غياب الاعتدال


الحلقة مفرغة

الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على أشرف الأنبياء والمرسلين نبينا محمد، وعلى آله وصحبه أجمعين.

أما بعد:

فأسأل الله تبارك وتعالى في هذه الليلة المباركة أن يتقبل منا ومنكم صالح الأعمال ويجعلنا وإياكم ممن وفق لصيام هذا الشهر وقيامه إيماناً واحتساباً؛ إنه سميع مجيب.

أيها الإخوة الكرام! الاعتدال هو سنة الله تعالى في خلقه، إن هذا الخلق كله قائم على هذه السنة، على سنة الاعتدال، ولو تأملت هذه الظاهرة في مظاهر هذا الخلق وسعيت إلى أن تحصي أفرادها وأمثلتها لضاق بك المقام.

إن هذه الشمس التي تضيء للناس لو اقتربت من الأرض أكثر مما هي عليه لأحرقت الناس، وأحرقت هذه الأرض، ولو ابتعدت لتحولت الأرض إلى جليد، والقمر الذي يضيء في الليالي المقمرة ويتغزل الشعراء به ويهتفون، ويشبهون به من يصفونه بالجمال، لو زاد ضوؤه وصار كضوء الشمس لتحول الليل إلى نهار، ولغابت هذه الحكمة، فالله تبارك وتعالى جعل الليل سكناً، وجعل النهار معاشاً، وهكذا لو تأملت في كل مظاهر خلق الله عز وجل لرأيت أن ذلك كله قائم على الاعتدال، حتى ما يحبه الناس ويسعون إليه ويفرحون به له قدر إذا جاوزه صار منفراً، إن الناس يحبون الجمال ويسعون إليه وربما أنفقوا عليه مبالغ باهضة، لكن هذا الجمال له قدر إذا جاوزه صار مذموماً، فاللوحة الجميلة التي يعتني بها الرسام لو زاد فيها في نسبة الألوان أو في بعض العناصر التي يعتبر الناس أنها منطلق الجمال لتحولت إلى منظر قبيح.

وبياض البشرة يعده الناس جمالاً لمن أوتوا هذه الصفة، لكنه إذا زاد تحول إلى برص ولون منفر، ولا يصلح الناس طعامهم إلا بالملح أو بالسكر فيما اعتادوا أن يتناولوه حلواً، وبدونه لا يصلح الطعام، لكن هذا أيضاً حين يزيد عن قدره يصبح ممجوجاً.

والناس في شدة الحر يلجئون إلى التبريد ويسعون إليه، وإذا زاد عن قدره أصبح مؤذياً، ويشربون الماء البارد، وإذا زاد عن قدره صار مؤذياً، وفي شدة البرد يلجئون إلى أجهزة التدفئة يغتسلون ويستحمون بالماء الدافئ، وحين يزيد عن قدره يصبح مؤذياً.

وهكذا -أيها الإخوة- لو بقينا نتحدث عن مظاهر الاعتدال في هذا الخلق لضاق بنا المقام، فكل ما يحبه الناس ويسعون إليه ويريدونه، بل ربما يدفعون فيه المبالغ الباهضة ينبغي أن يبقى بقدر، فإذا جاوز هذا القدر تحول إلى أمر ينفر الناس منه، بل يسعون إلى الاستشفاء منه.

وجاء شرع الله تبارك وتعالى على وفق سنة هذه الحياة؛ لأن هذا الشرع جاء ليصلح حياة الناس، والناس لا تصلح حياتهم إلا بالاعتدال، ولهذا كان من سمات هذا الشرع الوسطية والاعتدال، ولو تأملت ذلك في كافة أحكام الشريعة لرأيت هذه السمة ظاهرة واضحة بارزة، وامتن الله عز وجل على هذه الأمة بأنها أمة الوسط، وجمعت معاني الوسطية: الخيرية والاعتدال، فقد حماها الله عز وجل من الغلو الذي وقع فيه من سلف من الأمم السابقة، وحماها تبارك وتعالى من الغلو في الطرف الآخر، إن هذه الأمة تعظم نبيها صلى الله عليه وسلم وتجله وتحبه وتطيعه، بل لا يتم إيمان عبد حتى يكون صلى الله عليه وسلم أحب إليه من ولده ووالده والناس أجمعين، كما أخبر صلى الله عليه وسلم، لكنها لا تغلوا فتفعل كما يفعل النصارى الذين ألهوا نبيهم وجعلوه رباً من دون الله، ولا تجفو كما يجفو إخوان القردة والخنازير الذين كانوا يؤذون الأنبياء، بل يقتلونهم بغير حق، وهكذا شأن هذه الأمة في الشرع والأخلاق والدين.

فالاعتدال -أيها الإخوة- هو سنة الله في الحياة، وهو سمة هذا الشرع، وهو صفة هذه الأمة، ومن هنا كنا بحاجة إلى أن نتصف بهذه الصفة، كنا بحاجة إلى أن نتجنب طرفي الأمور، فكلا الطرفين مجانبة للاعتدال.

الاعتقاد والتوحيد

إن هناك مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة الناس، وحين يغيب قد يؤدي إلى غلو مذموم ممقوت يعتقد صاحبه أنه يحسن صنعاً، وقد يؤدي إلى جفاء وإفراط.

فالاعتقاد والتوحيد مبناه على الاعتدال، ولهذا أنكر الله عز وجل على أهل الكتاب: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].

