عليه وسلم؟ أم ماذا يصنعون؟

فقام عبد الله بن رواحة رضي الله عنه، وقال: أيها الناس! إن التي تكرهون للتي خرجتم تطلبونها الشهادة، والله إنا لا نقاتل الناس بعدد ولا عدة، إنما نقاتل الناس بهذا الدين، قالوا: فحمس عبد الله الناس، فمضوا إلى أمرهم.

أرأيت كيف يصنع الحماس؟ أرأيت كيف توقظ هذه الحماسة أصحابها، فتدفعهم إلى الجهاد، تدفعهم إلى أن يلغوا ذاك الخيار الذي اجتمعوا من أجله، وحين سار رضي الله عنه وودعهم أهل المدينة، قالوا: حفظكم الله وردكم إلينا، قال: لا ردني الله إليكم.

وسار ومعه غلام في حجره وهو زيد بن أرقم رضي الله عنه، سار وصار يتغنى ويخاطب راحلته:

إذا أدنيتني وحملت رحلي مسيرة أربع بعد الحساء

فشأنك أنعم وخلاك ذم

ولا أرجع إلى أهلي ورائي

وجاء المسلمون وخلفوني بأرض الشام مشتهر الثواء

وردك كل ذي نسب قريب إلى الرحمن منقطع الإخاء

هنالك لا أبالي طلع بعل ولا نخل أسافلها رواء

فبكى زيد رضي الله عنه، فوخزه وقال: لا عليك يا لكع أن يرزقني الله الشهادة، وترجع بين شعبتي الرحل؛ لأنه قد يكون أبقى له مكاناً.

وكأنك ترى في حال هذا الصحابي الجليل وقد عقد العزيمة على ألا يعود، ويسأل الله عز وجل أن يخلفه المسلمون بأرض الشام، وحين قتل صاحباه، وتقدم تردد وتلكع، فقال أبياتاً يستحث فيها نفسه:

أقسمت يا نفس لتنزلنه لتنزلنه أو لتكرهنه

إن أجلب الناس وشدوا الرنة ما لي أراك تكرهين الجنة

فيخاطب نفسه بهذه الأبيات، ثم يدفعها دفعاً إلى ميدان الشهادة، فيمضي رضي الله عنه مع صاحبيه.

وهكذا حين تقرأ في السير، قبل المعركة يجمع القائد جنده وجيشه، فيخاطبهم، ويحمسهم، ويحثهم على الاستشهاد في سبيل الله، ويبين لهم فضل الشهادة، وفضل الجهاد في سبيل الله؛ حتى يوقد حماستهم وعزيمتهم إلى الجهاد في سبيل الله عز وجل.

وما ترى معركة أو غزوة قادها المسلمون إلا وترى الشعراء والخطباء قد أوقدوا حماسة الناس لهذا الجهاد، أيسوغ بعد ذلك أن ندعو إلى إلغاء الحماس والعاطفة؟!