وأضرب لكم مثلاً في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أمور الإيمان، بل مما لا يتم الإيمان إلا به، فمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم من الإيمان، لكن هذا التعظيم له قدره، فإذا جاوزه قد يؤدي بصاحبه إلى الشرك بالله تبارك وتعالى، كما نرى ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم وينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر).

كذلك في إثبات ما أثبت الله عز وجل لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى، فمن الناس من غالى في إثبات الصفات والأسماء التي وصف الله عز وجل بها نفسه وسمى بها نفسه، فغالى في ذلك، فأدى به ذلك إلى التشبيه والتجسيم وغير ذلك مما يقع فيه هؤلاء الغلاة، ومنهم من غالى في الطرف الآخر ففر من أن يشبه الله عز وجل بخلقه فغالى في نفيها وإنكارها.

العبادة

وكذلك العبادة، فإنما خلق الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولا يلام الإنسان على العبادة أبداً، تلاوة القرآن، الصلاة، الصيام، قيام الليل، الإنفاق، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، من الذي يقول: إن العبادة شر أو: إن فيها شراً؟ لكن هذه العبادة أيضاً لها قدر محدود إذا جاوزه الإنسان فشق على نفسه فقد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك حين جاء طائفة من أصحابه، فسألوا عن عبادته فتقالوها، فشعروا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك وقال: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له)، وحين تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأة من قريش وكان قد عمر ليله بالقيام ونهاره بالصيام أتى والده عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي حاله، فدعاه صلى الله عليه وسلم فسأله: (كيف تختم القرآن؟ قال: كل ليلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسبك أن تختم كل أربعين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: كل ثلاثين يوماً، كل جمعة، إلى أن قال: في كل ثلاث، ثم سأله عن صيامه، فكان يصوم كل يوم، فقال: بحسبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر) إلى أن أوصله إلى أن يصوم يوماً ويفطر آخر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيفك- عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وحين رأى صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدوداً بين ساريتين، قال: (لمن هذا؟ قالوا: لـزينب ، تصلي فإذا فترت تعلقت به، فقال: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)، وحين حدثته عائشة رضي الله عنها عن امرأة رآها عندها، فكانت تذكر من صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، والشواهد على ذلك كثيرة.

إن العبادة والصلاة وتلاوة القرآن -أيها الإخوة الكرام- من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، لكن تحتاج إلى اعتدال، فلا يشق الإنسان على نفسه ولا يشق المرء على نفسه، وإذا شق على نفسه جاوز القدر المشروع وخالف سنة أعبد الناس وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم.

ومن المجالات التي قد يشدد بعض الناس ويبالغ فيها في العبادة: مبالغة بعض الناس في الحديث عن شروط العبادة، وشروط أعمال القلوب والتشديد فيها، إنك حين تسمع بعض من يتحدث عن الصلاة وعن الخشوع فيها، فيتحدث ويشدد هذا الأمر حتى كأن المصلي نادر، فيقول: إن هؤلاء الذين يصلون يندر فيهم من يخشع في صلاته، يندر فيهم من تقبل صلاته، يندر فيهم من يصلي كما أمر الله عز وجل.. إلى آخره، كأن الناس هؤلاء كلهم لا يؤدون هذه الصلاة وهذه الفريضة، والبعض حين يتحدث عن بعض أعمال القلوب قد يكلف الناس ما لا يطيقون، قد يتحدث البعض عن الإخلاص، وهو أمر عزيز، لكن يتحدث عنه بأنه نادر جداً، ومن النادر أن تجد الإنسان المخلص.

إذاً: وما شأن بقية الناس؟! وهل هذا هو الدين الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر)؟! أين هذا من نصوص القرآن المحكمة الواضحة ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم؟

إذاً -أيها الإخوة-: التشديد والمبالغة ومجاوزة القدر حتى ولو كان في عبادة الله عز وجل؛ إذا جاوز الإنسان القدر الشرعي القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في كتاب الله، فإنه يصبح أمراً مذموماً.

السلوك الشخصي

وهذان المجالان من أكثر ما يقع فيه الغلو في الدين، وليس حديثي عن هذا، ليس حديثي عن الغلو في العبادة وما يتعلق بها، فإن غالب حالنا اليوم هو التفريط والله المستعان، وإن وجدت حالات من الغلو والشطط -سواء في الاعتقاد أو في العمل والسلوك- فإنها حالات قليلة، لكن الظاهرة التي أعتقد أننا نشتكي منها كثيراً، هي أن الاعتدال يغيب كثيراً في تفكيرنا، يغيب كثيراً في حديثنا، في آرائنا، في مواقفنا، في وزننا للأمور، وهذا ما أريد أن أركز الحديث حوله.

ولهذا أنتقل إلى المجال الثالث من مجالات الاعتدال: السلوك الشخصي.

ثمة صفات محمودة يحبها الناس، لكنها بقدر، فالشجاعة إنما تطلب بقدر، وقد تنقلب تهوراً، ويعتقد الإنسان أنه كلما ازداد فيها أصبح الأمر محموداً، والحلم مطلوب، لكنه قد ينقلب عند بعض الناس إلى ضعف وخور، فلا يغضب لما ينبغي أن يغضب المسلم من أجله، وهكذا سائر الصفات.

والغيرة على حرمات الله عز وجل قد تتحول عند البعض إلى جفاء في التعامل مع أهل المعصية، جفاء في التعامل مع الناس.

وحسن الخلق واللطافة قد تتحول أحياناً بالإنسان إلى أن يترك الحزم في المواطن التي ينبغي أن يحزم فيها.

السلوك الشخصي سلوك الإنسان في حياته، في تعامله مع وقته، في تعامله مع نفسه، في تعامله مع الآخرين، ينبغي أن يقوم على الاعتدال، والصفة المطلوبة أياً كانت، إنما تطلب بقدر كالملح في الطعام، كالبرودة في الماء الذي لا يستسيغه الناس إلا بارداً، إنما تطلب بقدر، فإذا جاوزت هذا القدر أصبحت قد جاوزت الاعتدال، سواء أكانت في هذا الطرف أو في الطرف الآخر.

تقويم الأشخاص والمشروعات والهيئات والجماعات

المجال الرابع: التقويم، في تقويم الأشخاص كثيراً ما نفتقد الاعتدال، فنحن في الغالب ندور بين مديح مبالغ فيه وثناء مفرط فيه، أو ذم مبالغ فيه، وقلما نعتدل في تقويمنا للأشخاص، فحين يعجبنا شخص نسعى إلى أن نبرر أخطاءه، ونسعى إلى أن نبرر مواقفه، قد يعجبنا إنسان في علمه وتقواه وورعه، قد تجد إنساناً عالماً تقياً ورعاً صالحاً، لكن هذا الإنسان لا يجيد التعامل مع الآخرين ويجفو مع الآخرين؛ بطبيعته وببشريته، فالناس بشر ولا يمكن أن تجد في كل إنسان كل ما تريده، والذي يعتدل في تقويمه لا يحول هذه السمة والسلوك الشخصي إلى حسنة، فيرى أن هذا الجفاء وهذه الغلظة أمر مطلوب حتى يأخذ الناس بالحزم والعزم والجد.. إلى آخره.

وقد يوجد نموذج آخر، قد يوجد إنسان فيه نوع من الضعف البشري، وإن كان أعطاه الله عز وجل علماً ورأياً وحكمة، فيستسلم للناس ويغير الناس مواقفه وتتغير آراءه ويستجيب لكل من طلب منه موقفاً أو رأياً فيعده الناس وحسن الخلق، نعم هو حسن الخلق، لكنه قد جاوز الاعتدال.

المقصود -أيها الإخوة- أن البشر مهما كانوا ستبقى فيهم سمات البشر، سيبقى في كل إنسان جانب من جوانب القصور، وإذا أخذنا الناس بهذا الأمر وافترضنا البشرية في الناس؛ فإننا لن ننتظر منهم الكمال ولن نحاسبهم على الكمال، وفي المقابل سنضع أخطاءهم في إطارها الطبيعي، وسنضع شخصياتهم في إطارها الطبيعي.

إننا اليوم على مستوى الشخصيات الدعوية أصحبنا نعرف مصطلحاً واحداً هو مصطلح ما نسميه (الشيخ)، فمن يستطيع أن يتحدث أمام الناس، يستطيع أن يكتب للناس، هذا الإنسان نطلق عليه لقب (الشيخ)، وحين يستحق هذا اللقب وهذا الوصف؛ يصبح مؤهلاً لكل شيء، أن يتحدث في كل موضوع، أن يفتي، أن يستشار، أن يتحدث في كل قضية، أن يستشار في كل أمر يعرفه ولا يعرفه، يحسنه أو لا يحسنه، فهذا الأمر ليس صحيحاً، فقد ينبغ إنسان في جانب من الجوانب، قد ينبغ إنسان في ميدان الفقه والفتوى، قد ينبغ إنسان في ميدان الوعظ والتأثير على الناس، قد ينبغ إنسان في ميدان الإصلاح، قد ينبغ إنسان في ميدان الرأي والحكمة، فينبغي أن نضعه في إطاره، ولن يعيبه أن يفقد أمراً آخر مما يملكه الآخرون، وقل مثل ذلك في النقد، فإنك ستجد عند الناس عيوباً، لابد أن تجد عند الناس عيوباً، إما تلك العيوب التي هي من طبيعة البشر، فمن الناس من يكون متعجلاً، ومن الناس من يكون شديد الغضب، فالناس لهم صفات ولهم سمات، وهذه الصفات تترك أثراً على شخصياتهم، وإما تلك العيوب التي هي نتيجة خطأ أنسيه، نتيجة اجتهاد، نتيجة أمر لا يسلم منه البشر، فحين نجد خطأً أو أخطاء عند فلان من الناس فإن هذا لا يعني أن يصبح مثل الشيطان الرجيم لا نذكره إلا بالسوء ولا نتحدث عنه إلا بالسوء.

المقصود -أيها الإخوة- أننا بحاجة إلى الاعتدال في تقويمنا للأشخاص.

أيضاً: في تقويمنا للمشروعات والأعمال كثيراً ما يغيب الاعتدال عنا، فنحن إما أن نقف مع هذا المشروع وهذا العمل مائة في المائة وندافع عن كل جزئية فيه، وإما أن نقف ضده تماماً ونعتبره سوءاً وشراً وأمراً مخالفاً، سمعنا من يتحدث عن تفطير الصائمين في هذا الشهر الذي هو ظاهرة نراها من خير الظواهر في مثل هذا المجتمع، يتحدث عن هذا بأنه إضاعة للمال وأن هذا الأمر لا يجوز .. إلى غير ذلك، إنه صورة من صور المبالغة، نعم قد يكون للإنسان وجهة نظر في بعض أساليب هذه الأعمال، قد يكون له تحفظ على بعض ما يصاحبها، والناس سيختلفون في الرأي في مثل هذه الأعمال، لكن بهذه الصورة المتطرفة التي تجعلها إضاعة للمال مع أنها تفطير للصائم، والكبد الرطبة فيها أجر؟! والإسلام قد شرع أن يعطى الكفار من الزكاة تأليفاً لهم على الإسلام، فكيف بغيرهم من الناس؟! إنها صور من مجانبة الاعتدال.

وكذلك تقويم الهيئات والجماعات والجهات الدعوية:

فاليوم انتشر في الساحة الإسلامية هيئات إسلامية، جمعيات، جماعات، أحزاب، منظمات، ومعظمها يريد الخير، يريد الدعوة، معظمها يغلب عليه الخير، لكنها تتأثر بواقع مجتمعاتها، تتأثر بواقع أولئك الذين يقودونها، فيكون فيها من الضعف والقصور ما يكون فيها، تقويمنا لواقع هذه الهيئات والجماعات لا يكاد يخلو من الغلو، لا يكاد يخلو من المبالغة مدحاً أو قدحاً، وقلما تجد التقويم المعتدل الوسط، فإما أن تجد من يتصيد الأخطاء فيبحث عنها ويصور لك هؤلاء الدعاة إلى الله عز وجل على أنهم جيش من المفسدين الضالين التائهين، وإما أن تجد في الطرف الآخر من يبرر الخطأ ويفسره تفسيراً آخر، فلا هذا ولا ذاك.

إن الاعتدال -أيها الإخوة- كثيراً ما يغيب في تقويمنا، تقويمنا للناس، تقويمنا للأعمال، للمشروعات، للهيئات، للجمعيات وغيرها، والتقويم يحتاج إلى أن يكون معتدلاً فينظر إلى الأمور من كافة جوانبها.

الأفكار والمشروعات

المجال الخامس: الأفكار والمشروعات:

نقدم أفكاراً ونطرح مشروعات قد نتبناها وقد نعمل بها وقد نقدمها للناس، وقد تكون أفكاراً فيها فرص للنجاح، فيها فرص لأن يتحقق منها فائدة، لكننا كثيراً ما نبالغ ونجاوز الاعتدال في حديثنا عن أفكارناً، في حديثنا عن مشروعاتنا، فحين يقدم الإنسان فكرة يعتقد أنها ستؤدي إلى حل مشكلة أو علاج ظاهرة، فإنه يبالغ في وصفها، يبالغ في فرص النجاح التي يتوقعها منها، بل ربما أدى به ذلك إلى أن يسفه أولئك الذين لا يشاركونه الغلو نفسه في الحماس لهذه الفكرة.

أقول: قد يقدم أفكاراً جميلة ومشروعات، وليس من العيب أن نتحمس لمشروعاتنا، وأن نتحمس لأفكارنا، لكن ينبغي أن نضعها في إطارها الطبيعي، انظر إلى أولئك الذين يتحدثون عن أفكارهم، عن مشروعاتهم، عما يقترحون، تجد أن نسبة كبيرة من هؤلاء، يبالغون في تصورهم للأثر الذي ستتركه هذه الأفكار والمشروعات، يندفعون بحماس لها، وأيضاً يزيدون على ذلك أن يتضايقوا من أولئك الذين لا يشاركونهم الغلو نفسه في الحماس لأفكارهم، إنك تجد من الناس من يريد الجميع في هذا القالب، يريد الجميع أن يتحمسوا لهذه الفكرة كما يتحمس لها وكما يعمل لها، لا نعيب على إنسان أن يتفرغ لمشروع، أن يهتم بأمر وأن يفرغ وقته وجهده له، لكن هذا شيء والغلو والمبالغة في وصفه والثناء عليه وافتراض النجاح فيه شيء آخر.

الآراء الشخصية

الجانب السادس: الآراء الشخصية:

قد تكون لنا آراء شخصية، وستكون لنا آراء في أمور كثيرة، خاصة أن هناك مساحة واسعة جداً تتسع للآراء من المشروعات الدعوية، والوسائل الإصلاحية، والأفكار التي يمكن أن يكون لها دور في إصلاح المجتمع وغير ذلك، جانب كبير منها هو رأي شخصي، حينما أقدم رأياً حول أسلوب دعوة النساء في الأسواق؛ إذ النساء اليوم ينتشر بينهن التبرج في الأسواق، حينما أقدم فكرة حول دعوة الطالبات في الجامعات والمدارس مثلاً، تبقى رأياً شخصياً يحتمل النجاح والفشل، يحتمل الخطأ والصواب، وكثير من الخلافات والمخترعات التي تدور هي في هذه الدائرة، فحديثنا عن هذه الآراء الشخصية يتجاوز القدر الطبيعي، فنبالغ في حديثنا عن الآراء الشخصية مدحاً وذماً وقدحاً وحماساً إلى غير ذلك.

الاختيارات الفقهية

الجانب السابع: الاختيارات الفقهية:

هناك مسائل جاءت فيها نصوص واضحة، ولهذا فإنك ترى الأمة لم تختلف فيه، أو ترى جمهور الأمة قد اتفقوا عليها، لكن هناك مسائل هي محل خلاف بين أهل الفقه، ولا يزال أهل العلم يختلفون فيها، وسيبقون مختلفين إلى أن تقوم الساعة، فإذا كان هذا الاختلاف وسع أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم وحصل في زمن النبي صلى الله عليه وسلم فكيف بمن بعده؟!

قد يترجح عند الإنسان رأي في مسألة فقهية فيغلو في ترجيح هذا الرأي له، ويأخذ الأدلة الكثيرة جداً على تحريم هذا الأمر أو على وجوبه أو على استحبابه أياً كان، ويخيل للناس أن هذا البحث الذي قام به أو هذا التقرير الذي قرره سيضع النقاط على الحروف وسيغلق الباب في مثل هذه المسألة إلى غير ذلك، ويتحدث في المسألة على أن هذا الحديث حق لا يقبل النقاش، وعلى أن أولئك الذين يرفضونه يرفضون الحق، يرفضون الدليل، نعم كثيراً ما يترجح رأي لطالب في مسألة اجتهادية، ويرى أنه قد لا يسوغه أن يقول بغيرها، لكن هذا شيء والقطع والمبالغة في الرأي فيها شيء آخر.

دعوني أضرب على ذلك مثلاً: تعلمون أن حلي المرأة اختلف أهل العلم في وجوب الزكاة فيه، فالجمهور على أنه لا تجب فيه الزكاة، ومعظم أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم نقل عنهم الفتوى بعدم وجوبه، وهناك رأي آخر -وله أدلته- أن الزكاة واجبة في الحلي، لا نريد أن نقرر هذه المسألة الفقهية، لكن هذا خطيب يخطب أمام الناس ويتحدث عن أولئك الذين لا يؤدون زكاة الحلي، ويقول: إن هؤلاء من حطب جهنم .. إلى غير ذلك، وهناك فرق بين من يمتنع عن الزكاة، ولا يؤدي الزكاة، وبين من يرى أنه لا يجب عليه أن يخرج الزكاة في هذا المال، وقد وسع هذا أصحاب النبي صلى الله عليه وسلم فكيف لا يسع غيرهم؟! نعم كثيراً ما يشعر طالب العلم أنه لا يسعه إلا هذا، قد يشعر أنه لا يسعه إلا أن يخرج الزكاة في هذا، لا يسعه إلا أن يعمل بهذا القول وذاك، لكن هذا شيء وأن يلزم الناس به شيء آخر، وأن يرتب عليه الأحكام شيء آخر.

وهاهنا نقطة مهمة ينبغي أن نشير إليها: ففي المسائل الاجتهادية كثيراً ما تجد رأياً يميل إلى الحزم والتشديد ورأياً يميل إلى التيسير، لا يعني ذلك أن الذي يختار رأياً فيه تشديد -كالذي يختار إيجاب الزكاة في هذا المال أو ذاك، وكالذي يختار بطلان الصلاة والوضوء بهذا العمل- لا يعني أنه غال، إذا تحقق فيه شرطان: إذا كان هذا الرأي عن اجتهاد وهو من أهل الاجتهاد أو قلد من هو أهل أن يقلد في ذلك، ولم يشدد على الناس في هذا الأمر، ولم يتجاوز هذا القدر، فإن اختياره لهذا الرأي الأحوط والأشد لا يعني الغلو، ولا ينبغي للطرف الآخر أن يتهم هذا الإنسان بالغلو؛ لأنه اختار هذا الرأي الأحوط والأشد، بل إن الناس يختلفون ويتفاوتون كما سيأتي في الحديث، فقد تجد من الناس من يغلب عليه أنه يأخذ بالعزيمة في آرائه وفتاواه حتى في حلفه للناس، وبعض الناس يغلب عليه الأخذ بالتيسير، وهذا الأمر منذ سلف الأمة وإلى قيام الساعة.

المقصود: أن من يختار هذا الاجتهاد لا يعني ذلك أنه قد غلا، إنما الغلو هو أن يجاوز القدر، حين يقرر هذه المسألة يجعل من خالفها مبتدعاً، ويجعل من خالفها فاعلاً للمعصية، ويجعل من خالفها فيه كذا وكذا، إلى غير ذلك.

الظواهر الاجتماعية

الجانب الثامن: الظواهر الاجتماعية:

حديثنا عن الظواهر الاجتماعية تكثر فيه المبالغة، في حديثنا عن حجم الظاهرة، حين نتحدث عن أي ظاهرة في المجتمع أياً كانت هذه الظاهرة، وكان المتحدث عنده حماس لهذا الموضوع أقلقه أزعجه، فإنه لا يفرق بين خطورة الشيء وبين حجمه في المجتمع، وبينهما فرق كبير.

فنحن نعلم -مثلاً- أن المخدرات خطيرة، وانتشارها خطير، لكن هذا شيء، وحجم انتشارها في المجتمع شيء آخر، الفساد الخلقي خطير والفواحش، ويكفي أن الله عز وجل عاقب أقواماً وأمماً أعلنوا بهذه الفواحش وأظهروها، لكن هذا شيء وانتشارها في المجتمع شيء آخر، فقد يغلب علينا النظر إلى خطورة الظاهرة فنعممها في المجتمع، ونبالغ في الحديث عن حجمها ونكسيها أكبر من حجمها، وفرق بين أن تكون الظاهرة خطيرة وبين أن تكون الظاهرة منتشرة، نعم هناك من الظواهر ما لو لم توجد إلا بنسبة قليلة ينبغي أن نتحدث عنها ونحذر منها، لكن فرق بين أن نحذر منها ونتحدث عنها وبين أن نقول: إنها انتشرت وعمت وطمت، ولهذا تسمع هذه الكلمة كثيراً، فكثير من الذين يتحدثون عن المشكلات يقولون: عمت وطمت، إلا من رحم ربك، ودائماً تسمع هذه الكلمة في الحديث عن أي ظاهرة، فعلى أي أساس نقول هذا الكلام؟!

وكذلك الحديث عن تفسير الظاهرة، تفسير الظاهرة قد يكون فيه نوع من الغلو، فنفسرها من خلال سبب واحد، نفسر هذه الظاهرة بهذا السبب، كالطلاق، فقد زادت نسبة الطلاق، وأعتقد أنكم توافقونني على أنه نسبة زائدة، نسبة أعلى من قبل، قد لا نملك أرقاماً دقيقة، لكن الظاهرة منتشرة وموجودة ومزعجة، بعض الناس يقول: إن السبب في هذه الظاهرة هو النظر الحرام، فإن الرجل إذا نظر إلى النساء زهد في زوجته وتطلع إلى الحرام، ثم نشأت المشاكل ... إلى غير ذلك، نعم النظر الحرام لا شك أنه قد يؤدي إلى مثل هذا الأمر، لكن هل يعني هذا أن هذه الظاهرة كلها تعود إلى هذا السبب؟ هل يعني أن معظم حالات الطلاق تعود إلى هذا السبب؟ فرق بين أن يكون الأمر محرماً ومخالفة، وبين أن نفسر الظاهرة من خلاله، فعندنا رغبة جامحة في محاولة تفسير كل ظاهرة من خلال عامل واحد، من خلال سبب واحد.

كذلك اقتراح العلاج والحل، فالعلاج يتمثل في حل واحد دائماً عندنا، حينما نتحدث عن الطلاق، نقول: إن المشكلة تأتي من فساد دين الناس، إذا صلح الزوجان واتقيا الله عز وجل انحلت المشكلات، أعتقد أن هذا الكلام فيه اختزال، ألسنا نجد عدداً من الصالحين يطلقون ويحصل عندهم الطلاق؟! نعم، الله عز وجل أمر عباده بالتقوى وأكد على التقوى عند الحديث عن آيات الطلاق، ولها صلة بذلك، لكن الصلاح والتقوى كثير من الناس يفهمه فهماً خاطئاً، فمن الصالحين من يسيء العشرة، وأحياناً يكون هناك نوع من عدم التوافق بين الزوجين، وهناك عوامل كثيرة ينبغي أن تؤخذ بالاعتبار.

المقصود -أيها الإخوة- أن حديثنا عن الظواهر الاجتماعية كثيراً ما يغيب فيه الاعتدال، إما في حجم ظاهرة أو في تفسيرها، أو في علاجها.

الظواهر والأحداث السياسية

المجال التاسع: الظواهر والأحداث السياسية:

الأحداث السياسية نجنح إلى المبالغة في تفسيرها، وخذ على سبيل المثال الحديث عن المؤامرات، أي حدث يحصل نجنح إلى تفسيره بأنه مؤامرة، فنرى أن الحدث كله تمثيلية من أوله إلى آخره، نعم هناك مؤامرات، هناك أشياء لا تكتشف إلا بعد وقت، لكن لا يعني أن كل حدث يحصل هو -بالضرورة- مؤامرة، وهذا التبسيط المذهل للأحداث، التبسيط المذهل للقضايا لا يعني فطنة ووعياً، الوعي أن نعي الأسباب الحقيقة للظواهر، والأحداث والظواهر السياسية في الغالب ظواهر معقدة، تنشأ من خلال عوامل عديدة لا يمكن أن نفسرها من خلال موقف واحد وعامل واحد.

قد أقول لكم مثالاً وإن كان متطرفاً، لكن يبين لنا الصورة في ذلك: إمام أحد المساجد انزعج من رنين الجوال أثناء صلاة التراويح، وهذا يحصل كثيراً؛ أن الإنسان ينسى أن يطفئ جواله، فقال: إن هذه الجوالات أتى بها الأعداء ليشغلونا، وبدأ يتحدث عن مكر الأعداء وكيدهم في هذا الجهات. قد تكون هذه الصورة شاذة، لكنها تمثل نمطاً من التفكير موجوداً، إنما الخلاف في قدر الشذوذ وفي مستوى التطرف، وإلا فالتطرف موجود، وقد كان يمكنه أن يقول: إن الجوال له فائدة يحسن بالإنسان أن يطفئه، قد ينسى الإنسان إطفاءه إذا أتى إلى المسجد، فليطفئه، والأمر لا يحتاج إلى مثل هذا الضجيج والإزعاج، والذي يحدثني يقول: كنت نسيت جهازي فلم أطفئه، فخشيت أن أطفئه أمام الناس، فوجدت حرجاً، خشيت أن يسيء الناس الظن بي، والناس بشر.

فشخص يتحدث يقول: كنا نتحدث عن المشروبات الغازية، فقال أحدنا: إن هذه المشروبات الغازية يحرص أعداؤنا على تصديرها لنا؛ لأنها ضارة صحياً؛ لأنها غير نافعة، قلت: يا أخي! المشروبات الغازية تتناول في أمريكا وأوربا أكثر بكثير مما عندنا، قال: الكميات التي عندهم، تصنع بطريقة خاصة، والتي عندنا النسب فيها زائدة.

المقصود: أن عندنا جنوحاً لأن نفسر كل شيء بأنه مؤامرة، والأحداث السياسية الضخمة نحاول أن نختزلها، هناك من يقول: إن سقوط الاتحاد السوفيتي سببه الجهاد الأفغاني، أعتقد أن هذا اختزال للقضية، هناك عوامل كثيرة، نعم قد يكون الجهاد الأفغاني له دور، لكن ليس هو وحده، ومن يقرأ ويعرف طبيعة النظام الشيوعي وآلياته، ويعرف العوامل التي أدت إليه يعتبر أنه لا يمكن أن نختزل مثل هذا الحدث بأن نفسره بأن السبب هو الجهاد، وإذا قلنا: إن الجهاد الأفغاني ليس هو السبب في سقوط الاتحاد السوفيتي لا يعني أننا نهمش دور الجهاد الأفغاني، لكن -أيضاً- لا نغلو ونبالغ، فالجهاد الأفغاني كان عمل بشر، هو جهاد دعمته الأمة وكان يستحق أن يدعم، لكنه عمل بشر لا يخلو من الضعف والقصور، وقد رأينا ما حصل بعده من الصراع والنزاع والشقاق، فعندنا جنوح إلى المبالغة في الحديث عن القضايا السياسية والأحداث السياسية، ونبالغ في الأرقام، نبالغ في المعلومات، نبالغ في التآمر، في تبسيط الأحداث.

التعامل مع المخالف

المجال العاشر: التعامل مع المخالف:

فتعاملنا مع المخالف قد نفتقد معه الاعتدال، وأهل السنة يرحمون الخلق ويحبون الحق، ومهما كان المسلم يبقى له حق، المسلم الذي وقع في بدعة من البدع له حق الإسلام، والبدعة تسلب من الولاء بقدر ما تلبس يه، ليس صحيحاً أن نحول هذا الإنسان إلى رجل أشد من الكفار، ونلغي ونسقط حق الإسلام؛ لأنه لابس ووقع في هذه البدعة، وقد يكون وقع فيها عن اجتهاد وعن حسن نية، وقد يكون معذوراً فيها، وقع في هذا الأمر عن عذر، وقل مثل ذلك في أصحاب المعاصي، في أصحاب الفسوق، قل مثل ذلك فيمن يخالفنا في الرأي، كثيراً ما نغلو ونفتقد الاعتدال في حكمنا على المخالف، سواء أكان ممن يلابس بدعة، أو كان -وهذا هو الأكثر- ممن لا يصل إلى هذا الحد، إنما هو من إخواننا، فنضخم الأخطاء ونحاول أن نربطها بأصل البدعة، حين يقع في خطأ من الأخطاء نربطه بأصل من أصول البدع، ونسعى إلى إبراز صورة مشوهة عن هذا الشخص، كيف يتعامل اليوم المسلمون مع من يخالفهم في الرأي؟! أعتقد أن هناك غلواً واضحاً بارزاً في تعاملنا مع من يخالفنا.

وعلى المستوى النظري نتحدث جميعاً عن حسن التعامل مع المخالف، وعن حسن التعامل مع من يخالفنا في الرأي، لكن في الواقع هناك ثغرات كبيرة، وكم تجد من الجفاء والغلظة وتفسير النوايا.. إلى آخره؛ لأن هذا الإنسان يخالف في الرأي فقط، وربما يتضح لهذا الإنسان بعد سنوات خطأ ما كان عليه، فيميل إلى ذاك الذي يعمله هذا الإنسان الذي يخالفه وكان يتهمه قبل بالتساهل، وكان يتهمه بالابتداع.

أنتقل بعد الإشارة إلى هذه المجالات التي يغيب فيها الاعتدال، وأعتقد أنها كلها يمكن أن نردها إلى عامل واحد، فالمشكلة في الاعتدال في تفكيرنا وفي رؤيتنا للأمور، وما ذكرناه إنما هو أمثلة ومجالات لهذا الغلو، وهذا التطرف إن صحت العبارة، ما ذكرناه هو ألفٌ وباء، ونحن نعيش في حياتنا الفكرية، وحياتنا الاجتماعية، نعيش قدراً من الغلو وقدراً من المجاوزة، لا أقصد الغلو في الدين، والغلو في العقيدة. وفي العبادة، فهذا الأمر -كما قلت في المقدمة- آثرت ألا أتحدث عنه؛ لأنه قد لا يعنينا كثيراً، وأمره معروف، لكن الغلو والمبالغة في تفكيرنا وفي مواقفنا سمة نعاني منها كثيراً، ولعل ما ذكرناه من أمثلة يدل على ذلك.

إن هناك مجالات يغيب فيها الاعتدال في حياة الناس، وحين يغيب قد يؤدي إلى غلو مذموم ممقوت يعتقد صاحبه أنه يحسن صنعاً، وقد يؤدي إلى جفاء وإفراط.

فالاعتقاد والتوحيد مبناه على الاعتدال، ولهذا أنكر الله عز وجل على أهل الكتاب: يَا أَهْلَ الْكِتَابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ [المائدة:77]، وَلا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَّ [النساء:171].

وأضرب لكم مثلاً في محبة الرسول صلى الله عليه وسلم، وهي من أمور الإيمان، بل مما لا يتم الإيمان إلا به، فمحبته وتعظيمه صلى الله عليه وسلم من الإيمان، لكن هذا التعظيم له قدره، فإذا جاوزه قد يؤدي بصاحبه إلى الشرك بالله تبارك وتعالى، كما نرى ممن يغلون في النبي صلى الله عليه وسلم وينزلونه فوق منزلته التي أنزله الله إياها، وقد قال صلى الله عليه وسلم: (إنما أنا بشر).

كذلك في إثبات ما أثبت الله عز وجل لنفسه ونفي ما نفاه عن نفسه تبارك وتعالى، فمن الناس من غالى في إثبات الصفات والأسماء التي وصف الله عز وجل بها نفسه وسمى بها نفسه، فغالى في ذلك، فأدى به ذلك إلى التشبيه والتجسيم وغير ذلك مما يقع فيه هؤلاء الغلاة، ومنهم من غالى في الطرف الآخر ففر من أن يشبه الله عز وجل بخلقه فغالى في نفيها وإنكارها.

وكذلك العبادة، فإنما خلق الإنسان لعبادة الله تبارك وتعالى، ولا يلام الإنسان على العبادة أبداً، تلاوة القرآن، الصلاة، الصيام، قيام الليل، الإنفاق، وغير ذلك من الأعمال الصالحة، من الذي يقول: إن العبادة شر أو: إن فيها شراً؟ لكن هذه العبادة أيضاً لها قدر محدود إذا جاوزه الإنسان فشق على نفسه فقد خالف سنة النبي صلى الله عليه وسلم، وهاهو النبي صلى الله عليه وسلم يبين ذلك حين جاء طائفة من أصحابه، فسألوا عن عبادته فتقالوها، فشعروا أنها قليلة، وقالوا: أين نحن من رسول الله صلى الله عليه وسلم وقد غفر له ما تقدم من ذنبه؟ فقال أحدهم: أما أنا فأصوم ولا أفطر، وقال الآخر: أما أنا فأصلي ولا أنام، وقال الآخر: لا أتزوج النساء، فأنكر النبي صلى الله عليه وسلم هذا المسلك وقال: (أنا أتقاكم لله وأخشاكم له)، وحين تزوج عبد الله بن عمرو بن العاص رضي الله عنه امرأة من قريش وكان قد عمر ليله بالقيام ونهاره بالصيام أتى والده عمرو رضي الله عنه إلى النبي صلى الله عليه وسلم يشتكي حاله، فدعاه صلى الله عليه وسلم فسأله: (كيف تختم القرآن؟ قال: كل ليلة، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: بحسبك أن تختم كل أربعين، قال: إني أطيق أكثر من ذلك، قال: كل ثلاثين يوماً، كل جمعة، إلى أن قال: في كل ثلاث، ثم سأله عن صيامه، فكان يصوم كل يوم، فقال: بحسبك أن تصوم ثلاثة أيام من كل شهر) إلى أن أوصله إلى أن يصوم يوماً ويفطر آخر، ثم قال له صلى الله عليه وسلم: (إن لنفسك عليك حقاً، ولزورك -أي: ضيفك- عليك حقاً، ولأهلك عليك حقاً، فأعط كل ذي حق حقه)، وحين رأى صلى الله عليه وسلم حبلاً ممدوداً بين ساريتين، قال: (لمن هذا؟ قالوا: لـزينب ، تصلي فإذا فترت تعلقت به، فقال: مه، ليصل أحدكم نشاطه فإذا فتر فليقعد)، وحين حدثته عائشة رضي الله عنها عن امرأة رآها عندها، فكانت تذكر من صلاتها، قال صلى الله عليه وسلم: (عليكم من الأعمال ما تطيقون)، والشواهد على ذلك كثيرة.

إن العبادة والصلاة وتلاوة القرآن -أيها الإخوة الكرام- من أفضل ما يتقرب به العبد إلى ربه، لكن تحتاج إلى اعتدال، فلا يشق الإنسان على نفسه ولا يشق المرء على نفسه، وإذا شق على نفسه جاوز القدر المشروع وخالف سنة أعبد الناس وأتقاهم لربه صلى الله عليه وسلم.

ومن المجالات التي قد يشدد بعض الناس ويبالغ فيها في العبادة: مبالغة بعض الناس في الحديث عن شروط العبادة، وشروط أعمال القلوب والتشديد فيها، إنك حين تسمع بعض من يتحدث عن الصلاة وعن الخشوع فيها، فيتحدث ويشدد هذا الأمر حتى كأن المصلي نادر، فيقول: إن هؤلاء الذين يصلون يندر فيهم من يخشع في صلاته، يندر فيهم من تقبل صلاته، يندر فيهم من يصلي كما أمر الله عز وجل.. إلى آخره، كأن الناس هؤلاء كلهم لا يؤدون هذه الصلاة وهذه الفريضة، والبعض حين يتحدث عن بعض أعمال القلوب قد يكلف الناس ما لا يطيقون، قد يتحدث البعض عن الإخلاص، وهو أمر عزيز، لكن يتحدث عنه بأنه نادر جداً، ومن النادر أن تجد الإنسان المخلص.

إذاً: وما شأن بقية الناس؟! وهل هذا هو الدين الذي قال عنه صلى الله عليه وسلم: (إن هذا الدين يسر)؟! أين هذا من نصوص القرآن المحكمة الواضحة ونصوص النبي صلى الله عليه وسلم؟

إذاً -أيها الإخوة-: التشديد والمبالغة ومجاوزة القدر حتى ولو كان في عبادة الله عز وجل؛ إذا جاوز الإنسان القدر الشرعي القدر الذي ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم وجاء في كتاب الله، فإنه يصبح أمراً مذموماً.




استمع المزيد من الشيخ الدكتور محمد بن عبد الله الدويش - عنوان الحلقة اسٌتمع
الباحثات عن السراب 2585 استماع
الشباب والاهتمامات 2462 استماع
وقف لله 2323 استماع
رمضان التجارة الرابحة 2254 استماع
يا أهل القرآن 2188 استماع
يا فتاة 2180 استماع
كلانا على الخير 2171 استماع
الطاقة المعطلة 2117 استماع
علم لا ينفع 2084 استماع
المراهقون .. الوجه الآخر 2073 استماع